الأمن في ليبيا: شرعية الدولة وسطوة السلاح

الثورة الليبية كانت مسلحة وغير مركزية، ولما سقط النظام بات التحدي الرئيسي أن يقبل الثوار بتسليم السلاح لسلطة مركزية، لكن النزاعات الأخيرة توحي بأن القيادة الجديدة لا تملك الشرعية الكافية كي تفرض سلطتها على الشرعيات الأخرى القديمة والتي تشكلت خلال المقاومة المسلحة لنظام القذافي.
2012129131652323734_2.jpg
توحي النزاعات الأخيرة في ليبيا بأن القيادة الجديدة لا تملك الشرعية الكافية كي تفرض سلطتها على الشرعيات الأخرى القديمة والتي تشكلت خلال المقاومة المسلحة لنظام القذافي (الجزيرة)

ما حدث في ليبيا أمر تعدّى الخلاف الذي يقع بين النظام الحاكم والمعارضة السياسية في المناطق التي شهدت أزمات سياسية وتطورت إلى نزاع مسلح. ولم تقتصر خصوصية الحالة الليبية على اختلال التوازن بين النظام والمعارضة التي تشكلت بعد تفجر النزاع المسلح بشكل كبير، بل تبرز الخصوصية في توظيف النظام لتناقضات اجتماعية (قبلية ومناطقية) بحيث أدى ذلك إلى تداعيات تهدد المكتسبات التي تحققت بفعل الثورة.

تمظهرت الأزمة وما تبعها من نزاع مسلح نشب في معظم مدن ومناطق البلاد في تفجر المشاكل السياسية والأمنية. ومن المهم التنبيه إلى أن عوامل الصراع الذي يأخذ مظاهر مختلفة بين الفينة والفينة هنا وهناك ارتبطت بحقبة الاستبداد؛ حيث كانت تلك المشاكل مخفية ثم ما لبث أن برزت بمجرد رفع القيود وإطلاق الحريات؛ فالحرمان والاضطهاد عادة ما يغذي النزعات الجهوية والقبلية والعرقية، أما الحكم الشمولي فيخلِّف انهيارُه فراغًا سياسيًا وأمنيًا، عادة ما يقود إلى بروز أطراف تحاول ملء بعض الفراغ فتقع في كثير من التجاوزات وبالتالي الصدامات. ويمكن تلخيص أبرز مغذيات الصراع اليوم فيما يلي:

  1. بروز النعرة القبلية والجهوية.
  2. التنازع الأيديولوجي.
  3. بروز التشدد الديني.
  4. بقايا النظام السابق.
  5. تشكيل الكتائب على أساس جهوي وقبلي.

 الخلافات في ظل الوهن السياسي

التأخير في ملء الفراغ السياسي، والإخفاق في إيجاد مؤسسات سياسية وأمنية قوية في مقابل الانتشار الكبير للسلاح، والتوسع في إنشاء الكتائب العسكرية والأمنية، ساهم في بروز الخلافات أو ضاعف من خطرها؛ إذ لم تظهر بوادر معالجة حقيقية لها عبر إستراتيجيات وخطط قابلة للتطبيق، ويمكن اعتبار ذلك من أبرز إخفاقات المكتب التنفيذي ومن بعده الحكومة الانتقالية.

تؤكد المعلومات الأولية أن من ينتسبون للكتائب الأمنية داخل المدن يفوقون في عددهم عناصر الأمن الوطني والأمن الوقائي بعدة أضعاف، بل إن دور الكتائب غير المعترف بها من قبل دائرة الداخلية في المكتب التنفيذي يغلب على نشاط الأجهزة الرسمية في حفظ الأمن ومكافحة الجريمة وملاحقة رجال النظام أو ما اصطُلح على تسميتهم "الطابور الخامس". مع ملاحظة أن العشرات من تلك الكتائب لا تعرف الحكومة الانتقالية عن نشاطها وعدد أفردها وتسليحها إلا القليل. وقد ظهر الارتباك في المنظومة الأمنية في حادثة محاصرة رئيس المجلس الانتقالي، مصطفى عبد الجليل، والهجوم على مقره؛ حيث غاب أي دور بل وجود لقوة حماية أمنية، وبرّر بعض المسؤولين ذلك بالخوف من تفجر الوضع ووقوع صدامات لم تكن مستبعدة. وكان من أخطر تداعيات الفشل في دمج المجموعات المسلحة في النظام الجديد -إما في المؤسسات الأمنية والعسكرية الجديدة، أو من خلال استيعابهم في المؤسسات المدنية كمقدمة لنزع سلاحهم- هو إمكان استقطاب العديد منها لصالح شعارات جهوية أو قبلية أو أيديولوجية تتعارض مصالحها وتتناقض توجهاتها.

