بمبادرة الأمين العام للمجلس الأعلی للأمن القومي الإيراني، علي شمخاني، التأم في طهران مؤتمر الأمن الإقليمي حول أفغانستان، في 18 ديسمبر/كانون الأول 2019، بمشاركة عالية المستوى ضمت مستشارين للأمن القومي ومسؤولين أمنيين مرموقين من أفغانستان وروسيا والصين والهند وطاجيكستان وأوزبكستان. وفي الأشهر السالفة، زارت وفود حركة طالبان الأفغانية العاصمة، طهران، حيث عقدت اجتماعات وُصفت بالمهمة مع مسؤولين إيرانيين. يشير الاهتمام الإيراني المتصاعد بالملف الأفغاني ومفاوضاتها العلنية مع حركة طالبان إلی تطورات بدأت تُستشف في طهران تجاه جارتها الشرقية. تهتم هذه الورقة بقراءة أسباب وحيثيات التطورات في رؤية طهران لأفغانستان ودوافع وحدود تغيير موقفها تجاه حركة طالبان.
طالبان تفرض نفسها
منذ غزو الولايات المتحدة لأفغانستان، عام 2001، حتی اليوم لم تستقر جارة إيران الشرقية التي تحدها بـ987 كيلومترًا وتؤثر عليها أمنيًّا واقتصاديًّا. إيران الرافضة للغزو الأميركي -لأسباب أمنية- باركت سقوط حركة طالبان التي لم تُخْفِ عداءها لطهران يومًا بل أبرزته بوضوح تام عند قتلها تسعة دبلوماسيين وصحفيًّا إيرانيًّا بعد الاستيلاء علی القنصلية الإيرانية في مزار شريف، عام 1998(1). وهي الحادثة التي كادت تُقحم الجارتين في حرب لولا تدخل المرشد الأعلی، آية الله علي خامنئي، لمنعها(2). دعمت الولايات المتحدة تحالف الشمال المدعوم إيرانيًّا عند غزوها أفغانستان وأبرز ذلك وجهًا من أوجه التقارب الاستراتيجي للخصمين اللدودين في الملف الأفغاني(3) . كما قامت طهران بدعم العملية السياسية التي وُضِعت لبناتها في اجتماعات بون بألمانيا، عام 2001، حيث لعبت طهران دورًا بنَّاءً في التوصل لحلول للقضايا العالقة(4)، وأوصلت تلك العملية أصدقاء إيران ورفاقها في مواجهة طالبان إلی الحكم.
استجد الكثير منذ تلك الفترة وأسَّس لواقع مختلف عن الذي ارتأته كل من واشنطن وطهران. فرغم تلقيها ضربة بدت قاضية عند الغزو، لملمت حركة طالبان المتبقي من قوتها وتأثيرها علی الأرض وتمكنت -بعد سنوات عجاف مرَّت علی الحركة- من فرض نفسها رقمًا يستحيل تجاهله. إلی جانب الروح القتالية والعقيدة المترسخة لدى أعضائها، أسعف الحركة في ذلك -كما برز في الكثير من التقارير والوثائق المسربة- الدعم الباكستاني والسعودي. ولكلٍّ من الدولتين حسابات اجتمعت في دعم طالبان وإعادتها إلی الواجهة. فقد أوضحت الوساطة السعودية بين الحكومة الأفغانية وممثلي طالبان، عام 2008(5) أن الرياض تنظر بإيجابية لعودة طالبان، الحركة البشتونية الأقرب للأيديولوجية الرسمية للدولة السعودية، إلی العملية السياسية والحكم. ناهيك عن القيمة التي ارتأتها السعودية في دعم السياسة الباكستانية باعتبارها منافسًا للنفوذ الإيراني في أفغانستان(6). أما في حسابات باكستان، فيمثل حكم حركة طالبان عمقًا استراتيجيًّا لها أمام الهند، ناهيك عن إعطائه باكستان دورًا أكبر في رسم المستقبل الأفغاني وزيادة تأثيرها الإقليمي بالتالي. وقد يوضح ذلك عدم مشاركتها في مؤتمر الأمن الإقليمي في العاصمة الإيرانية، طهران.
