شبكات التواصل الاجتماعي والرقابة على المحتوى: فيسبوك وإشكالية الجمع بين التواصل الإعلامي وحرية التعبير

تقدم الورقة ملخصًا لدراسة موسعة نُشرت في العدد الخامس من مجلة لباب، الصادرة عن مركز الجزيرة للدراسات، وتتساءل عن إمكانية استمرار شبكات التواصل الاجتماعي في توفير فضاء رحب لممارسة حرية التعبير في ظل نزوع الحكومات للهيمنة على المحتوى الإعلامي.
(الأناضول)
الرقابة التي تقوم بها شبكات التواصل الاجتماعي أقرب للرقابة الخارجية التي تمارسها الأجهزة المختصة في الدول التي تضيِّق على حرية التعبير (الأناضول)

تراجع الدراسة التحوُّل في وظيفة بعض شبكات التواصل الاجتماعي، خلال عقد من الزمان، من التركيز على التواصل الاجتماعي الذي يهدف إلى الربط الشبكي بين ملايين الأفراد الذين تجمع بينهم صداقات ومعارف وزمالة مهنة، إلى التواصل الإعلامي الذي يتم فيه تداول محتوى إعلامي تمَّ إعداده من طرف محترفين أو هواة. وقد أدى هذا التحوُّل إلى ظهور تساؤلات حول مدى استعداد هذه الشبكات لتحمُّل تبعات النشر الإعلامي التي أرستها وسائل الإعلام التقليدية عبر السنين لتجعل منها ركيزة معرفية رئيسة لا غنى للمجتمعات الحديثة عنها. ومن أبرز هذه التبعات، حرية التعبير التي تسمح بتداول المعرفة بما يتضمنه هذا التداول من تضارب في المصالح ومخاطر أخرى قد تحيله إلى تعدٍّ على حقوق الآخرين.

إن التواصل الإعلامي هو أكثر أنواع التواصل الإنساني جدلًا وخطورة من حيث تأثيره وأهميته وارتباطه ببنية المجتمعات وما تشتمل عليه من مكونات قد تفتقر إلى التناغم مثل الحكومات والمؤسسات غير الحكومية وقطاعات الشعب المختلفة والعلاقات الدولية. وهذا ما يفسر بقاء نشر المحتوى الإعلامي متركزًا في أيدي فئة محددة تتحكَّم فيه وفقًا لحسابات دقيقة تسمح بالاستمرارية على الرغم من كثرة المخاطر. وعندما فتحت ثورة الإنترنت الأبواب واسعة أمام كافة الناس لكي يتواصلوا فيما بينهم متجاوزين حدود المكان والزمان، ومكَّنتهم خدماتها ومبتكراتها من فكِّ احتكار الممارسة الإعلامية، ظهر العديد من الإشكالات المهنية والأخلاقية التي لم تكن في الحسبان، مثل: الحاجة للرقابة على المحتوى في ظل التدفق الهائل وغير المسبوق للرسائل التواصلية، وسهولة التحريف والتزوير وصناعة المحتوى الكاذب، وصعوبة الجمع بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة بإتاحة حرية التعبير والحد منها في الوقت ذاته بكيفية انتقائية أو متحيِّزة.

لقد تصدَّر فيسبوك شبكات التواصل الاجتماعي باعتباره أكبر فضاءات الويب التي تضم مليارات من الناس المتواصلين فيما بينهم في شكل شبكات من الأصدقاء وأصحاب المصالح المشتركة، الذين ينشرون المعرفة ويتداولونها بكافة أنواع الوسائط التواصلية (النص والصورة والصوت والفيديو...) وفي كافة مستويات التواصل الإنساني (بدءًا بالذاتي وصولًا إلى الثقافي). بدأ فيسبوك كموقع ويب يقدم خدمة التعريف بالذات ومن ثم التعارف بين الأصدقاء، وأصبح رويدًا رويدًا يسمح بإدراج الوسائط والمحتوى الإعلامي، إلى أن تحوَّل إلى منصة إعلامية كاملة الصلاحيات من حيث إنتاج المحتوى الإعلامي ونشره على نطاق عالمي بكافة أنواع الوسائط. وهذا ما ألقى على عاتق إدارة هذا الموقع-الشبكة مسؤولية عظمى في حمايته وتحمُّل التبعات الأخلاقية والقانونية الناجمة عن النشر وما يصحبه من تجاوزات لأكثر من ملياري ناشر متزامن. 

