اختناق الحياة السياسية في مصر وانهيار فرص قيام نظام مدني

تعالج هذه الورقة حالة الاختناق السياسي في مصر، بعد أن طالت الاعتقالات جميع القوى والشخصيات التي يمكن أن تنافس رموز النظام الحاكم في أي استحقاقات انتخابية مقبلة، حتى لو كانت من مؤيدي رئيس النظام الذين دعموا انقلاب يونيو/حزيران 2013.
b79a3700a2124ae3babb5f6e1fd8391e_18.jpg
احتجاج للصحفيين أمام مقر نقابتهم في القاهرة على اعتقالات طالت زملاءهم (رويترز)

بعدما تمكن النظام الحاكم بمصر من تمرير التعديلات الدستورية في استفتاء أبريل/نيسان 2019، ساد اعتقاد بأن تشهد المرحلة التالية انفتاحًا على المعارضة وتعزيزًا للحريات العامة، وتخفيفًا للقبضة الأمنية. كان مجمل الأوضاع في البلاد يدفع إلى افتراض ذلك، فقد زال تقريبًا كل ما يمكن أن يشكِّل تهديدًا جديًّا للنظام، وضَمِن رئيسه، عبد الفتاح السيسي، البقاء في منصبه (نظريًّا) حتى العام 2032. لكن، وبدلًا من ذلك عمل النظام على زيادة إجراءات قمع المعارضين من مختلف التوجهات، وبطريقة تسببت باختناق شديد للحياة السياسية في مصر.

أسهمت عدة عوامل في انتشار اعتقاد بفرص انفراج الحياة السياسية في مصر، والسماح بقدر ولو جزئي من الحريات المدنية العامة. وكان أبرز هذه العوامل يتمثل في انتهاء مخاوف النظام من تحدي الشرعية بعد وفاة الرئيس، محمد مرسي، أثناء جلسة محاكمته، في السابع عشر من يونيو/حزيران الماضي (2019)، وقد رفعت هذه الوفاة ما قد يشكِّل حرجًا أمام سياسيين وشخصيات لم تكن قادرة على تخطي مبدأ الشرعية والانحياز لها، وهو أمر بدا أنه يوفر مناخًا مواتيًا لشكل من أشكال المصالحة مع النظام، لاسيما مع حقيقة عدم وجود أي من الرموز السياسية التي عملت مع الرئيس الراحل، محمد مرسي، مؤهلة أو مهيأة لوراثة شرعيته.

وقد شجع على هذا النمط من التفاؤل صدور عفو رئاسي بمناسبة شهر رمضان وعيد الفطر الماضيين شمل عددًا كبيرًا من المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين، وهو ما حمل على الاعتقاد بفرص التوصل إلى مصالحة مع النظام، يمكن أن تعالج محنة اعتقال عشرات الآلاف من أعضاء وقيادات الجماعة إلى جانب سياسيين وناشطين من التيار المدني، ومن بينهم السفير، معصوم مرزوق، والأستاذ الجامعي، يحيي القزاز، ورائد سلامة، وعبد الفتاح الصعيدي، ونرمين حسين، والأكثر من ذلك أنه لأول مرة منذ عام 2013 يتم اتخاذ إجراء حفظ القضية، فيما يتصل بالقضايا السياسية.

وقد ذهب بعض المتفائلين إلى التوقع بأن يكون العفو الرئاسي خطوة "جس نبض" للحوار مع الجماعة التي تعاني من ضربات أمنية متلاحقة بلغت حدود الإعدام خارج القانون(1) ، لكن واقع الحال كشف بعد ذلك عن أن النيات الحكومية لم تكن أبدًا ذات طبيعة تصالحية، وأن هذا العفو كان مجرد استثناء وليد شروطه وظرفه، وأن التعامل الحكومي في مصر ظل يتعامل بذات المنهجية القمعية مع كل أنواع وقوى المعارضة الحقيقية أيًّا كان توجهها؛ الأمر الذي تسبب بوصول الحياة الساسية في مصر إلى مرحلة اختناق حقيقي.

المحور الأول: انتهاكات حقوق الإنسان في مصر لقمع المعارضين

ربما تكون أكبر مشكلة تواجه حقوق الإنسان، هي الاعتياد على انتهاكات هذه الحقوق بالشكل الذي يجعل منها أمرًا طبيعيًّا.

