بمرور سنة على انطلاق الحراك السياسي في الجزائر، والذي يوافق 22 فبراير/شباط 2019، تستقبل الجزائر الموعد مع رئيس جديد تطأ أقدامه قصر المرادية بعد انتخابات رئاسية أُجريت بتاريخ 12 ديسمبر/كانون الأول 2019. وقد عرفت الانتخابات لغطًا كبيرًا بسبب ما رافقها من اعتراضات من الحراك السياسي، وبسبب ما ميز الحملة الانتخابية من رتابة افتقدت لكل أنواع التسويق السياسي والدعايات الإعلانية التي عرفتها الجزائر خلال مواعيد سابقة.
ما هي ملامح المشهد السياسي المستقبلي الذي ستعرفه الجزائر وسيشهده النظام السياسي؟ وما تحديات المشهد السياسي؟ هل ستعيش الجزائر تحولًا في طبيعة النظام السياسي بشكل يؤثِّر على بنيته وآليات صنع القرار وسط مصالح متشابكة طبعت المشهد خلال عقود تفاعلت فيها أوليغارشيا المال الفاسد مع المصالح السياسية والمواقع الانتخابية بشكل قضى على جودة الحياة السياسية التشريعية وحوَّلها إلى سوق سياسية كبيرة تعشش فيها العصابات التي حولت الدولة الجزائرية إلى شبكات من الحركات المافيوية؟ هل يستطيع الرئيس تبون، وهو الذي تعايش لعقود مع شبكات الدولة العميقة وعرف مداخلها ومخارجها، أن يتخلص من عباءة المناخ السياسي الذي جثم على صدور الجزائريين لعقود طويلة؟ هل إعادة بناء الدستور عملية عميقة وصادقة أم مجرد إعادة ترتيب للمشهد السياسي الانتخابي؟ ثم لماذا الحديث الدائم عن مسألة أخلقة السياسة؟
إن الحديث عن استمرارية واستقرار المؤسسات عملية مهمة ستشكِّل ملامح النظام السياسي في المستقبل(1)، كما أن بناء الدستور في المرحلة الحرجة الحالية هي عملية بناء دستوري مستقر يستمر إلى ما بعد تبون وهي حالة الدساتير الديمقراطية(2). بالإضافة إلى أن أحد العناصر المهمة والمطمئنة في بناء المؤسسات في المرحلة الانتقالية التي تتجاوز أكثر من عشر سنوات من حكم القوى غير الدستورية هو استمرار مكافحة الفساد وإعادة صياغة قانون حقيقي لمكافحة الفساد(3).
في أجواء الانتخابات وترتيب المشهد
مع اقتراب انتهاء سنة 2018، كانت الترتيبات النهائية لمشهد العهدة الخامسة قد انتهت فقد تم استدعاء الهيئة الانتخابية والتي كانت مبرمجة بتاريخ أبريل/نيسان 2019.
لقد تجمعت أحزب التحالف الرئاسي معلنةً -رفقة المنظمات الجماهيرية- دعمها المطلق للمسرحية منطلقةً في حملة تخوين امتزجت فيها لغة التشكيك لكل رافض لخطاب الاستمرارية.
وانبرت جموع الأحزاب الطفيلية وحركات المجتمع المدني المعزولة اجتماعيًّا في جوقة موسيقية سمجة عقب ما سُمي بمهزلة تجمع القاعة البيضاوية، الذي وافق تاريخ 9 فبراير/شباط 2019، والذي ضم عشرات الآلاف من المريدين الذي قاموا في مشهد تراجيدي بتكريم إطار ضخم يحمل صورة بوتفليقة يقودهم في ذلك وزراء ونواب في البرلمان بغرفتيه في مشهد مكتظ لم يجد فيه حتى الراغب في التطبيل مكانًا وسط هذه الأجواء. وعلى مدار أكثر من أربع سنوات كانت الغالبية العظمى من الشعب تتوق إلى سماع خطاب من رئيس جمهورية اختطفت قراراته قوى غير دستورية أضحت تسمى في الضمير الجمعي الجزائري "العصابة". كانت الجموع من الشبان الذين بلغوا العشرين سنة ودلفوا من باب الثلاثين يحلمون بأن يسمعوا صوت رئيسهم يخاطبهم وهم الذين لم يسمعوه منذ ما يُعرف بخطاب القسم عند ترسيم نتيجة الانتخابات الرئاسية لسنة 2014 عند أداء اليمين الدستورية أو ربما شاهدوه في صور تليفزيونية مركبة بطريقة ملفقة وغير مقنعة للمشاهد الجزائري.
