الجسد المستباح في الثقافة السياسية العربية: خصائص العلاقة بين الاستحواذ على الموارد والنزوع إلى اقتطاع الحياة

تقدم الورقة ملخصًا لدراسة موسعة نُشرت في العدد السابع من مجلة لباب، الصادرة عن مركز الجزيرة للدراسات، وتسلط الضوء على الانعكاسات الحقوقية العميقة لاحتكار الموارد الاقتصادية في بعض دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وتفحص الدراسة فرضية وجود علاقة إحصائية غير مباشرة بين وزن الموارد الطبيعية في الاقتصادات الوطنية والنزوع إلى اقتطاع الحياة وانتهاك حقوق الإنسان.
معدلات مؤشر الرعب السياسي للأنظمة السياسية العربية على مدى 40 سنة تكشف الطابع المتوحش للممارسات السلطوية (الجزيرة)

تُسائل الدراسة، التي أعدها الدكتور بن أحمد حوكا، أستاذ باحث في علم الاجتماع السياسي بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، سياسة بعض الأنظمة العربية فيما يخص ممارسة الرعب السياسي ضد رعاياها، وتختبر مسافة ابتعادها الثقافي والتاريخي عن اللحظة التي وقف فيها حاكم البصرة، خالد بن عبد الله القسري، على منبر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في يوم الأضحى. فبعد أن حمد الله وأثنى عليه، قال: "أيها الناس! انصرفوا إلى منازلكم وضحوا -بارك الله لكم في ضحاياكم-، فإني مضحٍّ اليوم بالجعد بن درهم"، ثم حمل "سيفه" وذبحه أمام المصلين وهم ينظرون!

لا تحمل هذه القصة، بحسب الباحث، أية إساءة للرسالة السمحة التي أتى بها المصطفى الأمين، محمد صلَّى الله عليه وسلَّم، ولكنها تعبِّر عن انحراف سياسي فج عن جوهر العقيدة الإسلامية في الاجتماع السياسي، فضلًا عن كونها مَعْلَمَة زمنية عميقة تفيد في قياس مدى أَنْسَنَة السياسة في العالم العربي في زمن الديمقراطية وحقوق الإنسان. فقد ارْتُكِبَت باسم الدين جرائم سياسية فظيعة. والملاحظ أن التاريخ المعاصر للدول العربية لا ينفلت من متلازمة التنكيل بالمعارضين، خاصة في سوريا وليبيا واليمن والعراق والسعودية ومصر، إضافة إلى دول أخرى بالطبع. غير أنه يتوجب التنبيه إلى أن ظاهرة التعذيب السياسي ليست موقوفة على الجغرافيا السياسية التي تمتد من المحيط إلى الخليج، كما يتبين في تفاصيل المعطيات التي يعتمدها البحث.

وتهدف الدراسة إلى بحث العوامل البنيوية التي تدفع القائمين على الأمور إلى النزوع نحو معاقبة المعارضين والتنكيل بهم خارج ما يقتضيه القانون. ويشمل هذا النزوع إلى الرعب السياسي على وجه التحديد، الاختطاف والاعتقال التعسفي إضافة إلى ممارسة أشكال مختلفة من التعذيب في الأقبية السرية ومخافر الشرطة والسجون قصد انتزاع الاعترافات، كما تضم القائمة أيضًا الاغتيال السياسي كأحد أهم أشكال الرعب وحشية وقتامة.

وينطلق البحث من فرضية تفيد وجود علاقات ارتباط دالَّة من الناحية الإحصائية بين نمط الاقتصاد السياسي المبني على احتكار الريع من طرف الحاكمين وطبيعة نظام الحكم من جهة، وبين الممارسة المنهجية للرعب السياسي من جهة أخرى. للتحقق من هذه الفرضية، اعتمد الباحث على قاعدة للبيانات تم العمل على تحليلها ودراسة العلاقات بين المتغيرات قيد الدراسة.

