مقدمة
بعد سلسلة من حزم العقوبات الأميركية والأوروبية المفروضة على شخصيات وشركات سورية وأجنبية، ستبدأ الإدارة الأميركية، في 17 يونيو/حزيران 2020، سلسلة جديدة من العقوبات تحت اسم "قانون قيصر"، وتطول هذه العقوبات كافة الشركات والشخصيات السورية والأجنبية التي تبيع أو تزود حكومة النظام ببضائع أو خدمات أو تقنيات للقطاعات العسكرية والنفطية ولكل ما يمت بإعادة الإعمار بصلة.
حظي "قانون قيصر" الأميركي بتأييد الجمهوريين والديمقراطيين؛ ويأتي كعقاب لنظام الرئيس، بشار الأسد، جرَّاء الانتهاكات الانسانية التي ظهرت في 55 ألف صورة توثِّق جرائم الأسد في السجون والمعتقلات في سوريا، سربها المصور العسكري المنشق عن النظام المعروف بالاسم المستعار "قيصر". وقد تردد هذا الأخير على الكونغرس الأميركي باستمرار على مدى الأعوام الماضية، وعرض صوره على المشرِّعين، لحثهم على ضرورة الضغط على نظام الأسد لوقف "جرائمه".
تتزامن هذه العقوبات مع مشهد محلي متأزم على المستوى الاقتصادي بالنسبة للنظام، الذي يواجه سلسلة من التحديات بعضها مرتبط بإعادة تشكيل شبكات تحكُّم النظام، من جهة، وتتعلق بأسئلة التسوية وما بعد الحرب، من جهة ثانية. لذا، سيحاول هذا التقرير ابتداءً تقديم استعراض موجز لتاريخ العقوبات على النظام السوري وسياقاته السياسية، كما سيسعى إلى تبيان ماهية قانون قيصر وغاياته الأميركية، المباشرة منها وغير المباشرة، ثم يبحث في تداعيات هذا القانون على طرفي الصراع السوري (النظام والمعارضة)؛ ليقف في ختامه على مجمل صورة المشهد السوري وسيناريوهات المسار الذي سيسلكه هذا المشهد بعد قانون قيصر.
تاريخ العقوبات الأميركية على النظام السوري
يعود تاريخ أول حزمة عقوبات أميركية على النظام السوري لعام 1979 وذلك على خلفية تصنيفها ضمن فئة الدول "الراعية للإرهاب"، ثم تجددت تلك العقوبات من قبل إدارة ريغان، 1986، وقد شملت العقوبات حظر تصدير السلع أو التجهيزات التي تحتوي على مكوِّن أميركي بنسبة 10% فأكثر، كما استمرت العقوبات بأشكال أخرى في عهد إدارتي جورج بوش الأب (1989-1993)، وبيل كلينتون (1993-2001) كتخفيض الصادرات الأميركية إلى سوريا(1).
وتجددت العقوبات الأميركية في ظل إدارة بوش الابن بإقرارها لقانون محاسبة سوريا واسترداد سيادة لبنان (2003) وما لحقه من مجموعة قرارات تنفيذية تضمنت منع التعامل الاقتصادي والاستثماري بين البلدين ومنع الشركات الأميركية من دخول السوق السورية -باستثناء الأنشطة المتعلقة بالدواء والغذاء- وتجميد أرصدة الحكومة السورية في البنوك الأميركية وتخفيض التمثيل الدبلوماسي وتقييد حركة الدبلوماسيين السوريين(2).
على خلفية حملات القمع التي انتهجها النظام حيال الحراك الثوري في سوريا؛ وفي أول خطوة ملموسة لواشنطن للرد على حملة القمع، فرضت الولايات المتحدة، في 29 أبريل/نيسان 2011، حزمة من العقوبات على النظام السوري تضمنت تجميدًا للأصول وحظرًا للتعاملات التجارية الأميركية، وفي 18 مايو/أيار 2011، أضافت واشنطن بشار الأسد ورئيس الوزراء ووزيري الداخلية والدفاع ومدير المخابرات العسكرية ومدير فرع الأمن السياسي إلى قائمة العقوبات؛ وفي 29 يونيو/حزيران 2011، ذكرت وزارة الخزانة الأميركية أنها ستفرض عقوبات على الأجهزة الأمنية الأربعة (إدارة المخابرات العامة وشعبة المخابرات العسكرية وإدارة المخابرات الجوية وشعبة الأمن السياسي) وستجمِّد أي أصول تقع تحت السلطة القضائية الأميركية وحظرت على الأميركيين أي تعامل مع تلك الأفرع(3).