كان أقصى طموح للجزائريين في هذه اللحظات التاريخية أن يسمعوا لرئيسهم يخاطبهم صوتًا وصورة وليس بلغة الفاكسات والبيانات التليفزيونية المطولة. رئيس يقابل كبار الشخصيات العالمية مثل ميركل وماكرون ويرفض استقبال شخصيات وطنية أو أن يخاطب جموع شعبه. لقد كانوا يُحكمون من طرف رئيس يفتخر في جلساته الخاصة عندما كان في أوج قوته بكونه لم تطأ أقدامه أرضية برلمانٍ هو من أشرف على تعبئته بشخوص وكيانات سياسية تنتمي إلى كل شيء إلا عالم السياسة. نواب استطاع أغلبهم أن يشتري مقعده في البرلمان بالمال الفاسد وشيوخ يتباهون بعلاقاتهم برجال أعمال فاسدين تربطهم صلات وطيدة بمستشار الرئيس، شقيقه الأصغر، السعيد بوتفليقة.
لقد أحسن الباحث، فنشينزو روجيرو vincenzo roggiro، في دراسته عن "المافيات كممثلات للحكومة"(4) عندما وصف الدولة التي تتحالف فيها أوليغارشيا المال بالسياسة بالدولة المافيوية المجرمة، وهي حالة النظام السياسي الذي بناه بوتفليقة خصوصًا في العقد الأخير. حالة مركبة جمعت في بنيتها بين مفهوم النظام ومفهوم السلطة والدولة بشكل عصبوي متشابك.
لقد استطاع بوتفليقة في العقد الأول من حكمه أن يظهر بصفة المخلِّص وباني الاستقرار ومرمِّم الانكسارات التي عرفتها الجزائر خلال عشرية سوداء من الاقتتال الدموي لكن العبث الذي ألحقه بالدستور وبالوسط السياسي نشر حالة عميقة من ظاهرة عدم التسيس والتمييع والتسطيح لكل أنواع العمل الحزبي والسياسي والانتخابي.
لم يكن سقف توقعات الجزائريين مرتفعًا فقد رضوا بالهمِّ لكن هذا الأخير لم يرضَ بهم، كما يقال في الأدبيات الشعبية. كان بالإمكان أن يرتضوا أية شخصية مقربة من النظام بديلةً لبوتفليقة وتسير الأمور على هوى مستشار الرئيس وشقيقه الأصغر والمتحكم في مقاليد الدولة وبسلاسة لكن الفساد عندما يجتمع بالاستبداد ينتج حالة استغباء مركب للذكاء الجماعي الجزائري وهي حالة تعجِّل لاحقًا بنهاية النظام المفسد السائد وهو ما وقع وبشكل متسارع.
لقد أحسَّ الجزائريون بطعناتٍ متواصلة تمس كرامتهم المهدورة التي سعوا إلى ترميمها عبر تسويق مفردات السلم الاجتماعي والمصالحة الوطنية لكن إصرار النظام على الدفع بخيار رئيس مشلول ومُقعد وفاقد للأهلية أصابت كرامه ومشاعر الجزائريين في مقتل.
وهكذا هي حالة الثورات التي تجتمع فيها التناقضات؛ لقد كان موعد 22 فبراير/شباط تاريخيًّا مفصليًّا تعاملت معه الدولة العميقة بشقيها، المدني والأمني، بتغافل تام لكن الأمر تراكم وتدحرج ككرة ثلج عملاقة فالعمود الفقري لهذا الحراك السلمي كان الشباب الذي لم يعرف في حياته سوى رئيس أوحد نصف فترة حكمه مرَّت في صمت وفساد مع بروز لوبيات المال المتحالف مع الإدارة العمومية لولاة الجمهورية ووزراء لم يكن يعنيهم سوى تلميع صورتهم والتسويق لقياداتهم والتحالف مع رجال الأعمال في الولايات الـ48 المكوِّنة للجمهورية الجزائرية.