وقد تم الاعتماد في دراسة العلاقة بين هذه المتغيرات على قاعدة البيانات التي يوفرها لفائدة الباحثين في مختلف أنحاء العالم، جين توريل(Jean Teorell)  وزملاؤه في جامعة غوتنبرغ. وقام الباحث بتحليل تلك المعطيات باستعمال برنامج الحزمة الإحصائية للعلوم الاجتماعية المعروف اختصارًا بـ"SPSS" (Statistical Package for the Social Sciences)، وكذا باعتماد برنامج "بروسيس" (PROCESS) الذي يسمح بتحليل المسار والتعرف على المتغيرات الوسيطية في النماذج الإحصائية. وقد شمل التحليل الإحصائي 159 دولة من بينها 19 دولة عربية. ويهم الأمر المغرب، والجزائر، وتونس، وموريتانيا، وليبيا، ومصر، والسودان، واليمن، والمملكة العربية السعودية، وسوريا، ولبنان، والعراق، والأردن، وعُمان، وقطر، والكويت، والبحرين، والإمارات، إضافة إلى الصومال.

منع الصفح وإيقاع العقاب: حول الإدانة الفعلية للجسد المستباح في العالم العربي

أعادت حيثيات مقتل الصحفي السعودي، جمال خاشقجي، في قنصلية بلاده بإسطنبول، راهنيته المنسية إلى السؤال التقليدي حول المتاهة السياسية للسلامة الجسدية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. لقد أوضحت فصول هذا الحادث الذي اهتزت له جوارح العالم قاطبة، بأن ممارسة العنف السياسي في معظم الأنظمة العربية ليست مسألة عرضية كما يعتقد بعض المراقبين. على العكس من ذلك تمامًا، يشكِّل قمع الجسد وسلب الحياة مكونات مفتاحية لتصرفات العاهل تجاه رعاياه. وهو ما يجعل بعض الأنظمة العربية، ملكيات وجمهوريات، تندرج بحكم واقع الأشياء في نموذج السلطة السيادية كما صاغه ميشال فوكو اعتمادًا على تاريخ الملكيات المطلقة في أوروبا. ومن اللافت للانتباه أن العناصر التحليلية لكل من جورجيو أغامبن وفوكو تنطبق بشكل باهر على مواقف السلطة تجاه الحياة كأساس بيولوجي وديمغرافي سالب للاجتماع السياسي في العالم العربي.

وبصرف النظر عن الخطاب الرسمي للسلطة السياسية حول مفهوم العدالة والأقنعة الشرعية والقانونية التي لا تنفك آليات القبض على الجسد وخنق إمكانياته التعبيرية تجترح منها مسوغاتها العلمية، فإن السلطات الدائبة على انتهاك حرمة الجسد، تظل عازمة، كلما تطلب الأمر ذلك، على تحريك أقاليم الجحيم ضد من تصمهم بمعارضة النظام وتهديد استقراره. ومما لا شك فيه أن الأنظمة التي تقتل شعبها وتئد طاقاته الحية هي أسوأ الأنظمة على الإطلاق؛ لأنها بكل بساطة، تزهق أرواحًا بذل المجتمع مجهودات مضنية في إعدادها للحياة. لقد تنبأ صاحب العقد الاجتماعي، فيلسوف السياسة ذو الميول الديمقراطية، جان جاك روسو، بأن أفضل الحكومات هي تلك التي تحافظ على رخاء مواطنيها. ويتناسب هذا الطرح مع النظرية السياسية المعاصرة لعالم السياسية الأميركي، رونالد إنجلهارت، في الديمقراطية كمنظومة لتنمية المواطن والمساعدة على تفتُّق طاقاته. يقول روسو: "فما غاية الاجتماع السياسي؟ إنها حفظ بقاء أعضائه وتوفير رخائهم. وما أوثق علامة على حفظ بقائهم وحياتهم؟ إنها كثرتهم وعدد سكانهم. فلا حاجة إلى البحث عن هذه العلامة المتنازع فيها في أمور أخرى. وبقطع النظر عن جميع الجوانب الأخرى، إن الحكومة التي يوفر مواطنوها عمرانها ويتناسلون أكثر من غيرهم دون وسائل أجنبية، ودون تجنيس ولا مستعمرات هي أحسن الحكومات بلا ريب. والحكومة التي ينقص فيها الشعب ويضمحل هي أسوأها. فيا معشر أهل الحساب، إن هذا الشأن الآن شأنكم، فعدوا وقيسوا وقارنوا".