ووسَّعت وزارة الخزانة الأميركية نطاق العقوبات ضد النظام، في 10 أغسطس/آب 2011، إذ جمدت أصول المصرف التجاري السوري واستهدفت العقوبات شركة سيريتل للهاتف المحمول، والتي تعود ملكيتها لرامي مخلوف؛ وبعد أسبوع فرضت واشنطن عقوبات جديدة شملت فيما شملت تجميد كل أصول لحكومة النظام الموجودة في الولايات المتحدة أو الخاضعة للاختصاص القضائي للولايات المتحدة. وتحظر العقوبات على الأميركيين أيضًا القيام باستثمارات جديدة أو تقديم خدمات لسوريا كما حظرت استيراد المنتجات النفطية السورية. وأضيفت شركات أخرى الى القائمة السوداء منها شركة تسويق النفط السورية (سيترول) والشركة السورية للنفط. وأضافت الوزارة، في 1 ديسمبر/كانون الأول 2011، اسم محمد مخلوف، خال الرئيس الأسد، واللواء أوس أصلان والمصرف العقاري ومؤسسة الإسكان العسكرية. وتتابعت هذه العقوبات في عام 2012 على خلفية تعاطي النظام العنيف مع الحراك الثوري وتركزت العقوبات على غلق السفارة ومنع استيراد وتصدير النفط من وإلى سوريا وكذلك على القطاع المالي والنقدي بمنع تعزيز الاعتمادات المستندية وتجميد جميع الأصول المالية في أوروبا وغيرها(4).
عمومًا، منذ تاريخ 2004 وحتى تاريخ نهاية عام 2012 شملت العقوبات الأميركية (تجميد أصول ومنع تعامل)، وفقًا لتصنيف المكتب الأميركي لمراقبة الأصول الأجنبية OFAC، حوالي 25 شخصًا شملوا رئيس النظام وأقاربه وقيادات حزبية ووزراء وقادة أمنيين وعسكريين وسفراء؛ وقرابة 25 مصرفًا حكوميًّا وخاصًّا وهيئة حكومية وأمنية وعسكرية وشركات اقتصادية(5).
وفي قرار يؤكد على التعامل التجاري -غير المباشر- للنظام مع تنظيم الدولة، فرضت وزارة الخزانة الأميركية، في 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2015، عقوبات على أربع شخصيات وست هيئات سورية وروسية وقبرصية، بتهمة تشكيل شبكة تقوم على تسهيل عملية شراء النفط من منشآت يُسيطر عليها تنظيم "داعش"(6).
وفي يوليو/تموز 2016، أدرجت الولايات المتحدة الأميركية 8 أشخاص و7 شركات على القائمة السوداء لمساندتهم نظام الرئيس الأسد وتقديم المساعدة لبرنامجه التسليحي ومعاونة من هم مدرجون على قائمة العقوبات الأميركية سابقًا. في عام 2016، تقدمت مجموعة من النواب الجمهوريين بمشروع قانون لفرض عقوبات على النظام تحت اسم (قانون سيزر-القيصر) وهو منشق عسكري عن النظام، قدَّم عشرات الآلاف من الصور الدالَّة على التعذيب داخل السجون السورية(7)، لكنه غاب في الأدراج نظرًا لعدم رغبة أوباما في إصدار قانون "عقوبات قاس" على النظام خشية تأثير ذلك على مفاوضات الملف النووي الإيراني(8).
وعلى خلفية إعلان لجنة آلية "التحقيق المشتركة" التابعة لمنظمتي حظر الأسلحة الكيماوية والأمم المتحدة، عن ضلوع نظام الأسد في 3 هجمات بأسلحة كيماوية في سوريا في عام 2016 ؛ فرضت الولايات المتحدة، في مطلع عام 2017، عقوبات على مركز الدراسات والبحوث العلمية و5 مؤسسات عسكرية و18 مسؤولًا رفيع المستوى جرَّاء تورطهم في برنامج أسلحة النظام السوري للدمار الشامل، كما شملت مؤسسات "القوى الجوية" و"قوى الدفاع الجوي" و"البحرية" و"الحرس الجمهوري" و"منظمة الصناعات التكنولوجية السورية" (الأناضول)(9). وفي أبريل/نيسان 2017، جرى فرض عقوبات على 271 موظفًا في مركز الدراسات والبحوث العلمية كانوا قد عملوا في برامج الأسلحة الكيماوية السورية لأكثر من خمس سنوات(10).