ومع مرور سنة على الحراك السلمي وجلوس الرئيس عبد المجيد تبون على كرسي قصر المرادية، كان الحراك قد استكمل إسقاط جميع الباءات بدءًا من الطيب بلعيز، رئيس المجلس الدستوري، وبوشارب معاذ، الرئيس غير الشرعي للبرلمان، وبدوي نور الدين، الوزير الأول وزير الداخلية الأسبق الذي أضحى الوزير الذي تُنسب له جميع عمليات التزوير السابقة، وصولًا إلى بن صالح عبد القادر، رئيس الدولة الذي مكث في منصب رئيس مجلس الأمة لمدة 18 سنة وعايش كل مراحل بوتفليقة وأمسك تسيير الدولة في مرحلة انتقالية عويصة!
بقدر ما كان الاستغباء يحكم صانع القرار تجاه ما يجري في الجزائر كانت ماكينة الإعلام الترويجي ماضية في الاستعداد للعهدة الخامسة؛ فقد جاءت رسالة بوتفليقة، التي نُشرت بتاريخ 10 فبراير/شباط 2019، عبر جميع وسائل الإعلام بما فيها التلفزة الوطنية والإذاعة، والتي قطع بوتفليقة فيها الهواجس والتشويق بإعلان ترشحه رسميًّا للانتخابات المقبلة، وهو ما جنَّد الجرائد الوطنية لتخوين وتشبيه كل من ستسول له نفسه بالترشح بأرانب السباق وهواة السياسة في لهجة إعلامية استعلائية لتفريق خصوم بوتفليقة وربما ترويعهم.
كانت الصفة السلمية للتحرك الجزائري في كل جمعة هي المطالبة بدولة العدل والقانون والحريات، ووجد الحراك تحالفًا تكامليًّا مع مؤسسة الجيش بقيادة قائد الأركان، المرحوم أحمد قائد صالح، الذي أكد في خطابات متعددة أن الجيش سيكون الضامن لمطالب الحراك. وباستثناء الخطاب الأول، جاءت جميع خطابات القائد معزِّزة للخيار الدستوري وضرورة إجراء الانتخابات والابتعاد كلية عن منطق الخيار الانتقالي باعتبار أنه لا تحكمه أجندة دستورية واضحة ودقيقة. ورغم حجم الانتقاد تمت الانتخابات وتحت ضمانات أمنية ومرافقة عسكرية لصيقة وواثقة.
لقد أسهمت ديناميكية التدافع بين دور المؤسسة العسكرية ودور الشارع في غلبة الاتجاه الأثقل في العملية بتبني المقاربة الدستورية المغلفة بالطابع السياسي؛ إذ تم تشكيل لجنة الحوار والوساطة ليكون من أهم مخرجاتها إعلان القانون العضوي للسلطة الوطنية للانتخابات التي يُعهد إليها بالإشراف على العملية زيادة على تعديل قانون الانتخابات وصولًا إلى استدعاء الهيئة الناخبة. وعليه، تمت الانتخابات وفق رؤية قائد الأركان الراحل، قائد صالح، الذي أصرَّ على ضرورة انتخاب رئيس جديد قبل نهاية 2019 وهو ما تم؛ إذ جرت الانتخابات الرئاسية بتاريخ 12 ديسمبر/كانون الأول 2019 وسط مناكفات كبيرة بين مختلف الفاعلين السياسيين وبعد ترشح خمسة مترشحين، هم: عبد المجيد تبون، المترشح الحر، وهو الرئيس المنتخب، وعلي بن فليس، رئيس حزب طلائع الحريات، الذي استقال لاحقًا بعد هزيمته في الانتخابات لثلاث مرات على التوالي وبعد تجربة مريرة، وبلعيد عبد العزيز، رئيس حزب المستقبل، ورئيس حركة البناء، عبد القادر بن قرينة، الحزب المحسوب على الاتجاه الإسلامي والخارج من عباءة حركة حمس الإخوانية، وعز الدين ميهوبي، وزير الثقافة الأسبق والأمين العام لحزب التجمع الوطني الديمقراطي الذي ينتمي إليه كل من رئيس الدولة، بن عبد القادر، وأحمد أويحيى، الوزير الأول السابق الذي يقبع بالسجن رفقة عدد من رؤساء التشكيلات السياسية المحسوبة على التحالف الرئاسي.
عشرة أشهر من الحراك وانتخابات رئاسية بدون توقعات للفائز
تجندت قوى وأطراف دولية للتشكيك في المسعى الانتخابي الجزائري وفي نية السلطة الرسمية للانتقال الديمقراطي. وفي ذات الوقت، كانت أطياف الحراك في أغلبها تُجمع على ضرورة المرور إلى مرحلة انتقالية وتأجيل الانتخابات على اعتبار أن العملية الانتخابية تُجرى في ظرف غير ملائم فأغلب ولاة الجمهورية الذين مارسوا التزوير ظلوا قابعين في مناصبهم أو تم تدويرهم إلى ولايات أخرى.
