باعتباره أداة التأثير الأكثر فعالية في علاقة السلطة بالناس، ظل الإعلام يحتكر جزءا هاما من عناية السلطة السياسية بتونس على مر العقود الطويلة التي انقضت منذ استقلال البلاد عن فرنسا في منتصف الخمسينات. فالمشاكل التي يعيشها قطاع الإعلام اليوم ليست وليدة سنوات الديكتاتورية فحسب ، بل هي نتيجة لكامل التصور الذي صاغته السلطة السياسية في تونس منذ الاستقلال. وبالفعل فإن معظم النصوص القانونية والممارسات التي أنتجتها إنما استندت بدرجة أولى إلى مجلة الصحافة، وهي مجموعة من النصوص القانونية ذات الطابع الزجري التي احتكرت السلطة بواسطتها الفضاء الإعلامي منذ عهد بورقيبة.
تركة الاستبداد
يختزل الصراع على الإعلام اليوم في تونس كل الصراع السياسي الدائر منذ خروج زين العابدين بن علي من البلاد في منتصف يناير/كانون الثاني 2011. فإضافة إلى أن النظام السابق كان يعتمد بصورة أساسية على الإعلام بشقيه العام والخاص من أجل مهاجمة خصومه ومعارضيه لدى الرأي العام وتقديم صورة مغايرة تماماً للواقع لدى الرأي العام الداخلي والخارجي عن الوضع الاقتصادي والاجتماعي ووضع الحريات، لا يمكن الجزم مطلقا بأن الجزء الأكبر من ذلك الاعلام كان مكرها على الخضوع لذلك الاستخدام مثلما يحاول كثير من الإعلاميين اليوم في تونس تسويقه.
طيلة أكثر من ثلاثة عقود وحتى قبل الإطاحة بالزعيم بورقيبة من الحكم على يد خلفه زين العابدين بن علي، حصل تحالف شديد الوضوح بين معظم أطياف اليسار التونسي وبين نظام الحكم، وقد كان المضمون الأساسي لذلك التحالف هو التصدي للخطر الذي كان يمثله في تصورهم الإسلاميون الذين برزوا كأكبر قوة سياسية تهدد في الوقت نفسه سيطرة الحزب الحاكم السابق على الحكم والبنية الفكرية العلمانية التي كان اليسار يرفع لواءها في البلاد. كان طبيعيا إذا أن يحاول الطرفان إنقاذ النظام السياسي والفكري الذي أطاحت به الثورة بعد ذلك كما أنه أصبح طبيعيا أن يتم إحياء ذلك التحالف الذي أضرت نتائج الانتخابات الأخيرة مصالحه بإفرازها مجلسا تأسيسيا وحكومة سيطر عليهما الإسلاميون وحلفاؤهم من العلمانيين المعارضين المعتدلين.
غير أن الانتخابات وإن أوضحت السيطرة الكبيرة للإسلاميين على الواقع السياسي وقدرتهم على الظهور لدى الرأي العام كطرف جدير بالثقة في قدرته على استيعاب وتحقيق تطلعات قسم كبير منه، فإنها أوضحت أيضاً الصعوبات الكبيرة التي تعترضهم في السيطرة على النخبة والحضور فيها بما في ذلك في القطاع الاعلامي. بل إن موازين القوى في القطاع الاعلامي تعطي غلبة واضحة للأطراف المنهزمة في الانتخابات حيث أن الساحة الإعلامية لا تزال إلى حد اليوم مسيطرا عليها من قبل أنصار النظام السابق ومن اليساريين. هذه هي المعضلة الرئيسية التي تمنع اليوم من حصول تجانس بين الواقع السياسي والاجتماعي وما يصوره الإعلام حول هذا الواقع، وهذا هو أحد أهم العناصر التي تجعل من صراع السيطرة على القطاع الإعلامي يختزل كل الصراع بين النظام الجديد والنظام القديم بشقيه السياسي والفكري.
