السلطة والمقاومة: الخروج من المأزق الفلسطيني

ثلاثة مسارات تميز الوضع العمل الفلسطيني حاليًا، مسعى بين فتح وحماس حول المصالحة، مسعى السلطة الفلسطينية إلى الحصول على اعتراف أممي بالدولة الفلسطينية، واستئناف للتفاوض الاستكشافي بين السلطة وإسرائيل في إطار الرباعية، وهذه المساعي ليست بالضرورة متكاملة، وتؤدي إلى قيام الدولة الفلسطينية.
20121261026928734_2.jpg

ثلاثة مسارات تميز الوضع العمل الفلسطيني حاليًا، مسعى بين فتح وحماس حول المصالحة، مسعى السلطة الفلسطينية إلى الحصول على اعتراف أممي بالدولة الفلسطينية، واستئناف للتفاوض الاستكشافي بين السلطة وإسرائيل في إطار الرباعية، وهذه المساعي ليست بالضرورة متكاملة، وتؤدي إلى قيام الدولة الفلسطينية؛ فالقوى الرئيسية الشريكة في التفاوض ترفض المصالحة ولكنها لا تضمن قيام دولة فلسطينية، وشركاء المصالحة يختلفون في إستراتيجيات التحرير ويخشون من العزلة الخارجية. وتبدو الخيارات الرئيسية للفاعلين الفلسطينيين عاجزة؛ فالمقاومة المسلحة ذات تكلفة عالية بشرية وسياسية، وخيار التفاوض لم يحقق وعوده بل كان غطاء لتوسع الاستيطان الإسرائيلي، وخيار الاعتراف الأممي بالدولة يواجه عراقيل قوية ولا يزال في بدايته. ويتشكل المأزق الفلسطيني من هذا التضارب بين التوافق الداخلي والسند الخارجي لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وسيظل التوفيق بينهما الهمّ الإستراتيجي الرئيسي للقيادات الفلسطينية خلال العام الجاري.

ترنح خيار المفاوضات

شهد النصف الأول من عام 2011 عددًا من القرارات التي اتخذتها قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، وهي قرارات ربما تكون غير مسبوقة منذ انطلاق عملية سلام أوسلو، وذلك على النحو التالي:

  • رفضت منظمة التحرير الفلسطينية على مدار ستة أشهر منذ مطلع العام 2011 استئناف المفاوضات مع حكومة إسرائيل ما لم يتم تجميد الاستيطان، وما لم يُقدَّم شيء يضع على الأقل حدودًا مرجعية لهذه المفاوضات، ولا تزال المفاوضات الاستكشافية بإشراف الرباعية وبرعاية أردنية تندرج في نفس التوجه.
  • في 15 فبراير/شباط 2011 سعت منظمة التحرير الفلسطينية إلى إصدار مجلس الأمن قرارًا يوقف بناء المستوطنات، رغم أن مسعاها هذا كان محاطًا بضغوط من قبل حكومة الولايات المتحدة لسحب مشروع القرار أو تخفيف حدة صيغته، وحين أصرت المنظمة على مسعاها استخدمت الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) ضد القرار.
  • في 4 مايو/أيار 2011، وفي احتفال حضره في القاهرة رئيس منظمة التحرير الفلسطينية محمود عباس ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل، وبحضور عدد من قادة الفصائل الفلسطينية، نجحت وساطة مصرية جديدة في التوصل إلى اتفاق للمصالحة الوطنية.
  • في 26 يونيو/حزيران 2011، شهدت مدينة رام الله عقد اجتماع موسع للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية أعادت فيه تأكيد نيتها المضي قدمًا في سبيل الحصول على عضوية لدولة فلسطينية في الأمم المتحدة بحلول سبتمبر/أيلول 2011.

ومع هذا، وحتى داخل السياق الذي تتخذ فيه منظمة التحرير الفلسطينية هذه الخطوات، لم تكن هناك أية صياغة واضحة لإستراتيجية فلسطينية جديدة لتحقيق الحرية وتلبية الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني.

وفي حقيقة الأمر، فإن الموقف الرسمي الذي تكرر كثيرًا من قبل قيادة منظمة التحرير الفلسطينية كان يعطي أفضلية، أولاً وقبل كل شيء، لاستئناف المفاوضات مع حكومة نيتنياهو؛ فاتفاقية الوحدة الفلسطينية بين فتح وحماس لا تزال تراوح مكانها، ولم تحقق نجاحًا يُذكر في تنفيذ بنودها، كما فتر الاهتمام الذي أحاط بعملية اقتسام السلطة بين طرفي النزاع الفلسطيني.

