بنسبة تصويت هي الأقل في تاريخ الجمهورية الإسلامية جاءت النتائج المعلنة إلى اليوم لتقول بسيطرة أصولية واضحة على المجلس القادم وهو ما سيكون له تأثيرات كبيرة في السياسة الداخلية والخارجية لإيران. تُقدِّم هذه الورقة قراءة في الانتخابات البرلمانية التي جرت في إيران في دورتها الحادية عشرة، وتناقش ما تعنيه سيطرة الطيف الأصولي بتياراته وأحزابه المتعددة على معظم مقاعد المجلس، سواء بالنسبة للداخل وكذلك الخارج الإيراني.
تدنِّي نسبة المشاركة
مقارنة بالدورات السابقة، سجلت هذه الدورة من الانتخابات أقل نسبة مشاركة على مدى 41 عامًا، أي منذ نشأة الجمهورية الإسلامية؛ إذ بلغت النسبة 43% تقريبًا في كل إيران فيما لم تتجاوز نسبة الاقتراع في طهران 26%، وسبق هذه الانتخابات ورافقها مجموعة من الأحداث والتطورات التي أثَّرت بصورة سلبية على مجرياتها.
بالعودة إلى استطلاعات الرأي الإيرانية التي أُجريت قبل أيام من الانتخابات، نجد أن 43% من الأشخاص الذين قالوا بأنهم لن يصوِّتوا يُرجِعون ذلك إلى عدم تأثير الانتخابات في تحسين أوضاع البلاد التي تقلقهم فيما قال 3% إن سبب عدم تصويتهم هو غياب التنافس السياسي. واشترط 17% تحسن الظروف الاقتصادية للمشاركة في الانتخابات، وقال 18%: إن المشاركة مشروطة بكون الانتخابات في حدِّ ذاتها قادرة على تحسين الأوضاع.
أسباب تراجع نسبة المشاركة
بناء على نتائج استطلاعات رأي أجرتها أربعة مراكز لاستطلاع الرأي في إيران، يمكن إرجاع انخفاض نسبة المشاركة إلى الأسباب التالية:
- الضغط الاقتصادي الناتج عن العقوبات وسوء الإدارة في السنوات الأخيرة بنسبة 35%.
- الغضب الشعبي الشديد بسبب رفع أسعار البنزين بصورة مفاجئة وما أعقب ذلك من صدامات وأداء الرئيس الإيراني غير المناسب حيث أعلن عدم علمه بقرار رفع أسعار البنزين -رغم أنه صادر عن حكومته- بسخرية أثارت استياء الإيرانيين، وحصل على 35% أيضًا.
- التهديد الذي مثَّله الإعلان عن وجود إصابات بفيروس كورونا قبل يوم واحد من الانتخابات والتحذير من انتقاله بواسطة ختم البصمة؛ حيث شكَّل مانعًا من التصويت بنسبة 20%.
- سقوط الطائرة الأوكرانية ومقتل ركابها الـ176 والأسلوب الذي أُعلن به عن طريقة إسقاطها والمسؤولية عن ذلك بنسبة 8%.
- رفض أهلية عدد من نواب المجلس والشخصيات الإصلاحية بنسبة 2%.
وبالرغم من كل النقد الموجَّه إلى مجلس صيانة الدستور وإلقاء المسؤولية عليه بسبب رفض كثير من ترشيحات الشخصيات المحسوبة على التيار الأصولي إلا أن النتائج تعطي مؤشرات تتجاوز ذلك، وتوضح النتائج فشل عدد كبير من نواب المجلس العاشر المحسوبين على التيار الإصلاحي وتيار الاعتدال الذي يترأسه روحاني والذين وافق مجلس صيانة الدستور على ترشيحهم، ولعل هذا الفشل مؤشر على أن الناخبين الذين أدلوا بأصواتهم لم يكونوا راضين عن أداء هؤلاء النواب.
فمن بين 290 نائبًا في المجلس العاشر تقدم للترشح 248 نائبًا، وافق مجلس صيانة الدستور على ترشح 137 منهم، فاز من بينهم في الانتخابات الأخيرة 56 نائبًا؛ مما يعني أن حكم الناس بشأن صلاحيتهم وأدائهم كان أشد من حكم مجلس صيانة الدستور.
وفي المجمل، فإن من صوَّتوا قد أرسلوا رسالة تقول بعدم الرضى عن الأداء العام للمجلس ولذلك أحجموا عن التصويت مجددًا لعدد لا يستهان به من نواب المجلس، وكذلك فعل من لم يصوتوا من الأساس؛ فالإحجام عن التصويت رسالة واضحة برفض الحالة التي وصلت إليها الجمهورية الإسلامية خاصة فيما يتعلق بالحالة الاقتصادية. وهو مؤشر كبير على فشل حكومة روحاني يلقي بظلال من الشك على المستقبل السياسي لتياره.