مع ذلك، يمكن القول بوجود طرف ثالث في هذه المعادلة ويتكون من المهنيين الذين عارضوا سيطرة النظام السابق على القطاع الإعلامي والذين يخشون من أن يكون فوز الإسلاميين بالسلطة، وإن تم عبر الانتخابات، مقدمة لإعادة السيطرة على القطاع الاعلامي، فتفوت بذلك الفرصة مجددا على الإعلام لكي يتحرر. في نظر هؤلاء، ومن بينهم بعض أعضاء "الهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام والاتصال" (وخاصة رئيسها كمال العبيدي)، لا ينبغي للإعلام أن يعكس التوازنات على الساحة السياسية بما في ذلك التوازنات التي أنتجتها الانتخابات وإلا فإن ذلك سيُستخدم كذريعة لإعادة سيطرة السلطة على هذا القطاع. من هنا ، فإن هذه الهيئة التي أُحدِثت بمرسوم والتي بدأت أعمالها منذ ربيع 2011 ، أكدت في تقريرها العام الصادر في 30 نيسان/ إبريل على ضرورة تفعيل المرسومين السابقين (115 و 116) وإيكال الاهتمام بالفضاء الاعلامي إلى هيئة تعديلية مستقلة، تركز على تطوير تكوين الصحفيين وتطوير آلية اختيار رؤساء التحرير بالنظر إلى كفاءتهم المهنية وليس بالضرورة باعتماد الانتخاب (مثلما حصل في عدد من المؤسسات الإعلامية بعد الثورة).
بالإضافة الى الهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام والاتصال، نجد "نقابة الصحفيين التونسيين " التي يحتل يساريون معظم مقاعد مكتبها. فرغم سعي هذا الهيكل لتصويب بعض الممارسات الصحفية فإنه على العكس من "الهيئة" يبدو خاضعا للمنطق النقابي الذي قام عليه وهو تمثيل الصحفيين أو التيار الغالب داخلهم، ما يعني من البداية ضعف قدرته على التحرر من الضغوطات الانتخابية والعجز عن اِتباع سلوك متوازن إزاء معضلات القطاع. لا تخفي النقابة أنها جزء من معادلة الصراع على الإعلام في تونس بعد الثورة لكن النضال من أجل استقلالية العمل الصحفي غالبا ما يختلط بطابع المعاداة الأيديولوجية للأحزاب الحاكمة وبخاصة حركة النهضة، وهو ما أدى إلى محاولة إنشاء نقابة جديدة للصحفيين نجد وراءها بعض المتعاطفين أو المنتمين للتيار الاسلامي، غير أنها لا تزال في بداياتها، ولا شيء يشير لتحولها قريبا إلى رقم مهم في المعادلة الإعلامية. من المهم الاشارة إلى أن نقابة الصحفيين التونسيين شكَّلت إلى حد الآن غطاء لكل محاولات محاربة الفساد في القطاع بدافع حماية مصالح المنخرطين فيها، ولا يزال الرأي العام ينتظر أن تقدم قائمة الصحفيين الفاسدين التي وعدت بتقديمها منذ قرابة العام، بل إنها ألقت بالكرة الى السلطات وإلى وزارة الداخلية تحديدا بالرغم من سهولة إنجاز هذه القائمة ومعرفة الرأي العام بأسماء كل الصحفيين الذين دعَّموا الديكتاتورية وكانوا يتلقون أموالا من خزينة الدولة لقاء تلك الخدمات.