وفي مصر، لم تعد المنظمات الحقوقية تتعرض الآن للمخالفات الجسيمة في شكل المحاكمات التي خضع لها الرئيس، محمد مرسي، (قبل وفاته)، وكذلك أركان حكمه، بجانب أعداد كبيرة من المتهمين الموالين له، فالجلسات لا تُعقد في المحاكم، ولكنها انتقلت إلى أكاديمية الشرطة لدوافع أمنية، كما ذُكر في حينه، لكن ما لم يبرره النظام، هو وضع الرئيس الراحل وبقية زملائه داخل قفص زجاجي عازل للصوت، وهذا العازل الزجاجي، وإن كان قد أثار الاستغراب والامتعاض في البداية، على اعتبار أنها المرة الأولى التي تعرف فيها مصر هذا الإجراء منذ نشأة القضاء الحديث، فإن الامتعاض بدأ يتحول بمرور الوقت إلى اعتياد، ولم تعد هيئة الدفاع عن المتهمين، أو المنظمات الحقوقية يلفت انتباهها ذلك.

ويعزل هذا القفص الزجاجي المتهمين عن أجواء المحكمة، باستثناء من يسمح له القاضي بالكلام، عبر مكبر للصوت يملك رئيس الجلسة فتحه وإغلاقه، كما أنه يعزلهم أيضًا عن بعضهم البعض، فلم يُسمح للدكتور، محمد مرسي، بالاختلاط مع المتهمين الآخرين؛ حيث كان يُحجز منفردًا عن بقية المتهمين، وفي الجلسة الأخيرة له وعندما تعرض للإغماء وسقط مغشيًّا عليه داخل القفص، فشلت محاولات المتهمين الآخرين في الغرفة الزجاجية الملاصقة في لفت انتباه المحكمة، رغم طرقهم على هذا الزجاج العازل بقوة لدرجة أنه انهار من الطرق عليه، ودخلوا على الرئيس، بعد ثلث ساعة في بعض الروايات، ونصف ساعة في روايات أخرى.

وقد كشفت هذه الوفاة أنه تم إخلاء سجن بالكامل، هو ملحق مزرعة طرة، لعشرة من كبار الشخصيات الإخوانية، من بينهم محمد مرسي، حيث يتم حبسهم حبسًا انفراديًّا، ولا يُسمح لهم بالزيارة، أو بإدخال مأكولات من خارج السجن(2) ، وقد توقف قبول ما يسمى في لائحة السجون بـ"الأمانات" منذ ثلاث سنوات، وهو المبلغ الذي تضعه أسرة السجين له لينفق منه بالشراء من "الكانتين"، وهو المحل الذي يبيع بعض المأكولات والمشروبات داخل السجن، ولدرجة أن إدارة السجن رفضت استلام التَّمْر من أسر نزلاء السجن في بداية شهر رمضان، ولا يُسمح لهم برؤيتهم منذ سنوات.

كما لا يسمح بأن يقابل هؤلاء العشرة بعضهم البعض، ولو في ساعة التريض اليومية، التي قال الدكتور باسم عودة، وزير التموين السابق، في المحكمة إنه محروم منها.

وبعيدًا عن سجن ملحق مزرعة طرة، فإنه في سجون أخرى يتم حبس بعض المسجونين حبسًا انفراديًّا، رغم مخالفة هذا للائحة السجون، التي تقر الحبس الانفرادي كعقوبة، لمخالفات تُرتكب داخل السجن، ولا تُقرُّه بناء على شخصية السجين، أو بنوع التهمة التي يُسجن بمقتضاها، والمادة 43 من لائحة السجون تضع سقفًا للحبس الانفرادي، وهو ستة شهور، وهو النص الذي يتم انتهاكه.

لقد توسع النظام الحاكم في إساءة استعمال حق الحبس الانفرادي، الذي يستمر لسنتين في كثير من الحالات، وبعد إخلاء السبيل، يفاجأ المتهم بإعادته للسجن مرة أخرى على ذمة قضية جديدة، كما حدث في حالتي السيدة، علا يوسف القرضاوي، والصحفي بقناة الجزيرة، محمود حسين، والقضايا الجديدة عن وقائع في قضايا تقول وقائعها إنها جرت وهم في السجن، فالقرضاوي كانت التهمة الموجهة لها هي الانضمام وتمويل جماعة إرهابية عن طريق استغلال علاقتها بالسجن، مع أنها قضت فترة السجن في حبس انفرادي، في حين أن محمود حسين أُعيد للسجن متهمًا بنشر أخبار كاذبة في قضية جديدة جرت وقائعها -كما تقول عريضة الاتهام- في سنة 2018، وكان وقتئذ في السجن الانفرادي أيضًا.

وعلى صعيد متصل، ذكر تقرير حقوقي أن السلطات المصرية أصدرت أحكامًا بالاعدام ضد 486 شخصًا في 221 قضية، عام 2018 فقط، بخلاف الأحكام النهائية فيما صدر من المحاكم العسكرية أحكام بإعدام 52 متهمًا، وأيدت المحكمة العليا للطعون العسكرية أحكام الإعدام بحق 4 متهمين مدنيين. وأوضح التقرير أن هناك توسعًا لافتًا في وتيرة أحكام الاعدام منذ تشكل النظام السياسي الحالي، في يوليو/تموز 2013، بشكل عام(3).

