ليبيا والفيدرالية: سياقات الماضي ومآلات المستقبل

يتسم الوضع الحالي في ليبيا بخصوص الدعوة إلى الفيدرالية، بتراخي الروابط الجامعة وهشاشة المؤسسات السياسية الوطنية، وبروز الروابط الجهوية وتنامي مشاعر الاختلاف والتمايز، وهي كلها مضامين لا تضمن متانة واستقرار النظام السياسي بأكمله، ناهيك عن صيغة توزيع سلطاته بين المركز والمناطق.
201242694751637734_2.jpg
جدل الفيدرالية في ليبيا (الجزيرة)

"يسرّني... أن أعلن للشّعب اللّيبي الكريم انتهاء العمل بشكل الحكم الاتّحادي والبدء رسميًّا في نظام الوحدة الشّاملة.... هذا الأمل الوطني الكبير ...... والأمنية الغالية... إنّ الوحدة هدف جديد من أهدافنا الوطنية... فهي ثمرة طيّبة للجهاد".

هكذا عبّر يوم 26 إبريل/نيسان 1963، إدريس السنوسي ملك ليبيا، معلنًا انتهاء النّظام الاتّحادي الفيدرالي بعدما عرضت حكومة محي الدين فكيني تعديلاً دستوريًّا أقرّه مجلس النّواب والشّيوخ والمجالس التشريعية بالولايات الثلاثة.

كان ذلك إيذانًا بنهاية الفيدرالية التي قسّمت البلاد لثلاث ولايات عكست عمليًّا واقعًا سياسيًا وإداريًا عاشته ليبيا بعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية؛ حيث كانت تحت سيطرة بريطانية وفرنسية رسّخت التقسيم الثلاثي للبلاد ما بين أقاليم برقة، وفزان، وطرابلس.

اليوم يعود الجدل حول الفيدرالية للبروز ويطرح إشكالات وتحديات ستؤثر على شكل المستقبل السياسي للبلاد. هذه التحديات لا تتعلق فقط بكون ليبيا تفتقر لسلطة فاعلة بل أيضًا بحالة ما بعد الحرب، علاوة على تفاعل قوى داخلية مختلفة الطبيعة والتوجهات مع حضور للقوى الأجنبية؛ ففرص تجاوز تحديات التحول وإعادة البناء تتحكم فيها الآثار السلبية لديكتاتورية القذافي والافتقار لأية خبرة سياسية أو مؤسسات تضمن استمرارية العمل والبناء وشروطه الأساسية. فمثلاً توحَّدت من قبلُ القوى الفاعلة والصاعدة حول هدف الإطاحة بالنظام، لكن بعد تحققه برزت الخلافات بينها حول ملفات عديدة تتعلق بالهوية والاندماج الوطني والتحول الديمقراطي ومحددات المنتظم السياسي الجديد برمته بما فيه ملف الفيدرالية. ومن الواضح أن إعلانها في هذا التوقيت له أبعاد استراتيجية لوروده من إقليم يمتد من حدود مصر شرقًا إلى وسط البلاد غربًا، ومن البحر المتوسط شمالاً إلى الحدود مع كل من السودان وتشاد جنوبًا، فضلاً عن أنه الإقليم الذي تخزن أرضه القسم الأعظم من مصادر النفط والغاز الليبي.

معركة الشرعيات

فوجئ الليبيون باجتماع عُقد يوم 6 مارس/آذار 2012 باسم مؤتمر شعب برقة، تم فيه الإعلان عن قيام كيان برقة ضمن دعوة لإحياء النظام الفيدرالي ودستور 1951، في تجاهل للتوافقات التي يعبّر عنها المجلس الوطني وتمت صياغتها في وثيقة الرؤية والإعلان الدستوري المؤقت وبيان التحرير. جرى جدل ساخن وتبادل للاتهامات، وحصلت اشتباكات متكررة بين أنصار الدعوى والمعارضين لها، فشهدت كل المدن الليبية تقريبًا تظاهرات رفضًا للفكرة شكلاً ومضمونًا، بل سقط ضحايا، وتصاعدت لهجة التهديد والتخوين خلال أكثر من شهر منذ الإعلان، وصولاً إلى انعقاد المؤتمر الثاني "لشعب برقة" في 17 إبريل/نيسان 2012 الذي أعلن مؤسسات إقليم برقة، كالقوة المسلحة التي سُميت بقوة دفاع برقة استحضارًا لذات الاسم الذي استخدمه إدريس السنوسي، والإعلان عن هيئة تأسيسية وفقًا لدستور 1951، ورفض قانون الانتخابات، فيما يُعد واقعيًا إنهاء الاعتراف بالمجلس الانتقالي سلطة على البلاد.