ويبدو حشد الموقف الفلسطيني للتحرك نحو طلب إعلان الدولة الفلسطينية في الأمم المتحدة أمرًا مشوشًا، في ظل غياب كامل للتخطيط لما يستوجب عمله صبيحة اليوم التالي لتلك الخطوة.

وهناك بالطبع معْلَم آخر للوقائع الفلسطينية التي شهدها النصف الأول من عام 2011، ألا وهو صياغة هذه الوقائع على خلفية أحداث ما سُمي بـ "الصحوة العربية" وهي صحوة يبدو فيها مربكًا للكثيرين غياب المكون الفلسطيني.

فمن الواضح أن عملية أوسلو في طريق مسدود، وكانت تستند إلى معادلة تتألف من:

المصلحة الذاتية الإسرائيلية في قيام دولتين (الشد والجذب بين دولة يهودية وديمقراطية في آن) +
حد أدنى فلسطيني من تسوية الوضع الدائم وإرجاء كافة القضايا، واعتماد حصري على المفاوضات +
تقدير أميركي للاعتدال الفلسطيني وتشجيع للبراغماتية الإسرائيلية = 
حل الدولتين، مع قدر كاف من الاتفاق/الانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة.

وقد تبين من التجربة أن هذه التركيبة لم تكن واقعية، وأن العملية لم تكن مجدية للقيادة الفلسطينية.

ويتكون المأزق الفلسطيني الحالي من تضافر عدد من العوامل:

1- المأزق الفلسطيني الداخلي
رغم اتفاق مارس/آذار 2011، ما تزال الحركة الوطنية الفلسطينية تعاني من التصدع،  خاصة ما يعتريها من انقسام بين حركتي فتح وحماس، ذلك الانقسام الذي أصبح أكثر عمقًا وإضعافًا للأهداف الوطنية الفلسطينية بدرجة لم تشهدها الساحة الفلسطينية منذ عام 2007. وما تزال منظمة التحرير الفلسطينية يُعْوِزها الإصلاح، وغير ممثِّلة تمثيلاً كاملاً للشعب الفلسطيني، وغير قادرة على تحريك التجمعات الفلسطينية حول العالم. وما تزال البنى الديمقراطية الفلسطينية، التي يمثل معظمها جزءًا من السلطة الفلسطينية، قائمة تحت الاحتلال وتعاني من خلل كبير، خاصة منذ آخر انتخابات للمجلس التشريعي الفلسطيني.

2- الفلسطينيون وإسرائيل
مع مرور نحو 45 عامًا على الاحتلال الإسرائيلي لأراضي عام 1967، والذي يتجاوز في عمره الفترة التي عاشها نظام الأبارتيد (الفصل العنصري) في جنوب إفريقيا، ما تزال إسرائيل تتمتع بدرجة ملحوظة من الحصانة ضد كل ما ترتكبه من انتهاك مستمر للقانون الدولي؛ ومن ثَمَّ تعيش هذه الدولة حالة من الرضا الذاتي في تعاطيها مع الفلسطينيين. وفي ظل ترتيبات أوسلو، فإن الوقائع التي شهدتها الأراضي الفلسطينية المحتلة قد استقرت في أنماط جامدة، وأصبحت البنى الهيكلية التي خلقها ذلك الوضع بمثابة وسائل ملائمة لإسرائيل. وتبقى القدس الشرقية منطقة خارج حسابات أي وجود سياسي فلسطيني، بينما تبقى غزة تحت الحصار، وتستمر الضفة الغربية محكومة بنظام تقسيم المناطق إلى الفئات (أ)، (ب)، (ج) الذي أقره اتفاق أوسلو، والذي لا يتمكن فيه الفلسطينيون من الوصول إلى 60 % من الأرض أو معظم الموارد الطبيعية. وتفاقمت في السنوات الأخيرة حدة الاستيطان، فضلاً عن عنف المستوطنين. وليس للتجمعات الفلسطينية داخل إسرائيل سوى القليل والهش من الحقوق الديمقراطية التي تتعرض مع ذلك للانكماش والانتهاك نتيجة السياسات الإسرائيلية العنصرية التي تتم بشكل مكشوف مدعومة بسياسات الحكومة والكنيست.