  1. برزت النعرات الجهوية والقبائلية بشكل واضح منذ إعلان التحرير، وكان مظهرها في ارتفاع أصوات المتحدثين باسم مناطقهم وقبائلهم، والتنافس بينهم فيما يتعلق بدور كل منطقة أو قبيلة في الثورة، ثم تطور الوضع إلى التصادم والمواجهات المسلحة بين العديد من المناطق على خلفية مواقف كل منها (رافض أو مؤيد) من النظام، مع التنبيه إلى أن الخلافات -التي تطورت إلى مواجهات- تفجرت لأسباب متعلقة بظروف ما بعد 17 فبراير/شباط 2011 لكن تم توظيف الخلافات التاريخية القديمة لإذكاء الصراع. ويُلاحَظ أن أنشطة التسلح ازدادت حتى بعد زوال القذافي بسبب التوتر والتنافس بين المناطق والقبائل بشكل قد يعرقل عملية الانتقال من الثورة إلى الدولة.

    التوتير فيما يتعلق بهذا الملف يمكن أن يأخذ عدة مناحٍ؛ ففي المناطق الواقعة غرب البلاد لا تفتأ المواجهات المسلحة أن تندلع، وكان آخرها المواجهات العنيفة داخل بني وليد، والتي ذهب ضحيتها ستة قتلى وما يقرب من ثلاثين جريحًا، وسبقت ذلك بأيام مصادمات غريان والأصابعة، جنوب غربي طرابلس، التي استُخدمت فيها أسلحة متوسطة وثقيلة. كذلك الحال فيما وقع بين زوارة والجميل ورقدالين، والزاوية وورشفانة، والزنتان والمشاشية، وهي مناطق التوتر بينها عالٍ وجهود الوساطة لم تتعد وقف الاقتتال؛ إذ لم تُطرح مشاريع وبرامج لمعالجة جذور النزاع؛ مما يعني أن احتمال تفجر الصراعات وحتى اتساعها ليس مستبعدًا، وقد أشرنا إلى تحول دوافع الصراعات من مبدأ (مؤيد ومعارض) الذي كان سائدًا قبل مقتل القذافي، إلى نزاعات جهوية ومناطقية، الأمر الذي يصعِّب من مساعي احتواء النزاع.

