تركيا: التوازن الصعب بين شريك محدود الموثوقية وحليف خصم

تحاول الورقة الوقوف على تطورات علاقات تركيا الخارجية خاصة مع روسيا والولايات المتحدة في ضوء تسميات إيجابية غير ثابتة أو مختلفة عن واقع العلاقة، وترى الورقة أن تركيا تسعى لمواجهة التهديدات بالبحث عن بدائل في ظل عدم توافق سياستها الخارجية مع حلفائها القدامى.
9b111617bf604089993ebda7f92268fd_18.jpg
(الجزيرة)

مقدمة

تحاول تركيا إقامة معادلة توازن حساسة في علاقاتها مع كل من روسيا والولايات المتحدة بحيث تراعي الحفاظ على سيادتها ومصالحها ومواجهة التهديدات التي تتربص بها دون أن تتعرض لضرر المواجهة مع قوة كبيرة، وتحاول -كما الجانب الآخر من العلاقة- إعادة تعريف العلاقة من خلال إدراك المعطيات والأولويات الجديدة. وفي هذا السياق -وعلى هامش قمة العشرين في مطلع ديسمبر/كانون الأول 2018 في الأرجنتين- اعتبر الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، تركيا "شريكًا موثوقًا" فيما وصف الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بعد اللقاء الأخير مع دونالد ترامب، علاقات بلاده بالولايات المتحدة الأميركية بـ"التحالف الاستراتيجي"(1). ومما لا شك فيه أن هذه الأوصاف والاعتبارات من قبيل الشراكة الموثوقة والتحالف الاستراتيجي لا يمكن اعتمادها سواء في الوقت الحالي أو في المدى القريب إلا بعد الخضوع للاختبار مع ظروف الواقع. وبناء على الإدراك الجديد لحقيقة العلاقة، نجد أن الملفات الإقليمية سواء في سوريا أو على صعيد العلاقة مع إيران والسعودية ودول المنطقة سوف تتأثر بهذا الإدراك وسيكون سلوك السياسة الخارجية التركية الجديد متناسبًا معه وهو ما ستؤكده الخطوات العملية في تطورات المنطقة. 

هل روسيا وتركيا شريكان موثوقان؟

توجد نظرة متبادلة معلنة بين روسيا وتركيا حول فكرة الشريك الموثوق عند الحديث عن بعضهما البعض ولكنها أكثر حضورًا عند الحديث عن مجال الطاقة أو التجارة منها في السياسة؛ فقد قال أردوغان أيضًا خلال اتفاق مشروع خط الغاز الطبيعي "السيل التركي"، لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا عبر تركيا، أن "تركيا تعتبر روسيا شريكًا موثوقًا"(2). كما نجد أن هذه النظرة المعلن عنها والمتبادلة من الطرفين كانت حاضرة منذ عدة سنوات وحتى قبل إصلاح العلاقات على إثر إسقاط تركيا للطائرة الروسية، في نوفمبر/تشرين الثاني 2015، فقد قال وزير الطاقة الروسي، ألكسندر نوفاك، في ديسمبر/كانون الأول 2014، أن تركيا تعتبر شريكًا موثوقًا في عملية نقل الغاز الروسي إلى أوروبا مضيفًا: "لدينا علاقات جيدة جدًّا مع شركائنا الأتراك خصوصًا في قطاع الطاقة"(3). وحتى في مجال الطاقة والغاز، فإن تركيا حريصة أيضًا على عدم الاعتماد على روسيا بشكل كبير بل على العكس تخطط تركيا للتقليل من الاعتماد على روسيا التي تستورد منها حاليًّا 55% من احتياجاتها من الغاز؛ ولهذا لن تزيد تركيا حصتها من الغاز الروسي مع الخط الجديد "السيل التركي" المتجه عبرها من روسيا إلى أوروبا في نهاية 2019، بل إنها ستزيد حصتها من الغاز الأذري المتجه إلى أوروبا عبرها في نهاية 2019 أيضًا من خلال خط "TANAP" الذي تؤيده واشنطن. وبهذا، من المحتمل أن تقلِّل أنقرة اعتمادها على الغاز الروسي إلى 40%(4). وبخطَّيِّ الغاز تسعى تركيا أن تكون موزعًا محوريًّا للطاقة (Hup). وبالتالي، تجتذب بقية دول شرق المتوسط المرجح تصديرها للغاز -ويستدعي هذا تحسين العلاقات معها- وبهذا، يكون عملها مع روسيا في هذا المجال يتجاوز حدود العلاقات التركية-الروسية إلى إقامة محور توزيع عالمي للطاقة، وبتقليل اعتمادها على روسيا ترى أيضًا أن هذه خطوة جيدة أمام العواصم الغربية.

