توعدت إيران بالرد على مقتل سليماني كي ترمم ميزان الردع في صراعها مع الولايات المتحدة، لكنها ستضع في اعتبارها تفادي أن يكون الرد مسوِّغًا لاندلاع مواجهة شاملة مع الولايات المتحدة ستقضي بلا شك على المؤسسات الحيوية بالبلاد.
كان فجر الجمعة، 3 يناير/كانون الثاني 2020، ثقيل الوقع على إيران، فقد تلقت ضربة موجعة بمقتل مهندس نفوذها الخارجي، ورجلها القوي، قاسم سليماني، قائد فيلق القدس، التابع للحرس الثوري الإيراني، في غارة جوية على مطار بغداد بأمر من الرئيس الأميركي، دونالد ترامب. وقُتل إلى جانب سليماني نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي العراقي، أبو مهدي المهندس، وشخصيات أخرى عراقية وإيرانية.
تصفية سليماني تجعل إيران تشعر بأنها مكشوفة بعد أن انهار الردع الذي كان يمنع الولايات المتحدة من المواجهة المباشرة وتفادي استهداف القيادة الإيرانية، التي ستواجه أسئلة من قبيل: إذا لم نرد على تصفية سليماني ستشعر الإدارة الأميركية بالقدرة على تكرار ذلك دون خشية من العواقب، فما هو الرد المناسب لاسترداد القدرة على الردع؟ وما شكل الرد الملائم حتى لا يؤدي إلى مواجهة شاملة قد تقضي على نفوذ إيران بل قد تشل السير الطبيعي لإيران نفسها؟ وكيف توظف إيران الرد على تصفية سليماني لتعزيز نفوذها وإزاحة العوائق التي تقف في وجهها؟
ضربة في قلب النظام
لعل طبيعة الملفات التي كان يديرها سليماني تعطي مؤشرًا واضحًا على حجم الدور الذي كان يقوم به، كما أنها تقدم مؤشرات عن شكل وحجم الرد الإيراني مستقبلًا، وتؤذن بتغير واضح في قواعد الاشتباك والخطوط الحمراء المرسومة في علاقة الصراع الإيراني-الأميركي.
يعد سليماني الصانع الحقيقي للنفوذ الإيراني الخارجي، الذي جعله من الشخصيات الرئيسية في النظام، ويعد اغتياله ضربة موجهة للجانبين معًا، أي النفوذ وبنية النظام، وتفرض هذه الضربة على النظام الإيراني إعادة الاعتبار للردع القائم مع الولايات المتحدة، وهو تجنب استهداف القيادة الإيرانية في مقابل تفادي إيران استهداف الشخصيات الأميركية، وستضطر إلى إعادة الاعتبار لهذا الردع حتى لا يكون اغتيال الولايات المتحدة لسليماني سابقة، توحي بأن بمقدورها تكرار الاغتيال دون عقاب.
وقد بنى سليماني دوره وسمعته في ساحات المعارك؛ فلقد قاد سليماني، البالغ من العمر 62 عامًا، العمليات العسكرية الإيرانية في الشرق الأوسط خاصة في العراق وسوريا، وتحت قيادته، كانت شبكة النفوذ الإيرانية تتسع وتأخذ شكلًا مؤسسيًّا في المنطقة مع دور كبير لحزب الله في لبنان والميليشيات الشيعية في العراق، وكان تدخله في سوريا عاملًا حاسمًا في ترجيح كفة النظام بعد أن وصلت الثورة في سوريا إلى مشارف القصر الجمهوري، كما ورد في مذكرات حسين همداني، القائد في الحرس الثوري الذي قُتل في حلب. وقد أشرف سليماني بصورة مباشرة على عمليات باب عمرو، وريف حلب وسهل الغاب ومعركة القصير التي شكَّلت منعطفًا في الحرب في سوريا.
مبكرًا، انخرط قاسم سليماني في صفوف الحرس الثوري منذ انطلاقته الأولى عام 1981، وكان قائدًا لفرقة عسكرية خلال الحرب مع العراق، وبعد الحرب اضطلع بمهمة مكافحة تهريب المخدرات على الحدود المشتركة مع أفغانستان. وشكَّل العام 1998 نقلة نوعية في مسيرة سليماني وكذلك في مسيرة فيلق القدس عندما صدر قرار تعيينه قائدًا لهذا الفيلق خلفًا لأحمد وحيدي. ولعب سليماني الدور المحوري في إدارة ملف العلاقات مع أفغانستان في فترة حكم طالبان وخلال الاحتلال الأميركي.