ولم تقتصر أحكام الإعدام على البالغين إنما وصلت للأطفال، بما يمثِّل مخالفة لقانون الطفل المصري والاتفاقية الدولية لحقوق الطفل، حيث قضت المحكمة باحالة أوراق الطفل ،كريم حميدة علي حميدة (17 سنة)، للمفتي، في القضية المعروفة إعلاميًّا بـ"قضية الأهرامات الثلاثة" والمتهم فيها 26 طفلًا بينهم 11 طفلًا تتراوح أعمارهم بين 15 و18 عامًا.

وقد استمرت سياسة الاختفاء القسري في مصر بعد مرحلة التعديلات الدستورية، ثم استمر التضييق على حرية الصحافة وعلى المجتمع المدني، وذلك على النحو التالي:

أولًا: في مجال حرية الصحافة

استمرت ذات السياسة التي بدأت بعد بيان 3 يوليو/تموز 2013 إلى الآن بما يقطع الطريق علي أي أمل في تصور أن تغيرًا قد جرى بعد إقرار التعديلات الدستورية وضمان بقاء السيسي في الحكم بالشكل الذي يريد.

لقد عُرفت هذه المرحلة بسياسة منع الكُتَّاب من الكتابة، فقد تم منع فهمي هويدي من كتابة زاويته اليومية بجريدة الشروق، وهو أمر لم يتعرض له في عهد مبارك، ليكون آخر مقال منشور له في 29 يونيو/حزيران 2017، وإذا كان مقاله يُنشر خارج مصر في أكثر من مطبوعة، إلا إنه لم يشأ أن يواصل كتابته، لأنه لا يريد أن يمارس المعارضة في الخارج، بحسب قوله(4).

وكان الأديب، علاء الأسواني، قد توقف عن الكتابة في سنة 2014، وقال: إن مقالاته تتعرض دائمًا للتدخل على النحو الذي رآه راجعًا لطبيعة المناخ السياسي، رغم أنه كان في هذه الفترة مؤيدًا للنظام القائم، ومتحمسًا له، والآن يكتب خارج مصر في أحد المواقع الألمانية.

كما أن هناك من تم منعهم من الكتابة، بقرار من السلطة غير معلن، فتم منع مقال رئيسيْ تحرير صحيفة "الأهرام" السابقيْن، عبد العظيم حماد وعبد الناصر سلامة، في جريدة "المصري اليوم"، كما تم منع نادر فرجاني وبلال فضل وعبد الخالق فاروق وسلمي حسين وعز الدين شكري من الكتابة أيضًا.

واستمرت هذه السياسة بعد الاستفتاء على التعديلات الدستورية، فتم وقف كاتبيْن عن الكتابة بجريدة "الشروق"، هما: عبد الله السناوي، ومحمد حماد، وهما من تيار سياسي واحد هو التيار الناصري، وقد عملا بجريدة "العربي" لسان الحزب العربي الناصري قبل إغلاقها بسبب الأزمة المالية، الأول شغل لفترة منصب رئيس التحرير والثاني عمل خلال هذه الفترة مديرًا للتحرير.

وإذا كان الدستور المصري لا يعطي الحق لجهة الإدارة بمصادرة الصحف(5) ، فقد لجأت الأجهزة الأمنية إلى المصادرة عن طريق المطابع، وقد استمرت هذه السياسة إلى ما بعد الاستفتاء على التعديلات الدستورية.

وعرفت مصر عمليات مصادرة الصحف في عهدي السادات ومبارك، لكنها لم تكن تجري أبدًا بهذه السعة، بل إن عهد مبارك، وعلى مدى ثلاثين سنة، لم يلجأ إلى المصادرة إلا في حالة واحدة هي الخاصة بقضية الراهب المعزول، التي نشرتها جريدة "النبأ" الخاصة، وبعد التوزيع والتداول، كانت المصادرة بحكم من القضاء المستعجل وتم سحبها بمقتضاه من الأسواق.

وفي فترة حكم عبد الفتاح السيسي، عرفت مصر ما يسمى بـ"فرم الصحف" في المطابع بعد طبعها وقبل نزولها للسوق، كما حدث مع جريدة "الوطن" عندما كان خبرها الرئيس عن الذمة المالية لرئيس الجمهورية (6) ، وحدث الأمر نفسه مرتين مع جريدة "صوت الأمة"(7) ، وتكرر مع صحيفة " المصري اليوم" وغيرها(8).

