مع انتهاء المهلة التي حددتها تركيا لالتزام قوات النظام السوري وحلفائه باتفاق سوتشي والانسحاب إلى ما وراء نقاط المراقبة التركية في منطقة خفض التصعيد في إدلب، أطلقت تركيا ما أسمته عملية "درع الربيع". وقد جاءت هذه العملية أيضًا على خلفية تعرض قوات تركية، تساند فصائل المعارضة السورية لاستعادة السيطرة على مدينة سراقب الاستراتيجية، لقصف جوي أدى إلى مقتل 33 جنديًّا تركيًّا وإصابة عشرات آخرين. وقد ردَّت تركيا بحملة قصف مدفعي وجوي، بواسطة طائرات مسيَّرة، استهدفت مواقع للنظام وحلفائه على امتداد منطقة خفض التصعيد، فيما حاولت روسيا امتصاص الغضب التركي عبر عرضها اتفاقًا يثبِّت الوقائع الجديدة على الأرض، كما أسفرت عنها المواجهات الأخيرة، على أن يتم إقرار ذلك خلال قمة تركية-روسية في الخامس من شهر مارس/آذار الجاري.
وكان التوتر بدأ يتصاعد في المنطقة في أعقاب الهجوم الذي بدأته قوات النظام السوري، بدعم جوي روسي، في شهر ديسمبر/كانون الأول 2019، وتمكنت خلاله من السيطرة على أنحاء واسعة من منطقة خفض التصعيد بما فيها بلدات معرة النعمان، وسراقب الاستراتيجيتين. كما نجح النظام في إبعاد قوات المعارضة عن أجزاء من ريف حلب الجنوبي والغربي ليسيطر بذلك كليًّا على طريق دمشق-حلب (إم 5) بحلول منتصف شهر فبراير/شباط 2020. وكانت أنظار النظام وحلفائه الروس، قبل التصعيد الأخير مع تركيا، تتجه نحو السيطرة على بلدات أريحا وجسر الشغور في ريف إدلب الجنوبي والغربي، بما يمكِّنه من تحقيق ثاني أهداف حملته العسكرية على إدلب والمتمثلة في السيطرة على طريق (إم 4) الذي يربط اللاذقية بحلب. ولم تفلح الحشود العسكرية التي دفعت بها تركيا إلى منطقة خفض التصعيد، والتهديدات التي أطلقها الرئيس التركي أردوغان، بما فيها إعطاء مهلة للنظام تنتهي آخر فبراير/شباط 2020 للالتزام باتفاق سوتشي، في وقف اندفاع قوات النظام أو وقف القصف الجوي الروسي الذي أدى إلى تشريد نحو مليون سوري منذ مطلع العام حتى الآن.
ما الأسباب التي حَدَتْ بروسيا والنظام السوري إلى إطلاق العملية العسكرية في إدلب في هذا الوقت بالذات؟ وما الأهداف التي يسعيان إلى تحقيقها؟ ما الخيارات التي تملكها تركيا في مواجهتها في ضوء الإشارات المتضاربة التي تصلها من حلفائها في الناتو، خاصة واشنطن؟
مناطق خفض التصعيد
منذ تدخلها العسكري في سوريا في شهر سبتمبر/أيلول 2015، لم تُخْفِ روسيا هدفها الرئيس المتمثل ليس فقط في تثبيت نظام الرئيس، بشار الأسد، بل أيضًا في استعادة سيطرته على كل الأراضي السورية. وقد استخدمت روسيا لتحقيق هذه الأهداف جملة من الاستراتيجيات والتكتيكات، منها إنشاء ما أطلقت عليه اسم "مناطق خفض التصعيد".
ظهرت فكرة إنشاء مناطق خفض التصعيد بعد التقارب التركي-الروسي الذي جاء إثر المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا، في يوليو/تموز 2016، حيث سارعت روسيا إلى إعلان دعمها الرئيس أردوغان في الوقت الذي تأخرت فيه الردود الغربية والأميركية في إدانة المحاولة الانقلابية. وقد سمح ذلك بطي صفحة الخلاف التركي-الروسي في سوريا، والذي بلغ ذروته بعد إسقاط تركيا طائرة حربية روسية على الحدود مع سوريا في نوفمبر/تشرين الثاني 2015.