خلاصة التوصيف، أنه في حين تسيطر الأحزاب المؤتلفة في إطار الحكومة وبخاصة حركة النهضة الاسلامية على القطاع الأكبر من أصوات الناخبين، فإن خصومها السياسيين يسيطرون على فضاء الإعلام وعلى أكبر قسم من النخبة الفكرية. وهؤلاء الخصوم ليسوا بالضرورة متفقين فيما بينهم حيث أن جزءا كبيرا منهم من أنصار النظام السابق الذين يحاولون اليوم تسويق أنفسهم كمعارضين للديكتاتورية التي يتهمون حركة النهضة بإعادة تأسيسها للاستبداد من خلال محاولة سيطرتها على الإعلام. في خضم هذا الصراع، وجدت هيئة إصلاح الإعلام نفسها تسير على خط رفيع، حيث أنها ترغب في التأسيس لإعلام قادر على التخلص من الممارسات والعناصر الفاسدة وعلى ضمان استقلاليته تجاه هذه السلطة وأية سلطة أخرى مهما كانت شرعيتها الانتخابية.
القطاع الإعلامي التونسي: المعضلات
عمد نظام زين العابدين بن علي إلى إحكام إغلاق الفضاء الإعلامي واحتكاره من طرف أجهزة حكومية قديمة (وكالة تونس افريقيا للأنباء مثلا، السيطرة المطلقة على الاذاعة والتلفزة الحكوميتيْن)، أو محدثة للغرض نفسه مثل (وكالة الاتصال الخارجي )، أو عن طريق مؤسسات إعلامية منحت تراخيصها لعناصر موثوقة الولاء للنظام مثل (إذاعات شمس وموزاييك وجوهرة، قناة حنبعل، صحف ومجلات). هذا الوضع السابق على الثورة سيجعل عملية نقل الإعلام من قطاع ينقل توجهات وأفكار أتباع النظام القديم إلى قطاع يتماشى مع الوضع الجديد الناشئ عن الثورة أمرا شديد الصعوبة. وبالرغم من منح تراخيص لعشرات الدوريات بعد الثورة ولعدد من الإذاعات، فإن المشهد الإعلامي لم يتغير بعمق.
وبذلك، تتمثل أهم معضلات القطاع الإعلامي في تونس بالأساس في تركة الاستبداد القديمة ولكن أيضاً في جملة من العوامل الناشئة عن الحالة السياسية العامة بعد الثورة، وأهم هذه العوامل على الإطلاق:
-
عدم اعتماد معظم المؤسسات الإعلامية على صحفيين محترفين حيث يفضل أصحاب هذه المؤسسات التعويل على خدمات هواة في العمل الصحفي أو في أفضل الحالات التعويل على التشغيل الهش، ما يجعل الصحفي خاضعا لتوجهات صاحب المؤسسة الإعلامية الذي يحدد بنفسه مواصفات المنتوج الإعلامي.
-
ضعف التكوين الذي يتلقاه طلبة "معهد الصحافة وعلوم الإخبار" وهو المؤسسة الجامعية الوحيدة التي تقدم تكوينا في ميدان الصحافة. كانت هذه المؤسسة باستمرار تحت سيطرة السلطة الحاكمة وخاضعة لتوجيهاتها السياسية ومنجما استمدت منه الحكومات المتعاقبة المدافعين عن سياساتها والمروجين لكل التضليل الإعلامي الذي سمح لها بالتحكم في الرأي العام إلى حدود اندلاع الثورة. أما "المركز الإفريقي لتدريب الصحافيين والاتصاليين" وهو مؤسسة حكومية، فقد ظل باستمرار مؤسسة تقنية مبتعدة عن تكوين الصحفيين بالمفهوم الشامل للتكوين حيث غابت تماماً الدورات المتخصصة في صحافة القرب وفي الإعلام الموجه للعموم.
-
ضعف الإطار التشريعي وافتقاد الكثير من المؤسسات الإعلامية لقوانين أساسية توضح مهام وصلاحيات كل الأطراف المتدخلة في المنتوج الإعلامي وتضبط علاقات العمل داخل المؤسسات، أما إذا ما وجدت هذه النصوص فإنها غالبا ما تؤدي في تطبيقها إلى الحد من حرية الصحفي وتجعله خاضعا لرؤسائه خضوعا يمنعه من أداء واجباته المهنية بالشكل الذي يُمكَنه من تقديم منتوج إعلامي حقيقي.
