عرض للمساعدة أم حرب نفسية؟: العلاقات الإيرانية-الأميركية على وقع دبلوماسية "فايروس كورونا"

هل يحمل العرض الأميركي بمساعدة إيران على مواجهة "وباء كورونا" خروجًا عن مسار السياسة الأميركية تجاه إيران والذي يقوم على المواجهة- العقوبات- الإضعاف المستمر والتدريجي- الاستسلام- تغيير النظام؟ تناقش هذه الورقة الرسائل المتبادلة بين الطرفين مؤخرًا، وكيف تقرأ الساحة الإيرانية هذه الرسائل.
16 March 2020
الجزيرة نت
العقوبات الأميركية المفروضة أثرت بصورة كبيرة على قدرة إيران في مواجهة الوباء (الجزيرة نت نقلا عن الصحافة الإيرانية)

على الرغم من أن المقترح الأميركي بتقديم المساعدة لإيران لمواجه فايروس كورونا قد اتخذ عنوانًا إنسانيًّا، وهو ما يبدو في ظاهره مقترحًا إيجابيًّا، قد يفتح صفحة جديدة للعلاقات، إلا أن هذا المقترح جاء محمَّلًا برسائل سياسية مباشرة لدرجة تجعل من الصعب على إيران أن تقبل به، وتشي بأن هذا العرض لم يخرج عن مسار السياسة الأميركية تجاه إيران والذي يقوم على المواجهة- العقوبات- الإضعاف المستمر والتدريجي- الاستسلام- تغيير النظام. تبحث هذه الورقة في تطورات العلاقات الإيرانية-الأميركية مؤخرًا وتناقش الرسائل المتبادلة بين الطرفين، وكيف تقرأ الساحة الإيرانية هذه الرسائل.

ضربات مدروسة تحت غطاء مدِّ يد المساعدة
لعل الصيغة التي استخدمها وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، وهو يقترح مساعدة إيران خلال اجتماع في الكونغرس، دليل واضح على فصل جديد من استراتيجية المواجهة مع إيران، والتي تقوم بصورة أساسية على إفقاد النظام شرعيته أمام مواطنيه، وإظهاره بمظهر العاجز والمعزول. فقد جاء المقترح ممزوجًا باتهامات للنظام في إيران بإخفاء المعلومات وعجز القطاع الصحي فيه عن مواجهة المرض، في تجاهل كامل لتأثير عقود من العقوبات الأميركي حيث لم يبق قطاع الأدوية والخدمات الصحية بعيدًا عنها. كما قدَّم بريان هوك، المبعوث الأميركي الخاص للشؤون الإيرانية، اقتراحًا مشابهًا، قائلًا: إن الولايات المتحدة تقوم بتقييم طرق لمساعدة "الشعب الإيراني"، مع التأكيد على أن الحكومة الإيرانية مسؤولة بشكل أساسي عن تفشي المرض. 

وهذه الصيغ في عرض المساعدة رفضتها إيران من خلال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، عباس موسوي، الذي وصف المقترحات الأميركية بأنها "لعبة سياسية نفسية تثير السخرية" مذكِّرًا بأن العقوبات الأميركية في حدِّ ذاتها عقبة رئيسية في طريق شراء المعدات الطبية والصيدلانية وهو ما يشمل المعدات اللازمة لاختبار كورونا التي تحتاجها إيران بصورة ملحَّة، ولم تسمح الولايات المتحدة لإيران باستخدام حساباتها المجمدة لاستيراد المعدات الطبية اللازمة عبر قناة إنسانية سويسرية تم تشغيلها في فبراير/شباط 2020.