بدأت التفاهمات الروسية-التركية تتمظهر عندما وافقت روسيا، في أغسطس/آب 2016، على عملية "درع الفرات"، حيث اجتازت القوات التركية وحلفاؤها في فصائل المعارضة السورية الحدود وقامت بإنشاء منطقة خالية من عناصر تنظيم الدولة (داعش) وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) -التي تمثل وحدات حماية الشعب الكردية المكوِّن الرئيس لها - في المنطقة الواقعة بين جرابلس-الباب-أعزاز بمساحة تصل إلى 2000 كم مربع. كما توصلت تركيا وروسيا إلى اتفاق، في ديسمبر/كانون الأول 2016، ينص على وقف إطلاق النار، وانسحاب فصائل المعارضة السورية من مناطق شرق حلب. وقد مهَّد هذا الاتفاق لإطلاق مسار أستانا الذي ضمَّ روسيا وتركيا وإيران وأسفر، في مايو/أيار 2017، عن إنشاء أربع مناطق لخفض التصعيد في الجنوب (درعا والقنيطرة) وغوطة دمشق، وشمال حمص، وإدلب. خلال العام 2018، قامت روسيا بتصفية المناطق الثلاث الأولى، الواحدة تلو الأخرى، بدءًا بغوطة دمشق، ثم درعا وشمال حمص. وقد تمكنت تركيا من إنقاذ المنطقة الأخيرة في إدلب بعد التوصل إلى اتفاق سوتشي مع روسيا، في سبتمبر/أيلول 2018.
اتفاق سوتشي الأول
بعد عشرة أيام من قمة ثلاثية فاشلة عُقدت في طهران، مطلع سبتمبر/أيلول 2018، لمناقشة مستقبل إدلب، التي تحولت إلى منطقة تجمُّع لفصائل المعارضة التي أُجبرت على الخروج من مناطق خفض التصعيد الأخرى، توصلت روسيا وتركيا إلى اتفاق ثنائي في سوتشي وافق فيه الطرفان على الحفاظ على منطقة خفض التصعيد الأخيرة التي باتت تؤوي أيضًا أكثر من ثلاثة ملايين سوري، نصفهم نازحون. نصَّ اتفاق سوتشي على وقف إطلاق النار في إدلب، وإقامة منطقة منزوعة السلاح بعمق يتراوح بين 15-20 كم، وفصل المتطرفين في فصائل المعارضة (خصوصًا هيئة تحرير الشام-النصرة سابقًا) عن المعتدلين، وفتح الطرق الدولية بين حماة-حلب واللاذقية-حلب.
وافقت روسيا على احترام منطقة خفض التصعيد في إدلب لاستمرار حاجتها إلى الدور التركي في تعزيز مسار أستانا والضغط على فصائل المعارضة، المسلحة خاصة، للمشاركة فيه، بما يؤدي في نهاية المطاف إلى تكريسه على حساب مسار جنيف الذي نصَّ على انتقال سياسي للسلطة في سوريا. من جهة ثانية، سعت روسيا إلى توسيع الشرخ في العلاقة بين أنقرة وواشنطن، والذي بدأ نتيجة اختيار الأخيرة دعم وتسليح قوات قسد في مواجهة تنظيم الدولة. وكان هذا أحد الأسباب التي حدت بروسيا إلى الموافقة أيضًا على قيام تركيا بإطلاق عملية "غصن الزيتون" لإخراج مسلحي وحدات حماية الشعب الكردية من منطقة عفرين، مطلع عام 2018. إضافة إلى ذلك كله، كان من المهم بالنسبة إلى موسكو أن تكسب تركيا إلى جانبها لزيادة الضغط على الرئيس ترامب للانسحاب من مناطق شرق الفرات بعد انتهاء الحرب على تنظيم الدولة، واستعادة النظام السيطرة عليها.