غير أن الخطابات الأخيرة للراحل، قائد صالح، حملت رسائل قوية وشديدة اللهجة تشدِّد على العقوبات الصارمة تجاه من تخول له نفسه إعاقة إجراء العميلة الانتخابية.
ولأول مرة لم نلحظ حضور مراقبين دوليين وإقليميين للانتخابات من الذين كانوا يدبجِّون المشاهد السياسية الانتخابية السابقة في شكل كاريكاتوري فجٍّ. وهكذا، تمت العملية رغم جميع الظروف ليتم اكتشاف فئة عريضة صامته راغبة في تغيير الوضع القائم نظرًا لرتابة الحراك السياسي في الأشهر الأخيرة وانقسامه وعجزه عن تقديم من يمثله أو الوقوف وراء مترشح توافقي إذ سجل المتابع باندهاش عجز شخصيات تُحسب على الحراك عن تجميع النصاب القانوني لاستمارات الترشح، كما وقع للأستاذ الجامعي، فارس مسدود، والإعلامي، سليمان بخليلي، اللذين برزا عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، ومع ذلك لم يظفرا بالنصاب القانوني لعدد الاستمارات المطلوبة والمحددة قانونيًّا بخمسين ألف استمارة في 25 ولاية.
في الوقت الذي سجلنا فيه انسحاب شخصيات من السباق مثل الدكتور أحمد بن نعمان دون أي تبرير من طرفه.
وقد جاءت الاستمارات التي تم تجميعها والتي أعلنت عنها السلطة الوطنية للانتخابات والمجلس الدستوري كما يلي:
عدد الاستمارات الصحيحة لكل مترشح
اسم المترشِّح | عدد الاستمارات الموقَّعة |
عبد المجيد تبون | 104826 |
عبد القادر بن قرينة | 83342 |
علي بن فليس | 81295 |
عبد العزيز بلعيد | 77239 |
عز الدين ميهوبي | 65743 |
في أجواء الانتخابات وقراءة للنتائج
جرت الانتخابات في ظل انقسام حاد بين الجزائريين، بين مؤيد ومعارض لإجرائها، وصل إلى حدِّ التخوين المتبادل، بل واستعمال العنف من طرف البعض لإفشال الانتخابات؛ حيث تم حرق مركز السلطة الوطنية للانتخابات بولاية البويرة (وسط)، وإلغاء الانتخابات في ولايتي بجاية وتيزي أوزو بمنطقة القبائل (وسط)، بعد تعذر إجرائها، وتزايد المظاهرات المعارضة لتنظيم الانتخابات بعدة مدن بينها العاصمة الجزائر.
لكن إذا تمت المقارنة بين نسبة المشاركة في هذه الانتخابات بآخر رئاسيات أُجريت في 2014، والتي بلغت نسبتها 51.7 بالمئة، يلاحظ أن الفارق يصل لنحو 12 بالمئة، وهي النسبة التي يمكن أن تنسب إلى المقاطعين أو أصحاب الأوراق الملغاة.
طبعت الانتخابات الرئاسية هذه المرة المشاهد التالية:
- حملات انتخابية باهتة تفتقر إلى أي عنصر من عناصر الجذب والاستقطاب.
- غياب للبوصلة وعدم القدرة على التنبؤ بمن سيكون ساكن قصر المرادية.
- أغلب الحملات والتجمعات جرت تحت حماية مشددة من مؤسسة الأمن والجيش مع غياب عناصر الحشد الذي كانت تعرفه الجزائر في المواعيد السابقة.