دعوات للقبول..دعوات للحوار
كانت ردود الفعل الرسمية وكذلك ردود الفعل الصادرة عن أحزاب وتجمعات سياسية رافضة في المجمل للعرض الأميركي، لكن ومن ثنايا الشكوى من انتشار الفيروس ونقص الإمدادات واللوازم الطبية خرجت دعوات تحث الحكومة الإيرانية على القبول بالعرض الأميركي، ومن ذلك مقال للكاتب الإيراني، جعفر غلابي، نشرته صحيفة "آرمان ملي" وحمل عنوان: لنقبل المساعدة، انتقد فيه الرفض الإيراني ودعا إلى قبول العرض الأميركي بالمساعدة في مكافحة تفشي الفيروس، مذكِّرًا بتجربة سابقة ذات طبيعة إنسانية عندما حدث زلزال بم، في 2003، في السنة الأخيرة من حكم محمد خاتمي، حيث تم قبول العرض الأميركي بإقامة مشفى ميداني صحراوي في المنطقة المنكوبة، وبادر محمد خاتمي إلى قبول المساعدة من 44 دولة ومن بينها الولايات المتحدة الأميركية بدل ترديد الشعارات وهو ما أدى إلى إعلان واشنطن بأنها ستخفض العقوبات عن إيران. وترى هذه الأصوات أن قبول مساعدات الدول الأخرى في مثل هذه الظروف ليس ضعفًا، وأنه يجب وضع الشعارات جانبًا وقبول العرض الأميركي تمهيدًا لمطالبة واشنطن برفع عقوباتها عن استيراد إيران المستلزمات الطبية، وفتح قناة للمبادلات المالية من أجل شراء الاحتياجات للتصدي لفيروس كورونا الجديد(1)

ورغم أن أصحاب هذا الرأي يضعون في اعتبارهم أن يعمد الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إلى تحقير بلادهم عند قبولها المساعدة، فإنهم يرون أن حكومة روحاني "تقع اليوم أمام اختبار مهم بقبول عرض المساعدة أو مواصلة الشعارات"، فالعرض من وجهة نظر المرحِّبين به فرصة لسحب الذريعة من الرئيس الأميركي الذي يدعي أنه ينوي مساعدة الشعب الإيراني حيث تتقدم قيمة الحياة على غيرها من الشعارات.

ظاهريًّا، تبدو نقاط النقد السابقة جوهرية فالحاجة الإيرانية للمستلزمات الطبية متعاظمة، لكن القناة الإنسانية المقترحة في الواقع ترزح تحت السيطرة الأميركية ويجري توظيفها سياسيًّا في إدارة الصراع مع إيران؛ حيث تسيطر إدارة ترامب على القناة الإنسانية السويسرية، والأمر متروك لها لتحديد ماذا ومتى ستصل السلع الإنسانية إلى إيران. ولذلك، فهذه القناة ليست آلية محايدة للتجارة ذات الأهداف الإنسانية، بل هي أداة لتجيير الرأي العام ضمن الضغط الذي تفرضه العقوبات الأميركية على إيران. 

ورغم دعوات الحوار، تركز الاستراتيجية المتعلقة بإيران، والتي تنفذها إدارة ترامب مؤخرًا، على الاتصالات الاستراتيجية والرسائل السياسية وتستخدم مصطلحات "التعاطف مع الشعب الإيراني"، وهو ما يكثر استخدامه في تغريدات ترامب بالفارسية أو حضور بومبيو المكثف في شبكات التليفزيون الناطقة بالفارسية في لندن ودول أخرى والممولة في عدد منها من قبل دول إقليمية معادية لإيران؛ مما يجعل هذه "العروض الإنسانية" أداة لتعزيز وتقوية الحرب الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية ضد إيران بحرب نفسية منظمة لإثارة الاضطرابات الشعبية وزيادة الضغط المحلي على الجمهورية الإسلامية.

عرض للمساعدة أم حرب نفسية؟
في الإجابة عن هذه القضية نعود إلى مقال كتبه يونس زنكي آبادي بعنوان "الوجه الجديد لسياسة ترامب في حملة "الضغط الأقصى" ضد إيران"(2)؛ إذ يرى أن العملية النفسية هي نوع من حرب المعلومات تُعرف بأنها "عمليات مخطط لها لنقل معلومات مختارة إلى جمهور خارجي للتأثير على العواطف والدوافع والتفكير الموضوعي وفي نهاية المطاف سلوك الحكومات والمنظمات والمجموعات والأفراد"، وهو ما يتحقق من خلال "خلق الفتنة وتعظيم الاستياء داخل المجتمع". 
وهناك ثلاثة أسباب رئيسية لتستثمر الحكومة الأميركية الأخيرة في العمليات النفسية في إيران: 

  • أولًا: العقوبات: وصلت العقوبات الأميركية الأحادية التي تهدف إلى فرض تغيير في سلوك إيران إلى أقصى طاقتها.
     