يواجه قطاع الإعلام اليوم في تونس تبعات هذه التركة حيث لم يتم إلى حد الآن إنجاز شيء ملموس يحرر العمل الإعلامي من هذه العوائق الهيكلية، ففيما عدا حل بعض المؤسسات التي كانت تحتل الصدارة في الترسانة الإعلامية لنظام بن علي ( المؤسسات الصحفية التابعة للحزب الحاكم المنحل و"وكالة الاتصال الخارجي" )، فإن مشاكل أخرى أضيفت إلى تلك العوائق وإن كانت في معظمها نتاجا لعملية تحرير القطاع الإعلامي، ومن ذلك بالخصوص:
-
تسهيل منح التراخيص لإصدار المطبوعات الدورية: بلغ عدد الدوريات حسب آخر الاستطلاعات حوالي الثلاثمائة دورية في عملية أطلق عليها البعض تسمية "الانفلات الإعلامي". وبالرغم من أن هذا المسار طبيعي في فترة ما بعد الثورات إلا أنه لم يؤد في الغالب إلى تحسين المنتوج الإعلامي بل أدى عكس ذلك تماماً إلى انحدار هذا المنتوج. وإن من أهم الأدلة على ذلك هي سيطرة عدد من رجال الأعمال المرتبطين بالنظام السابق على قطاع الصحافة المكتوبة، حيث يسيطر رجلا أعمال كانا من بين أقوى المساندين للنظام السابق، وبمفردهما، على حوالي العشرين عنوانا مختصة بالكامل في منافسيهم والقوى الجديدة التي فازت في المنافسة الديمقراطية.
-
استمرار الفراغ القانوني: بالرغم من صدور مرسومين ينظمان الميدان الإعلامي وهما مرسوم 115 ( مؤرخ في 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 2011 ومتعلق بحرية الصحافة والطباعة والنشر) ومرسوم 116 ( مؤرخ في 2 تشرين الثاني/نوفمبر ومتعلق بحرية الاتصال السمعي والبصري وبإحداث هيئة عليا مستقلة للاتصال السمعي والبصري)، فإن الحكومة التي جاءت بها انتخابات 23 أكتوبر/تشرين الأول تعمدت عدم تفعيلهما. ذلك أن صدور المرسومين عن الحكومة الانتقالية (حكومة الباجي قائد السبسي) وتحريرهما والمصادقة عليهما من طرف "الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي " السابقة عن الانتخابات، جعل شرعيتهما ضعيفة وشجع الحكومة على عدم تفعيلهما في انتظار تحويرهما وعرضهما مجددا على المجلس الوطني التأسيسي.
-
اضطراب أداء الإعلام العمومي: على عكس الوضع الذي سبق اندلاع الثورة، أصبح الإعلام العمومي وخاصة التلفزي يحظى اليوم بأعلى نسب المشاهدة، حيث يُقبِل التونسيون بشكل كبير على متابعة نشرة أنباء الثامنة مساء ومتابعة البرامج الحوارية السياسية التي تبثها القناة الوطنية الأولى. يسعى صحفيو هذه المؤسسة، وهي الأضخم في البلاد على الإطلاق سواء من حيث التمويل أو من حيث عدد العاملين فيها (أكثر من 1300 موظفا) إلى التحرر من الأساليب القديمة في العمل وإلى تحقيق هامش كبير من حرية العمل الإعلامي. فطيلة أكثر من أربعين عاما كان الاعلام العمومي رسميا وحكوميا بامتياز، وبالنظر إلى قلة مهنية معظم الصحفيين وانخراطهم القديم في المشهد الاعلامي السابق للثورة، فإن النقلة تشهد بعض الصعوبات. أول هذه الصعوبات على الاطلاق هو الإرث المعنوي الثقيل الذي تحمله هذه المؤسسة على كاهلها والذي يجعل الانتقال من إعلام رسمي إلى إعلام عمومي أمرا بالغ الصعوبة، خاصة وأنه يُطلب منه تحقيق هذه النقلة بنفس الوجوه وبنفس الهيكلة واعتمادا على نفس القوانين القديمة. أدى ذلك إلى أن هذه القناة التي غيرت اسمها من "قناة 7" (إشارة الى 7 نوفمبر/تشرين الثاني 1987 تاريخ وصول ابن علي الى السلطة) إلى "القناة الوطنية"، تعتبر الإعلام العمومي إعلاما معارضا للسلطة بالضرورة، حتى وإن كانت قد نشأت عن الانتخابات، وهذا هو أحد أسباب الاحتقان الحالي حول الإعلام العمومي. فهذه المؤسسة الممولة من دافعي الضرائب انتقلت من الدفاع عن الديكتاتورية السابقة إلى مهاجمة خصومها حتى ولو فازوا في انتخابات ديمقراطية.