وبالفعل، استطاعت الحركة وعبر تبنيها استراتيجية مبنية علی مواجهة الاحتلال والحكومة الأفغانية، باعتبارها امتدادًا للاحتلال، أن تعيد السيطرة علی أجزاء واسعة من أفغانستان وأن تفرض علی سكان تلك المناطق الولاء والقبول بالأمر الواقع. وأهم من ذلك القبول المتدرج للأطراف الخارجية المؤثرة بالواقع الذي فرضته طالبان عبر ما قارب العقدين من مواجهة العملية السياسية والقائمين عليها عسكريًّا. تسيطر طالبان اليوم علی ما يقارب نصف أفغانستان ومحادثات السلام تضفي طابعًا رسميًّا علی قوة الحركة (7). لذلك بدأت طالبان مفاوضاتها مع عدة جهات؛ فها هي الولايات المتحدة تفاوض طالبان في مسار تفاوضي يوازي مفاوضة طهران للحركة بمستويات غير مسبوقة. وقد انتقلت السياسة الأميركية من مفاوضة "طالبان المعتدلة"(8) في حقبة أوباما إلی مفاوضة قيادة الحركة دون تمييز. بذلك، تغيرت رؤية كل من طهران وواشنطن تجاه حركة طالبان نتيجة تغير الظروف الأمنية والسياسية في أفغانستان ونتج عن ذلك التغيير ثلاثة استنتاجات بُنيت عليها ضرورة التفاوض مع طالبان:
- أولًا: استحالة سيطرة الحكومة الأفغانية علی كامل التراب الأفغاني في ظل سيطرة طالبان علی نصف البلاد.
- ثانيًا: النتائج العكسية المترتبة علی الاستمرار بعزل طالبان سياسيًّا إذ يزيد ذلك من تمسكها بالحل العسكري.
- ثالثًا: ونتيجة للافتراضين آنفَي الذكر، فإن السلام الأفغاني دون إشراك طالبان بات أمرًا مستحيلًا.
بذلك، تغيرت القناعات حول الواقع الأفغاني في طهران كما في عواصم الدول المحيطة بأفغانستان والمؤثرة فيها وانتقل الجميع بالتالي من التساؤل حول جدوی إشراك طالبان من عدمه إلی كيف؟ وبأي شروط يجب إشراك الحركة في العملية السياسية؟ وكان كلام ظريف حول عدم إمكانية تصور مستقبل أفغانستان دون طالبان تعبيرًا واضحًا عن هذا التغيير(9). وفي ظل هذه القناعة، جرت مفاوضات مع حركة طالبان في غير مسار بغية التوصل إلی صيغة تنهي الصراع الأفغاني وتضمن عدم انجرار أفغانستان إلی الحرب الأهلية في القادم من الأعوام خاصة بعد انسحاب القوات الأجنبية منها.
إلا أن الهدف من التفاوض مع طالبان ناهيك عن عملية التفاوض ذاتها أتت مختلفة الشكل والمضمون بين واشنطن من جهة وإيران من جهة أخری. فبينما تفاوض واشنطن طالبان بشكل مباشر ودون إشراك الحكومة الأفغانية بحيثيات المفاوضات، تری طهران من الضروري إحاطة الحكومة الأفغانية علمًا بالمفاوضات وأخذ رأيها تهيئة للمرحلة التالية التي ستشهد مفاوضات مباشرة بين الجانبين. وبينما لا تری واشنطن ضرورة في أن تشمل المفاوضات جارات أفغانستان، أظهرت طهران الأهمية التي توليها لمشاركة الدول الجارة في أي اتفاق مستقبلي مع طالبان أو بين الحكومة الأفغانية والحركة. بشكل عام، تتعاطی واشنطن مع طالبان وفق رؤيتها، التي يُجمع عليها الحزبان الجمهوري والديمقراطي، المتمثلة بعودة الجنود الأميركيين إلی بلادهم مع بقاء قواعد أميركية في أفغانستان دون اهتمام مماثل بآثار هذه السياسة علی المستقبل الأفغاني، تركِّز طهران -الجارة التي ستبقی تتأثر بالحادث في أفغانستان أمنيًّا وسياسيًّا- علی نتائج أي مفاوضات والاتفاقات المحتملة علی مستقبل أفغانستان.
إعادة الحسابات
لم تكن أفغانستان يومًا بعيدة عن حسابات استراتيجية الأمن القومي الإيرانية بعد ثورتها الإسلامية، عام 1979. ففي المرحلة الأولی، وبعد أن أثار احتلال الاتحاد السوفيتي لأفغانستان حفيظة طهران المنشغلة بحربها مع عراق البعث المدعوم غربيًّا وعربيًّا علی حدودها الغربية، باتت إيران تشعر بتهديد كبير آخر علی حدودها الشرقية. رفضت طهران الاحتلال وبدأت بدعم المقاومة الأفغانية ضده. ورغم ابتعاد الحركات الرئيسية للمقاومة الأفغانية عن طهران أيديولوجيًّا وسياسيًّا، استطاعت إيران شقَّ طريق لحماية أصدقائها في أفغانستان علی حاشية المقاومة الأفغانية. ونزح نتيجة الحرب الأفغانية أكثر من ثلاثة ملايين من المواطنين الأفغان إلی المدن الإيرانية وأثقلت الاضطرابات علی الحدود الممتدة لـ978 كيلومترًا بين البلدين كاهل مؤسساتها الأمنية والعسكرية طيلة الثمانينات والتسعينات. كما أدی صعود طالبان إلی إضعاف حلفاء إيران وتراجع دورهم وسيطرتهم شيئًا فشيئًا حتی انحسرت في منطقة في الشمال الأفغاني في نهاية التسعينات.