وعلى الصعيد السياسي وجدت روسيا -التي لا تخلو علاقاتها مع تركيا من الخلافات- في توتر علاقة تركيا بالغرب وبالولايات المتحدة على وجه الخصوص فرصة لإبعاد أنقرة عن العواصم الغربية فأعلنت عن التضامن مع تركيا بعد محاولة الانقلاب الفاشلة، في 15 يوليو/تموز 2016، وأعطت الضوء الأخضر لعمليتين عسكريتين تركيتين في شمال سوريا، ودخلت مع كل من تركيا وإيران في تفاهمات آستانة وسوتشي، واستطاعت التفاهم ولو مؤقتًا مع تركيا حول هدنة في إدلب، كما أنها استطاعت عقد صفقة منظومة إس 400 الدفاعية بعد انحسار آمال تركيا في الحصول على نظام باتريوت من الولايات المتحدة بالرغم من أن هذا التقارب والتعاون أثار استياء واشنطن إلا أنه لا يكفي للقول: إن تركيا توجهت نحو روسيا.

وبينما ترى أنقرة أن المحافظة على التوازن هي الصيغة الأسلم نجد هنا أيضًا في سياق الحديث عن نظام باتريوت أن تركيا عبَّرت عن نغمة التوازن من جديد حيث صرح الناطق باسم الرئاسة التركية، إبراهيم كالين، وأثناء حديثه عن أن منظومة إس 400 ستصل لتركيا نهاية عام 2019، بأن تركيا لو جاءها عرض جيد من الولايات المتحدة حول نظام صواريخ باتريوت فسوف تقيِّمه بجدية (5).

قد يبدو موضوع الشراكة التركية-الروسية، في مواضيع تتقاطع فيها وجهات النظر أو يمكن لطرف منهما أن يتجاوز فيها قليلًا نظير مصلحة ما، ممكنًا (اتفاق إدلب وعمليات تركيا العسكرية في شمال سوريا نموذجًا) ولكن درجة الموثوقية بين البلدين هي المعيار المهم، ففضلًا عن صعوبات انتقال العلاقة بين تركيا وروسيا إلى علاقة شراكة استراتيجية أو تحالف، وهو الأمر الذي يبدو أكثر صعوبة، فإن علاقة الثقة بين البلدين ترتبط بعدة تعقيدات، منها: صعود وهبوط علاقة تركيا مع الغرب وعدم وجود رغبة لتركيا في ترك الناتو حتى في ظل الاستياء الحالي، وملفات الخلاف الموجودة بين البلدين والتي يمكن أن تتفجر في أية لحظة ومنها الملف السوري (كان الأمر على شفا انهيار لو دعمت روسيا عملية للنظام السوري في إدلب وحاليًّا توجد ضغوط أميركية على تركيا للتراجع عن التوافق مع روسيا بموضوع إدلب وإنهاء مسار آستانة أساسًا)، ورغبة تركيا في تحسين العلاقات مع العواصم الأوروبية. وبمعنى آخر، إن كانت العلاقات جيدة حاليًّا بين تركيا وروسيا فليس هناك ضمانات قوية لاستمرارها بهذا الشكل مستقبلًا.