3- الاستمرار والتغير على المستوى الإقليمي
ما زال الإقليم المحيط بفلسطين والذي يضم العالمين العربي والإسلامي لا يقدم للقضية الفلسطينية دعمًا كافيًا، ولكن مع هذا تحتوي الصحوة العربية الثورية مؤخرًا بالتأكيد على عوامل جديدة في تغيير هذه المعادلة، وإن كان هذا بدوره يحتاج إستراتيجية جديدة يقودها الفلسطينيون أنفسهم.

4- ما من تقدم على المستوى الدولي
تعاني القضية الفلسطينية من غياب دعم دولي فعال، وليست هناك أية وسائل عقابية لكبح جماح الممارسات الإسرائيلية (لم تطالب قيادة منظمة التحرير الفلسطينية حقيقة أحدًا بإتباع هذه الوسائل)، ولا يظهر لبنود القانون الدولي حضور في الخطاب السياسي للدول الغربية بخصوص الوضع الإسرائيلي الفلسطيني؛ فإسرائيل تحت قيادة نيتنياهو وليبرمان لقيت ترحيبًا وقُبلت عضويتها في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD. كما أن فرض عقوبات على إسرائيل على المستوى الشعبي من خلال التقدم الذي حققته الحركة العالمية لمقاطعة إسرائيل (المعروفة باسم حركة المقاطعة، وسحب الاستثمارات، وفرض العقوبات Boycott, Divestments, and Sanctions (BDS) ) ما يزال نجاحًا على المستوى الانطباعي الوقتي، ويسير بشكل تدريجي. وتهيمن الرواية الإسرائيلية على طرح العديد من القضايا للرأي العام الدولي، من اعتبار المفاوضات هي السبيل الشرعي الوحيد لحل النزاع، إلى شرعية الدولة اليهودية.

وفي عالمنا اليوم الذي يتجه للتغير من عالم تسيطر عليه مجموعة الثماني الكبار إلى مجموعة العشرين ومجموعة البريكس، ربما تكون عوامل التغيير أكبر في المستقبل.

الخطوة العاجلة: إدراك صعوبة التغيير

1- الرهان على بناء الدولة
بعد وصول خيار أوسلو إلى طريق مسدود، أصبح بناء الدولة الفلسطينية، تحت قيادة رئيس الوزراء سلام فياض، مشروعًا محوريًا للهيئة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية.

ولعل المنطق الجلي في هذا المنهج، على نحو ما عبر عنه مهندسوه، يقوم على إرساء مؤسسات للحكم الذاتي الفلسطيني، تتمتع بالثقة والشفافية والقبول الدولي، بما في ذلك المؤسسات الأمنية؛ بحيث تفرض واقعًا على الأرض أمام إسرائيل والمجتمع الدولي، يُفضي إلى نقل السلطات من إسرائيل إلى هذه المؤسسات، وإلى انسحاب إسرائيلي؛ ومن ثَمَّ تجسيد السيادة الفلسطينية.

فخطة بناء الدولة على مدار سنتين والتي أطلقها سلام فياض في أغسطس/آب 2009 لقيت ترحيبًا مدويًا من قبل المجتمع الدولي.

وفي ربيع 2011، أصدر البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والأمم المتحدة تقارير اعتنت في المقام الأول بالتثبت من "جاهزية الدولة الفلسطينية" في لغة طالما رددتها اللجنة الرباعية والاتحاد الأوربي وحكومة الولايات المتحدة. ولكن ذلك ليس هو واقع الحال الذي تعيشه فلسطين؛ فالأراضي الفلسطينية المحتلة، تعاني من احتلال أجنبي عدواني لم يعطها تلك الشروط التي تضمن انسحاب الاحتلال ونقل السيادة؛ فالسلطة الفلسطينية عبارة عن محمية إسرائيلية وليست محمية خاضعة للأمم المتحدة.

وما كان يُعتبر، على الأقل تبعًا لمهندسي هذا النهج، نية لتحقيق دورة فعالة من تطوير الحكم الذاتي للفلسطينيين نحو الاستقلال قد أصبح بمرور الزمن حلقة مفرغة تمثل إحدى العقبات الرئيسية.