ولأسباب مرتبطة بالتسهيل المالي والتجاري واللوجستي لمن شملتهم العقوبات الأميركية، فرضت وزارة الخزانة الأميركية، في 17 مايو/أيار 2017، على محمد عباس، المسؤول عن إدارة شركتي "الأجنحة" بدمشق، و"بارلي أوف شور" في بيروت، وهما شركتان مستخدَمتان في نقل الواردات المالية لرامي مخلوف إلى خارج سوريا، ومنظمة "البستان" الخيرية ومديرها سمير درويش وإياد وإيهاب مخلوف (إخوة رامي). كما شملت العقوبات "بنك الشام" الإسلامي لتقديمه الدعم لحكومة النظام؛ ومدير العقود في "مركز البحوث والدراسات العلمية"، محمد بن محمد بن فارس قويدر(11).
وفي أواخر عام 2019، وبعد سلسلة من التعديلات والتغييرات والتأجيلات؛ وقَّع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، قانون موازنة الدفاع الذي يتضمن "قانون قيصر لحماية المدنيين في سوريا لعام 2019" بعد موافقة مجلسي النواب والشيوخ في الكونغرس عليه. وسُمي التشريع بـ"قانون قيصر" والذي اعتبرته الإدارة الأميركية "خطوة مهمة لتعزيز المحاسبة عن الفظائع التي ارتكبها النظام"(12).
قراءة في القانون وغاياته الأميركية
بدأت مجموعات ناشطة في الجالية السورية الأميركية منذ عام 2014 بتسهيل مهمة قيصر والتأثير على إدارة أوباما آنذاك لاستصدار قانون عقوبات ضد النظام السوري، كما حاولت نقل هذا التأثير للصحافة الأميركية وبدأت بتقديم طلبات مساعدة من أعضاء الكونغرس بطرح القانون أولًا والتصويت عليه تاليًا؛ إلا أن جهودها لم تثمر آنذاك؛ وفي إدارة ترامب تلاقت مصالح تلك المجموعات مع مصالح إدارة ترامب وتم اصدار القانون في نهاية العام المنصرم (2019)(13).
يسعى "قانون قيصر" إلى توسيع نظام العقوبات التي كانت تستهدف النظام خلال سِنِي الصراع (تجميد أصول وإضافة إلى القوائم السوداء) عبر استهداف المؤسسات الحكومية السورية والأفراد، من مدنيين ومسؤولين، الذين يمولون النظام السوري وروسيا وإيران، سواء أكان هذا التمويل متعلقًا بأنشطتهم العسكرية أو جهود إعادة الإعمار أو انتهاكات حقوق الإنسان. كما يفتح الباب أمام فرض عقوبات على أصحاب الشركات الأجنبية التي تجمعها صلات بالأسد وحلفائه؛ والجدير بالذكر أن القانون يستثني ببعض بنوده المساعدات الإنسانية من العقوبات، وذلك عبر إعطاء الرئيس الأميركي صلاحية عدم فرض العقوبات على المنظمات غير الحكومية التي توفر المساعدات الإنسانية لسوريا(14).
تستند منهجية القانون، التي أُدرجت ضمن ميزانية وزارة الدفاع، على إجراءات وعقوبات وشروط لرفعها؛ إذ بيَّن القانون أنه خلال مدة أقصاها 180 يومًا يُجري وزير الخزانة الأميركي دراسة حول عمليات غسل أموال يقوم بها مصرف سوريا المركزي؛ بالإضافة إلى تقديم أي شخص أو جهة على علم بسريان "القانون دعمًا ماليًّا أو ماديًّا أو تقنيًّا أو ينخرط بصفقات مع نظام الأسد، بما في ذلك أية جهة تابعة للنظام أو أي مسؤول رفيع المستوى ضمن النظام؛ كما أوضح القانون أيضًا أنه عند مرور 90 يومًا من تاريخ سريان "قانون قيصر" يتوجب على رئيس الولايات المتحدة الأميركية إنزال العقوبات بحق أي شخص يتعامل مع النظام، كما تنزل العقوبات أيضًا على أي شخص يقدم بضائع أو معلومات تسهِّل على النظام التوسع في سيطرته على الإنتاج النفطي من البترول والغاز النفطي ومشتقاتهما. كما تطول العقوبات أية جهة تقدم قطع غيار أو بضائع تتعلق بالطائرات التابعة للنظام وخاصةً التي تُستخدم عسكريًّا مهما كانت جنسيتها. كما يتيح القانون فرض عقوبات على أية جهة تقوم بشكل مباشر أو غير مباشر بتقديم خدمات للنظام فيما يتعلق بإعادة الإعمار.
أما فيما يتعلق بشروط رفع العقوبات ضمن هذا القانون، وهو ما يمكن اعتباره تعبيرًا رسميًّا عن غايات واشنطن؛ فهي متمثلة بستة شروط موضحة بما يلي(15):
- وقف عمليات القصف بالطيران من قبل النظام أو روسيا للمدنيين.
- التزام القوات السورية والروسية والإيرانية والكيانات المرتبطة بها وقف قصف المنشآت الطبية والاستشفائية ودور التعليم والمجمعات السكنية أو التجارية.