أما الأمر الآخر، فإن الأزمة الأخيرة مع الدول الغربية كشفت عن مشاكل اقتصادية لتركيا وهو الأمر الذي لا يوجد فيه الكثير لدى روسيا لتقدمه لتركيا لإقناعها بالتحول إليها، فروسيا أيضًا لديها مشاكل اقتصادية، ولعل الأمر الأكثر أهمية وخطورة هو ما طرحته جهات مقربة من الكرملين وهو أن الحالة الأفضل لروسيا هي اللعب على الخلاف بين أنقرة وواشنطن وأن بقاء تركيا "مهانة" في الناتو هو أفضل من انتهاء علاقتها بالحلف بالنسبة لموسكو (6). وبالتالي، قد تفسَّر تصريحات الطرفين، أي تركيا وروسيا، حول وصف الشريك الموثوق بسعي كل طرف للاستفادة من الآخر من خلال مواصلة علاقة طبيعية معه والتركيز على مواضيع التعاون في قطاعات كالطاقة والصفقات العسكرية وإبداء حساسية تجاه التهديدات التي يتعرض لها كل طرف. ولعل هناك إدراكًا لمحدودية آفاق الشراكة ولكن رغم ذلك يحاول كل طرف العمل على زيادة أمد ومدى الشراكة قدر الإمكان. وتحديدًا تسعى تركيا للاستفادة مما تقدمها لها علاقة جيدة مع موسكو لتحقيق مصالحها وخاصة في المجالات التي تمنعها منها العواصم الغربية.

هل العلاقة بين أنقرة وواشنطن تعد تحالفًا استراتيجيًّا؟

لقد تأثرت العلاقة بين الولايات المتحدة وتركيا بالعديد من الخلافات والأزمات منذ عام 2014 تقريبًا مما جعل وصف العلاقة بينهما على أنها علاقة تحالف وصفًا غير دقيق وحتى عندما كانت الخلافات أقل في فترة ما بعد الحرب الباردة أيضًا كانت العلاقة أقرب إلى التبعية منها إلى التحالف، ولكن وصول الأمور إلى حد تطبيق عقوبات ضد بعضهما البعض مؤخرًا، وتزايد الخلاف على ملفات محورية لم يُبق الكثير من معان التحالف المتعارف عليها بين الدول من قبيل الأهداف المشتركة والتهديدات المشتركة وتقديم الدعم اللازم خلال الأزمات، بل إن هناك حديثًا حاليًّا عن عدم وجود قيم مشتركة كالليبرالية، على سبيل المثال.

ويمكن القول: إن ما كتبه الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في نيويورك تايمز حول العلاقة بين تركيا والولايات المتحدة قد لخص ملامح العلاقة الحالية ومسارها المحتمل من وجهة نظر تركيا "كانت العلاقة بين تركيا والولايات المتحدة على مدة ستة عقود ماضية علاقة بين شريكين استراتيجيين وحليفين في الناتو، ولكن بالرغم من مساعدة تركيا للولايات المتحدة في عدة مراحل خاصة بعد 11 سبتمبر/أيلول؛ فإن الولايات المتحدة أخفقت مرارًا وتكرارًا في تفهم واحترام ما يشغل بال الشعب التركي من هموم"(7).

ومن وجهة نظر تركيا، لم تتفهم الإدارة الأميركية التهديدات التي تواجه تركيا وعبَّرت عن سياسات لم تحترم سيادتها في عدة مواقف، ومن ذلك:

- عدم دعم تركيا أو التضامن معها ضد الانقلاب بشكل مباشر وواضح، وهو أمر لا يليق بحليف.

- رفض واشنطن لتسليم فتح الله غولن الذي تتهمه تركيا بالوقوف وراء محاولة الانقلاب بالرغم من وجود معاهدة ثنائية.