  • ثانيًا: السعي لتجنب المواجهة العسكرية: مع سلسلة التوترات التي شهدتها الأشهر الأخيرة بين الولايات المتحدة وإيران، أظهر ترامب أنه لا يرغب في مواجهة عسكرية مباشرة.
     
  • ثالثًا: الساحة الداخلية الإيرانية والفرصة المهيأة: فالصراع الداخلي تجاه ملفات عدة واضح للعيان، والعقوبات وإن كانت عجزت عن تغيير سلوك النظام إلا أنها أضرَّت بالناس بصورة ملموسة، وأدخلت الاقتصاد الإيراني والجوانب المعيشية الإيرانية في أزمة حقيقية، وهو ما تجلى بصورة واضحة في تراجع نسبة المشاركة في الانتخابات التشريعية التي جرت في فبراير/شباط 2020 حيث لم تتجاوز 43%. يضاف إلى ذلك مشكلة الرقابة داخل إيران، وحجب منصات التواصل عبر الإنترنت، ومحاولة السيطرة على تدفق المعلومات وهو ما أوجد أزمة ثقة غير مسبوقة تجاه الحكومة، خاصة وأنه بات من الصعب في عالم اليوم التحكم بتدفق المعلومات بصرف النظر عن غثها وسمينها والجهة التي تقف خلف تدفقها. وبحسب تقرير للجنة حماية الصحفيين،، تحتل إيران المرتبة السابعة في قائمة أسوأ الدول للرقابة الحكومية على المطبوعات بعد إريتريا وكوريا الشمالية وتركمانستان والمملكة العربية السعودية والصين وفيتنام. ويعد هذا وصفة مناسبة لخلق مناخ يسعى فيه معظم الناس إلى تقصي الأخبار من وسائل إعلام خارجية. ويعزز من هذه الحالة تجارب سابقة تتعلق بحوادث شهدتها إيران، جرى فيها قطع الإنترنت بشكل كامل عن إيران لكن السؤال المطروح هو: هل من المجدي تكرار هذا الأسلوب مع "أزمة كورونا"؟

وفي هذه البيئة تظهر الأخبار المزيفة، كظاهرة تهدف إلى توجيه الرأي العام. وهو ما برز بصورة كبيرة في التعامل مع انتشار الوباء في إيران؛ إذ يمكن إحصاء عشرات الحالات التي تناقلها الإعلام خارج إيران، ولقيت انتشارًا كبيرًا في وسائل التواصل الاجتماعي وثبت أنها مزيفة. 

جعل الوضع الحالي من إيران حالة مثالية للحرب النفسية وأتاح للولايات المتحدة فرصة لبناء شبكات لا تنقصها الوفرة المالية من خلال الممول الخليجي تقوم بشكل منظم ومدروس وفعال بإيصال الرسائل الإعلامية إلى الشعب الإيراني بوسائل إعلام تتحدث بالفارسية ويتصدرها إيرانيون. وبالنظر إلى أن 85 في المئة من الإيرانيين لديهم إمكانية الوصول إلى الإنترنت، يمكن لإدارة ترامب أن تتحدى رواية طهران لمجموعة متنوعة من القضايا ذات المساس المباشر بحياة الإيرانيين سواء فيما يتعلق بـ"فيروس كورونا" وكفاءة الإجراءات الحكومية على صعيد مواجهته، أو قضايا أخرى تتعلق بمقدار الدعم المالي الذي تقدمه إيران لحلفائها في الخارج وكلفة النفوذ الإقليمي.