استراتيجيات الأطراف المتصارعة
مع استعادة الشأن العام لاعتباره لدى التونسيين في سياق الانتقال الديمقراطي الذي تشهده البلاد منذ سقوط النظام السابق، كان طبيعيا أن يصبح القطاع الاعلامي أحد أكبر الرهانات في نظر مختلف الأطراف المتدخلة سواء كانت سياسية أو مهنية. ويمكن تلخيص استراتيجيات هذه الأطراف كما يلي:
-
الإعلاميون: بالرغم من محاولة عدد من الإعلاميين تطهير القطاع من العناصر التي أساءت إليه وإلى الرسالة الإعلامية وللتونسيين على حد سواء، فإن هذه المجهودات لم تصل بعد الى نتائج حاسمة وذلك بسبب التخوف من أن السلطة الجديدة لا تستهدف القضاء على الفساد داخل الإعلام بقدر استهدافها السيطرة عليه بذريعة مقاومة الفساد. أنتج ذلك عملية انطواء على الذات ودفاعا عن الاعلام كقطاع متجانس ومتكتل ضد السلطة الجديدة، فأدت إلى تعميق أزمة هذا القطاع من ناحية ولكن أيضاً إلى حماية الصحفيين من تدخلات السلطة وتوجيهها لمضامينه بدعوى الشرعية الديمقراطية. لكن المشكلة التي يلاحظها المهتمون بأداء الاعلام تبقى دون شك تحَوُّله من إعلام مساند للسلطة الديكتاتورية إلى إعلام معارض للسلطة الناشئة عن الديمقراطية مع صعوبة واضحة في الاستقرار عند أداء مهني غير منحاز سياسيا.
تتجاذب للسيطرة على الإعلاميين نزعتان : الأولى تمثلها هيئة إصلاح الاعلام التي انتهت مهمتها بنشر تقريرها في 30 نيسان /ابريل 2012 والتي يفترض أن تعوضها الهيئة التعديلية المستقلة للإعلام التي أسسها قانونيا المرسوم 116، والثانية نقابة الصحفيين التونسيين المعنية بالدفاع عن مصالح أعضائها، بغض النظر عن مضمون إنتاجهم الاعلامي. يتأتى المشكل من أن هيئة إصلاح الإعلام تجد معارضة من طرف قطاع من المتدخلين في القطاع الاعلامي بسبب توجهها لإقرار هيئة تعديلية بصلاحيات واسعة جداً وحصانة قانونية شبه كاملة مما يثير الكثير من التخوفات من دورها المستقبلي داخل الإعلاميين أنفسهم.
-
المعارضة السياسية: بالرغم من أن المعارضة لا تجد في الفضاء الاعلامي العمومي ما توقعته من فرص لبسط أفكارها وطرح توجهاتها إلا أنها وجدت نفسها مجبرة في خضم الصراع السياسي مع أحزاب الحكم على تقديم المساندة المطلقة للصحفيين في صراعهم ضد الحكومة. يؤسس هذا السلوك بالرغم من طابع المزايدة الغالب عليه لتوازن سيجعل محاولة أي سلطة السيطرة على القطاع الاعلامي في المستقبل أمرا بالغ الصعوبة. غير أن استعمال هذه المساندة لأهداف انتخابية أمر مقلق بالنسبة لبقية المنافسين السياسيين ويزيد في توتير الوضع وفي ربط الإعلام بالسياسة، ما يعطي لتخوفات الأحزاب الحاكمة مزيدا من التبريرات في إتهام الاعلام بتغليب الولاءات السياسية على الأداء المهني.