- المرافقة اللصيقة من مؤسسة الجيش لجميع التحركات السياسية بسبب الإعلانات المستمرة لقائد الأركان قائد صالح -الذي توفي بتاريخ 23 ديسمبر/كانون الأول 2019- أي بعد خطاب القسم الذي أداه الرئيس تبون بتاريخ 19 ديسمبر/كانون الأول، والذي أصدر في خطاب ناري سبق الانتخابات بأسبوعين تهديدًا لكل من تسوِّل له نفسه تعكير أجواء الانتخابات أو المساس بالعملية الانتخابية، كما سبق موعد الانتخابات زيارة الفريق، أحمد قائد صالح، لقيادة الدرك الوطني، بتاريخ الاثنين 9 ديسمبر/كانون الأول -أي قبل موعد الانتخابات بثلاثة أيام- وتلاوة بيان قيادة الأركان متضمنًا إشارات قوية في هذا الاتجاه من أهم ما جاء فيها: "إن الانتخابات الرئاسية المقبلة هي التي سترسم معالم الدولة الجزائرية الجديدة التي طالما تطلعت إليها أجيال المستقبل بعيدًا عن كل أشكال المغالطات والتضليل والأكاذيب التي تسوِّق لها بعض الأطراف المتربصة بأمن الجزائر وسكينة شعبها"، ويضيف البيان "أن قائد الأركان يؤكد على التقيد بالتعليمات ضد كل من تسول له نفسه عرقلة الانتخابات أو منع المواطنين من أداء واجبهم الانتخابي".
- محاولة توظيف خطاب ديماغوجي من طرف أغلب المترشحين بمحاولة العزف على استقلالية القرار، وتوظيف خطاب سياسي ضد فرنسا والعناصر التابعة لها لغرض تأجيج الحس الوطني الشعبوي، وهي حيلة تسويقية لم تنطوِ على الكثيرين لمعرفة الضمير الجمعي الجزائري لعمق وتشعب العلاقة الجزائرية-الفرنسية؛ إذ إن هذا الخطاب لم يعد ينطلي على العامة على اعتبار أن أغلب المسؤولين ورجال الأعمال من مزدوجي الجنسية ناهيك عن عشرات الآلاف من الحاصلين على الإقامة الدائمة وملايين المهاجرين المقيمين بفرنسا.
- استمرار رئيس الدولة السابق، عبد القادر بن صالح، في أداء مهامه واستصدار عشرات المراسيم الرئاسية لتهدئة الأجواء لعل آخرها مرسوم الجماعات المحلية والإقليمية والذي منح بعض الولايات المنتدبة صفة المحافظة كاملة الصلاحيات.
- المناظرة التليفزيونية التي أُجريت قبل انطلاق أيام الصمت الانتخابي بتاريخ 6 ديسمبر/كانون الأول 2019، جاءت أشبه ما تكون بالحصة المتلفزة التي تطرح نفس الأسئلة على المترشحين الخمسة بشكل يفتقر إلى أي عنصر من عناصر خلق الفروق بين المترشحين لكن هذه التجربة تبقى مهمة لأنها تمت تحت إشراف السلطة الوطنية للانتخابات.
- من غير أصوات الحراك التي تصدر كل جمعة والتي خَفَتَ بريقها في أغلب الولايات باستثناء العاصمة وما جاورها، ظهرت الأصوات الحزبية باهتة لا تمتلك رؤية واضحة بل إن المترشحين المحسوبين على المعارضة لم يقدموا رؤيتهم النقدية الكافية للعملية الانتخابية بعد استكمالها رغم تهديد بعضهم بكون التزوير سيكون حالة حتمية في حالة عدم وجود دور ثان للانتخابات لكن الذي حدث هو أن دعاة هذا الاتجاه ركنوا إلى الصمت.
عندما ترشح عبد المجيد تبون، مستقلًّا، وهو العضو القيادي في حزب جبهة التحرير الوطني، صاحب الأغلبية البرلمانية، توجهت الأصابع نحوه باعتباره مرشح السلطة، لكن الأمر اختلف بعد ذلك، فقد تعرض تبون، خلال الحملة الانتخابية، لعدة ضربات سياسية، أوحت للناس بأن أجنحة مؤثِّرة في السلطة لا تريده رئيسًا، أولها: استقالة مدير حملته الانتخابية، الدبلوماسي المخضرم، عبد الله باعلي، تلاها تعرضه لهجوم عنيف من شبكة إعلامية محسوبة على دوائر في الحكم. كما أن موقفه القوي بشأن محاربة الفساد، زاد في شعبيته، خاصة أنه قدَّم نفسه كأحد ضحايا لوبيات المال الفاسد عندما أقيل من رئاسة الوزراء في 2017، قبل أن يُتم ثلاثة أشهر فقط في هذا المنصب، بالإضافة إلى أن ردِّه الواثق بقدرته على استرجاع المال المنهوب من البنوك الأجنبية، خلال المناظرة الرئاسية، رفع أسهمه لدى الرأي العام، خاصة أن بعض منافسيه لم يكونوا حاسمين في هذه المسألة(4).
