آثار نازلة كورونا على المبادئ المُؤَسِّسَة للمنظمات الدولية والإقليمية

تقدم الورقة ملخصًا لدراسة موسعة نُشرت في العدد السابع من مجلة لباب، الصادرة عن مركز الجزيرة للدراسات، وتحاول البحث في تأثيرات أزمة كورونا على المبادئ المُؤَسِّسَة للمنظمات الدولية والإقليمية، وكيف استجابت بدورها؟ وإلى أي مدى وفي أي اتجاه كان هذا التأثير والاستجابة؟
منظمة الصحة العالمية قدمت نموذجًا واضحًا للفشل في التعامل مع نازلة كورونا كان له تداعياته العالمية (رويترز)

تنطلق الدراسة من مسلَّمة أساسية مفادها أن نشأة المنظمات الدولية والإقليمية جاءت في سياق أزمات وحروب عالمية كبرى، كاستجابة وتجسيدًا لمجموعة من "الدعوات" و"المبادئ المُؤَسِّسَة" التي استهدفت منع تكرار وقوع "حروب جديدة"، و"تحقيق السلم والأمن الدوليين" و"تعزيز التعاون والتضامن الدولي والإقليمي" في مواجهة النوازل والكوارث الإنسانية، وتحيل في هذا السياق على مبادئ وودرو ويلسون (Woodrow Wilson) الأربعة عشر، وما تتضمنه إعلانات ومواثيق المنظمات الدولية والإقليمية المختلفة في هذا الصدد.

وتحاول الدراسة، التي أعدها الدكتور حامد عبد الماجد القويسي، أستاذ النظم السياسية في كلية الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن، اختبار فرضية مفادها أن التزام المنظمات الدولية والإقليمية -ولو نسبيًّا- بتطبيق مبادئها المُؤَسِّسَة أدى إلى عدم وقوع حروب عالمية جديدة: أي تحقيق السلْم والأمن الدوليين ولو جزئيًّا، هذا من جانب، وعلى الجانب الآخر فإن الفشل النسبي في تطبيق المبادئ المُؤَسِّسَة الخاصة بالتضامن الدولي والتعاون الإقليمي كان من الأسباب الأساسية وراء انتشار النوازل والكوارث الإنسانية، مثل نازلة كورونا في أوضاعنا الراهنة.

ويسعى الباحث للتأكد من مدى صحة الفرضية السابقة عبر الإجابة على تساؤلين أساسين: أولهما ذو طبيعة وصفية وتحليلية؛ يدور حول المدى الذي "كشفت" فيه الأزمة عن فشل المبادئ المُؤَسِّسَة لنظام "التعاون والتضامن العالمي" والمنوط تحقيقه بالمنظمات الدولية والإقليمية، بينما التساؤل الثاني ذو الطبيعة التفسيرية والمستقبلية يدور حول تفسير أسباب الفشل: إلى أي مدى تعود الأزمة إلى "الفجوة" الموجودة بين "المبادئ المُؤَسِّسَة"، و"الممارسات الواقعية" للمنظمات الدولية والإقليمية؛ حيث تكون الأولى مجرد "غطاء أيديولوجي" للثانية، أو أن هذا الفشل يرجع إلى طبيعة المبادئ المُؤَسِّسَة باعتبارها تتضمن في سياق نشأتها واستمراريتها، وبنيتها وتكوينها الداخلي، ما يخلق ذلك ويؤدي إليه؛ إذ يذهب البعض إلى أن المبادئ المُؤَسِّسَة التي قامت عليها المنظمات الدولية والإقليمية تُعَدُّ امتدادًا لمنطق الوفاق الأوروبي، والذي قام على أساسه "نظام فيينا" بحمولته التاريخية ومنظومته القيمية الكلية المضمَّنة؟ وإلى أي مدى يؤثر ذلك على مستقبل المبادئ المُؤَسِّسَة للمنظمات الدولية والإقليمية؟

وانطلاقًا من التساؤلين السابقين تحاول الدراسة مقاربة قضيتها البحثية عبر الإجابة على سؤالين، الأول: سؤال المنهج ويضع الضوابط المنهجية لدراسة القضية علميًّا وبحثيًّا، ويقدم مراجعة نقدية للخطاب السائد معرفيًّا حول كيفية الدراسة، والثاني: سؤال الموضوع الذي يبحث "آثار" النازلة على "المبادئ المُؤَسِّسَة" للمنظمات الدولية والإقليمية التي قامت عليها، ومنحتها المشروعية القانونية والشرعية السياسية.