اللافت أن تركز الجدل حول الفيدرالية لم يكن استجابة لحاجات اقتصادية أو ذات صلة بالكفاءة والفعالية أو الشفافية والديمقراطية، وإنما لأنها التعبير المناسب عن انتماءات وهويات جغرافية ومطالبة باسم تهميش مستمر، بينما تركز هجوم المعارضين على تهديدها للوحدة الوطنية. ولكي نتمكن من فهم التطورات الراهنة وأبعادها والقوى التي تقف وراءها وما تعنيه للمستقبل السياسي الليبي، تبدو الحاجة للعودة لتاريخ ليبيا المعاصر واستخلاص ما قد يساعد في الإجابة على الأسئلة الراهنة.

إقليم برقة: الأمير ولعبة الأمم

لم تكن هناك أسباب اقتصادية أو اجتماعية دفعت لتبني ذلك النظام شكلاً للدولة. كانت السنوسية قد انتشرت زواياها وأصبح لها مريدوها بينما لعب بعض مشايخها دورًا بارزًا في حرب الاستقلال ضد إيطاليا. كان إدريس السنوسي غادر إلى مصر في 1922 تاركًا أمر الجهاد ومقاومة إيطاليا بالكفاح المسلّح وراءه. كانت له صلاته المعروفة بالإنجليز وانشغل بالعمل معهم إلى أن تمكّن في 9 أغسطس/آب 1940 من تأسيس جيش صغير، "الجيش السنوسي"، ليقاتل مع بريطانيا ويدخل في مفاوضات سياسية مكّنته بعد انتصار بريطانيا من العودة لليبيا في 1944 أميرًا لما عُرف بإقليم برقة. وكان إدريس قد تحصل على هذه الصفة من قبل بتوافق مع سلطات الاحتلال الإيطالي في اتفاق الرجمة، في 20 أكتوبر/تشرين الثاني1920، لتقاسم الإدارة في الإقليم، ومنحه لقب أمير برقة، وإقرار الحكم الوراثي في إمارة تشمل واحات الجغبوب وأوجلة، إلا أن إيطاليا ألغت الاتفاق في 1929. وبمجرد احتلال بريطانيا أجزاء واسعة من ليبيا وسيطرتها على برقة وطرابلس، بينما سيطرت فرنسا على الجنوب، تعزّزت مكانة إدريس لدى الإدارة البريطانية التي وسّعت نطاق صلاحيات إمارته. كان مصير ليبيا وقتها محل جدل في ما عُرف بمجلس ليبيا التابع للأمم المتحدة الذي ضم في عضويته بريطانيا، وفرنسا، وأميركا ودولاً أخرى انقسمت بين داعٍ إلى تقسيم ليبيا، أو استقلالها موحدة أو وضعها تحت الوصاية. كانت الحركة الوطنية الليبية عمومًا، ترغب في الاستقلال الكامل وترفض مقترحات الوصاية، فعبّر الليبيون عن هذه الرغبات أمام لجان الأمم المتحدة التي أُرسلت لغرض التعرف على آرائهم.

اختلاف الدول وفشلها في الاتفاق أوصل الموضوع للتصويت بالجمعية العامة للأمم المتحدة، فاتخذت قرارًا باستقلال ليبيا. حاول إدريس السنوسي وضع شروط من شأنها إعاقة التوصل لاتفاق بشأن استقلال البلاد كوحدة واحدة؛ ففوجئ الساسة الوطنيون بأن الاستقلال والوحدة أصبحا رهنًا بالقبول بنظام ملكي سنوسي وراثي عكس الرغبة في نظام جمهوري، خاصة وأن ليبيا عرفت الإعلان عن أول جمهورية عربية في 16نوفمبر/تشرين الثاني 1918 "الجمهورية الطرابلسية" التي اتخذت من مدينة العزيزية قرب طرابلس عاصمة لها.