- تسليم أكثر من 5 آلاف شاحنة سلاح لحزب الاتحاد الديمقراطي، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني الذي يخوض حربًا مع تركيا منذ عقود.

- الضغط على تركيا من خلال التهديد بالعقوبات في قضية أندرو برانسون (8).

وأمام هذه الحالة، وجدت تركيا أن شراكتها مع الولايات المتحدة أصبحت في "مهب الريح" وأنها لابد أن تنبِّه واشنطن لعواقب هذه الحالة من خلال التحدي الخطابي تارة والعملي المحدود تارة أخرى مع التلويح بالبدائل. وفي هذا السياق، قال الرئيس التركي: "وإزاء إخفاق الولايات المتحدة في وقف هذا التوجه من الأحادية وعدم الاحترام فإننا لن نجد مفرًّا من البحث عن أصدقاء وحلفاء جدد"(9). كما تحدث أردوغان في سياق رفض مجلس الشيوخ تسليم طائرات إف 35 لتركيا أن تركيا ستحصل على تلك المقاتلات من مكان آخر إذا لم تحصل عليها من الولايات المتحدة، مشيرًا إلى أنه في حال عدم تحقق ذلك فإن بلاده ستنتج مقاتلاتها بنفسها، وقال أردوغان: "يمكننا إيجاد البدائل لذلك، ولكن محاولة الولايات المتحدة ارتكاب مثل هذا الخطأ ضد تركيا شريكتها الاستراتيجية في حلف شمال الأطلسي يعود عليها بالخسارة"(10).

ويرى خبراء في العلاقة في الطرفين (11) أن تحالف تركيا والولايات المتحدة هو تحالف بالاسم فقط بل إن العلاقة قد وُصفت بأوصاف مثل أنها "زواج بلا حب"، وأن "العلاقة الخاصة" بين البلدين لم تعد موجودة بل إن البعض اعتبر أن العلاقة تحولت إلى علاقة خصومة وأن الإدارة الأميركية الحالية هي الأولى التي تفهم حالة التباين في المصالح وتتصرف بناء على ذلك(12). وغالبًا كان يتم تفسير سبب ذلك فضلًا عن الملفات الخلافية بأن أهمية تركيا بالنسبة للولايات المتحدة أصبحت في تراجع وأنه لا يوجد تهديد مشترك يمكن العمل عليه.

وفي سياق التغيير المحتمل من الطرفين، فإن كل طرف يقوم بدراسة ما ينبغي عليه القيام به، وعلى الجانب الأميركي إزاء الانزعاج من شراء تركيا لمنظومة الدفاع التركية إس 400 والشعور بإضعاف السياسة الأميركية تجاه إيران والخلاف حول مستقبل شمال سوريا، كان هناك توصيات تدعو إلى:

- العمل على إدارة التغيير في العلاقة بدلًا من العمل على بناء الثقة من خلال إدراك التحول الحادث في العلاقة واستخدام الضغط بدلًا من الدبلوماسية.

- تطوير بدائل عن قاعدة أنجرليك الجوية في ظل عدم وجود ضمانات بتجاوب القيادة التركية مع المصالح الأمنية الأميركية.

- رفض مطالب تركيا بأن تُنهي واشنطن علاقاتها مع وحدات حماية الشعب.

- إنهاء التعاون مع تركيا حول برنامج طائرات إف 35(13).

وبالفعل، لو أجرينا فحصًا للممارسات الأميركية إزاء هذه التوصيات سنجد أن واشنطن طبقتها جميعًا؛ حيث استخدمت العقوبات على تركيا في قضية القس برانسون مما عمَّق أزمة الليرة التركية، كما بدأت واشنطن في توسيع قواعدها العسكرية مثل قاعدة "الحرير" في شمال العراق لاستخدامها في حال حصلت مشكلة بخصوص أنجرليك، فيما عارض مجلس الشيوخ الأميركي تسليم طائرات إف 35 لتركيا، أما دعمها لوحدات الحماية فقد استمر بالرغم من اعتراضات تركيا حيث بدأت دوريات مشتركة معها وتشرع حاليًّا في إنشاء نقاط مراقبة من أجل حماية الوحدات من أي عمليات تركية(14).