كل ذلك دفع إدارة فيسبوك، وغيره من مواقع التواصل الاجتماعي، إلى مراقبة المحتوى المنشور انطلاقًا من شروط النشر المحددة سلفًا، أو من الضغوط التي تمارسها حكومات الدول في إطار الحد من قدرة معارضيها على ممارسة التواصل الإعلامي بطريقة سهلة ومؤثرة يصعب مراقبتها والتحكم فيها، بحكم الطبيعة العالمية للنشر عبر شبكة الويب.

 وهنا، تكمن إشكالية هذا البحث في معضلة الجمع بين حرية التعبير التي تشكِّل قِوام التواصل الإعلامي الاحترافي، باعتبار أن وسائل الإعلام التقليدية الاحترافية قد تحسن استغلال هذه الحرية في البيئات الملائمة (الديمقراطية) بمصاحبة أخلاقيات المهنة، والاضطرار لمراقبة المحتوى الذي لا يخضع لانتقائية العمل الإعلامي التقليدي، مثلما يحدث عند شبكات التواصل الاجتماعي. وتتعمق الإشكالية عندما تأتي الرقابة من الضغوط الخارجية التي تمارسها بعض الحكومات على شبكات التواصل الاجتماعي، والتي تعتبر كل محتوى معارض لها يشكِّل إساءة لاستخدام حرية التعبير، بغضِّ النظر عن الأسس العادلة التي يستند إليها هذا المحتوى؛ الأمر الذي يجعل شبكات التواصل الاجتماعي تبدو في نظر الكثيرين منحرفة عن المبادئ الفلسفية التي قامت عليها، وفي مقدمتها تمكين الجماهير من ممارسة حرية التعبير من خلال فكِّ الاحتكار الذي ظلت تمارسه وسائل الإعلام التقليدية طيلة قرون مضت، قبل ظهور شبكة الويب وانتشارها في تسعينات القرن الماضي.

وتتجلى هذه الإشكالية في المثال الصارخ الذي تُقدِّمه شبكة فيسبوك من خلال اضطرارها للقيام بالمراقبة بصفة دائمة للتخلص من المحتوى غير الملتزم بسياسة النشر التي وضعتها الشبكة، والاستجابة لشكاوى أعضاء الشبكة، وشكاوى الحكومات التي تثير جدلًا حول مدى انطلاقها من انتهاكات حرية التعبير أو من تعارضها مع سياسات تلك الحكومات وممارساتها.

وفي هذا السياق، تطرح الدراسة سؤالًا إشكاليًّا: إلى أي مدى تستطيع شبكة فيسبوك، وغيرها من شبكات التواصل الاجتماعي، الاستمرار في توفير فضاء رحب لممارسة حرية التعبير من خلال نشر المحتوى الإعلامي، في ظل نزوع الحكومات للهيمنة على المحتوى الإعلامي الذي ترى فيه تهديدًا وجوديًّا يقتضي الضغط على هذه الشبكات من أجل سلبها قدراتها التواصلية التي جعلت منها أكبر الوسائل التواصلية والإعلامية على مرِّ التاريخ؟

ونظرًا لأن تحوُّل شبكات التواصل الاجتماعي من كونها مجرد فضاء تواصلي يلتقي عبره المتواصلون قصد التعبير عن طبيعتهم الاجتماعية، إلى النهوض بأدوار المنصات التي تُمكِّن روادها من ممارسة التواصل الإعلامي، ولَّد مجموعة من الإشكالات المتعلقة بممارسة مهنة الإعلام، اعتمد البحث على المنهج النوعي التفسيري في النظر في هذه الإشكالات وما نتج عنها من جدال واحتجاجات على المسِّ بحرية التعبير وبروز التحيُّزات السياسية.

ويقوم المنهج النوعي التفسيري على الفهم الذاتي للحقيقة، والاختلافات الجوهرية التي تجعل الظواهر متفردة ويصعب تعميمها. كما يعتمد على دور الباحث في تشكيل الحقيقة وقياسها، حيث يتطور البحث ويتعدَّل أثناء العملية البحثية؛ الأمر الذي قد يفضي إلى خلاصات نظرية هي نتاج التعمق في التحقيق والتفسير. وغالبًا ما يُنتج البحث النوعي كلمات وأفكارًا، مقارنة بالبحث الكمي الذي قد ينتج أرقامًا ومعلومات.

ويستخدم المنهج النوعي طرائق متعددة لمقاربة الإشكاليات أبرزها الاستقراء التحليلي، والنظرية المؤسِّسة، وتحليل الخطاب، والتفكيك، وتحليل المحادثة، والتحليل المسرحي، والتحليل التأويلي، والتحليل ما بعد الحداثي، والتحليل السردي، والتحليل السيميولوجي، والتحليل البنيوي، والتحليل ما بعد البنيوي. وهناك من يورد 27 طريقة تشترك في انتمائها للتفسير والتأويل.