وفي سياق مقاربة سؤال المنهج، فإن الإجابة عليه تُحدِّد، في نظر الباحث، "الأبعاد الغائبة" في بحث موضوع "آثار نازلة كورونا وانعكاساتها على المنظمات الدولية والإقليمية"؛ إذ تتمثَّل في مجموعة من الضوابط "المنهجية" و"المعرفية" المحددة لكيفية دراسة الموضوع علميًّا.

وتنبع الضوابط المنهجية من فهم طبيعة موضوع الدراسة ذاته، ويقود اتباعها لجعل نتائجها موضع ثقة ومصداقية علمية، وتتمحور حول طبيعة النازلة وآثارها كما يلي:

- صعوبة دراسة آثار النازلة علميًّا: إذ تُعَدُّ "دراسات الأثر"، وفقًا لمنهجية البحث العلمي، من الدراسات "الصعبة" أو "المستحيلة"، والتي عادةً ما يُنْصَح بعدم القيام بها إلا في ظل ضوابط منهجية ومعرفية محددة وصارمة، وذلك لسببين، أولًا: عدم الثقة في النتائج التي يتم التوصل إليها، وثانيًا: عدم القدرة على إثباتها عبر تقديم الأدلة والبراهين عليها. وينتمي موضوع البحث لهذه النوعية من الدراسات؛ إذ يبحث في تأثير العامل "المستقل" (آثار نازلة كورونا) على "العامل التابع"، أي "المبادئ المؤسِّسة للمنظمات الدولية والإقليمية"؛ حيث يتخذ بحث العلاقة أحد صور ثلاثة: الأولى: العلاقة السببية المباشرة، بحيث تكون آثار نازلة كورونا المباشرة وغير المباشرة هي "السبب" الذي يخلق "تغييرات" محددة في المبادئ المؤسسة للمنظمات الدولية والإقليمية. والثانية: العلاقة التوافقية وتعني أن آثار نازلة كورونا، والتغيرات في المبادئ المؤسسة للمنظمات الدولية والإقليمية، توجدان وتختفيان معًا دون إمكانية إثبات علاقة بينهما. والثالثة: علاقة الاعتماد المتبادل، أي تتوقف التغيرات في المبادئ المؤسسة للمنظمات الدولية والإقليمية وتعتمد على الآثار التي تُحدثها نازلة كورونا.

ويرى الدكتور حامد عبد الماجد القويسي أن ثمة اتفاقًا بين الباحثين على صعوبة إثبات وجود العلاقة أو إرجاع "التغيرات" في العامل التابع المبادئ المؤسسة للمنظمات الدولية والإقليمية إلى العامل المستقل (آثار نازلة كورونا)، فهي مستحيلة في (الصورة الأولى)، ولا معنى لها في (الصورة الثانية)، وبالغة الصعوبة في (الصورة الثالثة) إلى درجة تصل إلى حد الاستحالة.

- تُعَدُّ نازلة كورونا ظاهرة مُرَكَّبة في جوهرها تمتلك أبعادًا استراتيجية أربعًا لازمة لوجود وبقاء المجتمعات والدول، ويجب فهمها وتحليلها من خلال هذا "المربع الاستراتيجي" الذي يتضمن الأبعاد: الصحية والاقتصادية والسياسية والمجتمعية. فالنازلة وإن بدأت نازلة صحية إلا أنها سرعان ما انتقلت تأثيراتها إلى الأبعاد الاقتصادية، ثم الأبعاد السياسية، لتصبح إشكالية مجتمعية شاملة عالمية، وفي الوقت ذاته تمتلك النازلة أبعادًا إقليمية ومحلية تختلف من منطقة ودولة لأخرى، والإشكالية أن "العدو/الفيروس" العامل المحوري في بناء الاستراتيجية ما زالت حقيقته خافية، وأساليب التعامل معه غير واضحة للجميع. لقد شهدت البشرية "تاريخيًّا" نوازل صحية مشابهة، إلا أن هذه النازلة تتمتع بقدر من التفرد والخصوصية في سياقها مما يجعل من عملية بناء "نموذج تاريخي" كأداة للمقارنة والقياس أمرًا موضع شك حتى الآن، مما يتطلب وضع ضوابط منهجية لكيفية التعامل العلمي، كما تتطلب دراسة "نازلة كورونا" فهم طبيعة آثارها؛ إذ هي أولًا: من الظواهر الدينامية المتغيرة وغير الثابتة، وثانيًا: من الظواهر الرجراجة التي تتسم بدرجة عالية من السيولة، وثالثًا: من الظواهر غير المكتملة. وتضع السمات الثلاث لآثار النازلة ضوابط منهجية صارمة على كيفية دراستها علميًّا: توصيفًا وتحليلًا وتفسيرًا وصولًا إلى التنبؤ باتجاهات المستقبل ومن ثم بصدد كيفية التعامل معها ضبطًا وتحكمًا، كما أسلفنا.