وقد لخص الباحث الأميركي، ستيفن كوك، شيئًا من ملامح ما قد يبدو أنه خط تعامل واشنطن مع أنقرة، وهو "يمكن لواشنطن العمل مع أنقرة حيث لا يزال ذلك ممكنًا، والعمل حول الأتراك حيث يكون ذلك ضروريًّا، والعمل ضدهم حيثما يجب"(15).

المصدر: صورة أقمار صناعية تظهر جانبًا من التوسيعات في قاعدة الحرير في أربيل، المصدر (وكالة الأناضول)

وبالرغم من انتهاء أزمة برانسون بتداعياتها وعودة اللقاءات بين الطرفين إلا أن استمرار واشنطن في العمل بما يخيف تركيا شمال سوريا ما زال عامل توتر؛ فقد انتقد وزير الخارجية التركي تصريحات المبعوث الأميركي، جيمس جيفري، الداعية لإنهاء مسار آستانة، ووجهت تركيا رسالتين واضحتين له في لقاءاته في أنقرة، أولها: لا تُحبطوا مسار آستانة واتفاق إدلب، وثانيها: توقفوا عن دعم وحدات الحماية وعن إنشاء نقاط مراقبة شرق الفرات.

تدرك أنقرة أن حديث واشنطن عن آستانة وإدلب ليس فقط تعبيرًا عن استيائها من أن أنقرة وموسكو وطهران أصبحوا الفاعلين الأكثر أهمية في سوريا وليس أيضًا تعبيرًا عن غضبها من سحب ألمانيا وفرنسا (من مسار جنيف) للجلوس في إسطنبول مع روسيا وتركيا فحسب ولكنها تريد إبعاد الأنظار عن تحركاتها شرق الفرات أو تريد ممارسة نوعًا من المقايضة بمعنى "لا تتدخلوا شرق الفرات وأنا لا أتدخل في إدلب".

لا تريد تركيا أن تدخل في تحد مع الولايات المتحدة وهي تحاول أن توصل رسالة من خلال توفير ما يلزمها من منظومات دفاعية أو تنسيق مع روسيا في سوريا بأنها قادرة على توفير احتياجاتها الأمنية بطرق أخرى في حال تعذر الحصول عليها من حلفائها لكنها لا تقطع الحبال مع واشنطن أو الاتحاد الأوروبي وتسعى دائمًا إلى إرسال رسائل التوازن في معظم القضايا تقريبًا ما عدا موضوع الدعم الأميركي لإنشاء كيان كردي شمال العراق؛ فلا يبدو أن أنقرة سوف تتساهل مع السلوك الأميركي إزاء هذا الملف.

تريد تركيا حتى على مستوى احتياجاتها الأمنية أن تعطي رسالة بأنها لم تتحول إلى روسيا، وقد جاء هذا كما ذُكر أعلاه في حديث تركيا عن نيتها دراسة أي عرض أميركي لنظام باتريوت بجدية، لكن هذا لا يعني التخلي عن صفقة إس 400 فلدى تركيا -وفقًا لخبراء أتراك- احتياجان رئيسيان لتوفير أمنها: الأول: منظومة دفاع جوي والآخر منظومة دفاع صاروخي. وفيما تغطي منظومة إس 400 احتياج الدفاع الجوي المتعلق بإسقاط الطائرات التي تنتهك المجال الجوي أما استخدامها كمنظومة دفاع صاروخي فهو غير ممكن لأنها غير متوافقة مع البنية التحية للناتو. ولتغطية الاحتياج في هذا الجانب، قررت تركيا شراء منظومة يوروسام الفرنسية-الإيطالية، فهي تتوافق مع أنظمة الناتو وتعتبر منظومة دفاعية أكثر فعالية، لكن "الاتفاق مع يوروسام طويل الأمد، ولأنه سيكون هناك إنتاج مشترك سيمتد الأمر 10 سنين أما باتريوت فيمكن الحصول عليها خلال مدة أقصر بكثير"(16). ومع هذا، فإن أنقرة لا تريد الحصول على منظومة باتريوت فحسب بل تريد المشاركة في الإنتاج والحصول على التكنولوجيا وهو ما يزيد من صعوبة المسألة (17).

