وفقًا لما أعلنته إيران مع نهاية مهلة الـ60 يومًا(1) التي منحتها للأطراف الأوروبية لتطبيق بنود الاتفاق النووي خاصة فيما يتعلق بإزالة العقوبات الاقتصادية، بدأت تخصيب اليورانيوم بمستوى يفوق حدود 3.67% وبات بمقدورها أن تنتج اليورانيوم المخصب بنسبة لا تقل عن 4.5%، بما يتجاوز المنصوص عليه في الاتفاق النووي الموقع بين إيران ومجموعة 5+1 عام 2015، وقال نائب وزير الخارجية، عباس عراقجي،في مؤتمر صحفي، يوم الأحد 7 يوليو/تموز 2018: "لن نقف عند مستوى 3.67 بالمائة في تخصيب اليورانيوم". ومع تصعيد جديد ومهلة جديدة(3) تعطيها إيران، تبدو الدبلوماسية الأوروبية عاجزة عن إيجاد حل يرضي الإيرانيين ويتعامل مع معضلة العقوبات الأميركية.
وانسحبت واشنطن من الاتفاق، في 2018، وأعادت فرض عقوبات اقتصادية غير مسبوقة طالت مختلف المجالات الحيوية الإيرانية وفي مقدمتها النفط. وأقلقت هذه الخطوة الاتحاد الأوروبي، الذي دعا إيران إلى "وقف أنشطتها المنافية لالتزاماتها في إطار اتفاق فيينا" وإلى "العودة" إلى الالتزام بالاتفاق النووي. تبحث هذه الورقة في مآلات الخطوة التصعيدية من قبل إيران، وتناقش مواقف الأطراف الأوروبية وتبحث نقاط اختلافها واشتراكها مع السياسة الأميركية تجاه إيران.
تصعيد جديد ومهلة جديدة
مقابل القلق الأوروبي دافع وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، عن خطوة بلاده مؤكدًا أنها لن تتراجع ما لم "تَفِ الدول الأوروبية الموقِّعة على الاتفاق النووي بالتزاماتها تجاه إيران". وأن "الجولة الثانية من الإجراءات التعويضية" جاءت بموجب الفقرة 36 من الاتفاق النووي. وألقى عراقجي باللائمة على أوروبا، وقال: إنها "فشلت في الوفاء بالتزاماتها وتتحمل جزءًا من المسؤولية"، وأبقى المجال مفتوحًا للحل بالقول: "إن الأبواب مفتوحة للدبلوماسية، ولكن الحاجة الآن هي إلى مبادرات جديدة".
لا تخفى التباين الواضح للموقف الأوروبي تجاه الاتفاق النووي مع إيران مقارنة بالموقف الأميركي، لكن ذلك لا يعني غياب تقاطعات حساسة ومهمة فيما يتعلق بعدد من القضايا، لعل أهمها البرنامج الصاروخي الإيراني، والنفوذ الخارجي لإيران. وأظهرت مواقف أوروبا بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي وإعادة فرض العقوبات على إيران، سعيًا للحيلولة دون خروج طهران من الاتفاق، لكن، في ذات الوقت لإبقائها تحت الضغط السياسي والاقتصادي. وكما أن إدارة ترامب تسعى لجرِّ إيران إلى طاولة المفاوضات لإنجاز اتفاق جديد يطول إلى جانب البرنامج النووي قضايا وملفات سياسية، وتطبق سياسة الضغط الأقصى لتحقيق هذا الهدف، فإن الأوروبيين أيضًا يتحركون لجعل إيران تفاوض حول برنامجها الصاروخي وقضايا إقليمية أخرى. ولتحقيق ذلك، يتبعون سياسة تقطير ما يجب أن تحصل عليه إيران جرَّاء الالتزام بالاتفاق النووي. وفي المحصلة، فالهدف يكاد يكون واحدًا، ويتمثل في الصواريخ واتساع رقعة الدور الإقليمي لإيران. ويمكن بيان أبعاد الاستراتيجية الأوروبية الهادفة إلى الضغط على إيران في التالي:
- بعد الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي، تحدثت المفوضية الأوروبية عن إطلاق آلية لتنفيذ أربعة قرارات أوروبية لمواجهة العقوبات الأميركية، وتضمنت: تفعيل قانون الحظر، وإزالة الحواجز من أمام بنك الاستثمار الأوروبي (EIB)، وتعزيز التعاون المستمر مع إيران، بما في ذلك التعاون في قطاع الطاقة والمؤسسات الصغيرة ومتوسطة الحجم، ودراسة إمكانية إجراء المعاملات المصرفية مع البنك المركزي الإيراني. لكن هذه الخطوات الأوروبية لم تجد تطبيقًا على أرض الواقع، ورغم أن الخطة تتحدث عن إمكانية تعاون بنك الاستثمار الأوروبي مع إيران تجاريًّا، إلا أن الخطة لم تكن ملزمة، وأحجم بنك الاستثمار الأوروبي عن تنفيذها خوفًا من سوط العقوبات الأميركية.