ويبدو واضحًا أن قطاعًا من الجزائريين يرى أن الأزمة السياسية طالت، وأن الانتخابات الرئاسية يمكن أن تكون خطوة في اتجاه حلها؛ وخصوصًا أن الانتخابات أُلغيت مرتين متتاليتين منذ إقالة بوتفليقة. لذلك بدا أن خطاب السلطة القائل بأن الوضع الدقيق الذي تعرفه البلاد، داخليًّا وخارجيًّا، لا يحتمل إلغاء الانتخابات الرئاسية للمرة الثالثة في مدة تقل عن تسعة أشهر، قد أقنع جزءًا مهمًّا من الجزائريين بالمشاركة(5).
لقد أظهرت نتائج الانتخابات الرئاسية أن الممتنعين يشكِّلون أكبر حزب هم وحزب الأوراق الملغاة من الرافضين للعملية السياسية، كما بيَّنت النتائج تفكك الأحزاب السياسية العتيدة وبروز أزمات كبيرة ترتبط بعدم قدرة أي من المترشحين على زيارة بعض مناطق الجزائر وإجراء حملات انتخابية مفتوحة ودون حماية الجيش.
لقد جاءت نتائج الانتخابات وفق إعلان المجلس الدستوري كما يلي:
الجدول رقم 1
نتائج الانتخابات الرئاسية الجزائرية 2019
اسم المرشح | الحزب | المعلنة من قِبل السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات | المعلنة من قِبل المجلس الدستوري (نتائج نهائية) | ||
نسبة أصوات الناخبين | عدد الأصوات | نسبة أصوات الناخبين | عدد الأصوات | ||
عبد المجيد تبون |
رشح حر | %58.15 | 4,945,116 | %58.13 | 4,947,523 |
عبد العزيز بلعيد | حركة البناء الوطني | %17.38 | 1,477,735 | %17.37 | 1,477,836 |
علي بن فليس | طلائع الحريات | %10.55 | 896,934 | %10.55 | 897,831 |
عز الدين ميهوبي | التجمع الوطني الديمقراطي | %7.26 | 617,753 | %7.28 | 619,225 |
عبد العزيز بلعيد | جبهة المستقبل | %6.66 | 566,808 | %6.67 | 568,000 |
المجموع: الأصوات المعبَّر عنها |
%100 | 8,504,346 | %100 | 8,510,415 |
الجدول رقم (2)
الهيئة الناخبة
انتخابات 2019 | مسجلون | مصوِّتون | أصوات معبَّر عنها | أصوات ملغاة |
24474161 | 9747804 | 8504346 | 1243458 |
الجدول رقم (3)
النتائج النهائية العامة للاقتراع (بما فيها المواطنون المقيمون في الخارج):
الناخبون المسجلون | 24.464.161 |
الناخبون المصوِّتون | 9.755.340 |
نسبة المشاركة | 39.88% |
الأصوات الملغاة | 1.244.925 |
الأصوات المعبَّر عنها | 8.510.415 |
هندسة المستقبل الدستوري ومسألة الأخلاق السياسية في الجزائر
في خطاباته الكثيرة، كان تبون يردد سواء في حملته الانتخابية أو في خطاب القسم الذي أداه والذي جاء منسجمًا مع خطاباته السابقة، والذي جاء بلغة لم يعهدها الجزائريون، فهو أول رئيس يتخلى عن تسمية "فخامة الرئيس"، وهو أول رئيس يطلب النقد والتقويم إن أخطأ. وبلغة بسيطة، أرسل تبون رسائل طمأنة لعموم المواطنين سواء الذين انتخبوه أو الذين امتنعوا أو الذين عارضوا بشراسة العملية الانتخابية ومارسوا عنفًا ماديًّا أو رمزيًّا تجاه الداعمين للحملة والعملية الانتخابية.
ولعل هذا ما يبرر اختياره لشخصيات محسوبة على الحراك في شقه الراديكالي لتقلد مناصب وزارية في الوقت الذي تعالت فيه أصوات من الداعمين للانتخابات إلى ضرورة إنصافهم باعتبارهم يمتلكون شرعية الأصبع الأزرق وهي تسمية على الذين دافعوا ودعموا إجراء العملية الانتخابية.