من جهة أخرى، يدور الخطاب السائد بصدد آثار نازلة كورونا حول ثلاثة أضلاع مترابطة تُعَدُّ بمنزلة "المثلث المعرفي" المطلوب فهمه وتحليله نقديًّا، ومن ثم وضع الضوابط "المعرفية" لكيفية التعامل معه، فوفقًا لهذا الخطاب السائد، أولًا: تمثِّل آثار نازلة كورونا تعبيرًا عن نقطة "تحوُّل تاريخية فاصلة" في مسار تاريخ العلاقات الدولية، مثل بقية الأحداث التاريخية الكبرى كالحروب العالمية، والثورات، والكوارث، وثانيًا: تضع آثار النازلة النهايات المختلفة لأوضاع ومنظمات معينة قائمة وبالتالي سيكون للنازلة ثالثًا "الما بعديات".

وفي إطار الإجابة على سؤال الموضوع (آثار النازلة على المبادئ المؤسسة للمنظمات الدولية والإقليمية)، يبرز الباحث كيفية تعامل المنظمات الدولية والإقليمية مع آثار النازلة عبر مستويين، الأول: يفرضه الإطار العلمي توصيفًا للنازلة كظاهرة مركَّبة و"مربع استراتيجي" يمتلك أبعادًا أربعة متكاملة تشمل : أ): النواحي الصحية، ب) الاقتصادية، ج) السياسية، د) المجتمعية، وتتعامل معه "المنظمات الدولية والإقليمية" وفقًا لرؤيتها ومبادئها المؤسسة، ومجال اختصاصاتها، والمستوى الثاني: تفسير آثار النازلة على المبادئ المؤسسة للمنظمات الدولية والإقليمية، وتحديدًا على قدرتها المستقبلية للتعامل مع هذه الآثار.

وبيَّن الدكتور حامد عبد الماجد القويسي أن جائحة كورونا كشفت عن فشل المنظمات الدولية والإقليمية في القيام بأدوارها الأساسية المتوقعة في مثل هذه النوازل؛ التحذير منها بداية، والتنسيق فيما بينها في مواجهتها والحد من آثارها على المستوى العالمي حتى الآن، كما كشف التعامل مع آثار النازلة "الضعف" و"البيروقراطية" الداخلية في "المنظمات الدولية" و"الإقليمية"؛ إذ لم تستطع المنظمات القيام بالحدود الدنيا من أدوارها الأساسية مما أثار التساؤلات حول جدوى (الوجود) ذاته وفائدته، وهكذا.

ولاحظ أن آثار النازلة تضع العالم في تعامله مع المنظمات الإقليمية والدولية أمام أحد خيارين، الأول: استغلال آثار النازلة لتطوير مؤسسات النظام الدولي والإقليمي باتجاه "التعاون" و"الرفاه" و"تبادل المصالح". والثاني: استغلال النازلة لتعزيز أنماط القوة، والقيادة والسيطرة داخل هذه المنظمات ولو بالقوة؛ الأمر الذي يرتبط بالسيناريوهات المستقبلية التي ستتخذها المنظمات الدولية والإقليمية، ويذهب البعض إلى أن أمامها ثلاثة سيناريوهات:

- الأول: "الاحتواء" لآثار النازلة بشكل سريع وتداعيات محددة.

- الثاني: "التعايش" مع آثار النازلة وتداعياتها الخطرة.

- الثالث: "الفوضى" والفشل في احتواء آثار النازلة وبالتالي خروجها عن حدود التحكم.