2- الاقتصاد الفلسطيني
لقد تمركزت بنية الاقتصاد الفلسطيني حول السلطة الفلسطينية، وهو ما أدى إلى الاعتماد بشكل كبير على المساعدات والمنح الخارجية؛ فالسلطة الفلسطينية هي أكبر هيئة لتوظيف الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، وتدفع رواتب لنحو 180,000 مواطن. وإذا أخذنا في الاعتبار الأسر والأقارب الذين يعتمدون على هذه الرواتب فإن نحو مليون فلسطيني يعتمد على توظيف السلطة الفلسطينية التي تبلغ ميزانيتها 3.17 بليون دولار، من إجمالي 7.39 بليون دولار قيمة الناتج المحلي الإجمالي بحسابات عام 2010. ومن بين ميزانية التوظيف السابق الإشارة إليها (3.17 بليون دولار) يسهم المانحون بنحو 1.2 بليون دولار. وهذه الدرجة العالية من الاعتماد على المانحين تترك أثرًا مكبِّلاً على إمكانية تشكيل إستراتيجية فلسطينية بديلة، كما تترك أثرًا سلبيًا على مجموع السكان الفلسطينيين بحيث تقعدهم عن الحركة وترهنهم للدعم الخارجي.

ويمكن أن يكون الدعم الدولي شيئًا جيدًا، غير أن السياق الذي يتم فيه ليس خيرًا على الدوام، فرغم ما قيل على مدار 17 سنة من أنه يساهم في "بناء الدولة" إلا أن هذه المساعدات تعمل على تكريس وتطبيع بل وتسهم بشكل غير مباشر في تمويل نظام الاحتلال الذي ينكر الحريات الأساسية للشعب الفلسطيني. ويضع هذا الخيار القيادة الفلسطينية في معضلة: كيف يمكن للقيادة الصراع من أجل التحرر دون المخاطرة بوقوع حرمان متوقع للشعب، وتراجع الخدمات، وخلق بطالة جماعية؟

3- الاعتماد على المنح والمساعدات يقوّض المرونة السياسية
يترتب على ما سبق ذكره، صياغة وبناء العلاقات الفلسطينية مع المجتمع الدولي بما يضع في الأولوية الحفاظ على الدعم والمنح المالية للسلطة الفلسطينية على حساب المطالب السياسية الممكنة (على سبيل المثال الدعم الدبلوماسي للحقوق الفلسطينية في المنتديات الدولية، أو المطالبة بوسائل عقابية ضد تجاهل إسرائيل هذه الحقوق). ومثل هذا الظرف يضع فضاء المناورة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية عرضة للتزعزع وعدم الاستقرار.

وفي هذا الصدد هناك مثالان حديثان لافتان للانتباه، الأول: أنه مع انتهاء مدة السنتين للسلطة الفلسطينية بخصوص مشروع بناء الدولة، أعلنت هذه السلطة بالفعل نيتها السعي في الاستمرار قدمًا من خلال اقتراحها على مجتمع المانحين الدوليين خطة جديدة لسنتين أخريين عنوانها "البرنامج الوطني الفلسطيني" لعامي 2011-2013. أما المثال الثاني فهو تركيز السلطة على المطالب المالية أكثر من المطالب السياسية، وامتداد ذلك بشكل يتجاوز حتى الدول الغربية المانحة، بحيث أصبح هذا النهج معْلمًا مميزًا لتفاعل منظمة التحرير الفلسطينية مع العالم العربي.

4- الاعتماد على إسرائيل
تعتمد السلطة الفلسطينية في أداء وظائفها بشكل أساسي على التعاون مع إسرائيل. وتمس هذه العلاقة الاعتمادية كافة المجالات التي يتخيل المرء أن تقوم بها السلطة، من تحركات مسؤولي السلطة الفلسطينية إلى التسجيل السكاني للمواطنين الفلسطينيين بما يشمل كافة بياناتهم الحياتية. وهناك بعض المجالات من أشكال التعاون التي لا مفر منها ذات تأثير فادح على ظروف الممارسة السياسية الفلسطينية. وفي مقدمة هذا النوع من أشكال التعاون يأتي التنسيق الأمني خاصة في ظل السياق الذي تلعب فيه قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية دورًا يتجاوز وظيفة حفظ القانون والنظام والوظائف الداخلية وشؤون الشرطة إلى الإذعان بعدم التدخل لحماية السكان الفلسطينيين إذا ما قامت إسرائيل بغارات عسكرية أو قام المستوطنون بعنف عدواني تجاه السكان الفلسطينيين، كما تتضمن وظائف قوات الأمن التابعة للسلطة منع أي حراك شعبي فلسطيني للمطالبة بتلبية حقوق الشعب الفلسطيني، أو تحقيق حق الدفاع عن النفس وهو الحق الشرعي الذي يقره القانون الدولي.