الورقة الكردية في جوهر التوازن الدولي والإقليمي

ما زالت المباحثات بين أنقرة وواشنطن مستمرة حول شمال سوريا وبالرغم من التوصل لاتفاق بينهما حول منبج إلا أن الخطة لم تُطبَّق في البداية وتأخرت لعدة أشهر بسبب عوائق تقنية تذرَّعت بها واشنطن، وبعد ذلك سيَّرت الأخيرة دوريات مع وحدات الحماية الكردية على الحدود الشمالية الشرقية لسوريا وحاليًّا يتم الحديث عن إنشاء نقاط مراقبة أميركية شرق الفرات وهي الخطوة التي ترفضها أنقرة حيث قال وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، إنه يجب على واشنطن إنهاء علاقتها بتنظيم "ي ب ك/بي كا كا"، والتخلي عن نقاط المراقبة على الحدود الجنوبية لتركيا(18).

وهنا أيضًا تبدو الرواية الروسية للأحداث شرق الفرات منسجمة مع المخاوف التركية؛ فقد صرح رئيس الأركان الروسي، فاليري غيراسيموف، بأن "الولايات المتحدة تعمل على إنشاء كيان كردي مستقل شمالي سوريا، وتحاول المراهنة على الأكراد السوريين لإنشاء كيان شبيه بدولة مستقلة شمالي البلاد، ويقومون بتشكيل حكومة ما يسمى بفيدرالية شمال سوريا الديمقراطية"(19).

وفي هذا السياق، فإن تركيا ترى في إصرار واشنطن على استخدام "الورقة الكردية" إصرارًا على العمل ضد مصالحها ومصالح دول المنطقة عدا اسرائيل، وترى تركيا أنه يتوجب وفق هذا المخطط إضعاف تركيا وإيران وحتى السعودية بعد ذلك. وإزاء هذا التهديد المشترك لكل من تركيا وإيران بالورقة الكردية فإن البلدين يتضامنا معًا في هذه النقطة، وقد ظهر هذا الأمر في تصريحات الرئيس حسن روحاني ورئيس البرلمان التركي بن علي يلدرم. وفيما يتعلق بالعقوبات على إيران، فقد جاء استثناء تركيا مع 7 دول أخرى ولو مؤقتًا من قرار حظر شراء النفط الإيراني كعامل جيد في تقليل احتمالات التوتر مع واشنطن.

وفي سياق الورقة الكردية أيضًا، هناك استياء تركي ليس فقط من توجيه الولايات المتحدة لدول الخليج للتعاون مع إسرائيل والتنازل عن القضية الفلسطينية بحجة العمل ضد التهديد المشترك من إيران فحسب بل أيضًا في دفعهم لتمويل وحدات الحماية الكردية ضد العشائر العربية في شمال سوريا وهو ما يهدد تركيا بشكل مباشر. ويزيد ذلك بالطبع من الاحتقان الموجود أصلًا بسبب تداعيات قضية خاشقجي.