- وقف القيود التي تضعها القوات السورية والروسية والإيرانية وكل الكيانات المرتبطة بها، على وصول المساعدات الإنسانية إلى المناطق والمدن والقرى المحاصرة، والسماح للمدنيين بحرية الانتقال.
- إطلاق المعتقلين السياسيين المحتجزين قسرًا، ومنح المنظمات الدولية لحقوق الإنسان حق الوصول إلى السجون ومراكز الاعتقال في سوريا.
- تأمين العودة الآمنة والطوعية الكريمة للسوريين اللاجئين بسبب الحرب في سوريا.
- محاسبة مرتكبي الجرائم في سوريا، وتقديمهم إلى العدالة، وتأمين الدخول في عملية المصالحة والحوار.
عمومًا، تتعدد الغايات الأميركية وراء هذا القانون وتتموضع في مستويات مرتبطة بحلفاء النظام ومستويات متعلقة بسياسات واشنطن نفسها ومستويات متعلقة باستراتيجية الولايات المتحدة الأميركية في سوريا.
أما المستويات المتعلقة بحلفاء النظام؛ فتستمر الولايات المتحدة بسياسة عرقلة جهود الروس وجعل تدخلهم في سوريا "ورطة" عبر تعظيم كلف استحقاقات النظام بعد الحرب وربط الروس بنظام غير قادر على إدارة الدولة وغير مسموح له بالتعويم؛ كما يُفهم هذا القانون بأنه سلسلة جديدة من سلاسل محاصرة إيران اقتصاديًّا وتقليص أوراق قوتها التفاوضية خاصة بعد انسحاب إدارة ترامب من الاتفاق النووي الذي وقَّعته طهران مع إدارة أوباما. إذن، تسعى واشنطن من وراء هذا القانون إلى جعل الروس متورطين و"شركاء تحت طائلة المسؤولية والمحاسبة"، كما تُعزز من العقوبات المفروضة على إيران لتشمل المؤسسات والهيئات ذات الصلة، وعلى وجه الخصوص حزب الله اللبناني.
ولا شك في أن هذا القانون لا ينفك عن أنه استمرار لتبني الإدارة الأميركية بقيادة "دونالد ترامب" العقوبات كإحدى أدوات سياساتها الاقتصادية، وهي من أهم أنواع السياسات التي تندرج في إطار السياسات الدولية الردعية الهادفة لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية واجتماعية محددة، من خلال ممارسة الضغط على الدول المستهدفة بالعقوبات بهدف تغيير مواقفها في الاتجاه الذي تريده الدولة التي تفرضها؛ حيث فرضت الولايات المتحدة عقوبات اقتصادية على العديد من الدول، مثل: روسيا، والصين، وكوريا الشمالية، وإيران، وتركيا، وقديمًا ليبيا وكوبا.
أما فيما يتعلق بالمستوى المرتبط باستراتيجية الولايات المتحدة في سوريا؛ فهي تهدف من استصدار هذا القانون بمنهجية مختلفة، العودة النوعية للملف السوري عبر تعزيز مبدأ المساءلة (كما صرَّح مايك بومبيو في بيان لوزارة الخارجية الأميركية)(16)، ويوفر لأميركا "أدوات للمساعدة في إنهاء الصراع" والعودة بشروط تفاوض قوية والضغط على النظام وحلفائه لجرِّه للعملية السياسية، وإجباره على الرضوخ للقرارات الدولية؛ إذ تؤكد قراءة القانون اتساقه إلى حد كبير مع قراري مجلس الأمن 2118 و2254، مع إمكانية تعليق العقوبات في حال تخلى عن سياساته الحالية.
تداعيات قانون قيصر على أطراف الصراع المحلية
فضلًا عن أن القانون أداة ضغط شديدة على النظام، فإنه يأتي في ظل أزمات محلية (خلاف رامي مخلوف مع نظام الأسد وجائحة كورونا)(17)، وبالتوازي مع أزمات في مجاله الحيوي، لبنان والعراق، ما يجعل الاقتصاد السوري -المعتل أساسًا- في أضعف مستوياته(18)؛ وليضع النظام في عزلة مستدامة؛ لأنه سيدفع دولًا عربية وأجنبية بالإضافة إلى العديد من الشركات التي بدأت تفكر بامتيازات في سوريا، إلى إعادة النظر بشأن مواصلة التعامل مع النظام تفاديًا للمخاطر الكبيرة المتوقعة بموجب قانون قيصر.