ومن القضايا الرئيسية هنا أيضًا الأبعاد الاقتصادية؛ فبحسب اتفاقية باريس الموقعة عام 1994، فإن إسرائيل مسؤولة عن جمع الرسوم الجمركية وعوائد ضريبة القيمة المضافة لصالح السلطة الفلسطينية، وهي آلية تنتهك إسرائيل مبادئها في حالات متعددة (بحيث تحول دون وصول هذه الأموال للسلطة الفلسطينية)؛ وذلك كورقة ضغط ضد منظمة التحرير الفلسطينية/السلطة الفلسطينية (وهناك أشكال أخرى يمكن من خلالها تلمُّس اعتماد الاقتصاد الفلسطيني على إسرائيل، في مقدمتها توظيف العمال الفلسطينيين في المستوطنات، واستخدام العمالة الفلسطينية بشكل غير رسمي في الاقتصاد الإسرائيلي).

5- الصراع على السلطة
انصب الاهتمام في مسعى المصالحة بين حماس وفتح على السلطة وتقاسمها أكثر من اهتمامه بالتوافق على إستراتيجية موحدة لمواجهة إسرائيل، مع أن الاحتلال هو العامل الرئيسي في تدهور الوضع الفلسطيني بكامله.

6- استبعاد الفلسطينيين
لا ينحصر اهتمام نظام صنع القرار الفلسطيني المتمركز حول السلطة الفلسطينية سوى بالأراضي الفلسطينية المحتلة؛ الأمر الذي يؤدي -إلى جانب عدد من الاعتبارات الأخرى- إلى استبعاد فلسطينيّ الشتات سواء في مخيمات الجوار الإقليمي أو في العالم الأبعد، فضلاً عن المجتمعات الفلسطينية داخل إسرائيل.

السلطة والمقاومة

وأمام تدني القدرات وقلة الخيارات، فإن القوى الفلسطينية ستكون أمام خيارات للتعامل مع الاحتلال:

السيناريو الأول: تفكيك أو حل السلطة الفلسطينية
 كي يتم اختيار هذه الخطوة الجذرية، فإن القيادة التي ستتخذ هذا القرار لابد لها من الحصول على شرعية شعبية لهذه الخطوة وطرح بديل جاهز وقابل للتنفيذ. أما المسار الثاني للتفكيك السريع للسلطة الفلسطينية فيمكن أن يأتي من خلال تدفق قوة شعبية تتحرك من أسفل وتسعى لتحقيق هذا الهدف.

وللأسباب التي أشرنا إليها من قبل، ليس من المتوقع أن يجد أي من هذين السيناريوهين نجاحًا.

لكن مع ذلك، ثمة خيار ثالث، ربما أكثر واقعية، يتمثل في احتمال حدوث تقليص تدريجي في السلطة الفلسطينية. والأبعاد السياسية لمثل تلك الخطوة قد تحمل مزالق وعرة دون شك؛ فالسلطة الفلسطينية إذا ما جردت نفسها من كافة الوظائف السياسية ولم تعد أكثر من مقدم للخدمات؛ ففي هذه الحالة فإن أية وظائف قد تعجز عن أدائها -سواء نتيجة التدخل الإسرائيلي أو توقف المانحين عن تقديم المساعدات- ستسقط عنها وتنتقل مسؤوليتها إلى المجتمع المدني الفلسطيني، أو إلى المنظمات الدولية غير الحكومية، أو إلى سلطة الاحتلال.

وهناك بعض الاعتبارات الانتقالية التي يحب أن تؤخذ في الاعتبار، مثل:

  • الانسحاب المشروط من التعاون الأمني.
  • التفكيك السياسي للسلطة الفلسطينية على مستوى العمل الحزبي وعلى مستوى احتفاظ المسؤولين بوظائف في السلطة ومنظمة التحرير في آن.
  • المطالبة بآلية بديلة لترتيبات اتفاق باريس المتعلق بجمع الضرائب وعائدات الرسوم الجمركية، بحيث تحول دون اشتراك إسرائيل كطرف ثالث، وهو أحد الشروط التي قامت عليها السلطة الفلسطينية.  
  • رفض إعانات المانحين التي تفرض شروطًا سياسية أو التي لا تتفق مع مبادئ وقواعد دعم الفلسطينيين.
    وفي هذا السياق، فإن تمويل الفلسطينيين يمكن أن يوجه نحو هياكل بديلة.