واستمرت هذه السياسة إلى الآن بمنع تداول عدد جريدة "الأهالي" بعد طبعها لأنها نشرت تقريرًا عن فساد شركة مملوكة للوزيرة السابقة وزوجة محافظ البنك المركزي، "داليا خورشيد"، وهو تقرير يستند لطلب إحاطة تقدم به نائب بمجلس النواب ولم يُناقَش، وكانت المصادرة لثلاثة أسابيع على التوالي، كما جاء في بيان حزب التجمع(9).

واستمرت سياسة حجب المواقع الإلكترونية، التي اعتمدها هذا النظام ليس فقط للمواقع التي تصدر من الخارج، ولكن للمواقع في الداخل أيضًا، وقد قام موقع "التحرير" بالاستغناء عن 140 صحفيًّا من المقيدين بالنقابة، لأنه لم يجد مبررًا للابقاء على الموقع وهو لا يحقق عائدًا ماليًّا أو معنويًّا بحجبه في مصر، لعل هذا يمثل ضغطًا على النقابة فتتدخل لدى السلطة الحاكمة لمنع الحجب، إلا أن هذا لم يحدث حتى الآن.

ثانيًا: العداء للمجتمع المدني بمشروع قانون الجمعيات

منذ عهد مبارك وهناك مشكلة خاصة بقانون الجمعيات الأهلية؛ حيث سعت السلطات باستمرار لتأميم هذه الجمعيات، بدعوى استغلالها قوى خارجية للضغط على النظام الحاكم، لكن مشاكل قضائية وإجرائية عطلت القانون، ثم عادت المشكلة من جديد في عهد الرئيس، محمد مرسي، وفي حينها زارت السفيرة الأميركية رئيس مجلس الشورى، أحمد فهمي، في مكتبه، لحثه على إقرار قانون الجمعيات الأهلية بما يكفل تأسيس الجمعيات على أساس ديمقراطي وحقها في قبول التمويل الأجنبي، وفي المقابل كانت ضغوط يقوم بها كل من جهاز المخابرات والمخابرات الحربية كي لا يتم السماح لهذه المنظمات بقبول التمويل، ولم يصدر القانون وسحبه الرئيس مرسي(10).

وحينما صدر القانون الحالي 70 لسنة 2017، تعرض لهجوم من الخارج والداخل، وتقرر بعد الضغوط الخارجية تعديله، ليصدر تقرير من عشرة مراكز حقوقية وصف النص المعدَّل من القانون بأنه "يحمل نفس عداء قانون الجمعيات الحالي للمجتمع المدني، استبدل العقوبات السالبة للحرية بغرامات مالية باهظة تصل لمليون جنيه، وأن المشروع الجديد تحايل على أغلب المشكلات الواردة في القانون الحالي، فاستبدل إشراف المجلس الأمني بوحدة جديدة تدعي "الوحدة المركزية للجمعيات والعمل الأهلي" تتبع الوزير المختص، وتحايل المشروع على المادة 75 من الدستور، التي تشترط تأسيس الجمعية بمجرد الإخطار، وحوَّل عملية الإخطار إلى ترخيص من الناحية العملية، وعلَّق اكتساب الشخصية القانونية للجمعية الأهلية على عدم اعتراض الجهة الأمنية، واعتبر أموال الجمعيات في حكم الأموال العامة وأخضعها لرقابة الجهاز المركزي للمحاسبات رغم أن الجمعيات الأهلية ليست من مؤسسات الدولة وأموالها ليست أموالًا عامة كما ورد في التقرير.

وأخضع مشروع القانون عمل المنظمات الأجنبية لقيود كثيرة، فجعل عملية تسجيلها بموافقة مسبقة، وأتاح للوزير المختص توقيع عقوبة وقف الجمعية لمدة سنة وغلق مقارها، إلى غير ذلك من معوقات وصفت بسببها عشر منظمات حقوقية في بيان لها مشروع القانون بإعادة تسويق القمع(11).

وقد أُقِرَّ القانون بنفس المطاعن عليه في الجلسة الأخيرة للبرلمان قبل دخوله في الإجازة الصيفية، في 15 يوليو/تموز الجاري (2019).

المحور الثاني: زيادة رقعة المستهدَفين من قبل النظام لتتعدى الإخوان المسلمين إلى أطراف مدنية وعلمانية

في الواقع أن عملية الاستهداف لغير الإخوان أو المنحازين لمبدأ شرعية الرئيس، محمد مرسي، لم تبدأ هذه الأيام، فقد كانت البداية مبكرة، وعندما وجد بعض النشطاء أن من حقهم الاحتجاج على قانون التظاهر الذي وضع قيودًا على هذا الحق حد المنع، كما نصَّ قرار رئيس الجمهورية بالقانون 107 لسنة 2013 الخاص بتنظيم الحق في الاجتماعات العامة والمواكب والتظاهرات السلمية(12).