يوسِّع قانون قيصر مساحات الشلل في بنية النظام الاقتصادية؛ لاسيما أن واشنطن تتحكم بنسب عالية من نظام التحويلات المالية عبر العالم، لذا فإن مقاطعتها للنظام المصرفي بما ذلك البنك المركزي وفرض عقوبات عليه في بلد مثل سوريا، تعني شلَّ التجارة والصناعة والخدمات فيه، كما تعني أن القسم الأكبر من الدولار والعملات الصعبة الأخرى اللازمة لاستيراد الأغذية والأدوية ومستلزمات الإنتاج لا يمكن توفيرها. ومن شأن هذا الحرمان أن يقود إلى انهيار الليرة السورية -فقدت 40 بالمئة من قيمتها مقابل الدولار الأميركي في السوق السوداء منذ شهر يونيو/حزيران لعام 2020(19)- وارتفاع جنوني في الأسعار وزيادة نسبة الفقر التي يعاني منها حاليًّا 90 بالمئة من السوريين، بينما يعاني أكثر من الثلثين منهم من الفقر الشديد.
ويمكن لهذا القول: إن النظام بين خطرين وجوديين: الأول: تعاظم الضغوط المحلية المتأتية من ارتفاع مستوى الفقر العام في سوريا وما ستفرضه من حركات احتجاجية كما هو الشأن في السويداء، أو المتأتية من عدم قدرته على ضبط أزمة مخلوف وتداعياتها المحتملة على الاقتصاد بشكل عام أو على طبقة المنتفعين المتحكمين بالاقتصاد وخشيتهم من مصير مشابه لمخلوف(20)؛ والخطر الثاني هو عدم قدرة الحلفاء على تقديم دعم مادي نوعي واكتفائهم بالدعم السياسي الذي بنهاية المطاف هو متحصل ومستمر.
على الرغم من استثناء مناطق الإدارة الذاتية من قانون قيصر فإن الأخيرة لن تغامر باستمرار العلاقات التجارية مع النظام لاسيما في مجال النفط؛ ما يضيِّق هوامش الحركة للنظام؛ وستنتهز قنوات النظام الرسمية فرصة بدء تطبيق القانون في سبيل تخفيف آثاره بطرح شعار مواجهة "الحرب الاقتصادية ضد الشعب السوري"، واستخدامه مجالًا للنشاط الدبلوماسي في أروقة الأمم المتحدة؛ وأداة قمع في وجه الحراك الاحتجاجي الناشئ(21)، ومبررًا لتهمة أمنية يطارد بموجبها النظام التجار والصيارفة، ولتكون قرارات النظام حيال هؤلاء أشبه بما قام به مع رامي مخلوف.
وعلى الرغم من وجود مؤشرات على أن النظام مستمر في عزمه على إجراء الانتخابات النيابية، في 19 يوليو/تموز 2020، في اتجاه مخالف لمسار جنيف وقرار 2254 وأجندته المتعلقة بالانتخابات؛ فإنه لا يُستبعد أن يجري وضع خطة روسية تقوم على مبدأ التفاوض مع الولايات المتحدة من أجل شراء الوقت؛ تقدِّم من خلالها -بالاتفاق مع النظام- طرحًا يفيد بولوج النظام بأعمال اللجنة الدستورية وتأجيل الانتخابات واعتبارها مؤشرًا على الاستجابة.
أما فيما يتعلق بتداعيات قانون قيصر على المعارضة، فإنها تتجه على المستوى الاقتصادي وبالتضافر مع حليفها التركي، نحو استبدال التعاملات التجارية والمعاشية من الليرة السورية إلى الليرة التركية كخطوة استتباقية لتفادي تبعات انهيار الليرة. أما على المستوى السياسي، فإن القانون والعودة النوعية لواشنطن إلى الملف السوري يعطيان فرصة للمعارضة للفاعلية السياسية واستثمار ذلك لزيادة الخناق على النظام، إلا أن الخلافات التي تشهدها هيئة التفاوض السوري حول تمثيل بعض الكتل فيها، لاسيما كتلة المستقلين، جعلتها مشغولة بنفسها. وبالمقابل، شكَّل الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية فريقًا خاصًّا لمتابعة تطبيق وتنفيذ "قانون قيصر" والقيام بسلسلة نشاطات دبلوماسية مع الدول الداعمة لها، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، لما أسماه بيان الائتلاف بـ"تفعيل القانون والاستفادة منه لأقصى درجة" بالإضافة إلى وضع آليات العمل لتحديد الجهات التي تعمل مع النظام وتساعده في الالتفاف على العقوبات، وتساهم في إمداده بالمقاتلين والأسلحة(22).