وبوسع ظهور التزام فلسطيني واضح بالقانون الدولي أن يدعم من القدرة السياسية الفلسطينية لتحقيق مطالبها من المجتمع الدولي بحيث يسعى لإجبار إسرائيل على الالتزام بنفس تلك القوانين.

والشرط الضروري لهذا النهج سيكون بالطبع عبر معالجة شاملة لمنظمة التحرير الفلسطينية، بنظام يتفق عليه مجلس وطني فلسطيني جديد منتخب بطريقة ديمقراطية، أو تكوين أية هيئة جديدة مناظرة، تنفتح على مشاركة عادلة لكافة شرائح المجتمع الفلسطيني.

من بين العوامل الأخرى المؤثرة في هذا السيناريو، وجود قيادة سياسية لفلسطينيّ المنفى، ودور قيادي -رمزي وجوهري- للفلسطينيين في السجون الإسرائيلية.

السيناريو الثاني: كفاح شعبي مستديم
وهذا السيناريو يكون حلاً لمشكل التوفيق بين المقاومة والشرعية الدولية، ويتمثل في كفاح شعبي مستديم؛ وعلى العموم تميل حركة العصيان المدني الناجحة إلى أن تكون نتاج نهج من التنظيم السياسي متحرك من أسفل لأعلى. وفي الحالة الفلسطينية، فإن مثل هذه التنظيم لم يكن يكافح ضد المعارضة المتوقعة والتخريب المتعمد من قبل السلطات الإسرائيلية فحسب، بل أيضًا يكافح ضد الاختلاف، وأحيانًا الخلاف العدائي، الذي تتسم به الهياكل المؤسسية الوطنية الفلسطينية.

ومن الناحية المثالية، من المتوقع أن تكون إعادة بناء حركة التحرر الوطني قادرة على دمج نفسها بشكل فعّال في إستراتيجية للكفاح الشعبي السلمي. وفي الحد الأدنى، وإلى أن تتشكل هياكل وطنية جديدة، يجب أن تتوقف، في هذا السيناريو، المؤسسات السياسية الفلسطينية عن ممارسة الأعمال التي تقف حجر عثرة أمام الحراك الشعبي، ويجب أن تقدِّم الدعم بالشكل اللائق وبالقدر المطلوب منها.

وهناك حاجة لإدراك أن الحراك الشعبي السلمي الفلسطيني سيحتل مكانه في ظل ظروف لا تختلف بشكل جوهري عما هو سائد في حالة "الصحوة العربية" فحسب، بل إن هذا الكفاح الشعبي من المحتمل أن يكون هو الوحيد القادر على إحداث تغيير حقيقي في قواعد اللعبة بما يحقق مطالب وحقوق الشعب الفلسطيني، والانعتاق من هيمنة إسرائيل بفرض سياسة الأمر الواقع، وخلق ظروف بوسعها أن تدفع إسرائيل إلى إعادة تقييم الوضع الفلسطيني. وبصفة خاصة فإن هذا الكفاح الشعبي ربما يفكك من البنى الداعمة لإسرائيل في أوربا، والمجتمعات اليهودية وربما حتى الولايات المتحدة. 

وحتى يحقق هذا الكفاح الشعبي نجاحًا فلابد له من:

  • أن يُبنى على إجماع فلسطيني أكثر شمولاً.
  • أن يتغلب على تحديات بقائه منضبطًا وملتزمًا بمبدأ السلم، خاصة في مواجهة الاستفزازات الإسرائيلية والأفعال الانتهازية من قبل الفصائل الفلسطينية والمنتفعين منها في الخارج.
  • أن يبنى على إستراتيجية قائمة ومستخدمة في قرى الضفة الغربية ومن قبل لجان المقاومة الشعبية وغيرها، وأن يكون كفاحًا مستديمًا بما في ذلك الكفاح نحو تنمية اقتصادية مستدامة.
  • أن يصبح جزءًا من الإستراتيجية الفلسطينية التي تركز على الصراع القائم على الطابع السلمي، ولفت انتباه المجتمع الدولي لردود الأفعال الإسرائيلية.

وهذان السيناريوهان ليسا متعارضين بالضرورة بل يمكن الجمع بينهما لتوسيع مجال المناورة أمام القيادات الفلسطينية في سعيها التاريخي نحو التحرر من الاحتلال الإسرائيلي.