لذلك، وعندما بدأت الولايات المتحدة التحرك لغزو أفغانستان، باركت طهران تلقي حلفائها في حلف الشمال دعم واشنطن للمشاركة في إسقاط طالبان؛ ذلك رغم تخوف طهران الواضح من الحضور العسكري الأميركي علی حدودها الشرقية. وبين ذلك التخوف والواقع الذي كان سيُفرض نفسه بأية حال، نأت طهران بنفسها رسميًّا ودعمت العملية لوجستيًّا وتكلَّل التأييد الإيراني بدعمها العملية السياسية التي تلت الاحتلال. هدفت إيران من دعمها للعملية السياسية منع صعود قوة/جهة معادية لها في أفغانستان. وبالفعل، استطاعت طهران من خلال مشاركتها في العملية السياسية التي انطلقت من بون بألمانيا، عام 2001، أن تُسهم في إرساء النظام السياسي البديل ولعبت، حسب المشاركين في الاجتماع ومنهم الولايات المتحدة، دورًا بنَّاءً في توفيق الرؤی الأفغانية في ذلك الاجتماع.
بقيت السياسة الإيرانية داعمة للنظام السياسي في أفغانستان رغم رفضها بقاء القوات الأجنبية هناك. من هنا، برزت أكبر إشكالية واجهت الاستراتيجية الإيرانية في أفغانستان: فمن جهة، كان الإصرار الإيراني علی ضرورة إجلاء القوات الأجنبية من أفغانستان وعودة الإدارة الأمنية والعسكرية للبلاد إلی الحكومة الأفغانية. ومن جهة أخرى، استمرت طهران في دعم الحكومة في مواجهتها حراك حركة طالبان العسكري المتزايد ضد الحكومة الأفغانية. وتبرز الإشكالية في واقع أن إجلاء القوات الأجنبية كان من شأنه إضعاف الحكومة الأفغانية بشكل أكبر أمام تحدي طالبان المتصاعد. وكانت الأولوية الإيرانية ترجِّح تثبيت الوضع للحكومة الأفغانية علی جلاء القوات الأجنبية رغم تمسك خطابها بضرورة الجلاء في نفس الفترة. لذلك، انتقلت إيران في المرحلة الأخيرة لتوفيق مطالبتها بجلاء القوات الأجنبية ودعمها الحكومة الأفغانية من خلال مفاوضات مع طالبان هدفت لإشراك الحركة في العملية السياسية وتهيئة الظروف للجلاء دون أن يأتي ذلك علی العملية ذاتها.
إعادة ترتيب الأولويات
لم تكن أولويات طهران في أفغانستان وليدة آمالها بل كانت تعكس الواقع الذي تلا الاحتلال عام 2001. فقد بدت نهاية نفوذ طالبان بعد سقوط حكومتها وسيطرتها علی الأرض أمرًا مسلَّمًا للمؤثرين في أفغانستان رغم قول البعض: إن الحركة ستُبقي علی بعض نفوذها في السنوات المقبلة. إلا أن عودة الحركة للسيطرة المتدرجة علی الأرض واستمرار الدعم الإقليمي لها بات أمرًا يستحيل إغفاله في تحديد اتجاهات المستقبل الأفغاني. بذلك، توصلت طهران إلی ضرورة إعادة النظر في سلم أولوياتها والتوفيق بين هدفيها الرئيسيين في أفغانستان. ونتيجة لذلك برزت ضرورة التفاوض مع طالبان وإشراكها في العملية السلمية.
تعايشت طهران مع الوجود الأجنبي في أفغانستان معطية تقوية الحكومة الأفغانية أمام تحدي طالبان الأولوية معتبرة ذلك الحضور يصب في ذات الاتجاه. يليها في الأولويات الإيرانية ضرورة إجلاء القوات الأجنبية وذلك بعد/أثناء استقرار الأمر للحكومة الأفغانية. بيد أن واقع زيادة قوة حركة طالبان رغم الدأب المتواصل لإنهاء نفوذها ووجودها علی الأراضي الأفغانية فرض نفسه علی طهران وغيرها. بذلك، اتضح أن الأولويات الإيرانية لا تماشي الواقع الأفغاني وتطوراته. ويمكن تعداد الأسباب الرئيسية في تغيير أولويات طهران في أفغانستان في السببين التاليين:
أولًا: تزايد قوة طالبان وفشل القوات الأجنبية: كان الحضور الأجنبي بعد سقوط طالبان يُمثل ضمانًا أمام استعادة حركة طالبان قوتها وذلك إلی أن تتمكن الحكومة الأفغانية من فرض سيطرتها وتثبيت قوتها أمام التحديات الداخلية وعلی رأسها تحدي حركة طالبان. إلا أن الفرضية القائلة بأن التعايش مرحليًّا مع الحضور الأجنبي في أفغانستان يُسعف الحكومة الأفغانية ويؤدي بالتالي إلی تراجع قوة حركة طالبان، تراجعت بشكل متدرج. أي إن الحضور الأجنبي فشل في تحقيق الأولوية الإيرانية الأولی في أفغانستان؛ فقد تزايدت قوة طالبان واتسعت مساحات سيطرتها رغم الوجود الأجنبي.