السيناريوهات المحتملة للمشهد السوري بعد قيصر
على الرغم من شدة التداعيات المتوقعة للقانون على النظام، إلا أن اعتقادًا بعدم جدوى العقوبات كمبدأ في تقويض سلطة النظام، يتعزز في مخيال النظام؛ مستندًا على أن هذا النهج ليس بجديد، وأن الدول التي تتعرض لعقوبات مثل روسيا وإيران بنت سياساتها وعلاقاتها على أساس تلك العقوبات، وعملت على سياسات البدائل سواء في علاقاتها الدولية أو في سياساتها الداخلية، كما حدث في المشروعين، النووي والصاروخي، الإيرانيين اللذين تأسسا وتطورا في ظل العقوبات، كما خاضت في ظل العقوبات حرب الثماني سنوات ضد العراق، وخاض نظام الأسد -وإلى جانبه إيران وروسيا- الحرب على السوريين في السنوات التسعة الماضية(23). وفي حين تبدو هذه المقاربة هي النهج الأكثر توقعًا لتعاطي النظام؛ فإنها تجعل سير المشهد العام باتجاه السيناريوهات التالية:
السيناريو الأول: تجميد الصراع في إدلب بعد أن بدت مؤشرات بعودته يرافقه تجميد في المسار السياسي؛ والتفاف كافة الأطراف المحلية وحلفائهم إلى استحقاقاتهم المحلية، ومما يدعم هذا التوقع حركية النظام السابقة وعدم اهتمامه بالضغط الاقتصادي والاستمرار قدمًا باتجاه الحلول الصفرية. وستكون تكلفة هذا السيناريو عالية على النظام إذ ستزداد وتيرة التصدعات الاقتصادية والاجتماعية.
السيناريو الثاني: المواجهة المحلية؛ ربما يشكِّل القانون دافعًا للنظام باتجاه إعادة السيطرة على إدلب لتحسين أوراقه التفاوضية والتفكير في كسر قواعد الاشتباك في شرق النهر (مناطق الإدارة الذاتية) وما ستشكله من فرصة محتملة للسيطرة على مناطق مهمة بالمعنى الاقتصادي؛ وهذا ما يعزز شروطه التفاوضية ويتيح له القدرة على التحكم بمسار التسوية.
السيناريو الثالث: محاولة الالتفاف لكسب الوقت عبر دفع النظام وحلفائه باتجاه إنعاش شكلي للعملية السياسية، مستفيدين من أجواء التفاوض التي ستتيحها شروط القانون والتي أعاد ذكرها مرة أخرى جيمس جيفري، المبعوث الأميركي في تصريحاته الصحفية؛ وهذا ما يجعل تكرار اللقاءات الروسية-الأميركية عنوان المرحلة المقبلة على المدى المنظور؛ والذي يُرتجى منه التوصل إلى تفاهمٍ ما يعيد لموسكو ومن خلفها النظام القدرة على الوقوف والتقاط الأنفاس اقتصاديًّا إلا أنه لا نتائج مضمونة في هذا الاتجاه خاصة أن ملامح عدم الرضوخ هي الملمح الأكثر وضوحًا، وإنْ أبدى النظام رغبة شكلية بالانخراط في العملية الدستورية.
السيناريو الرابع: إنتاج صفقة روسية-أميركية تزيح الأسد عن المشهد السوري وتفاعلاته؛ إلا أنه وعلى الرغم من أن الاستثمار الروسي برأس النظام لم يعد مجديًا بالمعنى الاستراتيجي؛ فإن هذا السيناريو مرتبط بتحول الإشارات غير الرسمية التي طرحها الروس في هذا الصدد (أي التخلي عن الأسد واستبدال آخر به)، عبر مراكز دراسات وشخصيات روسية إلى طاولة الحوار مع الفاعل الأميركي، وهو أمر لم يحدث بعد.
خاتمة
بنهاية المطاف؛ من المتوقع أن يغيِّر قانون قيصر في كثير من قواعد اللعبة السورية لتكون ضد النظام بعد أن كانت تصب لصالحه بطريقة أو أخرى؛ ويشير هذا القانون إلى عودة نوعية للولايات المتحدة الأميركية عبر أداة العقوبات النوعية لتضمن أولًا تأخيرًا في شرعنة الأسد في محيطه العربي والإقليمي، ولتعزز من فرضيات الفشل الوظيفي له ومواجهته لأزمات اقتصادية واجتماعية متلاحقة؛ ولتزيد من خنق إيران وأذرعها الإقليمية وتجعل من التدخل الروسي تدخلًا مزمنًا وذا كلف سياسية عالية.