ورغم أن تركيا نجحت في إنشاء المنطقة منزوعة السلاح، التي نص عليها اتفاق سوتشي، وإقامة نقاط مراقبة (عددها 12) لضمان تطبيق الاتفاق، إلا أن قدرتها على التأثير في "هيئة تحرير الشام" بدت محدودة، واتضح ذلك بشكل أكبر عندما شنَّت الهيئة هجومًا شاملًا سيطرت خلاله على معظم محافظة إدلب أواخر العام 2018. من جهة أخرى، استمرت خروقات الروس والنظام للاتفاق؛ إذ كانت الهجمات تتجدد على إدلب كلما اقترب الأتراك والأميركيون من التوصل لاتفاق على إنشاء منطقة آمنة في مناطق شرق الفرات، وذلك بقصد إشغال فصائل المعارضة في إدلب ومنع نقل قوات منها إلى شرق الفرات.
بعد فشل جولة أستانا (12)، أواخر أبريل/نيسان 2019، بدأت قوات النظام هجومًا كبيرًا في إدلب بحجة عدم التزام تركيا باتفاق سوتشي. ورغم المقاومة الشديدة، تمكنت قوات النظام من السيطرة على بلدات استراتيجية على طريق حماة-حلب أهمها قلعة المضيق ومورك، وخان شيخون. لكن موسكو عادت ووافقت، في أغسطس/آب، على وقف إطلاق النار تمهيدًا للجولة 13 من أستانا. وفي سبتمبر/أيلول التالي، أعربت قمة أنقرة الثلاثية (روسيا-تركيا-إيران) عن تفهمها للمخاوف الأمنية التركية في مناطق شرق الفرات في ظل ضغوطات الرئيس أردوغان لسحب القوات الأميركية من شرق الفرات وتهديداته بشنِّ عملية عسكرية كبيرة لإبعاد قوات (قسد) عن الحدود مع سوريا. كما أكدت القمة على احترام هدنة أغسطس/آب، والاتفاق على تفاصيل إنشاء اللجنة الدستورية التي انبثقت عن مؤتمر سوتشي في يناير/كانون الثاني 2018، بعد أكثر من 18 شهرًا من المفاوضات والمشاورات.
عملية نبع السلام
كانت تركيا تتشارك مع روسيا توجسها من نوايا بعض أركان إدارة الرئيس ترامب الاحتفاظ بوجود عسكري أميركي شرق سوريا بعد هزيمة تنظيم الدولة. لذلك، أخذت تركز على ترامب لإقناعه بتغيير هذه السياسة وفتح الطريق أمام إنشاء منطقة آمنة في شمال شرق سوريا. في أكتوبر/تشرين الأول 2019، نجح الرئيس أردوغان، خلال مكالمة هاتفية، في إقناع الرئيس ترامب بالانسحاب من أجزاء واسعة من المناطق الحدودية مع سورية إلى الشرق من نهر الفرات، رغم معارضة البنتاغون. وقد سمح هذا الأمر لتركيا بتنفيذ عمليتها العسكرية الثالثة داخل الأراضي السورية تحت اسم "نبع السلام" والسيطرة على شريط حدودي بطول 110 كم وعمق 30 كم بين مدينتي رأس العين وتل أبيض. استفادت روسيا من الوضع الجديد وعرضت على تركيا اتفاقًا، جرى التوصل إليه في سوتشي خلال زيارة للرئيس أردوغان، في 22 أكتوبر/تشرين الأول 2019. بموجب الاتفاق، تعهدت موسكو بالضغط على قوات (قسد)، التي بات لها تأثير أكبر عليها الآن، بعد أن بدا وكأن الأميركيين تخلوا عنها، للانسحاب من كامل الشريط الحدودي السوري-التركي الواقع شرق الفرات (440كم) وبعمق 32 كم داخل الأراضي السورية خلال 150 ساعة من توقيع الاتفاق، وتم تسيير دوريات مشتركة روسية-تركية لضمان التنفيذ. أرادت روسيا من هذا الاتفاق منع تركيا من إنشاء "منطقة آمنة" فيما تبقى من الشريط الحدودي، وتعزيز مواقعها شرق الفرات على حساب الأتراك والأميركيين والأكراد. تضمن اتفاق سوتشي الثاني أيضًا إحياء اتفاق أضنة الحدودي بين سوريا وتركيا. وكانت دمشق وأنقرة توصلتا إلى اتفاق أضنة بعد أزمة خريف العام 1998، عندما ضغطت تركيا على سوريا لإبعاد زعيم حزب العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان، ووقف دعمها له. يسمح الاتفاق لتركيا بالتوغل إلى مسافات تصل إلى 5 كم في عمق الأراضي السورية لملاحقة عناصر حزب العمال بالتنسيق مع السلطات السورية.