في العراق، ساحة النفوذ الإيرانية الأولى، كان سليماني يتحرك في ملفات عدة بعضها سياسي وجُلُّها أمني/عسكري؛ فقد كان له دور بارز في مجريات العملية السياسة العراقية وفي ملف الأكراد، وأدار المواجهات التي قادها الحشد الشعبي ضد تنظيم الدولة، ليعلن، في نوفمبر/تشرين الثاني 2017، انتهاء التنظيم في رسالة وجهها إلى خامنئي.
التماسك الإيراني
الإجراءات الإيرانية التي أعقبت اغتيال سليماني اتسمت بإبراز الطابع المؤسسي للدولة والاستمرارية واكتفت التصريحات الرسمية في عمومها بحتمية الرد لكن دون تفاصيل عن شكله ومكانه وتوقيته وأهدافه، وتجنب أي مظهر من مظاهر التخبط أو التسرع أو الاضطراب وفقدان السيطرة.
خلال الساعات التالية لمقتل سليماني كانت الاجتماعات في إيران تتواصل على أعلى المستويات ولعل أهمها اجتماع مجلس الأمن القومي الذي عُقد بحضور مرشد الثورة الإسلامية، آية الله علي خامنئي، واستمر لساعات، ليخرج بعدها ببيان هدَّد فيه الولايات المتحدة بـ"عواقب لا مفرَّ منها" جرَّاء قتلها سليماني. واعتبر عملية القتل "أكبر خطأ استراتيجي" للولايات المتحدة في منطقة غرب آسيا وتوعدها بأنها "لن تفلت بسهولة من تداعيات حساباتها الخاطئة".
عَيَّنت القيادة الإيرانية مباشرة بعد اغتيال سليماني، نائبه قائدا جديدا لفيلق القدس، العميد إسماعيل قاآني، وهو اسم بارز في الحرس الثوري. ويكشف سجل قاآني، الذي ينحدر من مدينة بجنورد الواقعة في شمال شرقي إيران، عن خبرة ميدانية طويلة. وقد تقلد أثناء الحرب العراقية-الإيرانية مهام عدة من بينها قيادة لواء النصر الخامس، ولواء الإمام الرضا 21. ولديه تجربة ميدانية في سوريا ويعد من القادة المؤثرين في هذا الملف. ووفق بيانات وزارة المالية الأميركية، فهو مسؤول عن ملف الدعم المالي لحلفاء إيران في الخارج وقام بمهام تتعلق بإيصال شحنات من الأسلحة إلى جماعات مرتبطة بإيران في المنطقة. وارتبط اسم قاآني بالزيارة المفاجئة التي قام بها بشار الأسد إلى طهران دون تنسيق مع وزارة الخارجية الإيرانية، والتي أدت وقتها إلى استقالة جواد ظريف؛ حيث كان العميد إسماعيل قاآني الرجل الذي أعلن "جلب" بشار الأسد إلى طهران، عقب تكهنات في الداخل الإيراني بأن الأسد بدأ يخطو نحو التخلص من إيران في سوريا. وبالرغم من تبريره عدم إبلاغ الخارجية بموضوع الزيارة بالقول: إن الوزارة مسموح لها أن تعرف ما يتوجب أن تعرفه، إلا أنه استدرك بالتأكيد على العلاقات القوية مع حكومة روحاني رغم اختلاف وجهات النظر في بعض القضايا. وهو على غرار قادة الحرس لا يفتأ يطلق التهديدات ضد إسرائيل، واعتبر في تصريحات سابقة أن إيران عرضة للتهديد الأميركي، وأنها يجب أن تقابل التهديد بالتهديد.
وفيما يتعلق باليمن، كان قاآني، وفق ما نشره موقع "جاده إيران"، هو من تحدث عن صواريخ لدى أنصار الله يصل مداها إلى 400 كلم، وأن إيران ستستمر بدعمهم، كما أنه أدلى بانتقادات حادة للسلطات السعودية في السعودية.
العصا والجزرة مجددًا
بعد قتل سليماني أعاد ترامب نشر تغريدة سابقة له بأن إيران لم تكسب في أي حرب لكنها لم تخسر في أي تفاوض، لكن من الناحية العملية كانت الإدارة الأميركية تتفاوض لتجنب التصعيد، فلقد تلقت إيران عقب عملية تصفية سليماني رسائل أميركية عبر دول وشخصيات تدعوها إلى التهدئة مقابل تطمينات تتعلق بالعقوبات، لكن الدعوات الأميركية لم تتلق الجواب الذي تريد سماعه من طهران. وإذا كان الرئيس الأميركي يعتقد بأن هذه الضربة ستجر الإيرانيين إلى طاولة المفاوضات، فإن الإيرانيين لا يريدون حاليًّا إلا الانتقام.