ثانيًا: انتقال تنظيم دولة إلی أفغانستان ومؤامرة الولايات المتحدة: حسب الرؤية السائدة في طهران، فإنه بالإضافة لفشله أمام طالبان، أسهم الحضور الأجنبي في ظهور تنظيم الدولة علی الأرض الأفغانية. وترى القيادات العسكرية والسياسية كما الدوائر الاستراتيجية في طهران مصلحة أميركية في انتقال تنظيم الدولة من سوريا والعراق إلی أفغانستان حيث يمكِّنها من زعزعة الحدود الإيرانية-الأفغانية وتقريب تهديد تنظيم الدولة إلی الحدود الصينية وإلی جمهوريات آسيا الوسطی وروسيا بالتالي. والدول الثلاث (إيران، وروسيا، والصين) كانت قد طُرحت في آخر تقرير للأمن القومي الأميركي (ديسمبر/كانون الأول 2017) كتهديدات رئيسية(10). بعبارة أخرى، وحسب رؤية طهران، بات الحضور الأجنبي والأميركي بشكل خاص، يُسهم بل ويُساعد تنظيم الدولة في ضرب استقرار أفغانستان لمواجهة التهديدات المرئية من واشنطن (الدول الثلاث المذكورة آنفًا).
كان للظرف الراهن أيضًا دور مؤثر في تغيير أولويات طهران في أفغانستان. فلولا سياسة الضغط الأقصی الأميركية علی إيران والمواجهات الإقليمية بين واشنطن وطهران في إطارها الأوسع، كان من الأرجح تريث طهران في الانتقال لأولوياتها الجديدة في أفغانستان. ويمكن تحديد الظرف المسرِّع لانتقال طهران لأولوياتها الجديدة في أفغانستان في العاملين الرئيسيين التاليين:
أولًا: إفشال الاتفاق النووي والضغط علی طهران: مع نقض الولايات المتحدة التزامها بالاتفاق النووي وإعادة فرضها عقوبات أحادية أوسع وأمضی تأثيرًا من تلك الملغاة نتيجة الاتفاق النووي، تراجعت في طهران المقومات المنطقية المرجحة للتفاوض والدبلوماسية أداةً للتوصل إلی حلول وسط مع واشنطن. ولم يكن ذلك علی مستوی الاتفاق النووي فقط بل انتقل ليشمل باقي الخلافات وبشكل خاص الملفات التي تركز عليها إدارة ترامب: برنامج إيران للصواريخ الباليستية وسياسة إيران الإقليمية. وتشكِّل أفغانستان أحد محاور الصراع رغم قول أغلب الدوائر الاستراتيجية في الدولتين، أي إيران والولايات المتحدة، باشتراك المصالح الاستراتيجية لهما هناك. مع تبني واشنطن سياسة الضغط الأقصی لحمل طهران علی القبول بطاولة مفاوضات حسب المطلوب أميركيًّا ولجوئها للتهديد والوعيد بل وانتقالها للمواجهة العسكرية والأمنية، كعملية اغتيال قائد فيلق القدس في مطار بغداد، أصبح الحضور الأميركي والأجنبي يمثل تهديدًا مباشرًا علی الأمن القومي الإيراني. أضف إلی ذلك أن ترجيح واشنطن رؤية أحادية علی المصالح الاستراتيجية المشتركة مع طهران، دفع الأخيرة إلی النظر إلی الملفات المشتركة كأدوات ضغط. وسرَّع ذلك انتقال طهران إلی أولوية إخراج القوات الأجنبية من أفغانستان.