  2. برز الاستقطاب الأيديولوجي مبكرًا في مرحلة التحرير، وأخذ يصبغ المرحلة الانتقالية بصبغته؛ فعلى سبيل المثال هناك حملة مستعرة ضد جماعة الإخوان المسلمين، تتغذى من دعاية النظام السابق، فأثرت في قطاع من الناس، حتى بات حاليا الانتماء إليها وصمة تمنع في بعض الحالات من تولي المناصب، بالمقابل بات التحذير من العلمانيين والليبراليين جزءًا من التراشق، أذكته الدعوة إلى تحكيم الشريعة، والتحريض ضد من يرفضونها. وينبغي التنويه إلى أن النزاع في صفوف الكتائب المسلحة أخذ منحى التخندق والاستقطاب الأيديولوجي بين التيار الإسلامي والليبرالي، وحتى بين التيار الإسلامي نفسه ممثلاً في الإخوان المسلمين وبعض المجموعات الإسلامية التي لا تتفق معهم.
  3. بعد مرحلة التحرير تأكد أن النزاع على السلطة قد يأخذ طابع التشدد الديني؛ فهناك العديد من المجموعات المسلحة تأسست على قاعدة دينية جهادية سلفية، وقد شهد العديد من المناطق شرقي البلاد حوادث تفجير ونبش قبور اتخذها الناس مزارًا، أو عُرف أنها لـ "أولياء" يُتبرك بهم، وأثارت الحوادث جدلاً حادًا بين أوساط الطرق الصوفية، وتنادَى العديد منها إلى ضرورة التسلح لحماية القبور والأضرحة والتصدي لـلمتشددين. كما ظهرت منشورات في بعض الأماكن العامة والأسواق وعلى الجدران تدعو إلى قفل محال الحلاقة وصالات الأفراح ومحال بيع التبغ، وحملت المنشورات نبرة التهديد باستخدام القوة "لإزالة تلك المنكرات".
  4. يعد المتورطون مع النظام السابق عاملاً من عوامل التنازع من خلال إثارتهم الخلافات، ودعم بعض المجموعات المسلحة لبث الفوضى؛ حيث إن استقرار الوضع سيعجِّل بكشفهم وتقديمهم للعدالة. والمقصود بهؤلاء كل من تورط مع النظام السابق في جرائم قتل وتعذيب ومصادرة أموال وسرقات للمال العام، وتخشى قوى من الثورة أن دمج هؤلاء في النظام الجديد مخاطرة وسبب لسخط الشارع، لكن نبذهم يمثل  عامل توتير وخلق جيوب تحارب الثورة؛ إلا أن تهمة التورط مع النظام السابق تستعمل أيضا بين القوى المتنافسة على السلطة حاليا لإقصاء الخصوم، خاصة أن في ليبيا خلال عهد القذافي كانت غالبية التوظيف في قطاع الدولة. ورغم حدة هذا النزاع لم يتمكن القادة الجدد من معالجة هذا الإرث، وتبدو التصريحات والممارسات الرسمية حياله غامضة أحيانًا ومتناقضة في أحايين أخرى.
  5. تشكيل المجموعات العسكرية على أساس مناطقي لدواعي الحرب التي فرضها النظام السابق (كتائب مصراته، الزنتان، جادو، يفرن، نالوت، غريان، الزاوية، صبراته، طرابلس، تاجوراء، وبنفس المنوال كتائب المناطق الشرقية)، ساهم في عرقلة عملية الاندماج، ومع طول فترة المراوحة ازدادت الحساسيات بينها، خصوصًا عند نقاط الاحتكاك أينما وُجدت في العاصمة والمناطق التي حولها، وأيضًا خلال عمليات تحرير بني وليد وسرت وسبها وأوباري وغيرها من مدن الجنوب. ولقد تصاعدت، منذ تحرير طرابلس، حدة المنافسة بين التشكيلات المناطقية إلى الدرجة التي أصابت الحكومة الانتقالية بالشلل فيما يتعلق بخطط دمج الثوار ونزع سلاحهم. وكان من أبرز مظاهر التنافس المعطل لبرامج الدمج تقديم قوائم بأسماء الثوار للحكومة الانتقالية تتجلَّى فيها المنافسة والتوتر. وتتكرر الصورة في مناطق الجبل الغربي الذي يشهد توترًا كبيرًا وتشتد القطيعة بين من ثار منذ الأيام الأولى، ومن التحق بعد سقوط النظام، وبين الثوار العرب والأمازيغ.

 أخوة السلاح

ساهم التحدي الذي فرضه النظام السابق إبّان الحرب في التقريب بين كتائب الثوار في كافة المناطق؛ لذا شهدت مرحلة التحرير تعاونًا وصل إلى مستويات عالية من المساندة والإيثار. وما لبثت الحال أن تغيرت بعد التحرير ووصل الأمر إلى تبادل الاتهامات بين أبرز قيادات الكتائب العسكرية في الشرق والغرب حول دور كل منها في الحرب وتقصير كل طرف تجاه الآخر.

إن تعقد الظروف الأمنية واندلاع المواجهات المسلحة أثناء المواجهة مع النظام السابق يشكِّل عنصر تقريب وتعاون خلال الحرب غير أن تجذر التأسيس العسكري والأمني على أساس جهوي ربما سيكون أكبر المعوقات أمام تشكيل جيش وطني موحد، والمحتمل أن تستمر الولاءات المناطقية كوسيلة تحقيق توازن لأجل ضبط الأوضاع وإحلال الأمن.