وتراهن إدارة ترامب على نجاح ذلك في إضعاف الساحة الداخلية التي تعاني من أزمات عديدة ضمن تصور يرى أن الجمهورية الإسلامية ستضطر في النهاية إلى السير نحو طاولة المفاوضات وهي ضعيفة ومؤهلة لتقبل بالشروط التي يريد ترامب إملاءها في الصفقة التي خطَّط لها.

من "النووي" إلى "كورونا": أزمات متلاحقة 
باستثناء النجاح الذي تحقق من خلال توقيع الاتفاق النووي والذي لم يستمر طويلًا، فإن سنوات حسن روحاني الرئاسية وفي الفترتين قد ترافقت مع أزمات حادة يمكن إجمال أبرزها في التالي:

  • أزمة العلاقة مع واشنطن: تعثر تطبيق الاتفاق النووي، وانسحاب ترامب من الاتفاق، وعودة العقوبات الاقتصادية ضمن "حملة الضغط الأقصى"، واغتيال قاسم سليماني، ورد إيراني باستهداف قاعدة عين الأسد، وتصعيد مستمر في الساحة العراقية.
     
  • أزمة العلاقات السعودية-الإيرانية: مقتل مئات الحجاج الإيرانيين، واقتحام السفارة السعودية، وقطع العلاقات، وتصاعد الأزمة في اليمن.
     
  • الأزمات الداخلية الإيرانية: تصاعد الاحتجاجات المعيشية، وكوارث طبيعية: سيول ضربت مناطق مختلفة من إيران، وتهاوي سعر الريال الإيراني، وإسقاط الطائرة الأوكرانية، وانتشار فيروس كورونا ليشمل جميع أنحاء إيران. 

ومع أنه يمكن تفكيك الارتباط بين ملفات هذه القضايا إلا أنها في مجملها ترتبط بصورة جوهرية بمعضلة العلاقة مع واشنطن. لكن ما يهدد الجمهورية الإسلامية أكثر من العقوبات اليوم هو الفساد وإساءة استخدام الريع من جهة، وضعف الإدارة في المؤسسات الحكومية من جهة أخرى. وتكمن مشكلة روحاني في أنه صاغ استراتيجية حكومته لفترة ما بعد العقوبات، وبدت حكومته غير قادرة على إدارة اقتصاد البلاد في ظل العقوبات وهو ما زاد من حدة التحديات التي تواجه إيران.

لا يغادر المعسكر الرافض للتفاوض والحوار مجددًا مع الولايات المتحدة إطاره الفكري القديم والقائم في خطوطه العريضة على استمرار المواجهة وكون الولايات المتحدة الأميركية غير أهل للثقة، وأن تجربة الاتفاق النووي خير دليل على ذلك.
في المقابل، تُقدِّم أصوات محسوبة على التيار الإصلاحي وتيار الاعتدال رؤية مغايرة؛ إذ يرى حسين موسويان، المفاوض السابق في الملف النووي والذي يعد واحدًا من منظِّري تيار الاعتدال، أن عدم حل معضلة العداء بين واشنطن وطهران من شأنه أن يولِّد أزمة جديدة، ويذكر موسويان في مقابلة نشرتها معه صحيفة شرق الإصلاحية(3) أنه مع توقيع الاتفاق النووي جرى حل المشكلات الأساسية (الفنية والحقوقية)، ويُعزي ذلك إلى سياسة أوباما التي رجحت التفاوض مع إيران وهو ما أدى إلى تقليل حدة الصراع السياسي والأمني بين الجانبين، ونتج عنه خروج الملف النووي الإيراني في الوكالة الدولية للطاقة الذرية من حالة الأزمة، ومع مجيء ترامب وازدياد حدة العداء بين أميركا وإيران، عاد التأزيم ليصبغ طريقة التعامل مع الملف النووي الإيراني في مجالات عدة وانسحب ذلك على الوكالة الدولية، وهو ما يشير إلى إمكانية حدوث مزيد من التأزيم على هذا الصعيد ويعيد الملف بمجمله إلى مرحلة ما قبل الاتفاق النووي. وتستشعر إيران حساسية هذه المسألة لأنها تعتقد أن الولايات المتحدة الأميركية والدول الغربية أيضًا تستخدم الأزمة مع إيران خاصة في المجال النووي بالرغم من محتواه الحقوقي والفني كوسيلة سياسية لتحقيق أهداف سياسية وأمنية لم تفلح إلى الآن في إجبار إيران على التفاوض بشأنها.