رغم عظم الضربة التي لحقت بإيران، ورغم ضغط العقوبات الاقتصادية التي فعلت فعلها في الاقتصاد الإيراني ومعيشة الإيرانيين، إلا أنه لا أحد في إيران اليوم يتحدث عن مفاوضات مع الإدارة الأميركية في عهد ترامب، بل إن الأصوات التي كانت تتحدث على استحياء في الأسابيع الماضية على ضرورة حل دبلوماسي مع واشنطن صمتت بالكامل، وانتقلت أصوات كانت ترى بضرورة الحوار إلى صف من يتبنون خيار المواجهة والتصعيد.
قرار ترامب بتصفية سليماني كان نكسة أصابت الحل التفاوضي، وأصبحت خيارات المبادرة الأوروبية لنزع فتيل التوتر فيما يتعلق بالملف النووي أقل جدوى، أما الوساطة اليابانية فلم يعد هناك مجال للحديث عنها من حيث الأصل بالنسبة للطرف الإيراني.
لكن من جانب آخر تدور في النقاش الداخلي الإيراني تحليلات ترى أن قتل سليماني مصيدة نصبها ترامب لإيران لمزيد من التصعيد بغية توجيه ضربة أكبر لها.
سيناريوهات الرد الإيراني
من الواضح أن مقتل سليماني قد أحدث تغييرًا في قواعد الاشتباك بين الولايات المتحدة وإيران، فبعد أن كان يدار من خلال الحرب بالوكالة واستهداف حلفاء واشنطن، على غرار ما شهدته مياه الخليج ومهاجمة أرامكو، فإن ما حدث نقل الصراع إلى مستويات جديدة تتمثل في المواجهة المباشرة. وقد يؤدي ذلك إذا ما بقيت كرة الفعل ورد الفعل متحركة ذهابًا وإيابًا بين الطرفين إلى احتمال نشوب حرب شاملة لن يبقى أحد في المنطقة بمنأى عن تداعياتها.
أما عن سياقات الرد لتعزيز النفوذ الإيراني الإقليمي، فقد بررت طهران تدخلها في كثير من الساحات، خاصة في خطابها إلى الداخل، بصيغة ترفع عناوين مرتبطة بالأمن القومي، وتوجهت إلى مواطنيها برسالة مفادها أن "الحرس يقاتل في تلك الساحات حتى لا يأتي يوم يكون مضطرًّا فيه إلى القتال في طهران والمدن الإيرانية". ولذلك، فهي مطالبة برد يقول لمواطنيها بأن دولتهم قادرة وغير عاجزة في الإقليم الذي طالما تحدثت عن يد طولى لها فيه. والرد مطلوب أيضًا بغية استثمار الحالة الشعبية التي عكست تعاطفًا شديدًا وصدمة في المجتمع الإيراني الذي تصدر سليماني لسنوات قائمة الشخصيات الأكثر شعبية فيه (%82) وفق استطلاع للرأي تجريه جامعة ميرلاند منذ 2016 في إيران.
وكما أن الساحة العراقية كانت الأرضية التي عززت من خلالها إيران نفوذها الإقليمي فإنها هي ذاتها الأرضية القادرة على خلخلة هذا النفوذ، والقضاء على النفوذ الإيراني في العراق من شأنه أن ينسحب على ساحات أخرى؛ وهو سبب آخر يجعل من الرد الإيراني أمرًا حتميًّا. وبالنسبة للحلفاء، فإن إيران مثَّلت على مدى السنوات الماضية حليفتهم القوية وظهرت بمظهر الدولة القادرة، ولهذا أيضًا فهي معنية بصورة كبيرة بالإبقاء على هذه الصورة لدى حلفائها، وأن توصل رسالة بأنها لن تسمح بأن يكونوا لقمة سائغة، فضلًا عن أن طبيعة الرد الإيراني ستؤثر في نجاح وطبيعة أية تحالفات تريد إيران إقامتها مستقبلًا. ولذلك، نجد الحديث الإيراني عن ضربة واضحة وموجعة.
ولا يمكن تصور رد فعل إيراني لا يشتمل على جانب عسكري، وكما قال ممثل إيران في الأمم المتحدة، تخت روانجي: قَتْل سليماني "فعل عسكري يقتضي ردًّا عسكريًّا". وإن كانت مسألة الرد العسكري المباشر أو غير المباشر لا تزال غير واضحة، وتتفادى السلطات الإيرانية حسمها، بل وتلمِّح للأمرين.
وبناء على ساحة النفوذ الإيرانية، فلا يمكن حصر رد الفعل في الساحة العراقية فقط، على أهميتها وتأثيرها، بل إن مجمل المصالح الأميركية في منطقة الشرق الأوسط دخلت في دائرة الاستهداف، وفق ما يؤكده بيان مجلس الأمن القومي.