على أن التعاون اقتصر بعد مرحلة التحرير بين كتائب عسكرية تابعة لمناطق متجاورة وفي دوائر التنسيق الأمني غلب عليها ملاحقة مطلوبين لتلك الكتائب ممن ساندوا النظام في حربه على المدن، بالإضافة إلى دعم لوجستي حسب الظروف والاحتياجات.

السيناريوهات المحتملة

بالنظر إلى المعطيات الراهنة والمتمثلة في عجز المجلس والحكومة عن التسريع في عملية التحول الديمقراطي، وفي ظل غياب آليات الدمج لكتائب الثوار؛ فإن احتمال الصراع الداخلي وارد؛ ففي ظل هذا العجز من المحتمل أن تفرض التناقضات المناطقية وما نجم عنها من مصادمات سيناريو تشكُّل تكتلات مناطقية وقبلية أقرب إلى الأحلاف قائمة على روابط الدم والنسب (خوت الجد: وهو مصطلح يُطلق على قبائل تربطها أواصر قربى ليست وطيدة لكن لها جذور قديمة كما هي الصلة بين قبائل القذاذفة وورفلة والزنتان)، تكون الضامن لاستقرار الأوضاع نسبيًا، وربما تتسع رقعة المواجهات في حال تفجر الوضع بين منطقتين تنتسبان إلى تكتلين متباينين. ومشكلة هذا السيناريو أنه سيفرض خارطة سياسية لا تمتّ لتطلعات الثورة بشيء، وسيمنع من سيطرة السلطة التنفيذية على الوضع ويجعلها حبيسة الموازنات المخلة.

ويقوي تحقق هذا السيناريو تعنت العديد من الكتائب في الرضوخ لمطالب الحكومة الانتقالية بحل نفسها والاندماج في وزارة الداخلية أو الدفاع، وشغلها مقار حكومية ومزارع وقصورًا ومنتجعات لرجال النظام السابق في العاصمة طرابلس وغيرها من المدن، واستمرار فرض أجندتها في العديد من المسائل الأمنية وحتى الإدارية، وارتكاب عناصرها مخالفات، كل ذلك قد يضعها يومًا ما في مواجهة محتملة مع قوات الحكومة.

من ناحية أخرى، يدفع عجز الحكومة عن فرض الأمن العديد من الكتائب الأمنية إلى ممارسات هي من مهام وزارة الداخلية والأجهزة التابعة لها، وعلى رأس ذلك مطاردة وملاحقة من تعاونوا مع النظام أو من يُعتَقد أنهم طابور خامس، أو حتى من الثوار الذين وقعوا في تجاوزات؛ الأمر الذي أثار حساسيات بين المجموعات المسلحة وأوقع صدامات بينها؛ فاعتقال شخص من قِبل طرف باعتباره مدانًا بجرائم زمن القذافي يجعل انتسابه إلى منطقة أو قبيلة أخرى اعتداءً سافرًا عليها. ومن المرشح أن تتطور الأوضاع بسبب ارتباك الحكومة خصوصًا بعد حادثة الاعتداء على المجلس الانتقالي والمواجهات التي وقعت في بني وليد، والتوتر الذي ساد بعض أحياء العاصمة طرابلس والذي يُعتقد أنه بتدبير عناصر مناهضة لثورة 17 فبراير/شباط، لكن يبقى الإشكال أن الكتائب تختلف في تصنيفها للعناصر الخارجة عن القانون أو في طريقة التعامل معها، ويُتوقَّع أن يكون هذا أحد أسباب استمرار الصراعات بينها.

السيناريو الثاني: الإسراع في إعادة بناء الجيش الليبي وقوات الأمن، ليس فقط بالاستعانة بالوحدات السابقة من المؤسستين، لاسيما أولئك الذين لم تتلطخ أيديهم بدماء الشعب، ولكن أيضًا بضم منتسبين جدد، وبدعوة عناصر كتائب الثوار للانضمام. ويفترض هذا السيناريو دمج الثوار بالتدرج حتى تنمو مؤسسات الدولة ، فتتناقص الكتائب المتمردة على القانون بصورة موازية، فتصبح يد الدولة هي الأعلى. ولكن مثل هذا التوجه لا يمكن أن يحقق مقاصده بدون أن تصبح الحكومة والمجلس الوطني الانتقالي أكثر تمثيلا  لعموم الليبيين واستجابة لطموحهم.