لقد تم إلقاء القبض على مجموعة من الناشطين كان أبرزهم كلًّا من أحمد دومة وعلاء عبد الفتاح وأحمد ماهر، وصدرت ضدهم أحكام بالسجن، وقد خرج الأخيران من السجن ويقضيان الآن ما يُعرف بالإجراءات الاحترازية، وهي إجراءات وإن نصَّ عليها قانون العقوبات، إلا أنها لم تكن معلومة لدى المصريين سوى في السنوات الست الأخيرة، لأنها نص معطَّل غالبًا، إلا في الجرائم الجنائية، وقد تم التوسع فيها مع السياسيين خلال هذه السنوات الست. أما دومة، فقد صدر بحقه حكم بالسجن المؤبد بتهم تعود إلى زمان المجلس العسكري عقب ثورة يناير/كانون الثاني 2011.

كان اعتقال هؤلاء الناشطين مؤشرًا واضحًا على تردي العلاقة بين سلطة الانقلاب والقوى التي دعمت ظهوره على حساب النظام المنتخب للرئيس، مرسي، وقد زاد الصدع في هذه العلاقة بعد قرار التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير لصالح المملكة العربية السعودية، وخرجت مظاهرات وسط القاهرة ضد قرار نظام الرئيس السيسي، ثم كانت الدعوة ليوم الأرض، التي واجهها الأمن بقوة وطارد المتظاهرين في الشوارع، وألقى القبض على عدد منهم وتم تقديمهم للنيابة العامة.

لقد تم إخلاء سبيل الشباب بكفالات مالية باهظة من النيابة، وقامت الشرطة باقتحام مقر نقابة الصحفيين للقبض على اثنين من الصحفيين من داخلها بحجة تنفيذ قرار من النيابة العامة بضبطهما وإحضارهما على خلفية مظاهرات يوم الأرض.

وبهذا، تأكدت الخصومة، واتسعت دائرة الاستهداف، ليس فقط لتشمل قوى أخرى غير الإخوان، فهذا كان قائمًا، ولكن الاتساع هو لاعتقال أعداد أكبر، ولرموز من القوى المدنية وليس مجرد نشطاء من الشباب كما كانت الحال قبل ذلك. هذا بجانب العنت الذي يتعرض له هؤلاء في مطار القاهرة، من خلال المنع من السفر، والتوقيف المؤقت والتفتيش.

لقد تم اعتقال الأمين العام لحزب مصر القوية، محمد القصاص، قبل اعتقال رئيس هذا الحزب، الدكتور عبد المنعم أبوالفتوح، بعد ظهوره في قناة الجزيرة مباشر من لندن. واعتُقل السياسي الشيوعي، الدكتور جمال عبد الفتاح، كما اعتقل في ليلة واحدة خمسة أشخاص من رموز التيار المدني، هم: الأكاديمي، يحيي القزاز، والسفير، معصوم مرزوق، والاقتصادي، رائد سلامة، وعبد الفتاح الصعيدي، ونيرمين حسن.

كما اعتقل النظام الدكتور، مصطفى حجازي، أحد المسؤولين بحملة الدعاية الرئاسية الخاصة بعبد الفتاح السيسي (2014)، والذي عمل مستشارًا للرئيس المؤقت بعد بيان 3 يوليو/تموز 2013. وتم التضييق على الأحزاب السياسية الرسمية، ولم يُمنَح لها الترخيص لتنظيم مظاهرة ضد التعديلات الدستورية.

وفي هذا الإطار أيضًا، تم اعتقال المستشار هشام جنينة، رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات السابق، وطالت دائرة الاستهداف عسكريين فاعتُقل رئيس أركان الجيش السابق، سامي عنان، والعقيد، أحمد قنصوة، لأنهما أعلنا المنافسة على الانتخابات الرئاسية في 2018.

وشملت هذه الحملات أعضاء ما يُعرف بمجموعة الأمل، وتضم ناشطين وصحفيين يساريين، من أبرزهم: هشام فؤاد، وحسام مؤنس، النائب في برلمان ما بعد الثورة، والمحامي زياد العليمي، كما ضمت المجموعة الاقتصادي، عمر الشنيطي، أما التهمة الموجهة لكل هؤلاء، فكانت هي ذاتها التي وُجِّهت للمعتقلين من كافة الاتجاهات السياسية والفكرية، وهي الانتماء إلى جماعة إرهابية والمشاركة في نشر أهدافها، بجانب الاتهام بنشر أخبار كاذبة وتكدير السلم العام.