ويدلِّل موسويان على رأيه بأن أزمة الملف النووي الإيراني جرى صناعتها لتحقيق أهداف سياسية باستحضار الفرق في طريقة التعامل مع ملفات أخرى مشابهة؛ ففي العقد الأول من الألفية الثانية جرى وضع ملفات ثلاث دول، هي: مصر وإيران وكوريا الجنوبية لتكون قيد المتابعة من قبل الوكالة الدولية، واتُّهمت الدول الثلاث بخرق معاهدة الحدِّ من انتشار الأسلحة النووية "إن بي تي"، لكن كلًّا من مصر وكوريا الجنوبية وبسبب علاقتهما بالولايات المتحدة الأميركية تمكنتا من حل المشكلة وجرى إغلاق ملفيهما بصمت ودون أية عقوبات. ولا يمكن النظر إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية كمنظمة محصنة في وجه التأثير والنفوذ الغربي فهي منظمة مرتبطة بصورة مفصلية بالمعسكر الغربي.

الموقف الأوروبي ضمن المعادلة الأميركية
لا تسعى أوروبا إلى الإخلال بالاتفاق النووي وما زالت تقول بضرورة المحافظة عليه، وما زالت الأطراف الأوروبية تتحدث عن ضرورة الحوار مع إيران، لكن هذه الرغبة الأوروبية لا تأتي مدعومة بالقدرة على الوقوف في وجه السياسات الأميركية، وقدرة أوروبا على هذا الصعيد محدودة للغاية.

ويمكن لأرقام التبادل التجاري أن تعطي صورة دقيقة تجاه هذه المسألة، فقد تجاوز حجم التبادل التجاري بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية في عام 2016 تريليون دولار؛ إذ صدَّر الاتحاد الأوروبي إلى الولايات المتحدة الأميركية بضائع بقيمة 416 مليار دولار، ووصلت قيمة الصادرات الأميركية إلى الاتحاد الأوروبي 469 مليار دولار. في المقابل، وصلت المبادلات التجارية بين الاتحاد الأوروبي وإيران، عام 2017، حين كان الاتفاق النووي ساريًا وقبل أن تنسحب منه واشنطن، إلى 21 مليار دولار، منها 10 مليارات و800 مليون قيمة الصادرات الأوروبية لإيران(4).

وفيما يتعلق بالتطورات الأخيرة والتعامل مع سياسة الضغط الأقصى التي انتهجتها الحكومة الأميركية تجاه إيران، نجد أن دول العالم في المجموع قد رضخت للضغوط الأميركية، وإن كان ذلك بنسب متفاوتة؛ إذ يرى موسويان أن أوروبا واليابان وكندا قد رضخت للضغوط الأميركية بنسبة تصل إلى 90%؛ فيما تراوحت النسبة فيما يتعلق بالدول الشرقية مثل الهند والصين وكذلك روسيا بين 60-70%. وعلى سبيل المثال، قطعت أوروبا استيراد النفط الإيراني بالكامل، أما الصين التي تعد الشريك الاقتصادي رقم 1 بالنسبة لإيران، والقوة الاقتصادية الكبرى وأكثر الدول القادرة على مقاومة الضغوط الأميركية فقد تراجع شراؤها للنفط الإيراني بنسبة 85% إذ صارت تشتري ما يقرب من 100 ألف برميل، وهو ما يقل سبع مرات عمَّا كانت تشتريه قبل العقوبات. ولذلك، فإن مجمل العلاقات الدولية مع إيران، سياسية واقتصادية غربية كانت أو شرقية، متأثر بصورة مباشرة بالأزمة بين الولايات المتحدة وإيران، وحتى لو تم حل مشكلة الملف النووي فإن أزمات جديدة سيكون على إيران مواجهتها ما دامت الأزمة مع واشنطن قائمة. ولا يبدو أن سياسة شراء الوقت في انتظار نتائج الانتخابات الأميركية المقبلة مجدية على هذا الصعيد؛ إذ إن المشكلة الأساسية تكمن في استمرار التأزم في العلاقة بين إيران والولايات المتحدة الأميركية التي تعد الأقوى والأكثر سيطرة في العالم، إذ تضطلع بـ25% من الناتج الإجمالي العالمي، وهي القوة الاقتصادية الأولى في العالم، وتحتل المرتبة الأولى أيضًا في إنتاج العلم، ولديها ميزانية دفاعية تزيد عن 700 مليار دولار، كما أن ما يزيد عن 25% من الاستثمار العالمي يتم داخل الولايات المتحدة الأميركية(5).