-
الحكومة: يتقاطع سلوك الحكومة إزاء موضوع الإعلام مع سلوك حركة النهضة الاسلامية التي تسيطر على معظم المقاعد داخل الترويكا الحاكمة. من ناحية مبدئية، تعتقد الحكومة أن من حق التونسيين الحكم عليها أو لها بالنظر الى تغطية موضوعية وأمينة للأحداث، وهو أمر لا تزال وسائل الاعلام وخاصة منها العمومية بعيدة عنه. بالموازاة مع ذلك، تشعر الحركة بغبن شديد نتيجة انحياز الاعلام ضدها، ما أدى بها الى اتباع منهج متوتر إزاء الإعلام العمومي طرحت في خضمه فكرة خصخصته وهو ما زاد في إثارة الإعلاميين. يبدو سلوك الحكومة والنهضة على حد سواء مضطربا تجاه الاعلام، وينحصر في الضغط الشعبي ومحاولة إحداث مؤسسات إعلامية جديدة في الأيام القادمة، لكن لا يبدو أن ذلك بقادر على إحداث التغيير المرغوب في هذا القطاع. وحركة النهضة في هذا السياق، ستجد مصلحتها في إعلام مهني ومحايد يعطيها من الحقوق ما يعطيه لغيرها. من هنا، فإن تفعيل المرسومين 115 و 116 بعد إدخال بعض التعديلات يصبح أمرا مستعجلا. غير أن الثقة في قيام هيئة التعديل بدورها باستقلالية عن مراكز القوى الأخرى وخاصة المعارضة للحكومة، لا تبدو راجحة. يؤدي ذلك إلى تردد شديد في التعامل مع إشكاليات القطاع تبين بشكل واضح في الاستشارة التي نظمتها الحكومة حول آفاق إصلاح الإعلام يومي 27 و 28 نيسان/ ابريل 2012 والتي قاطعتها هيئة إصلاح الإعلام ونقابة الصحفيين على حد سواء.
المستقبل بين النخبة والشارع
لا ينتظر أي انفراج قريب في الصراع حول الإعلام قبل نهاية الفترة الانتقالية الراهنة وحتى بعد تنقيح و تفعيل المرسومين 115 و 116 ووضع الدستور. ذلك أن الصراع قد انتقل إلى الإعلام من الساحة السياسة، وهذا الصراع السياسي لن يفض على المدى القريب ولا المتوسط. سيستمر هذا الصراع طالما كان تمثيل الإسلاميين وخصومهم متناقضا بين النخبة والشارع ولكن أيضاً طالما تواصل عجز الصحفيين عن الفصل بين الأداء المهني والرغبة السياسية الواضحة في مناكفة الإسلاميين. بالرغم من أن الأداء الإعلامي يخضع لمقاييس مهنية متعارف عليها تُسهِّل التوصل إلى توافق أغلبية المتدخلين، فإن عوائق كبيرة تمنع العمل الصحفي في تونس من بلوغ درجة المهنية المطلوبة تلك، ذلك أن الأمر يتطلب مجهودا كبيرا في مجال الهيكلة والتكوين لن تظهر نتائجه على المدى القريب.
تضافر العائق السياسي مع العائق المهني سيجعل من الإعلام في تونس بؤرة توتر أساسية في عملية التحول الديمقراطي، وستظل الأزمة قائمة إلى تنشأ توازنات اجتماعية جديدة تجعل الممارسة الاعلامية التعددية ممكنة ومحمية.