(1) العقوبات وأثرها على الأنظمة الشمولية: النموذج السوري دوام السلطوية وتحولها، مدونة نصح، تاريخ 28 أغسطس/آب 2017، (تاريخ الدخول: 15 يونيو/حزيران 2020): https://2u.pw/xBEFf
(2) شادي أحمد، أصل عقوبات "سيزر" الأميركية ضد سوريا وما هو تأثيرها وهدفها، مركز أبحاث كاتيخون، 1 يناير/كانون الثاني 2019، (تاريخ الدخول: 15 يونيو/حزيران 2020): https://2u.pw/EBArv
(3) حقائق- العقوبات المفروضة على سوريا، رويترز، 23 مارس/آذار 2012، (تاريخ الدخول: 15 يونيو/حزيران 2020): https://2u.pw/6dZHl
(5) العقوبات الأميركية على سورية، مركز كارينغي للشرق الأوسط، 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2012، (تاريخ الدخول: 15 يونيو/حزيران 2020): https://2u.pw/1pmiQ
(6) وإذا كان اسم حاكم مصرف سوريا المركزي السابق، أديب ميالة، وُضع في مرحلة سابقة ومتقدمة على قائمة العقوبات في 2012 فإن اسمه لمع مجددًا في هذا القرار نظرًا لشموله لشخصية مقربة منه، وهي: مدلل خوري، حيث تبين لوزارة الخزانة الأميركية قيامه بتمثيل كلٍّ من ميالة وموظفته (بتول رضا) في أنشطة مالية وتجارية داعمة لحكومة النظام ومصرف سوريا المركزي. للمزيد، انظر: عبد المنعم الحلبي، الخزانة الأميركية وضوء جديد على دور أديب ميالة، موقع اقتصاد، (تاريخ الدخول: 15 يونيو/حزيران 2020): https://2u.pw/RCv1n
(7) عقوبات أميركية تطول 8 أشخاص و7 شركات ساعدوا "نظام الأسد"، موقع أورينت، 22 يوليو/تموز 2016، (تاريخ الدخول: 15 يونيو/حزيران 2020): https://2u.pw/FsMH5
(8) مقابلة هاتفية أجراها الباحث مع قتيبة إدلبي، ناشط سياسي مقيم في الولايات المتحدة في تاريخ 11 يونيو/حزيران 2020.
(9) كما شملت العقوبات مدير شعبة الأمن السياسي، محمد خالد رحمون، ومدير الاستخبارات العسكرية، اللواء محمد محمود محلا، والعميد ياسين أحمد ضاحي. كما طالت: قائد القوى الجوية السورية والدفاع الجوي السوري، اللواء أحمد بلول، واللواء طيار، ساجي جميل درويش، والعميد طيار، بديع ملا، وكلاهما من كبار المسؤولين في القوات الجوية السورية؛ "وقائد الحرس الجمهوري السوري، اللواء طلال شفيق مخلوف، والعميد طيار محمد إبراهيم، وهو ضابط في القوات الجوية السورية، بالإضافة إلى اللواء رفيق شحادة، وهو مدير سابق للاستخبارات العسكرية السورية. وكذلك شملت مدير "مركز الدراسات والبحوث العلمية"، العميد غسان عباس، وكادره الإداري كالعميد علي ونوس والعميد سمير دبول والعقيد زهير حيدر والعقيد حبيب حوراني والعقيد فراس أحمد. وفرضت الوزارة الأميركية أيضًا عقوبات على بيان بيطار، المدير الإداري لمنظمة الصناعات التكنولوجية السورية، وهي شركة تابعة لوزارة دفاع النظام السوري. للمزيد، انظر: الخزانة الأميركية تفرض عقوبات على 6 مؤسسات و18 مسؤولًا بنظام "الأسد" جرَّاء تورطهم في هجمات بالأسلحة الكيماوية ضد الشعب السوري، الأناضول، 12 يناير/كانون الثاني 2017، (تاريخ الدخول: 15 يونيو/حزيران 2020): https://cutt.us/eeP5J
(10) بالأسماء.. عقوبات أميركية على 271 موظفًا في مركز البحوث العلمية بدمشق، عنب بلدي، 24 أبريل/نيسان 2017، (تاريخ الدخول: 15 يونيو/حزيران 2020): https://cutt.us/p6rne
(11) واشنطن تفرض عقوبات على أشخاص ومؤسسات سورية تدعم الأسد، الخليج أونلاين، 17 مايو/أيار 2017، (تاريخ الدخول: 15 يونيو/حزيران 2020): https://cutt.us/up21z
(12) إبراهيم حميدي، ماذا يعني توقيع ترمب «قانون قيصر» السوري سياسيًّا وعمليًّا؟، الشرق الأوسط، 21 ديسمبر/كانون الأول 2019، (تاريخ الدخول: 15 يونيو/حزيران 2020): https://cutt.us/NXa8w
(13) وذلك وفقًا لما رواه الناشط الحقوقي "محمد غانم" حول الجهود التي بذلتها الجالية السورية في واشنطن للوصول إلى إقرار "قانون قيصر"؛ للمزيد، انظر: هكذا ساهمت جهود الجالية السورية في إقرار قانون "قيصر"، زمان الوصل، 5 يناير/كانون الثاني 2020، (تاريخ الدخول: 15 يونيو/حزيران 2020): https://cutt.us/hMArs
(14) للاطلاع على النسخة المترجمة للغة العربية من قانون قيصر، انظر: النص الكامل لقانون قيصر لحماية المدنيين السوريين لعام 2019 – إصدار يناير/كانون الثاني 2019، مركز إدراك للدراسات والاستشارات، 24 يناير/كانون الثاني 2020، (تاريخ الدخول: 15 يونيو/حزيران 2020): https://cutt.us/TzxeQ
(16) Passage of the Caesar Syria Civilian Protection Act of 2019. U.S. Department of state. 20/12/2019 https://cutt.us/PIvGJ
(17) خلاف رامي مخلوف والأسد ظاهره يتعلق بالتهرب الضريبي والإثراء غير القانوني. ظهرت بوادر الخلافات بينهما صيف عام 2019، وتطورت في الشهر المنصرم حتى قامت "الحكومة السورية" بالحجز الاحتياطي على كافة أموال مخلوف كضمان لتسديد المبالغ المستحقة على شركة سيريتل (التي يملكها مخلوف) لهيئة تنظيم الاتصالات في سوريا.