وقد زادت التوترات بين تركيا والسعودية بعد التطور المتمثل في طلب وزارة الخارجية التركية من السعودية تسليم 20 متهمًا في قضية خاشقجي، وتأكيدها الاستعداد لتقديم الملف إلى المستويات الدولية، وتؤذن هذه الخطوة بتوتر أكبر في العلاقات التركية-السعودية وبتوتر مع إدارة ترامب الذي يصر على دعم موقف ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان. ولكن تركيا تريد متابعة هذه القضية عبر جعل الضغط يأتي من العواصم الغربية دون الإضرار بالعلاقة مع واشنطن وفي محاولة لإرسال رسالة السخط من المحور الذي تشكِّله واشنطن في الشرق الأوسط والذي يعتمد من وجهة نظرها على حلفاء ضعفاء ومفتقدين للشرعية، وأن واشنطن تخطئ بالعمل مع هذا المحور المناوئ لتركيا، وبهذا يمكن أن تُفسَّر زيارة رئيس المخابرات التركية، هاكان فيدان، والتقاؤه مع مديرة السي آي إيه وأعضاء في مجلس الشيوخ لإطلاعهم على تفاصيل معينة وللتنسيق في جوانب عملية اغتيال خاشقجي. ويبدو أن أنقرة تهدف لوضع المزيد من الضغط المدروس على الإدارة الأميركية للتخلي عن موقفها وبالتالي تحدث تحركًا دوليًّا على أمل أن تغير شيئًا من المعادلة الإقليمية الجديدة التي ترى أنها تستهدفها.

خلاصة

تعمل تركيا على نسج خيوط معادلة توازن صعبة بين تلبية احتياجاتها في مجال الأمن والطاقة من خلال العمل مع روسيا التي تُبدي تفهمًا لمخاوف تركيا الأمنية أكثر مما تبديه واشنطن، وتقوم أنقرة بنفس الوقت بإرسال رسائل لواشنطن والعواصم الأوروبية بخسائر الزهد في أهميتها الاستراتيجية وفي قدرتها على إيجاد البدائل، مع العمل على عدم اندلاع أي أزمة في ظل الحاجة إلى الاستقرار السياسي والاقتصادي من أجل تطبيق الخطط المتعلقة بالمكانة الدولية والاقتصاد والطاقة وهو ما يحتم الحفاظ على التوازن وتحسين العلاقات مع دول المنطقة والاتحاد الأوروبي بالدرجة الأولى. وتحرص تركيا على الحفاظ على الإنجاز المتمثل بالتوافق الذي حققته في إدلب وتبدو أكثر مرونة في التعاطي مع مختلف القضايا عدا قضية إنشاء كيان كردي شمال سوريا وحاليًّا يعد ملف التواجد الأميركي شرق الفرات وحماية وحدات الاتحاد الديمقراطي الكردية عامل توتر مرشح للتصاعد بين أنقرة وواشنطن والدول الإقليمية الداعمة لهذا المسار. يوجد إدراك تركي للحاجة إلى التوازن وتنويع العلاقات في المرحلة الحالية وفيما تصل علاقاتها مع واشنطن إلى درجة متردية من الثقة هي أبعد ما تكون عن التحالف تاريخيًّا فإن شراكتها مع موسكو تعد في درجة جيدة في الوقت الحالي، ولهذا، فإن أنقرة ستحرص على تطوير علاقاتها مع واشنطن عبر التأكيد ولو بالخطاب على معاني "التحالف الاستراتيجي" منعًا لأي آثار سلبية عليها ابتداء ولإرسال رسالة لواشنطن بأنها أخطأت في خياراتها الحالية للحلفاء "الجدد" في شمال سوريا والمنطقة كما ستعمل أنقرة على الحفاظ على شراكتها مع موسكو في حدود التوازن.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*محمود سمير الرنتيسي- باحث متخصص في الشأن التركي.