كان الأمر حرجًا خاصة وأن الأمير الراغب في عرش البلاد بدعم خارجي لا يملك رصيدًا نضاليًا كبيرًا. لذلك، وأمام هذا الرفض القوي للملكية لجأ إدريس، مسنودًّا ببريطانيا، إلى الإعلان عن إمارة مستقلة في إقليم برقة في 11 أكتوبر/تشرين الأول 1949. كان واضحًا أن إعلان إمارة برقة قرار استفزازي وكان أشبه بحركة استباقية لوأد الحوار حول نظام الحكم، فأصبح الخيار صعبًا بين تهديد فرصة الاستقلال وربما الحرب الأهلية أو القبول بالملكية بعد أن أصر إدريس على تحويل برقة لدولة مستقلة في حالة رفض باقي قادة البلاد توليه العرش، متمسكًا بتسمية نفسه ملك ليبيا وأمير برقة حتى بعد الاستقلال. لم يكن أمام الحركة الوطنية إلا القبول بإدريس ملكًا في ظل نظام اتحادي بولايات ثلاثة (برقة، وفزان، وطرابلس) وضعت دستوره لجنة بإشراف الأمم المتحدة. 

"مملكة الرمال": عبء الفيدرالية

كانت ليبيا تعيش ظروف الفقر والأمية والمرض حتى إن اللجنة الخاصة بالمجلس الاقتصادي والاجتماعي وصفت "مملكة الرمال" بأفقر بلد في العالم. كان سكان ليبيا نحو مليون وخمسة وسبعين ألفًا. لم يكن أكثر من ربع السكان بقادرين على كتابة أسمائهم أما القادرين على أكثر من هذا فقد كانوا نحو ستين ألفًا. لم يكن هناك اقتصاد بأي معنى بعدما دمر الاحتلال الإيطالي والفرنسي طرق تجارة القوافل، وسيطر الطليان على القطاع الزراعي والحرفي، فبلغ معدل دخل الفرد نحو خمسة وثلاثين دولارًا سنويًا. لم تتوفر بنية للمواصلات أو الاتصالات، بينما افتقدت البلاد لأي قطاع صناعي أو مصادر للطاقة، وسبّبت سيطرة دول ثلاث تدمير أي تواصل اقتصادي أو إعلامي ثقافي، وجعلت حركة السكان عرضة للقيود. 

فُرض على البلاد -بفعل إكراهات المصالح الأجنبية، وبالدور الذي لعبه إدريس- تبني النظام الاتحادي؛ حيث احتفظت كل ولاية باختصاصات مختلفة فأُجبرت ليبيا على تحمل كلفة اقتصادية وسياسية عالية لنظام فيدرالي بثلاث حكومات وثلاثة برلمانات وحكومة مركزية وبرلمان بمجلسين وعاصمتين في آنٍ واحد. رغم هذا، فإن الوحدة تحققت رغم أية إكراهات معاكسة، بفعل التوافق الوطني الذي وعى درس الفيدرالية وكلفتها العالية حتى من الناحية الاقتصادية، فتم إلغاء النظام الاتحادي لتصبح ليبيا موحدة باسم المملكة الليبية. بعدها، دخل الليبيون مرحلة حاسمة من تاريخهم المعاصر لعبت فيها الوفرة في المصادر المالية، بفعل الموارد النفطية، دورًا مهمًا في تعزيز الهوية والاندماج الوطني، تميز بالدور التحديثي للدولة على جميع المستويات.