ليست الأزمة في مشكلة بناء دستور بل المشكلة هيكلية عميقة ترتبط بطبيعة النظام السياسي الذي تشكَّل عبر عقود من تشابك مصالح يختلط فيها العسكري بالمدني والمال الفاسد بالسياسي الذي اشترى مقعده الانتخابي بتواطؤ من الإدارة العمومية ممثلة في ولاة الجمهورية الذين شكَّلوا على الدوام أداة للعصابة، فكثير من ولاة الجمهورية تحولوا عبر علاقات زبونية إلى وزراء في عهد حكومات بوتفليقة السابقة.
إن انسحاب المواطنين كليةً خلال عقود من الحياة السياسية جعلت المشهد السياسي ساحة موبوءة للجهات فوق الدستورية التي تجسدت في حكم السعيد بوتفليقة، الأخ الأصغر لبوتفليقة وزبانيته، لكن هذا الكمون الستاتيكي لم يكن إلا رمادًا تختبئ تحته نار لجيل جديد لا يؤمن بالمسلَّمات السابقة ولا تخيفه العشرية السوداء، جيل تجاوز في ثقافته حدود جغرافيا الوطنية لذلك شكَّل هذا الجيل العشريني العمود الفقري للحراك، لكن المشكلة الأكبر تبقى تتمثل في جزئيتين: استمرارية الحراك بشكل يؤسس لعقد اجتماعي جديد وديمقراطية ناشئة وأخلاقية، والجزئية الثانية هي: من يمثل الحراك ويتفاوض مع النظام في ظل تنامي شخصيات طفيلية ركبت الحراك لأشهر وبمعارضة راديكالية وجدت نفسها تتقلد مناصب وزارية وإدارية سامية في ظل حكم تبون وهو ما جعل كثيرًا من قيادات الحراك يعتبرون التحاق هذه الشخصيات بمنزلة طعنة في الظهر في الوقت الذي يرى مؤيدو تبون في ذلك قدرة فائقة من النظام لاختراق الحراك وتشتيت صفوفه وإدخاله في تناقضات كان يدَّعي محاربتها؟ ويمكن بهذا الصدد التساؤل: هل كان القائد صالح، عليه رحمة الله، سيرتضي الجلوس في حكومة ربع أعضائها من المعارضين الشرسين له ومن المسوِّقين لخطاب شعبوي حول مدنية الدولة في الوقت الذي كان يفترض أن يكون فيه في منصب نائب وزير الدفاع وقائد الأركان لو بقي على قيد الحياة؟
لا قيمة لأي تعديل دستوري إذا تم تصميمه على مقاس الفائز بل سيتحول إلى لفافة قماش تقضي على هيبته القانونية وسموه.
النظام السياسي بحاجة إلى أن يدرك أن الجزائر ليست العاصمة فقط فكثير من ساكني بقية المحافظات يراودهم الشك بأنهم أجزاء منسية من الوطن فهم مغيبون إلى حد كبير في التعيينات الوزارية وفي المناصب الدبلوماسية والسيادية المهمة وهو ما سيطرح مستقبلًا مشكلة هوية النظام ومشكلة الانتماء، وقد بدأت تبرز في الآونة الأخيرة المناداة بإنصاف المناطق الداخلية في المجال التنموي والاقتصادي وشمل النقاش المجال السياسي والدبلوماسي نظرًا لإهمال السلطة السياسية لهذه المناطق عبر عقود متتالية.
إن أَخْلَقة الحياة السياسية لا يمكن أن تستمر إلا في ظل استمرارية المحاكمات العادلة وإقالة جميع الولاة الذين عملوا في ظل بوتفليقة والذين شكَّلوا يد العصابة التي تمارس البطش وهؤلاء لا يزال بعضهم في صناعة القرار، كما أن رجال الأعمال الوهميين الذين استفادوا من قروض خيالية بحاجة إلى متابعتهم القضائية بشكل يعيد الطمأنينة للمواطنين.
إن مؤسسة الرئاسة أمام فرصة تاريخية للانفتاح الحقيقي على إحداث طفرة نوعية في الإدارة العمومية والمؤسسات والجامعات بإعطاء دفعة جديدة من الدماء النقية الشبابية النظيفة لإعطاء مصداقية لوعودها الانتخابية ولخطاب القسم الذي استمر لأكثر من 40 دقيقة فصل فيه الكثير من القضايا المصيرية إذ تعهد بالقضاء على الفساد المالي لضمان تنمية عادلة. إنها اللحظة تاريخية أي "لحظة الأيادي النظيفة" التي يمكنها أن تنقذ النظام وتقضي تدريجيًّا على الدولة العميقة وإلا فإن المشهد الحالي سيكون أقرب لمسرحية سمجة معلومة الفصول والنهايات.