غير أن الانطلاق إلى إجابة سؤال المستقبل وسيناريوهاته لابد أن يسبقه ضرورة طرح السؤال التفسيري: لماذا فشلت المنظمات الدولية والإقليمية في التعامل مع آثار النازلة التي تقع في صلب رؤيتها، ومبادئها المؤسِّسة؟ وبالتالي يمكن الحديث عن السيناريوهات المستقبلية للتعامل مع النازلة والنوازل القادمة المشابهة.

لم يكن الفشل الذي بدا واضحًا في تعامل المنظمات الدولية والإقليمية مع آثار "نازلة كورونا" بمنزلة دلالة على عدم قيامها بأدوارها المطلوبة ووظائفها المنوطة بها فقط؛ فقد يكون ذلك عَرَضًا للمرض الأصلي الذي تعانيه وليس حقيقته، والذي تتمثَّل أسبابه المحورية وفقًا للبعض في "غياب" رسالتها، وعدم وضوح رؤيتها، وعدم الالتزام بالمبادئ المُؤَسِّسَة التي قامت عليها، ومعها اكتسبت أساس وجودها ومشروعيتها القانونية، وشرعيتها الفعلية السياسية. لقد نشأت المنظمات "الدولية" و"الإقليمية" تعبيرًا نظاميًّا يجسد عالمًا من "الأفكار" و"المبادئ" المُؤَسِّسَة المعروفة على المستوى الدولي من حماية السلم والأمن الدوليين إلى تحقيق التعاون والتضامن الجماعي والدولي...إلخ، وعلى المستوى الإقليمي من السعي نحو "تحقيق الوحدة الأوروبية" بكل المراحل التي مرّت بها؛ إلى تحقيق التعاون العربي والوحدة العربية؛ ناهيك عن "التضامن الإسلامي"، دون الحديث عن التعاون الخليجي. 

لقد قدَّمت المبادئ المُؤَسِّسَة بداية "المشروعية القانونية" لميلاد المنظمات الدولية والإقليمية، ومع تكرار الفشل في مواجهة النوازل المتتالية، فإن الكثير من هذه المبادئ المُؤَسِّسَة بدأ يفقد شرعيته السياسية والأخلاقية وفعاليته وفي الوقت نفسه بدأت المنظمات الدولية والإقليمية تعاني من فقدان الدور والهوية وتغلغل البيروقراطية والفساد الإداري والمالي.

وهكذا، بدا أن الوَهَج الذي رافق عمليات الإنشاء يخفت وينطفئ، والأماني والآمال التي رافقت التأسيس ورعت عمليات التطور والازدهار تستنفد أغراضها، وبالتالي تتحول إلى زخرف من "القول" و"ركام" من الأفكار الميتة والمميتة بتعبير المفكر مالك بن نبي، في كتابه "مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي"، فقد تحولت المبادئ إلى نقائضها، وتحولت مجالس التعاون والتضامن إلى أدوات حصار وعدوان.

وخلصت الدراسة إلى أن التعامل الفاشل مع آثار نازلة كورونا من قبل المنظمات الدولية والإقليمية كشف عن احتمالات مستقبلية لتغيرات تشمل المبادئ المُؤَسِّسَة للمنظمات الدولية والإقليمية على مستويات أربع أساسية:

أولًا: مراجعة البناء القيمي المُؤَسِّس للمنظمات الدولية والإقليمية

يفترض أن تمتد تأثيرات نازلة كورونا إلى إحداث تغييرات في البناء القيمي المُؤَسِّس للمنظمات الدولية والإقليمية، يتضمن مراجعة مفهوم القيمة ذاته؛ ففي نظرية القيم يكون التساؤل حول ماهية القيمة بداية، ومنظومة القيم والقيمة العليا التي تتربع على قمة البناء القيمي وتُعَدُّ محوره الذي يدور معه وجودًا وعدمًا: هل هي قيمة "الحرية"، أو "المساواة"، أو "العدالة"؟ تفرض آثار نازلة كورونا تحديد ماهية القيمة ومفهومها: هل هي الموارد المالية، الثروة، النقود -أيًّا كان الغطاء: الذهب أو الدولار أو الهيبة والقوة الأميركية- أم هي الموارد البشرية: جهد الإنسان وعمله؟