ABOUT THE AUTHOR

References

(1)    "أردوغان يقترح على الرئيس بوتين عقد قمة ثانية حول إدلب السورية"، سبوتنيك، 1 ديسمبر/كانون الأول 2018، (تاريخ الدخول: 11 ديسمبر/كانون الأول 2018): https://goo.gl/6XXUCA

(2)    “Erdo?an calls Russia 'reliable' partner for Turkey”, Yeni Safak, (Accessed 11 December 2018): https://www.yenisafak.com/en/news/erdogan-putin-attend-completion-ceremony-of-turkstream-gas-pipeline-3466784

(3)    Turkey a reliable partner for Russia”, AA, (Accessed 11 December 2018)https://www.aa.com.tr/en/economy/turkey-a-reliable-partner-for-russia/90573

(4)    Ozer, Verda, "Stratejik ayar", Milliyet, (Accessed 11 December 2018):http://www.milliyet.com.tr/yazarlar/verda-ozer/stratejik-ayar-2785685/

(5)    الناطق باسم الرئاسة التركية يلوح بإمكانية شراء بلاده منظومة "باتريوت"، يني شفق، 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، (تاريخ الدخول: 12 ديسمبر/كانون الأول 2018): https://www.yenisafak.com/ar/news/3410811

(6)    Kravchenko, Stepan and Arkhipov, Ilya, "Turkey Crisis Tests Putin's Powers in Global Game With U.S.", Bloomberg, (Accessed 11 December 2018): https://www.bloomberg.com/news/articles/2018-08-14/turkey-crisis-tests-putin-s-power-to-tilt-global-game-with-u-s

(7)    "النص الكامل لمقال الرئيس التركي أردوغان في "نيويورك تايمز"، عربي 21، 11 أغسطس/آب 2018، (تاريخ الدخول: 11 ديسمبر/كانون الأول 2018): https://goo.gl/d5axvL

(8)    المرجع السابق.

(9)    المرجع السابق.

(10)  "تركيا تتسلم طائرة إف-35 رغم معارضة مجلس الشيوخ"، الجزيرة نت، 22 يونيو/حزيران 2018، (تاريخ الدخول: 11 ديسمبر/كانون الأول 2018): https://goo.gl/pqFBTe

(11)  ريتشارد هاس هو رئيس مجلس العلاقات الخارجية في الولايات المتحدة الأميركية، وقد شغل هذا المنصب منذ يوليو/تموز 2003. وكان ريتشارد هاس مدير تخطيط السياسات في وزارة الخارجية حتى حزيران/يونيو 2003.

(12)  "فورين بوليسي: لماذا لم تعد تركيا حليفًا للولايات المتحدة؟"، عربي21، 4 أغسطس/آب 2018، (تاريخ الدخول: 11 ديسمبر/كانون الأول 2018):  https://goo.gl/czpUCz

(13)  Cook, Steven A. Neither Friend nor Foe The Future of U.S.-Turkey Relations,CFR, (Accessed 11 December 2018):https://www.cfr.org/report/future-u.s.-turkey

(14)  Duran, Burhanettin, ABDnin Kurt Kartinin Hedefi, Sabah, (Accessed 11 December 2018): https://www.sabah.com.tr/yazarlar/duran/2018/12/07/abdnin-kurt-kartinin-hedefi

(15) Cook, Steven A. Neither Friend nor Foe The Future of U.S.-Turkey Relations,CFR, (Accessed 11 December 2018): https://www.cfr.org/report/future-u.s.-turkey

(16) Ozer, Verda, Rota ABDye mi, Milliyet, (Accessed 11 December 2018):http://www.milliyet.com.tr/yazarlar/verda-ozer/rota-abd-ye-mi--2783401/

(17)  شراكة تركية فرنسية إيطالية لإنتاج منظومة دفاع جوي وصاروخي، ترك برس، (تاريخ الدخول: 11 ديسمبر/كانون الأول 2018): https://www.turkpress.co/node/43970

(18)  "أكار: على واشنطن التخلي عن نقاط المراقبة في الحدود الجنوبية لتركيا"، أخبار تركيا، 7 ديسمبر/كانون الأول 2018، (تاريخ الدخول: 11 ديسمبر/كانون الأول 2018): https://goo.gl/tZrMdo

(19)   Duran, Burhanettin, ABDnin Kurt Kartinin Hedefi, op, cit.