محاذير القبلية والجهوية

لقد تخلّت ليبيا عن الفيدرالية وعاشت دونما حاجة لنظام عمّر ما بين أواخر ديسمبر/كانون الأول 1951 وإبريل/نيسان 1963، فباستثناء ذلك لم تعش ليبيا طوال تاريخها الحديث والمعاصر في ظل النظام الاتحادي إطلاقًا. كانت البلاد مركزية أثناء خضوعها لكل من الحكم العثماني والإيطالي والإدارة البريطانية أيضًا. هذا إذا ما استثنينا فترة الاستقلال شبه النسبي لولاية طرابلس، أثناء عهد يوسف القرهمانلي الذي أسس إمارة مستقلة في أوائل القرن التاسع عشر ودخل في حرب مع الولايات المتحدة الأميركية، ثم في صراع مع بعض أفراد عائلته الذين أرادوا فصل أجزاء الشرق انطلاقًا من "درنة" بمساعدة أميركية.

لكنّ الدّاعين للفيدرالية يرون أن النظام بحكم ما يقرره من تقسيم للاختصاصات بين السلطة المركزية والأقاليم ملائم لتحقيق الاهتمام بكل المناطق والتخلص من الآثار السلبية للمركزية تحقيقًا للتوازن، وأن ذلك لا يعني التقسيم أو تهديد الوحدة الوطنية. إلا أن البحث في نوع القوى الفعلية والموازين التي تحكمها تبين المضامين الحقيقية لهذه المواقف المبدئية.

فالقوى القبلية مؤثرة، حيث لا يمكن تجاهل حضورها مع الجهوية طوال التاريخ المعاصر، لكنَّ ذلك لا يقلل من أهمية أن الثورة ضد القذافي لم تكن على أسس قبلية أو جهوية على الإطلاق بل إن الليبيين عبّروا خلال مراحل الثورة عن أن ليبيا واحدة وفشل القذافي في استعداء القبائل الليبية ضد بعضها البعض مثلما فشل في إلصاق الصفة الجهوية أو الانفصالية بالانتفاضة عليه. مع ذلك، تظل القبلية والجهوية عاملاً حاسمًا بعد القذافي، مرشحة للعب دور مؤثر على سياقات الصراع السياسي ومستقبل البلاد ككيان موحد. وهكذا فإن طبيعة الانتفاضة الليبية ضد القذافي، والاستخدام السياسي للقبلية أو الجهوية واستدعاءهما أثناء الصراع أيضًا من قبل المجلس الوطني الانتقالي لحشد التأييد، جعلاهما أداة مناسبة لإقرار الشرعية لحكم البلاد، ولا شك أن لذلك آثارًا خطيرة مثلما تبين التطورات الجارية.

لقد ولّدت الثورة ضد القذافي عصبيات جهوية وقبلية خاصة في المناطق أو المدن التي كان لها سبق المشاركة أو القيام بالثورة. ويجري الحديث عن تقسيم ليبيا إلى سبعة أقاليم على الأقل تشمل إضافة إلى الثلاثة المعروفة إقليم جبل نفوسة وإقليم مصراته والزاوية وورشفانة وإقليم غات وغدامس. وبقدر ما يثير تقسيم كهذا من مشكلات تتصل باستقطابات الثورة ضد القذافي وغيرها، فإن برقة لم تعد تشكّل إقليمًا واحدًا مثلما كان الأمر في السابق، إضافة إلى أن الحدود بين أقاليم البلاد لم يتم تحديدها بدقة في أي وقت مضى، وهي ستكون سببًا في صراع قد يكون خطيرًا. هذه الاستقطابات ستقود إلى تعقيد الحياة السياسية وإطالة أمد المرحلة الانتقالية، مع الضرر المحتمل على المستقبل السياسي للبلاد، فمثلاً تُعتبر تصريحات قيادات مشروع برقة حول تلقيهم أو موافقتهم على طلبات انضمام للإقليم جاءت من سرت وتاروغا وتراغن في أقصى الجنوب، تأكيدًا لدى المعارضين بأن جميع المدن أو البلدات التي اتُّهمت بموالاة القذافي ومناصرته ترغب في الانضمام للإقليم البرقاوي.