فقد تبيَّن أن عقول الناس وجهدهم الإنساني، سواء أكانوا الأطباء أو العمال، يظل الأهم مقارنة بالمال في مواجهة آثار النازلة، وتبيَّن أيضًا أن "الفقر" لا يحدده فقط مقدار الأرصدة من "المال والذهب"، بل مدى الحاجة لأشياء بسيطة مثل "الكمامات" التي أشعلت معارك وحروبًا برزت فيها الأنانية من أجل حب البقاء، وبالتالي أصبحت القيمة مرادفًا للقدرة على الوفاء بالحاجة، أي مسألة "الإشباع" المادي والمعنوي والنفسي، والذي يقدره عامل "الندرة" النسبية مقارنة بالموارد -أيًّا كانت نوعيتها- وفي هذا برزت أهمية "القطاع الرقمي" الذي منع من موت المجتمعات والدول بـ"السكتة الكبرى"، وهذا لم يكن يتم لولا "عقول" أبناء "الدول الفقيرة" التي أسهمت في العملية.

يرتبط بالقيمة العليا النموذج السياسي الذي يجسدها، وبالتالي يدور التساؤل بهذا الصدد حول مدى الارتباط بين طبيعة النظم السياسية (ديمقراطية وتسلطية)، ومدى الكفاءة والفعالية في التعامل مع آثار نازلة كورونا، ومن ثم النموذج السياسي المستقبلي الأفضل؛ فما أفضل النظم والنماذج السياسية في التعامل مع آثار هذه النوازل؟ فإذا كانت قيمة "الحرية"، و"الديمقراطية" هي القيمة المحورية والعليا كانت "الحالة الديمقراطية" هي المقياس الذي على أساسه تتحدد "المساعدات الدولية" في كل دولة وتنفيذ برامج "التضامن الجماعي" للدول الفقيرة؛ وفقًا لمؤشر يحدد موقع كل دولة بين "ديمقراطية كاملة" إلى "سلطوية كاملة"؛ بالتركيز على حالة "الحقوق السياسية" و"الحريات المدنية" التي على أساسها تحدد المنظمات الدولية برامج المساعدات التي بالطبع تخضع للتسييس. التساؤل الأساسي: إلى أي مدى بعد هذه النازلة ستظل قيمة "الحرية" في ضوء ما يحدث "معيارًا مركزيًّا" في هذا التصنيف وإلى أي مدى ستتراجع؟

يُثار التساؤل الأعمق حول وظيفة الدول: هل هي تحقيق الحرية والسعادة أم حفظ حق الحياة والنفس أولًا؟ وبالتالي يفتح الباب أمام مقاييس جديدة، وتطرح تساؤلات أمام بناء مقاييس ومؤشرات جديدة، وعن مدى الارتباط بين طبيعة النظم السياسية (ديمقراطية-تسلطية) ومدى الكفاءة، والفعالية في إدارة مثل هذه النوازل عبر إعادة ترتيب النظام القيمي. يرتبط بذلك الاختيار بين النماذج القائدة للمنظمات الدولية في إطار النظام الدولي المستجد، ويقدم الباحث تصورًا عن أربعة نماذج واقعية تعاملت مع النازلة وآثارها بأشكال مختلفة، وهي:

أ- النموذج الصيني: يرشحه البعض ليكون قائدًا في مؤسسات النظام الدولي والإقليمي القادم، والبعض يذهب إلى العكس بصدد النموذج الاشتراكي اسمًا والتسلطي حقيقة وواقعًا.

ب- النموذج الأنجلوسكسوني الأميركي-البريطاني، واللذان تعاملا مع النازلة بطريقة فاشلة بدرجات متفاوتة.

ج- النموذج القاري الأوروبي: (يشمل الفرنسي، والإيطالي، والإسباني) وبدورهم قدموا نموذجًا سيئًا لإدارة آثار الأزمة وللفشل حتى الآن.

د- النموذج الاشتراكي الديمقراطي: قدَّم إدارة ناجحة متوازنة للتعامل مع آثار النازلة، وهو يشمل طيفًا واسعًا يمتد من ألمانيا والنمسا إلى دول الشمال الأوروبي، مثل: آيسلندا والدنمارك، والسويد، ويضم دولًا تتبنى نظام الرفاهية الشاملة والمفاوضة الجماعية على المستوى الوطني، فهذه البلاد تعرف "الرأسمالية المهذبة" ومستويات منخفضة من عدم المساواة وعدم تركز الدخول، ورفاهية سخية.