من الواضح، كما يرى موسويان، أن مشكلة الاتفاق النووي ليست هي أصل المسألة، بل هي طبيعة العلاقة بين الطرفين، واستمرار هذا الشكل من العلاقة، سواء كان من يدير الدفة في واشنطن جمهوريًّا أو ديمقراطيًّا، أو كان من يفوز في الانتخابات في إيران أصوليًّا أو إصلاحيًّا أو معتدلًا، يعني بقاء المشكلة على حالها وهو ما استمر على مدى أربعة عقود من عمر الجمهورية الإسلامية، وقد يخفف انتخاب رئيس ديمقراطي في أميركا من حدة العداء نحو إيران لكن المشكلة ستبقى قائمة. لقد أعطى الاتفاق النووي مؤشرًا واضحًا على أن الاتفاق مع إيران من الممكن أن يحدث وأنها ستلتزم به، لكن ذلك لا ينسحب على الطرف الأميركي. كما أن مجريات الاتفاق النووي وما وصل إليه يعطي مؤشرًا آخر على مدى النفوذ الصهيوني داخل الإدارة الأميركية على صعيد صناعة القرار فيما يخص الشرق الأوسط. وهو ما ينسحب على الدول الغربية ودول أخرى في العالم.

استمرار سياسة الإضعاف
يعتقد أستاذ العلاقات الدولية، محمود سريع القلم، الذي يعد هو الآخر منظِّرًا من منظري تيار الاعتدال، أن هدف الولايات المتحدة الأميركية، الذي تسعى إدارة ترامب لتحقيقه، هو "إضعاف إيران تدريجيًّا"، وفي ذلك استعادة لاستراتيجية جورج كينان (George Kennan)، الاسم الأميركي المعروف في الدراسات الروسية، الذي كان يرى أن مواجهة الاتحاد السوفيتي لا تتم بالطرق العسكرية. ووفقًا لسريع القلم، فإن هدف أميركا هو "إضعاف إيران تدريجيًّا(6)، ومنع زيادة التمويل الوطني، وحظر الاستثمار الأجنبي، وتأخير التنمية الوطنية، ومفاقمة أوجه العجز والفشل، وإدخال إيران في حالة من الإحباط مثلما فعلت مع الاتحاد السوفيتي"(7).

ويبدو أن ما ذهب إليه سريع القلم دقيق جدًّا، فبالعودة إلى ما كتبه بومبيو، في أكتوبر/تشرين الأول 2018، نجده يعطي أهمية كبيرة لاستراتيجية ريغان، تجاه الاتحاد السوفيتي والتي كانت تقوم على "الفضح"، ويعتقد أنها استراتيجية جيدة وقابلة للتطبيق تجاه إيران؛ إذ يقول: "لقد أدرك الرئيس الأميركي، رونالد ريغان، قوة الكشف عندما صنَّف الاتحاد السوفيتي كـ"إمبراطورية شريرة"، وتعهَّد بالتضامن مع شعب عانى طويلًا في ظل الشيوعية من خلال إلقاء الضوء على انتهاكات النظام. وبالمثل، ومن أجل الشعب الإيراني، لم تخش إدارة ترامب فضح عمليات القمع الداخلي الوحشي التي يمارسها النظام. النظام متشبث بمبادئ أيديولوجية معينة -بما في ذلك تصدير الثورة الإسلامية من خلال حرب بالوكالة وتخريب الدول ذات الأغلبية المسلمة والمعارضة الشرسة لإسرائيل والولايات المتحدة.."(8).