ومثلما يبين تاريخ ليبيا في عهدي الملكية والقذافي، لا ينبغي أن نغفل حقيقة أن ليبيا لم تتوفر على الظروف السياسية التي تؤسس لدولة مدنية ديمقراطية ودور فاعل للتنظيمات غير الأولية يقلل من الدور السياسي للقبلية والجهوية مثلاً؛ فعقب الاستقلال قام النظام الملكي بحظر الأحزاب وزوّر الانتخابات وحارب الصّحافة الحرّة، وهو ما ولّد نوعًا من الفراغ السياسي، اعتمد النظام الملكي فيه على القبلية والجهوية كروافع للعمل السياسي أو لتوزيع الثروة والنفوذ. هذا الوضع ازداد حدة خلال حكم القذافي الذي حرّم أي نوع من النشاط السياسي المستقل واعتمد على القبلية في أمن النظام الذي مارس سياسات كافأت أو عاقبت القبائل والمناطق وفقًا لموقفها تجاهه. أصبحت القبلية والجهوية آليات دفاع اجتماعي خاصة وأن الأمن الاجتماعي تقلص لمستوى خطير؛ لذلك بحثت غريزة الدفاع عن شبكات أمان خارج مؤسسات الدولة.

وعلى مستوى آخر، عملت سياسات القذافي في تجهيل الشباب وعدم اطلاعهم على تاريخ بلادهم دورًا سلبيا في هذا المجال، علاوة على ما قادت إليه الرغبة في معارضته ولو سلبيًا وما صاحب الثورة ضده من خلق لميول تضفي قدرًا من القداسة أو المكانة العالية على الملكية لتصبح إطارًا مرجعيًا ورمزيًا مؤثرًا، دون معرفة حقيقية لدى الشباب بتاريخ تكوين ليبيا المعاصرة والعناصر التي صنعت الكيان ولماذا تمّ اختيار الفيدرالية ولماذا تم التخلي عنها.

يضاف إلى ذلك أن الجدل الآن يتسم بدرجة عالية من التوتر تهدد السّلام والأمن الاجتماعي في بلد عاش ضراوة حرب فقد خلالها الكثير من مكوناته البشرية والمادية والمعنوية والنفسية، وتركت آثارًا سلبية في كل المناطق، واستقطابًا لم يفلح المجلس الانتقالي بترتيباته المرتبكة والمترددة أو المتأخرة في التعامل معه، مع الفشل في بسط الأمن وبناء الجيش وإعادة الاعتبار للدولة وتحريك الاقتصاد، ناهيك عن تحديات وإشكالات المصالحة الاجتماعية والعدالة الانتقالية التي لم يتم التفكير فيها بشكل استراتيجي أو تنفيذ أية سياسة بشأنها.

يساهم ذلك في زيادة الانقسام والاستقطاب والشحن الذي يزيد من خطورته دخول القيادات السياسية البارزة في معارك سياسية وأيديولوجية تتجاهل الأخطار والتحديات. وأحد الأمثلة على هذا الخطر إعلان المفتي "أن الفيدرالية بداية للتقسيم ومخالفة للشّرع؛ لأنّها تؤدي للفتنة والانقسام الذي يؤدي إلى الخلاف".

وبذلك يتسم الوضع الحالي بخصوص الدعوة إلى الفيدرالية، بتراخي الروابط الجامعة وهشاشة المؤسسات السياسية الوطنية، وبروز الروابط الجهوية وتنامي مشاعر الاختلاف والتمايز، وهي كلها مضامين لا تضمن متانة واستقرار النظام السياسي بأكمله، ناهيك عن صيغة توزيع سلطاته بين المركز والمناطق.

الفيدرالية والتحدي

إذا كان الليبيون عشية الاستقلال رضوا بالفيدرالية وبتولي إدريس العرش معًا للحفاظ على الوطن وأهداف حركة التّحرير الوطني مقابل التهديد بانفصال برقة أو الحرب الأهلية؛ فهل يضطرون اليوم للقبول بالفيدرالية مجددًا أمام التهديد باستقلال برقة ومطالبة أحمد الزبير السنوسي رئيس مجلس إقليم برقة بتدخل الأمم المتحدة أو ما نُقل من تصريحات حملت التهديد باللجوء للقوة؟ هل يحتاج اختيار شكل الدولة إلى اللجوء إلى هذا الاستفزاز المناطقي أو الجهوي؟