أدت الضغوط التي مارسها الكونغرس الأميركي من الحزبين واعتراضات داخل البنتاغون على ما بدا وكأنه تخلي واشنطن عن الحلفاء الأكراد الذين قاتلوا إلى جانب الجيش الأميركي ضد تنظيم الدولة إلى وقف عملية انسحاب شامل من شرق سوريا؛ حيث أعلن الرئيس ترامب أنه سيحتفظ ببضع مئات من قواته لحماية آبار النفط ومنع تنظيم الدولة أو النظام السوري من الاستفادة منها. بالنتيجة، ارتسمت لروسيا حدود الاستفادة من الدور التركي في تحقيق انسحاب أميركي كامل من سوريا، خاصة بعد أن حققت أنقرة هدفها الرئيس في إبعاد قوات (قسد) عن حدودها، ومنع حصول تواصل جغرافي بين مناطق الكثافة الكردية في الشمال السوري. هذا الأمر دفع موسكو إلى إعادة التركيز على إدلب، لتنطلق بذلك العملية العسكرية الأخيرة التي بدأت في ديسمبر/كانون الأول 2019.
عقدة سراقب
هددت العملية العسكرية التي بدأها النظام وروسيا، في ديسمبر/كانون الأول 2019، تحكم تركيا في المناطق المحاذية لحدودها الجنوبية، كما أثارت مخاوفها حول مصير أكثر من 3 ملايين سوري اندفع جزء كبير منهم بسبب القصف الجوي الروسي نحو الحدود التركية. فوق ذلك، أدى سقوط 13 جنديًّا تركيًّا في قصف لقوات النظام على نقاط المراقبة التركية في إدلب، في 11 فبراير/شباط 2020، إلى تصاعد الضغوط الداخلية على الرئيس أردوغان للرد. في مواجهة هذا الوضع المعقد، أرسلت أنقرة تعزيزات شملت آلاف الجنود ومئات الآليات العسكرية لتعزيز نقاط المراقبة القائمة وفق اتفاق سوتشي الأول وإنشاء أخرى. وفي حين ساندت المدفعية التركية هجمات معاكسة شنَّتها فصائل معارضة لوقف تقدم النظام في بعض المناطق، هددت أنقرة بإطلاق عملية عسكرية واسعة لإنشاء منطقة آمنة في إدلب لحماية ملايين اللاجئين وأمهلت النظام حتى نهاية فبراير/شباط 2020 للانسحاب إلى ما وراء نقاط المراقبة التركية التي حاصرها. وقد دفع عدم تجاوب النظام السوري مع تركيا إلى وضع ثقلها وراء هجوم شنَّته فصائل المعارضة لاستعادة مدينة سراقب الاستراتيجية وهو ما حصل يوم 27 فبراير/شباط الماضي (2020)، وتم خلاله وقف زخم اندفاع النظام في مناطق المعارضة.