وهكذا، سعى البحث لتبيان الإشكالية التي وقعت فيها شبكات التواصل الاجتماعي، من خلال التركيز على تجربة شبكة فيسبوك، والمتمثلة في اللجوء لرقابة المحتوى الإعلامي الذي ينشره مستخدمو هذه الشبكة، وما ينتج عن هذا النشر من ضغوط سياسية واقتصادية تضع هذه الشبكات بين مطرقة وسندان من يسعون للتمتع بحرية التعبير التي تكفلها المواثيق الدولية وبشَّرت بها ثورة الإنترنت، ومن يسعون للتضييق على حرية المعارضين السياسيين.

وعلى الرغم من أن البحث ركز على الربط بين السياقات التي تشتغل فيها شبكات التواصل الاجتماعي وتحليل أمثلة من شبكة فيسبوك، إلا أنه لم يغفل بعض الحالات التي تعزز ما ورد في إشكالية البحث لتبيان أن الأمر قد لا يقتصر على فيسبوك بل هو أقرب إلى الظاهرة التي تعمُّ شبكات تواصل اجتماعي أخرى.

وهدف التحليل النوعي للمعطيات المتوفرة للباحث إلى تحديد الملامح العامة لظاهرة الممارسات الإعلامية عبر شبكات التواصل الاجتماعي وما يرتبط بها من ظواهر جديدة على الوسط الإعلامي مثل تزييف الأخبار ودور التكنولوجيا الرقمية الشعبية في التماهي بين الخبر والإشاعة وبين الصحافي المحترف والصحافي المواطن. أي إن التحليل لا يتعاطى مع العينات المدروسة كحالات مخصوصة ومنعزلة، بل كمؤشرات دالَّة على توجهات أشمل تتداخل فيها عوامل كثيرة. وكان الخيط الناظم للتحليل، هو الرقابة على المحتوى والتي تتمظهر بكيفية مباشرة وغير مباشرة من خلال سماتها التي عُرفت في الإعلام التقليدي، وسمات جديدة أتت بها الثورة الرقمية وخوارزمياتها المستندة إلى الذكاء الاصطناعي.

ومن أهم الخلاصات التي توصل إليها الباحث أن هناك خصوصية للتواصل الإعلامي عبر شبكات التواصل الاجتماعي مقارنة بما تمارسه وسائل الإعلام التقليدية منها والجديدة. فبينما يقوم مستخدمو شبكات التواصل الاجتماعي بدور الناشر الرئيس للمحتوى، تقوم هيئات التحرير في المؤسسات الإعلامية بهذا الدور. وهكذا تجد إدارات شبكات التواصل الاجتماعي نفسها في منزلة حرجة بين المستخدمين الذين يسعون لممارسة حريتهم الكاملة في التعبير (الأمر الذي يساعد على نمو أعدادهم)، والسلطات (الحكومية والتابعة للمجتمع المدني) التي تنظر إلى ممارسة حرية التعبير من لدن جمهور عالمي غفير كمهدد وجودي يجب التحكُّم فيه وإلا تعرضت شبكات التواصل الاجتماعي للعقاب بالحرمان من العمل والانتشار في الحيز الجغرافي الذي يخضع للسيادة.

كما أن الممارسة السليمة للتواصل الإعلامي تقتضي الإيمان برؤية الإعلام ورسالته وأهدافه؛ والاستعداد لتبني أخلاقيات المهنة، الأمر الذي قد يتعارض مع التوجهات التجارية الربحية السريعة التي أصبحت السمة الغالبة لاقتصاديات شبكات التواصل الاجتماعي.

ولاحظت الدراسة أن الرقابة التي تقوم بها شبكات التواصل الاجتماعي، هي أقرب للرقابة الخارجية التي تمارسها الأجهزة المختصة في الدول التي تضيِّق على حرية التعبير، منها إلى الرقابة الذاتية التي تمارسها وسائل الإعلام عند تعاطيها مع المحتوى الخام. فالرقابة الذاتية التي يمارسها الإعلاميون تأتي كنتاج للإلمام بمكونات الصالح العام وكافة تجلياته الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، ضمن نطاق قُطري بالدرجة الأولى، خلافًا لطبيعة التواصل عبر شبكات التواصل الاجتماعي التي يصبح فيها البُعد الجغرافي القُطري باهتًا.

للاطلاع على النص الكامل للدراسة (اضغط هنا) وللاطلاع على عدد المجلة كاملًا (اضغط هنا)

ABOUT THE AUTHOR