ثانيًا: إضعاف وتحجيم دور محور المقاومة: وفي إطار سياسة الضغط الأقصی، تطورت الرؤية الأميركية للدور الإيراني من التعايش معه في سياسة أوصلت الطرفين لتعاون مرحلي في قضايا كمواجهة تنظيم الدولة، إلی ضرورة تحجيم وإضعاف ذلك الدور. وشمل ذلك إطارًا جغرافيًّا ضمَّ إيران وحلفاءها في محور المقاومة. ولتمسكها بالتناسب الاستراتيجي (strategic proportionality) في ردودها علی التهديدات الخارجية، تغيرت الأولوية الإيرانية من التعايش مع الحضور الأميركي في المنطقة إلی التركيز علی ضرورة إضعافه لتقزيم التهديد الذي يمثله. وبرز هذا الخطاب بأوضح وجه بعد اغتيال واشنطن الجنرال سليماني، قائد لواء القدس في الحرس الثوري الإيراني. فقد انتقلت واشنطن في ثلاث مراحل متتالية من التعايش إلی الضغط فالمواجهة وأتی ذلك علی المنطق الإيراني المرجِّح للدبلوماسية مع واشنطن.
لذلك، يمكن اعتبار المتغير الأميركي عاملًا مسرِّعًا في إعادة طهران النظر في أولوياتها إزاء الملف الأفغاني بينما كانت التطورات الداخلية في أفغانستان وعلی رأسها صعود قوة طالبان وانتقال تنظيم الدولة إليها عاملين محوريين في ذلك التغيير. بدأت طهران في ظل الواقع الجديد إعادة ترتيب أولوياتها الأفغانية وبدأت مفاوضاتها مع طالبان بناء علی الأولويات الجديدة. والواضح أن تاريخ العداء المتبادل منع الطرفين من القبول بالتفاوض في فترات سابقة. إلا أن الواقع الجديد فرض علی الجانبين التعاون وتغليب المصلحة المشتركة. أضف إلی ذلك، بروز قيادات تتسم ببراغماتية أكبر في صفوف الحركة.
بدء مرحلة جديدة
سبقت التقارير والمواقف المتبادلة في السنوات الأخيرة إعلان الأمين العام للمجلس الأعلی للأمن القومي الإيراني مفاوضة طهران حركة طالبان. جرت تلك المفاوضات بالتنسيق مع الحكومة الأفغانية بل وجرى بعضها بإشراف الحكومة في كابول أثناء زيارة علی شمخاني لأفغانستان العام الماضي(11). وتهدف المفاوضات، حسب شمخاني، للعمل علی تحسين الوضع الأمني في أفغانستان(12). وكانت زيارة قيادات عالية المستوى من حركة طالبان إلی طهران مثار اهتمام واسع في إيران(13). وتتالت زيارات وفود طالبان إلی طهران حيث التقت مسؤولين كبارًا منهم وزير الخارجية، محمد جواد ظريف(14). وإن كان صعود قوة طالبان وظهور تنظيم الدولة قد دفع طهران لإعادة ترتيب أولوياتها الأفغانية في ظل تصعيد واشنطن ضد إيران، فثمة أسباب لترجيح طهران المفاوضات مع الحركة في المرحلة الراهنة يمكن تلخيصها كالتالي:
تغليب المصالح والرؤى المشتركة أمام الولايات المتحدة: خلافًا لمرحلة الاحتلال والإطاحة بحكومة طالبان، برز في مراحل لاحقة اتجاهان متوازيان أنتجا التغيير الإيراني المستحدث. تمثل الاتجاه الأول في تقارب مطَّرد في الرؤية السلبية لكل من طالبان وإيران تجاه الولايات المتحدة. وعَكَسَ الاتجاه الثاني انحدار مستوى ثقة إيران بواشنطن، وهو أمر يمكن تقصيه في رؤية طالبان للولايات المتحدة أيضًا. تُدرك طالبان -كما إيران- أن التعويل علی التعاون مع واشنطن حتی إن وُثِّق باتفاقيات قد ينتهي بتغيير الرؤية الحاكمة علی البيت الأبيض. وانعكس ذلك علی المفاوضات المتقطعة لطالبان مع واشنطن كما برزت هذه الرؤية المشتركة بشكل خاص في بيان طالبان المندِّد "باغتيال الجنرال سليماني علی أیدي القوات الأميركية المتوحشة وتأكيدها استمرار الجهاد أمام التوحش والاحتلال الأميركيين"(15). نجم هذا التقارب عن واقع السياسة الأميركية وإدراكهما ضرورة التعاون في المرحلة المقبلة أمام تلك السياسة.
بناء الجسور والحد من الأعباء الأمنية: أفغانيًّا، وبناء علی التقليد الدارج، نظرت طهران إلی الصعود المتدرج لحركة طالبان كتهديد يجب التعاطي معه لاستبدال فرص به أو تحييده علی الأقل. بعبارة أخرى، ومع مواتاة اتجاه الرياح الأفغانية سفنَ طالبان، بدرت في الأفق إمكانية عودة الحركة للحكم في أفغانستان. وتطمح طهران للتقارب من الحركة عبر لعب دور الوسيط؛ فالحركة بحاجة للشرعية الإقليمية والدولية في مرحلة الصعود، ويُعد القبول الإيراني بها جزءًا من المستقبل الأفغاني مكسبًا مشرعنًا لوضعها الإقليمي لن تفرِّط به الحركة. بذلك، تهدف إيران أولًا إلی تحييد التهديد المتمثل بالحركة ضد إيران وأصدقائها في أفغانستان أمام إضفاء الشرعية الإقليمية علی عودة الحركة؛ وثانيًا: تبحث طهران عن تمكين الأطراف الأفغانية من التعاون في العملية السياسية وتثبيت نفسها وسيطًا فعالًا أمام الحد من عدم الاستقرار المُثقل لكاهل طهران الأمني.