خلاصة
لقد أبدت إيران مقاومة عنيدة أمام الضغوطات الأميركية ومن الواضح أن النظام لن يرضخ لحملة الضغط الأقصى التي تمارسها واشنطن، لكن الأزمات المتلاحقة وآخرها أزمة وباء كورونا، تضع صنَّاع القرار في إيران أمام معضلة حقيقية، حول ما إذا كانت أولويتهم هي "صفع أميركا" أم تحقيق العدالة والرخاء! ولعل المعطيات الحالية تقول بضرورة الإصغاء إلى معاناة الناس وتعزيز الاقتصاد وتطبيق الخطة الموضوعة لجعله اقتصادًا غير معتمد على النفط، وتوسيع حملة مكافحة الفساد وإساءة استغلال الموارد التي أطلقتها السلطة القضائية مؤخرًا. ولعل الحاجة إلى الانفتاح وإجراء مقاربات داخلية اجتماعية وسياسية واقتصادية مختلفة عن السابق باتت أمرًا ملحًّا في إيران اليوم، لمواجهة الاستراتيجية الأميركية سواء قررت طهران التفاوض مجددًا أو إبقاء العلاقات في إطار التصعيد وموازنة التهديد، خاصة أن هذه الجوانب تعد مداخل خصبة لتطبيق الاستراتيجية الأميركية ضد إيران.

ABOUT THE AUTHOR

References

(1) جعفر گلابی، کمک را بپذیریم!(لنقبل المساعدة)، صحيفة آرمان ملي، العدد 677، 12/12/1398 ش (تاريخ الدخول: 17 مارس/آذار 2020): https://bit.ly/33nGZhi  

(2) Younes Zangiabadi, The new face of Trump’s ‘maximum pressure’ campaign on Iran, responsible statecraft march 6, 2020(accessed march 15,2020): https://bit.ly/2QotDvQ 

(3) سیدحسین موسویان در گفت وگو با"شرق"؛دشمنی آمریکا با ایران حل نشود، بحران دیگری در راه است (سيد حسين موسويان في مقابلة مع "الشرق": هناك أزمة أخرى في الطريق، ما لم يتم حل العداء الأميركي مع إيران)، صحيفة شرق، العدد 3670، الصفحة الأولى، 25 اسفند 1398 ش(تاريخ الدخول: 15 مارس/آذار 2020): https://bit.ly/39YEOTP   

(4) على أكبر داريني، واکاوی راهبرد دولت ترامپ در برابر جمهوری اسلامی و راهکارهای پیش رو برای ایران "تحليل استراتيجية إدارة ترامب تجاه الجمهورية الإسلامية والحلول المتاحة أمام إيران، دورية "مطالعات راهبردی سیاست گذاری عمومی"، العدد 32 خريف 1398 ش، صص 24-41، ص 29.

(5)OFII. 2018. “Foreign Direct Investment in the United States 2018.” OFII [Internet]. 13 September 2018,(accessed: 17 march 2020): https://bit.ly/3a0nSfC  

(6) سريع القلم، استراتژی آمریکا نسبت به ایران (الاستراتيجية الأميركية تجاه إيران)، موقع عصر ايران، 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، (تاريخ الدخول: 17 مارس/آذار 2020): https://bit.ly/2w4SLkF  

(7) علي أكبر داريني، مرجع سابق، ص 36.

(8) Pompeo, Michael R. 2018. “Confronting Iran: The Trump Administration’s Strategy.” U.S Department of State 15 October2018,(accessed: 17 march 2020): https://bit.ly/2WjxhLp