الجغرافيا السياسية للتنظيمات الجهادية في شمال إفريقيا ومنطقة الساحل

تقدم الورقة ملخصًا لدراسة موسعة نُشرت في العدد الثالث من مجلة لباب الصادرة عن مركز الجزيرة للدراسات، وتحاول تتبع مصير تنظيمي القاعدة و"الدولة الإسلامية" في شمال إفريقيا ومنطقة الساحل والصحراء، على ضوء مستجدات الوضع في منطقة المشرق العربي.
55913d011e1e483c8a779533afe511d9_18.jpg
بعد انهيار تنظيم الدولة وخروج الأراضي عن سيطرته في العراق وسوريا، بدأ مقاتلوه في البحث عن ملاذات آمنة بمنطقة شمال إفريقيا والساحل (الجزيرة)

كان اجتياح مقاتلي تنظيم "الدولة الإسلامية" في العراق والشام، مدينة الموصل العراقية، في 14 يوليو/تموز 2014، بداية النهاية لصعود هذا التنظيم المفاجئ، الذي بسط نفوذه على مناطق واسعة من سوريا والعراق، قبل إعلانه حالة التمكين النهائية، وإقامة الخلافة الإسلامية، مُتَوِّجًا زعيمه، "أبو بكر البغدادي"، في الخامس والعشرين من نفس الشهر خليفة للمسلمين، وفارِضًا بيعته على سائر المسلمين أينما كانوا في أرجاء المعمورة. لكن تلك الخطوة كانت بمنزلة ضوء أخضر للشروع في تشكيل تحالف دولي ضم 80 دولة، على جناح السرعة، كانت الغاية منه القضاء على تنظيم الدولة وتحرير الأراضي الواقعة تحت سيطرته. فشرع "التحالف الدولي" بقيادة الولايات المتحدة الأميركية في توجيه ضربات جوية للتنظيم في معاقله، بداية الأسبوع الأول من أغسطس/آب 2014، ليدخل مع تلك المرحلة في مواجهة برية مفتوحة، شاركت فيها القوات العراقية وقوات الحشد الشعبي وقوات البيشمركة الكردية العراقية، ووحدات حماية الشعب الكردية السورية، وقوات سوريا الديمقراطية. وانتهت تلك المواجهة بتحرير المدن العراقية وطرد عناصر التنظيم منها، ثم تلا ذلك تحرير مدينة الرقة السورية وسائر الأراضي الواقعة تحت سيطرة التنظيم، لتنتهي سيطرة التنظيم على الأرض مؤخرًا بسقوط آخر جيب له في منطقة الباغوز السورية.

ومع تلاحق هذه الأحداث وانقلاب حال "دولة خلافة" التنظيم من شعار "باقية وتتمدَّد" إلى واقع جديد هو "تتلاشى وتختفي"، بدأت أسئلة عديدة تطرح نفسها عن مصير عشرات آلاف المقاتلين الذين كانت تعجُّ بهم مناطق سيطرة التنظيم، وجاؤوا من كل بقاع الدنيا، منهم من قُتِل ومنهم من اعتُقِل، وكثير منهم تلاحق الأسئلة مصيره المجهول، لتتجه الأنظار إلى مناطق ظهر فيها لذلك التنظيم أنصار وفروع أيام عزه وإعلان خلافته، مثل منطقة الساحل والصحراء التي لا تزال تشكِّل خاصرة رخوة في المنظومة الأمنية العالمية بسبب اعتبارات عديدة، فضلًا عن بعض مناطق شمال إفريقيا.

وبالتزامن مع كل هذا، كان تنظيم القاعدة يُلَمْلِم شتاته، ويحاول تجاوز الضربات التي تلقاها بعد انسحاب مئات المقاتلين منه والتحاقهم بخصمه العنيد ومنافسه اللدود في ساحة الجهاد العالمية، وهو تنظيم "الدولة الإسلامية"، منذ انفصالهما عن بعضهما البعض عام 2013، وذلك بعد أن ظن قادة تنظيم القاعدة أن "تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام"، سيكون قوتهم الضاربة في المنطقة، ليتفاجؤوا بإعلان زعيم التنظيم، "أبو بكر البغدادي"، رفض التبعية للقاعدة وإنهاء حالة الارتباط بها، ووصف مُمَثِّل تنظيم القاعدة في سوريا زعيم "جبهة النصرة"، "أبو محمد الجولاني"، بـ"المارق والآبق"، ووصل الأمر إلى درجة الاقتتال بين الطرفين في سوريا وليبيا والصومال. وقد سعت قيادة تنظيم القاعدة إلى محاولة امتصاص تلك الصدمات والتأقلم مع الواقع الجديد، مستعينة بسلسلة توصيات ومخططات كان الزعيم المؤسس للتنظيم، أسامة بن لادن، قد وضعها وشرع في التخطيط لتنفيذها قبل اغتياله على يد وحدة خاصة من القوات الأميركية في مدينة آبوت آباد الباكستانية، فجر يوم 2 مايو/أيار عام 2011، فشرع خليفته، أيمن الظواهري، في إعادة ترتيب أوراقه ومنح مزيد من الاستقلالية المحلية، والتحرر من ربقة المركزية المرتبطة بقرار القيادة في "بلاد خراسان"، لفروع التنظيم في مناطق مختلفة من العالم، فظهرت تشكيلات جديدة، وأُعِيد رسم تحالفات وتسميات لم تكن معروفة من قبل في سوريا ومصر وليبيا ومالي ونيجيريا وغيرها. 