الأقلمة أمام الدولنة: تحاول طهران عبر أقلمة الملف الأفغاني بين الدول المحيطة أو المتأثرة بها جغرافيًّا إبعاد أفغانستان عن الأجندة الدولية. وغني عن القول أن هذا الدأب يأتي أولًا أمام السياسة الأميركية التي تحاول عبر مفاوضة طالبان تحديد وجهة المرحلة المقبلة في أفغانستان؛ فقد كان علی شمخاني واضحًا عند تلخيصه نتائج مؤتمر الأمن الإقليمي بالقول إنه ليس بمقدور واشنطن عزل طهران(16). وبينما تتهم طهران واشنطن بالقفز علی العملية السياسية عبر مفاوضاتها غير المنسقة مع الحكومة الأفغانية(17)، تحاول عبر مفاوضات إقليمية بمشاركة الحكومة الأفغانية، وكذلك مفاوضاتها مع طالبان بالتنسيق مع الحكومة الأفغانية، كسبَ شرعية أفغانية ودولية في مواجهتها الأجندة الأميركية. ويمكن تلخيص المطروح في هذا الإطار في نقطتين رئيسيتين: الأولی: إحداث مسارات موازية وتوافقية تحد من شرعية السياسة الأحادية للولايات المتحدة؛ والثانية: تأطير السلام الأفغاني بأطر إقليمية أقرب لأولويات إيران تركز بين أهدافها علی ضرورة خروج القوات الأجنبية من أفغانستان.
الحفاظ علی المصالح الاقتصادية: يمثل التبادل التجاري الإيراني-الأفغاني رقمًا لا يُستهان به في مجموع تجارة إيران الخارجية الإيرانية. فقد ازدادت صادرات إيران إلی أفغانستان ثلاثة أضعاف ما كانت عليه قبل ست سنوات لتصل إلی 3 مليارات دولار في عام 2018(18). وأتی هذا التطور المتدرج للتجارة البينية نتيجة توقيع عدة اتفاقيات بين الدولتين من أهمها اتفاقية التعاون الاقتصادي والأمني الموقعة عام 2012(19). وتُوِّج هذا التعاون بتوقيع اتفاقية ثلاثية حول تنمية ميناء تشابهار كخط أرضي يوصل الاقتصاد الهندي بأفغانستان وجمهوريات آسيا الوسطی عبر إيران(20) ضمت إلی جانب الدولتين الهند -وكانت الولايات المتحدة قد أعفت تشابهار من عقوباتها ضد إيران لدورها في تنمية أفغانستان وتجارتها الخارجية(21).
تمثل هذه المصالح الاقتصادية عنصرًا رئيسًا في توجيه سياسات إيران حيال أفغانستان. وغني عن القول: إن التطورات الأمنية والسياسية المستقبلية في أفغانستان ستأتي علی هذه المصالح إن كانت ستضع إيران طرفًا في الصراع هناك. لذلك، تحرص طهران علی الوقوف علی مسافة واحدة من اللاعبين في أفغانستان رغم صعوبة ذلك في ظل التجاذبات في الداخل الأفغاني.
في مثل هذا الظرف، بدأت طهران مفاوضاتها المباشرة مع حركة طالبان. تطمح طهران من خلال المفاوضات إلی الحد من أخطار المرحلة المقبلة علی مصالحها وأمنها القوميين. كما تبحث عن المشاركة الفعالة في تضمين العملية السياسية التي ستشمل طالبان أولويتها الأفغانية المركزة علی إخراج القوات الأجنبية. ومن خلال تركيزها علی ضرورة أن تتم أي مفاوضات مع طالبان بعلم الحكومة الأفغانية، تحاول طهران تهيئة الظروف لوضع تلتئم فيه القوى الأفغانية والحكومة أمام تهديدين توليهما طهران أولوية قصوى: تنظيم الدولة في أفغانستان وقد حاربته الحكومة وطالبان، والحضور الأجنبي باعتباره يضر بالمصلحة القومية الأفغانية كما الإيرانية. بالإضافة لذلك، تبدو طهران -من خلال محاولتها القيام بدور فعال في أفغانستان- دافعة ضد سياسة الضغط الأقصی ومحاولات واشنطن عزلها عن محيطها؛ فلم ينفضَّ جمع جارات أفغانستان في طهران حتی صرح شمخاني: "لا يمكن عزلنا". وذلك هدف يمكن رصده في تحركات إقليمية أخری لإيران سبقت الانفتاح والمفاوضات المعلنة مع طالبان وتلتها.