يقف وراء هذه الدعوة أنصار للحركة السنوسية وبعض من عناصر المعارضة ضد القذافي وعناصر تمسكت بعودة النظام الملكي، إضافة إلى ما يُعرف بالتكتل الفيدرالي المكون من جبهة إنقاذ ليبيا وشخصيات من قبائل الشرق الليبي، علاوة على تكتل عسكري مسلح. ويعتقد هؤلاء أن الفيدرالية هي الكفيل بالديمقراطية والمساواة ومواجهة أو إنهاء التهميش للشرق الليبي الذي يصرّ –كما يرون- المجلس الانتقالي والحكومة الانتقالية على مواصلته. بينما يتهم المجلس الانتقالي وقوى سياسية أخرى دعاة الفيدرالية بأنهم أعوان القذافي الذين لم يعد بإمكانهم معاداة الثورة علنًا فلجأوا للمطالبة بتقرير المصير، أو عملاء لدول أجنبية تسعى للسيطرة على الإقليم الغني بالموارد النفطية، وفي أحسن الأحوال هم انفصاليون باحثون عن مجد ومكسب شخصي.

والخصومة بين الطرفين حادة لأنها تمس شرعية السلطة التي تمثل شرعية ما بعد القذافي؛ فالإعلان الدستوري الذي صدر عن المجلس الانتقالي في 3 أغسطس/آب 2011 ووضع عناصر خارطة طريق للتحول الديمقراطي لم يحدد الشكل السياسي والإداري، وترك صائغوه ذلك الأمر للدستور الدائم الذي سيُقر في 23 سبتمبر/أيلول 2012. ولا تستند كل الخطوات التي أعلنها المجلس الانتقالي في الموقف من الفيدرالية إلى سند من الإعلان الدستوري المؤقت الذي لم يأتِ على هذه القضايا سوى مرة واحدة عند إشارته الى مصطلح الحكم المحلي؛ حيث تشتمل الحكومة المؤقتة على وزارة للحكم المحلي، وهو ما يعزز الرأي بأن قيادات المجلس الانتقالي والحكومة ومن شارك في صياغة الإعلان الدستوري المؤقت يناصرون اللامركزية الإدارية وليس اللامركزية السياسية.

في المقابل، فإن إعلان مجلس برقة التمسك بشرعية دستور 1951 تلقى ظلالاً من الشك على نواياهم الحقيقية نحو دستور المجلس الانتقالي وشرعيته أيضًا؛ فإعلان مجلس برقة الذي صدر في يوم 17 إبريل/نيسان 2012 يشير إلى أنه بعد إعلان التحرير في 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2011 لم تعد هناك أهمية للمجلس الانتقالي لانتفاء دوره، وأن لكل مواطن حقه في اختيار شكل الدولة ونظام الحكم بمؤسسات دستورية تتشكل من خلال التداول على السلطة والتعددية الحزبية، وأن السيادة على ليبيا بما فيها برقة لمؤسسات دستورية تحكم ببرلمان منتخب. إن هذا القدح في شرعية المجلس وحكومته يصبح أكثر قوة إذا تمعّنّا أكثر في قراءة نص بيان مؤتمر سكان برقة الثاني الذي ينطلق فقط من دستور 1951 ولا يقبل بقانون الانتخابات، ويعتبر أنه لا شرعية للانتخابات قبل صياغة الدستور والدعوة لتشكيل لجنة أو هيئة لإجراء استفتاء على الفيدرالية برعاية الأمم المتحدة.

لعل أهم ما في الدعوة للفيدرالية الإيحاءات التي تنطوي عليها لمستقبل الكيان الليبي والاستقطاب على أسس متعددة، ليس أقلها الاستقطاب الذي حصل أثناء الثورة المسلحة بين المناطق، والآثار السلبية لدى قطاعات من الليبيين من التدخل الأجنبي أيضًا؛ فالدعوة للفيدرالية قد تفتح الباب على مصراعيه أمام احتمالات مختلفة ترتبط بقدرة البلاد على التماسك، فليبيا اليوم ليست ليبيا 1952، ما يعني استكشاف رؤية جديدة للموضوع بسبب تغير الاعتبارات الاقتصادية والاجتماعية والديموغرافية في بلد يتقاضى فيه أكثر من مليون شخص مرتبات من الدولة ضمن قوة عمل لا تتجاوز  1.7 مليون وسط عدد سكان متدن مقارنة بالمساحة، مع خطر تدني معدل الزيادة السنوية للسكان، وأخطار الفراغ السكاني على الأمن الوطني في بلد يعاني اقتصاده تشوهات هيكلية ويحتاج إلى إعادة تعمير وتنمية تعالج الاختلالات بين مناطق البلاد المختلفة.