انطلاقًا من هذه المعطيات، تحاول الدراسة تتبع مصير هذين التنظيمين في شمال إفريقيا ومنطقة الساحل والصحراء، على ضوء مستجدات الوضع في منطقة المشرق العربي، حيث تقلصت فرصهما في الانتشار والظهور، وترصد واقع الجيوب والفروع التابعة لهما في هذه المنطقة، واحتمال تحولها إلى حاضنة للهاربين من العراق وسوريا.

وتهدف الدراسة إلى الغوص في إشكالية حالة الانزياح التي يُتوقع أن تعرفها "الحالة الجهادية" في المشرق العربي أو جزء كبير منها على الأقل، نحو منطقة شمال إفريقيا والساحل والصحراء، على ضوء انهيار المنظومة الإدارية والعسكرية لدولة "الخلافة" التي أنشأها تنظيم الدولة، وتقلص مساحتها الجغرافية، إلى حد الاندثار، وتشتت مواردها البشرية بين المقابر والمعتقلات والمخابئ، ثم تبحث فيما يثار من أسئلة حول العلاقة بين "الجهاديين" في المشرق العربي، ونظرائهم في المنطقة، ومدى الارتباط التنظيمي والأيديولوجي بينهما، وهل من الوارد أن يكون الجيل الجديد من الجهاديين في شمال إفريقيا والساحل والصحراء أكثر راديكالية وأشد تطرفًا من الجيلين السابقين، (القاعدة وتنظيم "الدولة الإسلامية")؟ وما مدى تأثير التنازع على شرعية تَمْثِيل "الحركة الجهادية العالمية" بين القاعدة وتنظيم "الدولة الإسلامية"، على فروعهما في المنطقة؟

كما تسعى الدراسة إلى رصد المعطيات المتوافرة ومقاربتها واستجلاء حقيقتها، من خلال قراءة استنباطية تستند إلى المتكأ العلمي البحت وتتبع ما يُنشَر ويتردد صداه في مراكز الدراسات وبين المهتمين والمتخصصين، عن فرضية بروز جيل ثالث من الجهاديين في شمال إفريقيا ومنطقة الساحل والصحراء، جيلٍ تمرَّس على المواجهة وخَبِر الحروب والاحتكاك، وبات أقدر على إلحاق الضرر بالمنظومة العالمية التي تحاربه، خصوصًا في منطقة كالساحل والصحراء تعاني الهشاشة الأمنية والاقتصادية والاجتماعية، وغياب النَّفَس الديمقراطي والعدالة الاجتماعية، فضلًا عن رصد الدراسة للتطورات الميدانية هناك، وذلك بغية فهم أعمق لما يدور فيها، بعد أن أصبحت منطقة ملتهبة، وتحولت إلى مسرح مفتوح للمواجهة بين دول المنطقة وبعض الجيوش الغربية من جهة، والتنظيمات ذات الطرح الجهادي من جهة أخرى، ومعرفة ما إذا كان هذا "المد الجهادي" المنتشر في صحراء تمتد حتى ضفاف البحر الأبيض المتوسط، وتعجُّ بالمصالح الغربية والدولية، سيتصاعد بوتيرة مشابهة لما حصل خلال العقد الماضي في المشرق العربي.