خلاصة
دعمت طهران إسقاط حكومة طالبان ولعبت دورًا فعالًا في إرساء اللبنات الأساسية للعملية السياسية التي تلت احتلال أفغانستان. وأولت في تلك المرحلة تثبيت الوضع الأفغاني أمنيًّا وسياسيًّا وتمكين الحكومة الأفغانية أمام التحديات الداخلية اهتمامًا أولويًّا قياسًا بأولويتها الثانية المتمثلة بضرورة خروج القوات الأجنبية من أفغانستان. ومع فرض طالبان وضعًا مختلفًا عبر تمددها المتدرج في أجزاء واسعة من أفغانستان، بدأت طهران بإعادة حساباتها الأفغانية؛ فقد بات جليًّا أن استتباب الأمن والاستقرار في أفغانستان لن يأتي باستمرار إقصاء حركة طالبان من العملية السياسية. لذلك تغيرت الأولويات الإيرانية في أفغانستان وبدأ ترجيح طهران إخراج القوات الأجنبية بعد اتضاح فشلها في تمكين الحكومة الأفغانية بل وإسعافها -حسب الرسميين الإيرانيين- حركة تنظيم الدولة بالتغلغل في أفغانستان وذلك لضرب أعداء الولايات المتحدة، أي: إيران وروسيا والصين.
ورغم أن زیادة قوة واتساع رقعة تمدد طالبان إلی جانب ظهور تنظيم الدولة في أفغانستان كانا عاملين رئيسين في إعادة طهران النظر في أولوياتها، كان لسياسة واشنطن الضغط الأقصی ومحاولة عزل إيران وإضعاف حلفائها في المنطقة دور مسرِّع للتغيير الإيراني. لذلك، بدأت المفاوضات الإيرانية مع طالبان التي اختلفت في الشكل والمضمون عن المفاوضات الأميركية مع طالبان من حيث إحاطة طهران الحكومة الأفغانية علمًا بتفاصيلها ومحاولتها إشراك الأطراف الإقليمية في المفاوضات. وحسب رؤية طهران، فإن السلام يجب أن يكون أفغانيًّا-أفغانيًّا بدعم خارجي لا أن يُفرض دوليًّا علی الأفغان. وتهدف طهران من مفاوضاتها إلی تحقيق أربعة أهداف رئيسية: أولًا: تقريب وجهات النظر أمام الولايات المتحدة وسياساتها في أفغانستان. ثانيًا: لعب دور وسيط يُقرِّب الأطراف الأفغانية ويضمن سلامًا أفغانيًّا-أفغانيًّا، وتقليص أعباء إيران الأمنية في المرحلة المقبلة بالتالي. ثالثًا: ترجيح حلول إقليمية إجماعية أمام الأجندة الأميركية الأحادية في أفغانستان. رابعًا: الحفاظ علی المصالح الاقتصادية لإيران في المستقبل الأفغاني.
(1) "پشت پرده قتل دیپلماتهای إيراني در مزار شريف" (خلف كواليس قتل الدبلوماسيين الإيرانيين في مزار شريف)، موقع تابناك، 17 مرداد 1390(تاريخ الدخول: 16 فبراير/شباط 2020)، https://bit.ly/37OQjLS
(2) چرا ایران از حمله به افغانستان در دوره دولت اصلاحات منصرف شد؟ "لماذا عدلت إيران عن مهاجمة أفغانستان خلال فترة الإصلاحات؟"، موقع خبر أونلاين، 8 مرداد 1398، (تاريخ الدخول: 16 فبراير/شباط 2020):
(3) Seyed Hossain Mousavian and Shahir Shahidsaless, Iran and the United States, An Insider’s View on the Failed Past and the Road to Peace, London: Bloomsbury Publishing, 2014, p. 167.
(4) يشرح موسويان تفاصيل الدور والتعاون الإيراني في تلك المرحلة في كتابه المذكور سلفًا.
(5) Greg Bruno, “Saudi Arabia and the Future of Afghanistan,” Council on Foreign Relations, December 10, 2008. “accessed January 30, 2020”, https://on.cfr.org/32q0g15.
(6) Guido Steinberg and Nils Woermer, Exploring Iran and Saudi Arabia’s Interests in Afghanistan and Pakistan: Stakeholders or Spoilers – A Zero Sum Game? Part 1: Saudi Arabia, CIDO Policy Research Project, April 2013, p. 2.