في بناء المؤسسات يجب الاشتغال على محورين: المحور الأول: يتمثل في إعادة بناء وهيكلة الدولة وذلك بمراجعة مبدأين مؤسِّسين للدولة الوطنية؛ مبدأ مركزة السلطة ضمن نظام تمثيلي ممركز في مقام أول ثم مبدأ فصل السلطات في مقام ثان، أما عن مراجعة مبدأ مركزة السلطة فيهدف إلى استبدال فكرة الدولة ذات المركز الواحد إلى دولة متعددة المراكز polycentrique بفعل الاعتراف بوجود واستقلالية هياكل جهوية ومحلية تتيح توسيع دائرة تمثيل الجسم الانتخابي داخل هيكل الدولة كما تمكِّن من معالجة قضايا الشأن العام في أقرب مستوى للمواطن الفعلي المستقر في وضعه الاجتماعي والاقتصادي والمجالي. أما المبدأ الثاني فإنه يتعلق بضرورة أن تكون ضمانات وشروط الحكامة المذكورة متبوعة ومحصنة بآليات رقابية على الأعمال القانونية والسياسية يمكن تفريعها إلى آليات سياسية تهدف إلى تثبيت وتدعيم السلطة الرقابية للشعب صاحب السيادة يمارسها بشكل مباشر أو عن طريق نوابه في البرلمان وبقية الهياكل التمثيلية الجهوية والمحلية. وعليه، فإن عرض الدستور بهذا المقام على الاستفتاء عملية مهمة تعطيه قوة دستورية دون تمريره على الفحص البرلماني في ظل حديث عن شلل الأداء البرلماني وفساد أغلب النواب واختطاف الدور التشريعي كليةً من طرف المؤسسات التنفيذية(5).
(1) حول الهندسة السياسية والمؤسساتية يطالع:
Morlino Leonardo, Architectures constitutionnelles et politiques démocratiques en Europe de l'Est. In: Revue française de science politique, 50e année, n°4-5, 2000. p. 679.
Jump up to: a b Political Engineering: The Design of Institutions, Dr. Jeffrey R. Lax, Department of Politics, New York University
Reilly, B., 1997. Preferential voting and political engineering: A comparative study. Journal of Commonwealth & Comparative Politics, 35(1), pp.1-19.
(2) حول بناء الدساتير، يطالع، وينلاك واهيو، دليل عملي لبناء الدساتير، المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات، النرويج 2011.
(3) لقد دقَّ خبراء في الجباية ناقوس الخطر، للاقتصاد الجزائري، الذي نهشه التهرب الضريبي، حيث تشير أرقام رسمية إلى ما ينيف عن 11 ألف مليار سنتيم، كجباية غير محصلة تراكمت على مدار سنوات. وتقول أرقام مصلحة الجمارك: إنه من بين 11 ألف مليار سنتيم، يوجد 4500 مليار سنتيم فقط، قابلة للتحصيل في حين ستفقد الخزينة العمومية 6500 مليار غير قابلة للتحصيل ناتجة عن الغش الضريبي وعدة عوامل أخرى. تفشي الظاهرة واتساع رقعتها بعود بالأساس -وفق أهل الاختصاص- لضعف إدارة الضرائب وفقدانها لميكانيزمات وآليات كفلتها بدعم عمل فرقها الميدانية؛ مما جعل أداءها هزيلًا لتسجيل أرقام تحصيل هزيلة راوحت 11 في المئة. أرقام مهولة عن التهرب الضريبي وخبراء يطالبون بإعادة الهيبة للجهاز الجبائي.
انظر: أرقام مهولة عن التهرب الضريبي وخبراء يطالبون بإعادة الهيبة للجهاز الضريبي، موقع البلاد نت، 17 يناير/كانون الثاني 2017، (تاريخ الدخول: 12 فبراير/شباط 2020):
https://www.elbilad.net/article/detail?id=103642
(4) فنشيرزو روجيرو، المافيات كممثلات للحكومة: من يحكم العالم؟، فرصة الفكر العربي، 2017، ص: 264.
(5) سعاد موسى سلامي، الحكامة المواطنية استحقاق لثورة المواطنة ورهان الانتقال الديمقراطي، في أحمد السوسي: في الثورة والانتقال والتأسيس، مجمع الأطرش للكتاب المختص، 2013، ص 240- 241.