وتعتمد الدراسة منهجًا يستحضر الحالة التاريخية القريبة للحركة الجهادية في المنطقتين (المشرق العربي، وشمال إفريقيا والساحل والصحراء)، والتطورات التي مرت بها، والمنعطفات الحاسمة التي واجهتها، قبل أن تصل إلى الوضع الراهن، الذي ستحاول تقديم قراءة لخريطته السياسية انطلاقًا من مفهوم الجغرافيا السياسية باعتبارها تهتم بالعلاقات التبادلية-التأثيرية بين كل من الجغرافيا والسياسة، حيث تفرض الجغرافيا نفسها على السياسة كَقَدَر لا فكاك منه، ومن هنا تسعى السياسة لتخطي العوائق الجغرافية. وفي هذا السياق، تهدف الدراسة إلى التعمق في الخريطة الجغرافية للحركات الجهادية في شمال إفريقيا ومنطقة الساحل والصحراء، والتأثير المتبادل بين هذه التنظيمات والمناطق التي توجد فيها، وأسباب تمركزها ونشاطها هناك، ثم استشراف مستقبل تلك الجماعات والتنظيمات، مع التنبيه إلى أن النشاط الجهادي في المنطقة يقتصر على تنظيمي القاعدة و"الدولة الإسلامية"، باعتبارهما طرفي المعادلة في الحركة الجهادية العالمية، حيث يتخذ تنظيم القاعدة بكل فروعه في شتى أنحاء العالم، من قيادة "تنظيم القاعدة في بلاد خراسان" التي يتزعمها أيمن الظواهري، مرجعًا قياديًّا له، ويعتبر أسامة بن لادن الأب الروحي والمُؤَسِّس الأول لهذا التنظيم خلال العقد الأخير من القرن الماضي. أما تنظيم "الدولة الإسلامية"، فهو الابن الشرعي لحركة التوحيد والجهاد التي أسَّسها "أبو مصعب الزرقاوي" في العراق عقب الاحتلال الأميركي سنة 2003، وتطور التنظيم بعد ذلك ليمر بمراحل من أهمها مرحلة "الدولة الإسلامية في العراق"، ثم "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، قبل أن يستقر أمرها على "الدولة الإسلامية" أو "دولة الخلافة"، وتتَّخذ فروع هذا التنظيم من خليفته، "أبو بكر البغدادي"، مرجعية قيادية ودينية؛ حيث يأتمرون بأمره وينتهون بنواهيه.

وخلصت الدراسة في استقصائها لإشكالية حالة الانزياح التي تعرفها "الحالة الجهادية" في المشرق العربي أو جزء كبير منها على الأقل، نحو شمال إفريقيا والساحل والصحراء، إلى أن هذه المنطقة تُعَدُّ واحدة من أكثر المناطق توترًا وعدم استقرار، وأكبرها مساحة، فضلًا عن تنوع وتعدد التنظيمات الجهادية التي تنشط فيها من الجماعات ذات الطابع الإثني مثل جماعة أنصار الدين وكتائب ماسينا وبوكو حرام، وغيرها، مرورًا بالجماعات الجهادية مختلطة الأعراق وذات النزعة الفكرية الواحدة، كإمارة الصحراء الكبرى، وتنظيم "المرابطون" و"جماعة الدولة الإسلامية في مالي"، هذا فضلًا عن أنها تعجُّ بالحركات المسلحة الأخرى المتمردة وذات الطابع الانفصالي أحيانًا كما هي الحال في شمال مالي الذي يوجد فيه عدد كبير من الحركات الطارقية والعربية المتمردة، وشمال تشاد الذي ينتشر فيه مسلحو المعارضة التشادية بمختلف فصائلها. كما تنتشر مجموعات أخرى مسلحة تأسست على أساس قبلي أو مافيوي، تخصصت في تهريب المحرمات والمحظورات، وقطع الطريق والخطف والسطو المسلح.

وتشهد المنطقة تدخلًا خارجيًّا كبيرًا متعدد الأوجه ومتضارب المصالح؛ إذ تنتشر القوات الفرنسية في مالي والنيجر وتشاد، لحماية المصالح الفرنسية الكثيرة هناك، كما توجد قوات أميركية في النيجر وبعض البلدان الأخرى، وتغطي نشاطاتها الاستخباراتية وتدخلاتها العسكرية مناطق شاسعة من الصحراء الكبرى في جنوب ليبيا وصحراء النيجر ومالي وشمال وشرق بوركينافاسو، وهي كلها أمور تزيد الوضع تعقيدًا وتُبْقِي دوامة العنف على أشدها، وتُبْعِد أمل الاستقرار والهدوء عن المنطقة ذات البعد الاستراتيجي المهم، حيث تشكِّل قنطرة عبور بين إفريقيا والضفة الأخرى للبحر الأبيض المتوسط، كل ذلك يمثِّل عامل جذب لمجموعات العنف الجهادي القادمة من المشرق العربي، حيث ينتظرها شركاء الفكر والتنظيم. 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*محمد محمود أبو المعالي، باحث موريتاني متخصص في الجماعات الجهادية.

للاطلاع على النص الكامل للدراسة (اضغط هنا) وللاطلاع على عدد المجلة كاملًا (اضغط هنا)

ABOUT THE AUTHOR