(7) Susannah George, “Inside the Taliban’s Afghanistan, violence remains the path to power,” The Washington Post, December 20, 2019. “accessed February 11, 2020”, https://wapo.st/32iISLG.
(8) Ashley J. Tellis, Reconciling with the Taliban: Toward an Alternative Grand Strategy in Afghanistan, Carnegie Endowment for International Peace, 2009, p. 7.
(9) "ظریف: ترسیم آینده افغانستان بدون در نظر گرفتن طالبان، غیرممكن است" (ظريف: لا يمكن رسم ملامح مستقبل أفغانستان دون أخذ طالبان في الحسبان)، موقع شفقنا، 9 يناير/كانون الثاني 2019، (تاريخ الدخول: 16 فبراير/شباط 2020)، https://bit.ly/2HKcg3Y.
(10) National Security Strategy of the United States of America, The White House, December 2017, “accessed February 11, 2020”, https://bit.ly/2TbNeQN.
(11) "روايت رسانه های داخلي از سفر هيات سياسي طالبان به تهران" (رواية وسائل الإعلام الداخلية عن زيارة وفد طالبان السياسي طهران)، وكالة أنباء الجمهورية الإسلامية إرنا، 27 شهريور 1398، (تاريخ الدخول: 16 فبراير/شباط 2020)، https://bit.ly/3a16Mhx.
(12) "شمخاني: گفتگوهاي إيران با طالبان با اطلاع دولت افغانستان بوده است" (شمخاني: مفاوضات إيران مع طالبان جرت بعلم الحكومة الأفغانية) وكالة أنباء تسنيم، 5 دي 1397، (تاريخ الدخول: 16 فبراير/شباط 2020)، https://bit.ly/2Vemvpb.
(13) "سفر هيأت طالبان به تهران به رهبري عبدالسلام حنفي" (زيارة وفد طالبان بقيادة عبد السلام حنفي طهران)، وكالة أنباء ايسنا، 26 شهريور 1398، (تاريخ الدخول: 16 فبراير/شباط 2020)، https://bit.ly/2PkWKzU.
(14) "گفتگوي ظريف با رئيس دفتر سياسي طالبان" (محادثة ظريف رئيس المكتب السياسي لطالبان)، وكالة أنباء الجمهورية الإسلامية إرنا، 6 آذر 1398(تاريخ الدخول: 16 فبراير/شباط 2020)، https://bit.ly/2HKe4Kt.
(15) "بيانيه مهم طالبان در ارتباط با ترور سردار سليماني" (بيان طالبان المهم حول اغتيال الجنرال سليماني)، موقع مشرق نيوز، 15 دی 1398، (تاريخ الدخول: 16 فبراير/شباط 2020)، https://bit.ly/2SOLiOW.
(16) "شمخاني: إيران تسليم پذير نیست" (شمخاني: إيران غير قابلة للاستسلام)، وكالة أنباء إيسنا، 27 آذر 1398، (تاريخ الدخول: 16 فبراير/شباط 2020)، https://bit.ly/37WZt9f.
(17) "ظریف خطاب به آمریكاییها: ایران را با نوكران خود اشتباه گرفتید/ با تروریستهای اقتصادی مذاكره نمی كنیم" (ظريف مخاطبًا الأميركيين: لا تخلطوا بين إيران وخدمكم، لن نفاوض الإرهابيين الاقتصاديين)، وكالة أنباء فارس نيوز، 14 مرداد 1398، (تاريخ الدخول: 16 فبراير/شباط 2020)، https://bit.ly/39YQkyg.
(18) "آمار صادرات سال 1397 افغانستان" (أرقام الصادرات لأفغانستان عام 2018)، اتاق بازرگاني، صنايع، معادن وكشاورزي تهران، (تاريخ الدخول: 18 يناير/كانون الثاني 2020): 2020)، https://bit.ly/2VhueTs.
(19) "إيران وأفغانستان موافقتنامه همكاری اقتصادی وامنيتي امضا كردند" (إيران وأفغانستان توقِّعان اتفاقية للتعاون الاقتصادي والأمني)، موقع أفغانستان ما، 16 سنبله (شهريور) 1391، (تاريخ الدخول: 16 فبراير/شباط 2020)، https://bit.ly/32iJCR3.
(20) "إيران، هند و أفغانستان در چابهار به هم رسيدند" (إلتقاء إيران والهند وأفغانستان في تشابهار)، وكالة أنباء ايسنا، 5 دی 1397، (تاريخ الدخول: 16 فبراير/شباط 2020)، https://bit.ly/2VhahMK.
(21) "چرا أميركا بندر چابهار را از تحريم ها معاف كرد؟" (لماذا أعفت أميركا ميناء تشابهار من العقوبات؟)، موقع تابناك، 19 اسفند 1397، (تاريخ الدخول: 16 فبراير/شباط 2020)، https://bit.ly/2SSfn0f.