تركيبة المجلس
تقول النتائج: إن غالبية المجلس الحادي عشر ستكون من الطيف الأصولي وبنسبة كبيرة من الطيف الأصولي المتشدد، وهي ما يعني أن المنافسين وخصوم حسن روحاني السياسيين قد احتلوا مقاعد مجلس الشورى.
وكان لافتًا فوز عدد من المقربين من أحمدي نجاد، وكذلك مسؤولين سابقين في حكومته، فيهم وزراء ومعظمهم شغلوا مناصب كحكام إداريين في عدد من المحافظات. ولذلك، فسيكون صوت الرئيس الإيراني السابق، أحمدي نجاد، حاضرًا في المجلس بكتلة نيابية لا يقل عدد أعضائها عن 14 نائبًا فازوا في محافظات أخرى غير طهران.
وظهر الخلاف بين الفريقين بخصوص كثير من المسائل خاصة في الاقتصاد والسياسة الخارجية وظهر إلى العلن بصورة واضحة مع تعثر تطبيق الاتفاق النووي.
وتصاعد التدافع السياسي عقب انسحاب ترامب من الاتفاق النووي وعودة العقوبات ليصل إلى أَوْجِهِ خلال مطلع هذا العام.
ولعل هذه النتائج وما سبقها من جدل بشأن صلاحيات مجلس صيانة الدستور، تقول بوجود مخطط أصولي لصناعة صف جديد من القيادة متحد من حيث المواقف والتوجهات تجاه القضايا الرئيسية داخليًّا وخارجيًّا. وتعطي النتائج فرصًا كبيرة لمحمد باقر قاليباف الذي سبق له تقلد مناصب أمنية وسياسية وله تاريخ في صفوف الحرس، ليصبح رئيس مجلس الشورى المنتخب، وأن يكون نوابه أيضًا من الأصوليين. وعندما نرجع إلى قائمة المرشحين الذين نافسوا روحاني في الانتخابات الرئاسية، نجد إبراهيم رئيسي الذي بات يشغل منصب رئيس السلطة القضائية، وقاليباف الذي انسحب لصالح رئيسي، والمرشح بقوة ليكون رئيس مجلس الشورى. وإذا ما جاءت نتائج الانتخابات الرئاسية القادمة في صيف 2021 بصورة مماثلة فهذا يعني سعيًا لإحداث انسجام بين مختلف المؤسسات السياسية المؤثِّرة في صناعة القرار ويعني تناغمًا واضحًا مع توجهات الحرس الثوري خاصة فيما يتعلق بالملفات الأمنية التي يسيطر عليها. وهو ما يعني مزيدًا من الدعم لملف نفوذ إيران الإقليمي.
بناء على ما سبق، يمكن القول: إن ما تبقى من مدة رئاسة روحاني ستكون صعبة، وستتوالى عملية استجواب وزرائه بشأن كثير من القضايا التي يرى الأصوليون أن حكومة روحاني فشلت في مقاربتها فشلًا ذريعًا.
ماذا عن السياسة الخارجية؟
يحمل التيار الأصولي نظرة سلبية تجاه التفاوض مع الولايات المتحدة الأميركية، وكان ناقدًا بصورة كبيرة لفريق روحاني على هذا الصعيد، ويرى غالبية رموزه أن الاتفاق النووي فشل لأن الطرف الآخر غير جدير بالثقة، ويستمد هذا التيار خطابه الفكري على هذا الصعيد من الطروحات الفكرية للإمام الخميني وآية الله خامنئي. لكن هذه المواقف المتشددة لا تعني إغلاق باب التفاوض كليًّا، وإن كانت شروط التفاوض من وجهة نظر هذا التيار لا تنسجم مع سياسة ترامب ولا تقبل بفرض الأمر الواقع وهو ما قد يرتب تصعيدًا وتبادل الاستهداف والتهديد بصورة ثنائية ولحلفاء كل طرف، ولكن بصورة مدروسة لتحسين شروط التفاوض، وتعزيز أوراق القوة. فهذا الفريق يماثل فريق روحاني في رفضه للحرب الشاملة وسعيه لتجنبها.