(18) للاطلاع على الواقع الاقتصادي في مناطق النظام، انظر: مناف قومان، الاقتصاد في مناطق النظام.. مؤشرات متدنية عام 2019 وسيناريوهات الهبوط خلال 2020، مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، 10 يونيو/حزيران 2020، (تاريخ الدخول: 15 يونيو/حزيران 2020): https://cutt.us/GGkpj
(19) تحليل: من هو السوري الأكثر تضررًا من قانون قيصر الأميركي؟، موقع DW، 14 يونيو/حزيران 2020، (تاريخ الدخول: 15 يونيو/حزيران 2020): https://cutt.us/WLZs9
(20) خضر خضور، غضب قيصر، مركز كارنيغي للشرق الأوسط، 3 يونيو/حزيران 2020، (تاريخ الدخول: 15 يونيو/حزيران 2020): https://cutt.us/Feufg
(21) أكدت "وزارة الخارجية السورية" أن تصريحات الموفد الأميركي إلى سوريا، جيمس جيفري، بخصوص تفعيل قانون قيصر تشكِّل اعترافًا صريحًا من الإدارة الأميركية بمسؤوليتها المباشرة عن معاناة السوريين. وأوضح مصدر رسمي في وزارة الخارجية أن هذه التصريحات تؤكد مجددًا أن الولايات المتحدة تنظر إلى المنطقة بعيون إسرائيلية لأن المطالب التي يتحدث عنها جيفري هي مطالب إسرائيلية قديمة متجددة لفرض سيطرتها على المنطقة. يُنظر: روسيا اليوم، الخارجية السورية: تصريحات جيفري اعتراف بالمسؤولية الأميركية عن معاناة السوريين، 9 يونيو/حزيران 2020، (تاريخ الدخول: 15 يونيو/حزيران 2020): https://bit.ly/2ACigMf . كما أشار العضو السابق في وفد نظام الأسد المفاوض في جنيف، أسامة دنورة أن "الولايات المتحدة لجأت إلى خطة (ب) لديها، وهي سيناريو الخنق الاقتصادي لتحقيق ذات الهدف المتمثل في تطويع الشعب السوري، وليس حكومته فحسب"، موضحًا أن العقوبات الأميركية هي إجراءات اقتصادية أحادية الجانب من خارج إرادة المجتمع الدولي تمثِّل سلوكًا منافيًا للشرعية الدولية، وتجعل منها واحدة من أكثر مظاهر الإرهاب الاقتصادي تجليًا على الساحة الدولية. روسيا اليوم، دخل حيز التنفيذ... ما تأثير "قانون قيصر" على سوريا في ظل العقوبات الاقتصادية المتكررة؟، 3 يونيو/حزيران 2020، (تاريخ الدخول: 15 يونيو/حزيران 2020): https://bit.ly/3frt0ff
(22) الائتلاف الوطني يشكِّل فريق عمل قانون "قيصر" لمتابعة تنفيذ القانون وتطبيقه كاملًا، موقع الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، 12 مايو/أيار 2020، (تاريخ الدخول: 15 يونيو/حزيران 2020): https://bit.ly/2B8O4bw
(23) فايز سارة، قانون قيصر والمشهد السوري، موقع جسر، 3 يونيو/حزيران 2020، (تاريخ الدخول: 15 يونيو/حزيران 2020): https://cutt.us/G6Npa