المحور الثالث: فرص النظام في تعزيز هيمنته على البلاد

يبدو النظام من حيث الشكل أنه نجح في السيطرة على مصر، فقد تمكن من منع المظاهرات، وأوقف حراكًا شعبيًّا لم ينقطع منذ سنوات مبارك الأخيرة، والشرطة عادت للعمل بفاعلية بعد تقاعس استمر سنوات. ثم نجح في تمرير التعديلات الدستورية، بما مكَّن رئيس النظام، عبد الفتاح السيسي، من الاستمرار في الحكم (نظريًّا) لثماني سنوات إضافية على الأقل.

ونجح في تمرير رفع أسعار الوقود، لخمس مرات خلال خمس سنوات، كان آخرها ما تم في شهر يوليو/تموز الجاري (2019)، كما رفع أسعار السلع والخدمات، وكذلك أسعار وسائل النقل، بدون أن يواجه تمردًا ظاهرًا، أو رفضًا كان متوقعًا، وبدلًا من ذلك كتم الناس غضبهم.

لقد استخدم النظام في مصر أدوات القوة بإفراط فبدا أنه بات مسيطرًا على الأوضاع، لكن بعيدًا عن الشكل لا يبدو هذا الحكم مستقرًّا، فالإجراءات الحادة ضد سياسيين كانوا يُصنَّفون على أنهم من الموالاة، يؤكد على حالة القلق التي يعاني منها، والتي يتحسب لها بمثل هذه الإجراءات.

وبعيدًا عن الاتهامات العشوائية للمتهمين في المجموعة المعروفة إعلاميًّا بـ"خلية الأمل"، فإن الحقيقة أن هؤلاء السياسيين كانوا يخططون لإعداد قوائم لخوض الانتخابات البرلمانية التي ستُجرى في منتصف العام المقبل (2020)، فجاء اعتقالهم ليكون بمنزلة خطوة استباقية تقطع الطريق أمام إطلاق قائمة انتخابية من خارج النظام يحتشد الناس حولها، وربما تؤثر على رغبة السيسي في جعل البرلمان القادم شبيهًا بالحالي.

لقد تمت صياغة البرلمان الحالي داخل جهاز المخابرات، وبإشراف نجل السيسي نفسه الذي يعمل في هذا الجهاز(13) ، وليس مسموحًا للأحزاب والقوى المدنية بالتفكير في خوض الانتخابات، إلا بموافقة أمنية تسمح بالمنافسة في بعض الدوائر، تحت مظلة الحكم، وليس خارجها. ويعيد هذه الأمر الأذهان إلى آخر برلمان في عهد مبارك؛ حيث تقرر في حينه ألا تدخله المعارضة سواء الدينية ممثلة في جماعة الإخوان المسلمين أو المدنية ممثلة في الأحزاب الرسمية، وكان ذلك من بين أسباب ثورة يناير/كانون الثاني 2011.

وإذا كان الإحباط يسيطر على كثيرين ممن شاركوا في ثورة يناير/كانون الثاني، وممن خرجوا في 30 يونيو/حزيران يطالبون بتدخل الجيش لإقصاء الرئيس المنتخب، فإن هبوب رياح الثورات في السودان والجزائر، أحيا الأمل لدى المصريين بأن الربيع العربي لم ينته، وأن الثورة مستمرة، وهو ما يدركه النظام جيدًا فيستمر في استخدام الحل الأمني الذي ربما اعتبره خياره الوحيد في التعامل مع القوى السياسية في البلاد، بما فيها القوى التي اعتُبرت من مؤيدي نظام السيسي أو -على الأقل- أسهمت في وجوده.

خاتمة

والحال كذلك، فما هي السيناريوهات المتوقعة في الأمد المنظور؟

السيناريو الأول: المصالحة مع جماعة الإخوان المسلمين

بوفاة الرئيس، محمد مرسي، فإن الأقدار جعلت الجماعة في فسحة من أمرها، حتى لو انتهى موضوع الشرعية بهذه الوفاة، وهي على العموم شرعية غير ممتدة، وعقيم لا ودود ولا وَلُود، لتكون الجماعة بذلك أمام خيارين:

الأول: الاصطفاف مع القوى الثورية الأخرى في مواجهة هذا النظام، ومع صعوبة عملية الاصطفاف نظرًا لعدم تقبل القوى الأخرى لذلك، فإن الاصطفاف سيحدث في الميادين إذا قامت ثورة جديدة.