تمثل سراقب عقدة رئيسية على الطريقين إم 5 وإم 4، وأدت استعادة السيطرة عليها من قبل فصائل المعارضة إلى تبديد كل الجهود التي بذلها النظام وحلفاؤه الروس على مدى شهور لاستعادة السيطرة على هذين الطريقين. ويدل قرار استهداف القوات التركية وقتل 33 جنديًّا في محيط المدينة إلى مدى الإحباط الذي تسببت به خسارة سراقب بالنسبة للنظام وروسيا إلى درجة المخاطرة بدخول مواجهة كبيرة مع تركيا؛ اذ قامت تركيا برد عسكري واسع استهدف عشرات المواقع العسكرية للنظام وحلفائه، كما قرر الرئيس أردوغان وقف العمل باتفاقية 2016 التي وقَّعتها تركيا مع الاتحاد الأوروبي وفتح الحدود أمام اللاجئين السوريين المتجهين إلى أوروبا، متهمًا هذه الأخيرة بالعجز عن وقف الهجوم الروسي على إدلب، والذي دفع بمئات آلاف اللاجئين السوريين نحو الحدود التركية. فوق ذلك، طلبت تركيا عقد اجتماع لحلف شمال الأطلسي لمناقشة الهجوم الذي تعرضت له قواتها في إدلب بموجب المادة 4 من ميثاق الحلف التي تلجأ إليها دولة عضو إذا اعتبرت أن "سلامة ووحدة أراضيها واستقلالها السياسي والأمني" باتت مهدَّدة. كما طالبت تركيا المجتمع الدولي بفرض منطقة حظر جوي شمال غرب سوريا لمنع طيران النظام السوري وحليفه الروسي من شنِّ ضربات في منطقة خفض التصعيد. لكن مستوى تجاوب الحلفاء ظل دون مستوى التوقعات التركية. مع ذلك، قررت تركيا -مع انتهاء المهلة التي أعطتها للعودة إلى اتفاق سوتشي- إطلاق عملية "درع الربيع" مستهدفة طيران النظام فوق إدلب، في محاولة على ما يبدو لتغيير الوقائع على الأرض واستعادة بعض ما خسرته المعارضة قبل عقد القمة الروسية-التركية في الخامس من الشهر الجاري. لكن أي تحرك أبعد من ذلك سيظل معتمدًا إلى حدٍّ كبير على الموقف الأميركي، الذي وإن كان داعمًا لفظيًّا لتركيا، إلا أنه لم يُترجم خطوات عملية على الأرض، خاصة في ظل عدم حماسة البنتاغون للسياسة التركية في سوريا، وتأكيده على عدم وجود أي اتفاق مع تركيا حول قيام الولايات المتحدة بأية خطوات إضافية في إدلب، علمًا بأن تركيا لم تتلق حتى الآن ردًّا أميركيًّا للحصول على صواريخ باتريوت لنصبها في إدلب وفرض منطقة حظر طيران.
خيارات أنقرة
في ظل موقف أميركي غير حاسم، وإصرار روسي على تثبيت المكاسب التي حققها النظام خلال الشهور الثلاثة الماضية في إدلب، تبدو تركيا وهي تتجه إلى عقد قمة جديدة مع روسيا هذا الأسبوع أمام ثلاثة خيارات رئيسة، هي:
أولًا: أن ينجح أردوغان في إقناع بوتين بالعودة إلى العمل باتفاق سوتشي لعام 2018، وبما يضمن انسحاب قوات نظام الأسد إلى ما وراء نقاط المراقبة التركية، بالتوازي مع إحياء المسار السياسي عبر استئناف اجتماعات اللجنة الدستورية المكلفة بتعديل الدستور، والتي تعثرت في نهاية عام 2019. ولدعم هذا التوجه، تقوم أنقرة بتحسين شروط التفاوض على الأرض من خلال توفير كل أشكال الدعم لفصائل المعارضة لدفع النظام إلى الخروج من بعض المناطق الاستراتيجية التي سيطر عليها، كما حصل في سراقب. كما تضغط تركيا للحصول على دعم أوروبي لموقفها أمام موسكو واقترحت لذلك عقد قمة رباعية تضمها إلى فرنسا وألمانيا وروسيا. لكن هذا السيناريو يبقى ضعيفًا في ظل إصرار الروس والنظام عل التمسك بالأراضي التي سيطروا عليها.