هناك في المقابل عدة اعتبارات تضبط الرد الإيراني، وهي: ألا يؤدي إلى تعريض إيران نفسها لانتقام أميركي واسع يقضي على البنية القيادية والحيوية للبلد، وألا يوفر مسوغًا لترامب كي يرد، خاصة أنه توعد بالرد إذا استهدفت إيران أميركيين، وألا تنزلق إلى حرب ستجعل ترامب يشغل الرأي العام الأميركي بها بدلًا من انشغاله بمشاكله الداخلية وتقوي حظوظه للفوز بالانتخابات الرئاسية مجددًا.
السيناريو الأول (الضرب باستخدام الأذرع): يتمثل هذا في سلسلة عمليات ممتدة زمنية تستهدف المصالح الأميركية من خلال أذرع إيران، وقد يشمل ذلك عمليات تفجير واغتيال؛ وهو سيناريو قابل للتطبيق خاصة وأن قوى مثل الحشد الشعبي كانت مستهدفة بصورة مباشرة من قبل الأميركيين حتى قبل اغتيال سليماني.
هذا السيناريو منخفض التكلفة لا يضع إيران في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة، ويرهق الولايات المتحدة، ويفاقم الصراع السياسي داخلها، ويحرمها من مبرر مباشر لشنِّ حرب شاملة على إيران، وقد يدفع القوات الأميركية للانسحاب من العراق وسوريا، وهذا يخدم الهدف الرئيس للأمن القومي الإيراني وهو إخراج القوة الأميركية من المنطقة. وقد يشمل هذا السيناريو ساحات أخرى مثل أفغانستان واليمن، ويكون هدفه الرئيسي استنزاف الوجود الأميركي في المنطقة. وقد يشمل هذا السيناريو أيضًا حرب السفارات واستهداف الشخصيات، في تكرار لما حدث عام 1980 وهو الحدث الذي أسقط جيمي كارتر.
يكون الشق السياسي في هذا السيناريو مهمًّا جدًّا، ومن الراجح أن يكون في ملفين: دفع القوات الأميركية إلى الانسحاب من المنطقة، واتخاذ موقف أكثر تشددًا في الملف النووي، قد يصل إلى حدِّ الانسحاب من الاتفاق وإن كانت هناك اعتبارات تحول دون ذلك، منها الحفاظ على التأييد الأوروبي. علاوة على أن إيران ستوظف هذا التوتر من أجل ترجيح كفة حلفائها في العراق وتوفير غطاء للقضاء على الحراك الشعبي العراقي الذي ندد بوجودها وشجب نفوذها.
السيناريو الثاني (استهداف الحلفاء): ويتمثل بتوجيه ضربات قاسية إلى واحد أو أكثر من حلفاء واشنطن وبشكل أساسي إلى السعودية وإسرائيل. وفي سيناريو كهذا، فإن جماعة أنصار الله في اليمن قد تقوم بمهاجمة قواعد ومنشآت أميركية في السعودية. ويعتمد هذا السيناريو على تجارب سابقة خاصة فيما يتعلق بإسرائيل وحزب الله في لبنان. لكن طبيعة ما يشهده لبنان من حراك أسقط الحكومة وأحدث انقسامًا سياسيًّا حادًّا، لا يوفر قاعدة صلبة لحزب الله ليتحرك بهذا الاتجاه.
هذا السيناريو عمومًا أقل رجحانًا لأنه يفتح على إيران مواجهة واسعة مع جوارها، تجعل حاجة هذه الدول إلى الوجود الأميركي أشد، مما يتعارض مع هدف إيران الرئيسي وهو إخلاء المنطقة منه.
السيناريو الثالث (الهجوم المباشر): مهاجمة القواعد والمنشآت العسكرية الأميركية في مناطق عدة أهمها في العراق وسوريا والخليج بهدف إحداث خسائر بشرية واسعة. فالقواعد العسكرية الأميركية تحيط بإيران إحاطة السوار بالمعصم ويتجاوز عددها في منطقة الخليج ووسط آسيا والقوقاز الـ50 منشأة. وتمتلك إيران من حيث المبدأ قدرة صاروخية يمكنها استهداف 36 قاعدة عسكرية أميركية في المنطقة، وفق ما صرَّح به رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في مجلس الشورى الإيراني، مجتبى ذو النور. لكن هذا السيناريو من الممكن أن يقود إلى حرب شاملة تحمل مخاطر وويلات قد لا تكون إيران وكذلك المنطقة قادرة على تحمل تبعاتها. لذلك، ليس من المرجح أن تتطور الأحداث وفق هذا السيناريو لأنه يستدعي ردًّا أميركيًّا شاملًا يفكِّك البنية القيادية للنظام الإيراني ويشل مرافق الحياة العادية.