الثاني: قبول المصالحة مع الحكم. ولا ينكر أحد أن الضربات الأمنية القوية والعنيفة قد أتعبت الجماعة وأرهقتها، وقد تقبل القيادة الإفراج عن المعتقلين، وقد تقبل باعتزال السياسة لسنوات يُتفق عليها، وهناك أحد عشر مبادرة للمصالحة منذ وقوع الانقلاب أطلقها أفراد وشخصيات عامة، انتهت جميعها إلى لا شيء، فليس هناك رغبة من قبل السيسي في ذلك، وهو ما كرره في أكثر من مناسبة، وأكثر من مقابلة تليفزيونية وبصياغات مختلفة، فقال بوضوح مرة إنه لا مكان لهم في مصر ما دام هو في الحكم(14) ، وأشار في مرة أخرى إلى أن المصالحة يملكها الشعب. ومثل هذا الموقف يبدو مفهومًا ومتوقعًا بسبب ما يلي:

1- لقد قام مشروع السيسي في الحكم على العداء للإخوان، وفي فترة من الفترات كانت دعاية أنصاره، أنه إذا كان قد فشل سياسيًّا واقتصاديًّا فيكفي أنه قضى على الإخوان، ثم إن إعلامه ينسب لهم السبب في كل المشكلات التي تتعرض لها البلاد، إلى حدِّ أن أحد المسؤولين قال: إن نظام الاخوان مسؤول عن الزيادة السكانية (15) !!! فماذا يقدم لأنصاره إذا تصالح مع الإخوان؟

2- أن حربه على الإخوان هي مطلب إقليمي، وهي من الأسباب الدافعة لتأييده إماراتيًّا وسعوديًّا، فإذا فقد هذه الورقة فقد يخسر هذا الدعم.

3- أنه لا يثق بالإخوان، وهو لديه قناعة، بأنهم يستغلون أية مهادنة، لاستعادة وجودهم في المجتمع، ولو بعيدًا عن السياسة، ثم يعودون ليمثلوا خطرًا على وجوده السياسي.

4- أن هناك فرصة كانت مواتية للمصالحة عندما كانت دول الخليج وتركيا مشغولة ببناء محور سُنِّي قوي لمواجهة إيران، لكن حصار قطر، واقتراب تركيا منها وابتعادها عن السعودية بعد مقتل جمال خاشقجي، بدَّد هذه الفرصة.

ثم لا ننسى أن التعديلات الدستورية ألغت المادة 241 من دستور 2014، والتي كانت تنص على "يلتزم مجلس النواب في أول انعقاد له بعد نفاذ هذا الدستور بإصدار قانون للعدالة الانتقالية يكفل كشف الحقيقة، والمحاسبة، واقتراح أطر المصالحة الوطنية وتعويض الضحايا، وذلك وفقًا للمعايير الدولية".

ولم يهتم البرلمان بالاستجابة لهذا النص، فلم يضع قانونًا للعدالة الانتقالية في دور انعقاده الأول أو الثاني أو الثالث، إلى أن تحرر من هذا النص بالتعديلات، لأنه لم تكن هناك رغبة في المصالحة مع من تعنيهم هذه المادة الدستورية، وهم جماعة الإخوان المسلمين.

فضلًا عن أن دائرة العداء اتسعت لتضيف لخانة الأعداء للنظام قوى سياسية أخرى، وهذا يقودنا للسيناريو الثاني:

السيناريو الثاني: المصالحة مع القوى والتيارات المدنية 

وهو خيار لا تمانع فيه بعض الأحزاب الرسمية ويسعى إليه بعضها الآخر، إلا أن الرئيس، عبد الفتاح السيسي، لا يبدو -من جانبه- مستعدًّا لذلك، فهذه القوى كانت معه في 30 يونيو/حزيران واعتبرت دعمه مهمًّا لمنع عودة الرئيس الراحل، مرسي، للحكم، لكن الخلافات بين الطرفين ما لبثت أن ظهرت بعد ذلك، لاسيما بعد وفاة الرئيس، مرسي، فقد اعتقدت هذه القوى أن التهديد لم يعد موجودًا، وربما ظن بعضهم أن التعامل مع تغييرات في النظام السياسي صار أكثر أريحية.

وقبل ذلك، كان الكثير من مؤيدي وداعمي السيسي قد وجدوا أن السيسي مضى بعيدًا في سياسات داخلية وخارجية محرجة وربما صادمة لكثير منهم، مثل: التنازل عن تيران وصنافير للسعودية، والتقارب الشديد مع إسرائيل، ودوره في ما يُعرف بـ(صفقة القرن)، وكذلك تأميم الحياة السياسية، ولجم الحريات العامة، والضغط الاقتصادي على الطبقات الشعبية، وإطلاق يد القوات الأمنية.

السيناريو الثالث: هو الاستمرار في السياسات القمعية

وهو السيناريو المرجح، لأن لدى السيسي قناعة بأن ارتخاء قبضة نظام مبارك وسماحه في آخر سنوات حكمه بهامش من الحرية، هو ما أدى إلى ثورة يناير/كانون الثاني 2011 وتجرؤ الشارع عليه، وهو ما يجعل السيسي يختار الاستمرار في طريق القمع والتنكيل، باعتباره الخيار الأسلم، حسب اعتقاده.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*سليم عزوز،كاتب وباحث مصري.