- رغم حديثها المتكرر عن خوفها من انهيار الاتفاق النووي إلا أنها رضخت للعقوبات الأميركية على تصدير النفط الإيراني، وعلى الرغم من منح إعفاءات لبلدين أوروبيين لشراء النفط الإيراني، إلا أنها توقفت عن شرائه تمشيًا مع العقوبات الأميركية.
- تقتصر القناة المالية للتحويل المالي مع إيران(2) "INSTEX"، والتي أعلن عنها الأوروبيون مؤخرًا، على السلع الإنسانية (الأغذية والأدوية والمعدات الطبية)، وهو ما يدلِّل على انتهاج أوروبا لاستراتيجية الضغط على إيران، وهو ما جعل معارضي الاتفاق النووي يقارنون بينها وبين قرار النفط مقابل الغذاء وقت العقوبات على العراق.
- على الرغم من أن الهدف الأساسي المعلن لقناة Instex كان مواجهة العقوبات الأميركية وحصول إيران على تحويلات مالية لقاء بيعها النفط، إلا أنها غير فعالة إلا في إطار العقوبات الأميركية. وجعلت الدول الأوروبية تنفيذ هذه الآلية معتمدًا بشكل لصيق على تعاون إيران غير المشروط مع مجموعة العمل المالي (FATF).
- تُظهر التصريحات الصادرة عن المسؤولين الأوروبيين أن مطالب الدول الأوروبية من إيران لا تقتصر على حل القضايا النووية، ويرون أن الاتفاق هو نقطة البداية لحل القضايا الأخرى، وهو ما يشير إلى الصواريخ الإيرانية والأنشطة الإقليمية. وسبق لموغريني أن صرَّحت بأن "الاتحاد الأوروبي لديه رغبة شديدة في معالجة قضية الصواريخ الباليستية الإيرانية". ولذلك، فإن أوروبا معنية بصورة كبيرة بالحفاظ على الاتفاق النووي، لأن فشله بصورة كاملة سيحول دون قبول الإيرانيين الدخول في عملية تفاوض جديدة.
من جانبها، تعي إيران أبعاد السياسة الأوروبية، وبدأت تصعِّد في لهجة الانتقاد لها، حتى من قبل فريق روحاني الذي طالما راهن على الدور الأوروبي في حماية الاتفاق، لكنها في الوقت ذاته تدرك مخاطر الانسحاب من الاتفاق، فذلك معناه فقدان الدعم الدولي وعودة ملف البرنامج النووي إلى مجلس الأمن، وفي النتيجة شرعنة العقوبات والتصعيد ضد إيران وهو ما تسعى إليه الولايات المتحدة الأميركية.
وتقول الأصوات المحذِّرة من مخاطر القناة المالية "INSTEX" داخل إيران، وهي أصوات ناقدة لأصل الاتفاق النووي: إن الآلية الأوروبية ستعمل في الواقع على تعطيل جزء كبير من التجارة الإيرانية الخارجية، وستراقب أنشطة إيران وتجارتها مع المجتمع الدولي، ويصب في النهاية في مسار العقوبات الأميركية. إلا أن حكومة روحاني تريد الاستفادة من هذا المنفذ وتفعيله خاصة وأنه يشكِّل بديلًا لآلية "سويفت" الأميركية، وتقايُض باليورو بعيدًا عن سيطرة الدولار الأميركي، ولديها عدة تصورات بهذا الخصوص:
• أن توفر أوروبا اعتمادًا ماليًّا مهمًّا وألا يقتصر سقف التعامل المالي على ملايين الدولارات.
• ألا تُحصر عملية التبادل التجاري ببعض السلع دون غيرها.
• أن تشمل الآلية شراء النفط، ليس من قبل الأوروبيين فقط بل ومن دول أخرى كالصين التي تحتاج النفط الإيراني وتعد مستهلكًا كبيرًا للطاقة.
• فتح المجال لدول أخرى للالتحاق بالآلية المالية.
وبدون هذه الخطوات، ترى إيران أن القناة المالية "INSTEX" لن تنعكس على مؤشرات الاقتصاد الإيراني إيجابيًّا.