ثانيًا: أن تفشل قمة بوتين-أردوغان، وتقرر تركيا إطلاق عملية عسكرية واسعة، بمساعدة فصائل المعارضة السورية، بهدف إنشاء منطقة آمنة في إدلب تكفل إعادة قوات النظام إلى ما وراء نقاط المراقبة التركية. لكن أي عملية عسكرية تركية واسعة سوف تحتاج إلى دعم أميركي بسبب الحاجة إلى غطاء جوي؛ إذ تفتقد تركيا حاليًّا القدرة على الدخول في المجال الجوي السوري لمساندة أية عملية برية، كما أنها لا تمتلك منظومات دفاعية جوية كافية لتأمين غطاء لقواتها في المنطقة، وما زالت تنتظر ردًّا أميركيًّا على طلباتها نشر منظومة صواريخ باتريوت تمكِّنها من التصدي للأهداف الجوية وتؤمِّن تحليق طيرانها الحربي في أجواء العمليات. لكن احتمالات هذا السيناريو تبقى ضعيفة أيضًا، حتى الآن. وتخشى تركيا أن تتورط في مواجهة عسكرية مباشرة مع روسيا في سوريا دون الحصول على دعم كاف من حلفائها في الناتو، خاصة أن المادة الخامسة من ميثاق الحلف تنص على قيام الحلف بالدفاع عن أحد أعضائه إذا تعرضت أراضي هذا العضو للخطر، وهو ما لا ينطبق على الوضع في إدلب. ويرجَّح أيضًا لأسباب اقتصادية ألا تغامر تركيا بمواجهة شاملة مع موسكو التي يزيد حجم التبادل التجاري معها عن 25 مليار دولار سنويًّا، وتزوِّد تركيا بنحو 60 بالمئة من احتياجاتها من الطاقة. كما أن مثل هذه المواجهة تأتي في ظروف إقليمية ودولية غير مريحة بالنسبة لتركيا؛ حيث تتضافر جهود دول عديدة لتحجيم الدور التركي بما فيها اليونان، وإسرائيل، ومصر، وقبرص اليونانية، التي أنشأت منتدى غاز شرق المتوسط مطلع عام 2019 لعزل تركيا ومنعها من الحصول على نصيب من ثروات المنطقة من النفط والغاز، فضلًا عن تصاعد محاولات الإمارات والسعودية لاحتواء تركيا بالتنسيق مع موسكو وباريس، كل لأسبابه.
ثالثًا: وهو الأرجح، أن تسفر القمة المقبلة بين أردوغان وبوتين عن التوصل إلى اتفاق جديد يراعي المستجدات على الأرض، وهو أمر ليس سيئًا بالنسبة إلى تركيا، خاصة بعد أن استعادت فصائل المعارضة سراقب من أيدي قوات النظام وكسرت زخم تمددها في إدلب. وقد تتوافق تركيا مع روسيا على إنشاء منطقة آمنة تتماشى مع اتفاق أضنة لعام 1998 لاستيعاب اللاجئين. ويتراوح عمق المنطقة التي يقترحها الروس من الحدود التركية إلى الداخل السوري ما بين 5-35 كم. وهناك مقترح روسي مكمل جرى تطويره عقب المواجهة الأخيرة في سراقب ويتضمن وقف إطلاق النار، وخفض التوتر في منطقة إدلب، وترك السيطرة للنظام السوري على الطريق من حلب حتى سراقب، فيما تكون السيطرة على بقية أقسام الطريقين، إم 5 وإم 4، في منطقة خفض التصعيد عبر دوريات مشتركة روسية-تركية ونقاط مراقبة تشرف على فتح الطريقين أمام كل الأطراف من النظام والمعارضة.