ABOUT THE AUTHOR

References

1- موقع عربي 21، "ارتفاع قياسي في عمليات التصفية خارج القانون"، 15 ديسمبر/كانون الأول 2018، (تاريخ الدخول 12 يوليو/تموز 2019): https://bit.ly/2Yc9Llu

2 - الجزيرة مباشر، "مصر: أهالي المعتقلين في سجن طرة يشكون حبسهم انفراديًّا منذ 6 سنوات"، 10 يوليو/تموز 2019، (تاريخ الدخول 12 يوليو/تموز 2019): http://tiny.cc/5v5eaz

3- المبادرة المصرية للحقوق الشخصية والاجتماعية، "باسم الشعب: التقرير السنوي عن عقوبة الإعدام في مصر"، موقع المبادرة المصرية للحقوق الشخصية والاجتماعية، 31 يناير/كانون الثاني 2018، (تاريخ الدخول 12 يوليو/تموز 2019):

https://eipr.org/press/2018/01/ِباسْمِ-الشَعب-تقر ير-رصدي-عن-عقوبة-الإعدام-في-مصر-خلال-عام-2017

4محمود القيعي، "الكاتب الكبير فهمي هويدي يتحدث ..."، موقع الرأي اليوم، 27 يونيو/حزيران 2019، (تاريخ الدخول 10 يوليو/تموز 2019): http://tiny.cc/jz5eaz

5- تنص المادة (17) من الدستور الحالي، على أنه "يُحظر بأي وجه فرض رقابة على الصحف ووسائل الإعلام المصرية أو مصادرتها أو وقفها أو إغلاقها. ويجوز استثناء فرض رقابة محددة عليها في زمن الحرب أو التعبئة العامة..."، وهو نص يعد تقدميًّا بالمقارنة بدستور 2014، الذي نصَّ على أن المصادرة يمكن أن تتم بحكم قضائي.

6 الوطن، العدد المطبوع مساء الأربعاء، 5 فبراير/شباط 2014.

7 صوت الأمة، عدد 14 أغسطس/آب 2015، وعدد يوم 25 يوليو/تموز 2016.

8 نادين ثابت، "مصر: قائمة وقائع مصادرة الصحف..جهات سيادية تحكم النشر"، العربي الجديد، 13 أبريل/نيسان 2016، (تاريخ الدخول 15 يوليو/تموز 2019): http://tiny.cc/c15eaz

9- حزب التجمع الوطني التقدمي، "بيان هام من حزب التجمع بشأن تكرار مصادرة جريدة الأهالي للأسبوع الثالث على التوالي" موقع جريدة الأهالي، 29 مايو/أيار 2019، (تاريخ الدخول 18 يوليو/تموز 2019):

http://alahalygate.com/?p=82592&fbclid=IwAR0Ux81Bjna7E5ur8jb3bB5IwdA3I1p2GDPkwrT1b_zlPOJKt14IZSk5SpI

10-  رضا فهمي، رئيس لجنة الأمن القومي بمجلس الشورى السابق، مقابلة مع الباحث، 10 يونيو/حزيران 2019، تركيا.

11-  "مصر.. إعادة تسويق القمع: عشر منظمات حقوقية ترفض مشروع قانون الجمعيات المعروض على البرلمان"، موقع مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، 11 يوليو/تموز 2019، (تاريخ الدخول 15 يوليو/تموز 2019): http://tiny.cc/925eaz

12 الجريدة الرسمية، العدد 47 مكرر، السنة السادسة والخمسون، 24 نوفمبر/تشرين الثاني، سنة 2013.

13 حسام بهجت، "هكذا انتخب السيسي برلمانه"، موقع مدى، 8 مارس/آذار 2016، (تاريخ الدخول 19 يوليو/تموز 2019):http://tiny.cc/f55eaz

14 عويد السليلي، "السيسي: لن يكون للإخوان المسلمين أي دور في مصر ما دمت موجودًا، جريدة الشاهد الكويتية، 12 أكتوبر/تشرين الأول 2018، (تاريخ الدخول 20 يوليو/تموز 2019): http://tiny.cc/y65eaz

15-  عمرو حسن، مقرر المجلس القومي للسكان، "الإخوان وراء الزيادة السكانية في مصر"، موقع قناة صدى البلد على يوتيوب، 9 يوليو/تموز 2019، (تاريخ الدخول 12 يوليو/تموز 2019):

https://www.youtube.com/watch?v=o1osx70wVks