ثانيًا: إعادة تعريف مفهوم "الفاعلون الدوليون"

يعتبر علمُ العلاقاتِ الدوليةِ الدولَ والمنظماتِ الدولية الفاعلَ الدولي الأساس الرسمي، البعض أضاف فاعلين دوليين غير رسميين جددًا، مثل: الدِّين، والإرهاب، والشركات متعددة الجنسيات، والواقع أن أهم فاعل دولي حاليًّا يُعَدُّ غير معروف وغير محدد الملامح هو "فيروس كورونا-19" الذي سيفرض خلال الفترة المقبلة تأثيراته المختلفة؛ وهذا هو التحدي الأساس.

ثالثًا: إعادة هيكلة التفاعلات وبناء القوة الدولية

أثارت نازلة كورونا وانعكاساتها المتعدية عالميًّا التساؤلات حول "بنية" و"هيكل" القوة الدولية، و"قيادة النظام الدولي" في المستقبل ليس فقط بمعنى "الدولة" وإنما "النموذج" أو "المنظمة" القائد بتعبيرها الحضاري، وأنماطها الاقتصادية. وهناك بالفعل جدل حقيقي حول مستقبل "القوة" و"القيادة" الأميركية، وإلى أي مدى يمكن أن تمثِّل "الصين" تهديدًا حقيقيًّا. ولنتذكَّر أن النموذج الأميركي قام على عدة مبادئ مؤسِّسة معروفة، هي: الثروة، والقوة، والشرعية، والاستعداد لحشد استجابة عالمية للكوارث والنوازل...إلخ. وبالتالي، إلى أي مدى يمكننا الحديث عن فشل أميركي ونجاح صيني أم أن الأمر ما زال مبكرًا؟ وفي هذا الصدد، ما مدى مسؤولية الصين عن النازلة؟ وتأثير ذلك على إمكانية وفرص وجودها في قيادة العالم بكل إشكالياته؟ وإلى أي مدى تمثل "الاشتراكية الديمقراطية" حلًّا بعد فشل النموذج الأنجلوسكسوني، وتراجع اللاتيني، ورفض النموذج الشمولي الروسي أو الصيني؟

رابعًا: مراجعة مفهوم الاعتماد المتبادل

تراجعت كثافة التفاعلات الدولية والمحلية نتيجة سياسة العزل والانعزال، كأحد آثار التعامل مع نازلة كورونا؛ وكان ذلك أول تأثير مباشر على مفهوم التفاعل والاعتماد المتبادل (Interdependence)، كما فشلت المنظمات الدولية والإقليمية في التعامل مع آثار النازلة، مما آثار تساؤلًا حول مفهوم الاعتماد المتبادل، وما يرتبط به من مفاهيم، مثل: العولمة الاقتصادية، والتعاون، والتضامن العالمي، والانفتاح والعدالة، والحرية...إلخ.

وفي خلاصة خاتمة، توجد مؤشرات واقعية على انهيارات قادمة في الهياكل المؤسسية للنظام الدولي، ولكنها ليست حاسمة، وفي نفس الوقت بروز ظواهر جديدة وفاعلين جدد، وأشكال جديدة للتفاعل غير معهودة من قبل، ولكنها غير واضحة. إن الأطر المنهجية السائدة في تحليل المنظمات الدولية والإقليمية لم تعد قادرة على تقديم فهم حقيقي لها عبر توصيفها، وتحليلها، وتفسيرها ورسم اتجاهاتها المستقبلية، وبالتالي، فإن التساؤل يغدو مشروعًا: هل نحن على أبواب "حدوث ثورة علمية"، نتيجة عدم قدرة الإطار المنهجي والمعرفي على تقديم إجابات كافية ومُرضية لآثار هذه النازلة على مؤسسات النظام الدولي والإقليمي وأننا على مشارف بزوغ إطار تفسيري أعلى جديد، أي تغيير في "البراديغم السائد" لدراسة العلاقات والمنظمات الدولية بداية بإعادة تجديد المبادئ المُؤَسِّسَة؟ سؤال تظل إجابته مفتوحة على كل الاحتمالات.

للاطلاع على النص الكامل للدراسة (اضغط هنا) وللاطلاع على عدد المجلة كاملًا (اضغط هنا)

ABOUT THE AUTHOR