يعزز من ضعف هذه الآلية اشتراط الترويكا الأوروبية، في بيانها الصادر في 31 يناير/كانون الثاني 2019، وربطت فيه تفعيل قناة "إينستكس" المالية التي تديرها فرنسا وتراقب نشاطها ألمانيا، بوفاء طهران بمتطلبات مجموعة العمل المالي (FATF)، لكن الانضمام إلى معاهدة هذه المجموعة يلقى معارضة صلبة داخل إيران خاصة فيما يتعلق ببنود مكافحة الإرهاب وغسيل الأموال.
ورغم الفرص الضعيفة أمام نجاحها، إلا أن تفعيلها سيمكِّن الشركات الصغيرة والمتوسطة التي ليس لها علاقات تجارية أو نشاط تجاري في الولايات المتحدة، من العمل في السوق الإيرانية.
وفيما يُجري مستشار الرئيس الفرنسي في الشؤون الدبلوماسية، إيمانويل بون، محادثات في طهران التي وصلها هذا الأسبوع، حول تنفيذ البلدان الأوروبية التزاماتها في الاتفاق النووي، تعلن إيران أن خطوتها الثالثة بشأن الاتفاق النووي ستكون أقوى وأكثر حزمًا.
خلاصة
في سعيها لإعادة ملف البرنامج النووي الإيراني لمجلس الأمن، طلبت الولايات المتحدة الأميركية عقد جلسة لمجلس حكام الوكالة الدولية للطاقة الذرية، لبحث الخطوات الإيرانية بتقليص بعض التزاماتها في الاتفاق النووي الذي سبق لواشنطن أن انسحبت منه. ومن المؤكد أن إيران لا تريد عودة الملف إلى مجلس الأمن حيث اختبرت إجماعًا دوليًّا على العقوبات، لكنها في الوقت ذاته تبدو مصرَّة على رفض التفاوض المباشر مع واشنطن. ولا تبدو طهران قلقة تجاه اجتماع مجلس الحكام؛ إذ لا دور له إلا في إطار المواضيع ذات الصلة بالاتفاق النووي وبعد أن تقدم الوكالة الدولية للطاقة الذرية تقريرًا بهذا الشأن.
وقد تكون المهلة الجديدة محاولة إيرانية لإيجاد حلول قد تتضح ملامحها في اجتماع وزراء خارجية إيران ومجموعة 4+1 المقرر نهاية يوليو/تموز 2019.
أما مشكلة الأوروبيين، كما يلخصها وزير الخارجية الإيراني، فهي: "أولًا وقبل كل شيء، ليسوا مستعدين لدفع ثمن أمنهم، ومشكلتهم الرئيسية بالدرجة الثاني هي الولايات المتحدة، التي انسحبت من الاتفاق النووي وعليهم حل هذه المشكلة".
وعلى الرغم من عدم الرضى الواضح عن الأداء الأوروبي فيما يتعلق بتنفيذ بنود الاتفاق النووي إلا أن طهران مضطرة إلى المحافظة على الموقف الأوروبي، لكن سياسة الضغط لن تفلح في جعل إيران تفاوض على البرنامج الصاروخي في الأفق المنظور؛ ذلك أنه ما زال خطًّا أحمر وملفًّا عصيًّا على دعوات التفاوض، لكن من الممكن حدوث تفاوض ذي طبيعة محدودة في عدد من الملفات الإقليمية. في المحصلة: لا يبدو أن الاقتصاد الإيراني سيشهد انفراجًا يُذكَر حتى مع الخطوات الأوروبية، وستواصل إيران السير بحذر على هامش الاتفاق النووي دون أن تخرج منه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*د. فاطمة الصمادي، باحث أول بمركز الجزيرة للدراسات متخصصة في الشأن الإيراني.
(1) مع الذكرى السنوية الأولى لانسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، أمهلت إيران الدول الموقِّعة على الاتفاق (فرنسا والصين وألمانيا وروسيا وبريطانيا) إلى جانب الاتحاد الأوروبي، 60 يومًا لتنفيذ إجراءات تحفظ الاتفاق النووي وتساعد إيران على مواجهة العقوبات الأميركية، وإلا فإن إيران ستستغل بندًا في الاتفاق يجيز لها تخفيض التزاماتها، وهو ما أقدمت عليه بالفعل، وزادت من مستوى تخصيب اليورانيوم.
(2 ) ستواصل إيران تخفيض التزامها ببنود الاتفاق النووي لعام 2015 كل 60 يومًا مع تأكيدها على إمكانية العودة لتطبيق التزاماتها شرط رفع العقوبات.
(3 ) اختصار لـ Instrument in Support of Trade Exchanges "أداة دعم الأنشطة التجارية".