المستقبل: سؤال الوحدة والديمقراطية

التلويح باستخدام القوة ضد الدعوة للفيدرالية أو محاولة إسكاتها بتقديم تنازلات، مثل تعديل حصة المنطقة الشرقية في مقاعد المؤتمر الوطني ولجنة صياغة الدستور، وتعديل الإعلان الدستوري، والنظر في إصدار قانون للحكم المحلي، وافتتاح فروع للحكومة ووزاراتها وهيئاتها، وإعلان بنغازي عاصمة اقتصادية، وغيرها من إجراءات، لا تعكس توجهات أو سياسة أو رؤية تنموية أو استراتيجية بل سياسات اللحظة، وتعكس غموض الرؤية، وتمثل التهديد الحقيقي لمرحلة التحول الديمقراطي وبناء الدولة الحديثة.

مع ذلك لابد في المقابل من التذكير بضخامة المظاهرات الرافضة للفيدرالية والتي عمّت بشكل خاص مدن الشرق الليبي، وبنتائج عدد من استطلاعات الرأي التي بينت تدني شعبية الفيدرالية خاصة بشرق البلاد. لقد حفلت المواقع الإعلامية الإلكترونية الليبية وشبكات التواصل الاجتماعي بمجادلات ونقاشات شارك فيها الآلاف حول الفيدرالية، وبدا واضحًا الانقسام حولها بما يعكس عدم المعرفة الواضحة بالمصطلحات والمفاهيم وحالة الخوف والرغبة في مقاومة التهميش، علاوة على بروز إشارات واضحة في النقاش تستحضر سلبيات الفيدرالية على المستوى العربي حيث انقسم العراق لعدة كيانات مستقلة واقعيًا، بينما حدث الانفصال بالسودان مع نُذُر حرب بين البلد الأم والبلد الوليد. كل ذلك يلقي بظلال من الشك على إعلان الداعين للفيدرالية الحرص على وحدة ليبيا والاعتراف بشرعية المجلس الانتقالي.

بغضّ النظر عن نتيجة الصراع الذي يميز المرحلة الانتقالية، فإن الفرصة الحقيقية للنجاح تحدث فيما يوصف بمرحلة القرار التي يقرر فيها المتصارعون القبول بتسويات وتبني قواعد للعمل القائم على مشاركة الجميع حتى يلعب الوقت دوره الحاسم في تعوّد المتصارعين على قواعد العمل الديمقراطي والتكيف معها.

وحيث يبدو أن هناك عجزًا في القيادة السياسية لتحقيق هذه الأهداف فإن ليبيا قد تكون بحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى للمساعدة الدولية وإن بدرجة ونوع يختلف عن تلك التي ساهمت بحسم في إسقاط نظام القذافي. فمن المثير حقًا أن أضحت الفيدرالية مفهومًا صراعيًا يتم استخدامه لأهداف سياسية آنية بشكل يحجب الحاجة لنقاش وطني حقيقي حول إيجاد نظام حكم مناسب، ويجعل فرص التوصل اليه أكثر صعوبة. إن تاريخ وظروف ليبيا يبينان أن فرص التنمية والديمقراطية ترتبط أكثر بنظام للدولة يعزز الاندماج والهوية الوطنية وبناء الديمقراطية، وأن تمكين كل المناطق سيسهم أكثر في بناء دولة ديمقراطية تحقق طموحات أبنائها. وبالتالي، فإن الأولوية حاليا هي التوصل إلى توافق حول الجوانب المشتركة في النظام السياسي ثم بعدها يأتي النقاش حول توزيع السلطة داخليا، أما قلب هذه الأولويات فإنه سيفتح الباب للصراع  كي يستنزف الرصيد المشترك بين الليبيين.