وفيما يحاول روحاني جاهدًا الحافظ على شعرة العلاقات مع الأطراف الأوروبية لإفشال سعي الولايات المتحدة الأميركية لإعادة الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن، لا ينظر الأصوليون بشكل كبير لجدوى الدور الأوروبي، ويكيلون له نقدًا شديدًا. وعلى عكس سياسة وخطاب تيار الاعتدال، الميال بصورة كبيرة للعلاقة مع الغرب، سيسعى هذا التيار إلى تعزيز العلاقة شرقًا.
ويقدم النائب، علي مطهري، والذي سبق أن رفض مجلس صيانة الدستور تأييد أهليته للانتخابات، قراءة مغايرة لسياسة المجلس القادم، ويرى أن قائد الثورة سيحول دون أن يمارس الجلس الجديد دورًا انفعاليًّا تجاه حكومة روحاني.
ويعتقد مطهري الذي يُصنَّف كأصولي انتقل في السنوات الأخيرة إلى معسكر (المعتدلين – الإصلاحيين)، أن من يعرِّفون أنفسهم بأنهم ثوريون سيبادرون عندما تصبح السلطة في أيديهم إلى الالتزام بالاتفاق النووي وسيسعون إلى حل المشكلة مع مجموعة العمل المالي، وسيبذلون جهدهم لإصلاح العلاقة مع الخارج، وتسوية الخلاف مع السعودية، بل إنهم سيحسنون العلاقة مع أوروبا، فهم يعرفون في قرارة أنفسهم أنه لا يمكن قطع العلاقة مع العالم، لكنهم يريدون أن يتم ذلك من خلالهم لا من خلال منافسهم، فالإمساك بالسلطة سيغيِّر من سلوك المتشددين ويسوقهم نحو الاعتدال.
ومن الوارد أن تصدق قراءة مطهري؛ فهذا التيار يريد أن يثبت للإيرانيين أنه قادر على حل مشكلاتهم.
وعلى عكس موقف روحاني الناقد للحرس الثوري، فهذا التيار في غالبية أحزابه منسجم مع الحرس ويدافع عن نفوذه، وهو ما يعني السعي لتعزيز قوته ودعمه كمؤسسة. وسيظهر ذلك بصورة كبيرة في الميزانية التي سيصادق عليها المجلس.
خلاصات
- عكست نسبة التصويت في هذه الدورة (وهي الأقل في تاريخ الجمهورية الإسلامية) أزمة سياسية داخلية، وحالة من عدم الرضى عن الأوضاع العامة وأداء مجلس الشورى.
- ستكون إيران على موعد مع مجلس شورى مغاير بتركيبته للمجلس السابق وبصورة جذرية؛ إذ يسيطر الأصوليون -الذين ينتقدون سياسات روحاني- على غالبية المقاعد فيما يبدو أن تحالف (الإصلاحيين مع تيار الاعتدال) سيكون أقلية في المجلس.
- قد يرتب ذلك مواجهة مع سياسات روحاني واستجوابًا لكثير من وزرائه، وهو ما يجعل ما تبقى من رئاسته فترة حرجة.
- قد تعطي نتائج هذه الانتخابات مؤشرات على ماهية التوجهات الفكرية للرئيس الإيراني القادم في الانتخابات التي ستُجرى في صيف 2021، فاحتمالات أن يكون الرئيس القادم من نفس الطيف الأصولي تبدو كبيرة، وهو ما قد يعني حالة من الانسجام بين مؤسسات صنع القرار وصوتًا واحدًا في التعامل مع المشكلات خاصة على صعيد السياسات الاقتصادية والخارجية.
- على الرغم من الموقف المتشدد للتيار الذي يسيطر على مجلس الشورى من التفاوض مع الولايات المتحدة الأميركية وانتقاده الشديد للغرب، إلا أن ذلك لا ينفي أن يلجأ إلى التفاوض، لكنه سيميل إلى تعزيز العلاقة مع الشرق ودول مثل الصين وروسيا.
- تشير التركيبة الجديدة للمجلس إلى حالة من الانسجام مع مؤسسة الحرس الثوري؛ مما يعني دعمًا لمكانة الحرس وتعزيز ملف النفوذ الإقليمي الموكل لفيلق القدس.
- كان ملاحظًا أن من صوَّتوا هم في غالبيتهم من المؤيدين للتيار الأصولي في حين حدث ما يشبه المقاطعة للانتخابات في صفوف المؤيدين للتيارين، الإصلاحي والمعتدل، ولم يفلح رهانهم على قواعدهم الشعبية بإيصال مرشحيهم على الرغم من قلَّة أعدادهم بفعل سياسات مجلس صيانة الدستور، وهو ما يعكس أزمة للتيار وسط بيئته التي ساندته على مدى عقود، في حين بدت البيئة الحاضنة للتيار الأصولي أكثر التزامًا وتماسكًا.