أحيانًا، يتعارض الشرط الوجودي-السياسي في بعض المجتمعات مع مقولات حفظ النفس وانبثاق طاقات الحياة وحفظ الجسد، كما وردت في فلسفات التعاقد الكلاسيكية أو المستحدثة. ويرتبط ذلك الوضع بالتكثيف الأيديولوجي والسياسي للخطابات والتصرفات المُؤَسِّسَة لغريزة الموت. ولعل توزيع الأنظمة السياسية العربية حول معدلات مؤشر الرعب السياسي على مدى 40 سنة، كفيل بالكشف عن الطابع الدموي للممارسات السلطوية. ولابد من الإشارة في هذا الشأن إلى المجهودات التي بذلتها بعض الأنظمة العربية من خلال فتح صفحة العدالة الانتقالية وإن صاحب ذلك بعض الارتدادات المتفرقة. ويوضح الرسم البياني أسفله ترتيب البلدان العربية بالنسبة لمؤشر الرعب السياسي.

وتعكس القيم المتحصَّل عليها من طرف الدول العربية على مقياس الرعب السياسي درجة الرسوخ السياسي للممارسات السلطوية المستبدة بالجسد عبر التعذيب والاعتقال والاختطاف أو الاغتيال. وتجدر الإشارة أيضًا إلى أن هذه النتائج ذات التكوين الكرونولوجي، لا تأخذ في الحسبان الانتهاكات التي اقترفتها بعض الأنظمة في مطلع سنتي 1918 و1919. وهو ما كان سيدفع بسوريا مثلًا إلى قمة هرم الجناية السياسية في العالم العربي. ويمكن التمييز بين ثلاث مجموعات من الأنظمة العربية حسب تباين شدة العنف السياسي:

- المجموعة الأولى: وتشمل عُمان وقطر ولبنان، وهي الدول التي تسجل أدنى معدلات الرعب السياسي بين 1976 و2016.

- المجموعة الثانية: وتتمركز على مستوى القيم الوسطى لمقياس مارك جيبني وزملائه، وتشمل هذه المجموعة البحرين وموريتانيا والمغرب وتونس والجزائر والإمارات والكويت، إضافة إلى الأردن.

- المجموعة الثالثة: وتشمل الدول المرموز لها بالأسود كعلامة على الوضعية الحرجة للسلامة البدنية على مدى أربعين سنة. ويتعلق الأمر بليبيا والسعودية ومصر واليمن وسوريا والصومال والسودان والعراق. وتسجل هذه الدول معدلات مرتفعة مقارنة بالبلدان العربية الأخرى.

إن ما وقع في القنصلية السعودية بإسطنبول، وغيره من الانتهاكات التي ظلت طي الكتمان في البلدان الأخرى، يكشف عن قبح هذا النوع من عدم الوعي المُؤَسَّسِي الذي تستند إليه ممارسة السيادة السياسية. ففرادة الحادث المريعة لا ينزع عنه كونه ينهل من العادات السياسية السحيقة المتمثلة في عدم التسامح السياسي مع انتهاك الأسس العلنية للسلطة السيادية. هذا العنف القابل للانفلات من عقاله عند أدنى استثارة لغيظ الحكام، لم تفلح المؤسسة في التبرؤ منه؛ لأنه لصيق بالتربة السفلية لمنظومة الإدانة الكلية.

لعنة الموارد ومعضلة العنف السياسي في العالم العربي

لا تنفك المتاهة السياسة للسلامة البدنية تُسائِل الثقافة من زاوية انتشار هذا النوع من أساليب اقتطاع أوصال الحياة؛ فالعلاقة السياسية بالجسد وقيمة الحياة لا يمكن فصلهما عن التراث السياسي للشعوب. ويعني ذلك أن النزوع إلى اقتطاع الحياة يُحْتَمَل فيه التباين حسب الجغرافيات الثقافية؛ حيث تطغى خبرات اجتماعية تُغَذِّيها معان سياسية وتراكيب مفهومية متباينة الاتجاه نحو تحرير طاقات الحياة أو الموت.

من المفترض أن تضطلع الثقافة السياسية، كشبكة من التراكيب المفهومية التي تضفي معقولية على الوجود الإنساني كما شدَّد على ذلك غليفورد غيرتز في سياسة المعنى، بشكل مباشر أو غير مباشر بدور معين في تثبيط أو تشجيع النزوع نحو اقتطاع الحياة. فالقيم الاجتماعية المجبولة على تكريس الوضع الاعتباري للجماعة على حساب حرية الفرد، لن يعكِّر صفو مزاجها الزجُّ بالمعارضين في مجاهل الأقبية. أفلم يَدَّعِ بعض الزعماء العرب، استنادًا إلى أقوال منسوبة لمذهب الإمام مالك، أن بإمكانهم التضحية بثلث الأمة الفاسد للحفاظ على الثلثين المتبقيين؟!

إن هوس الحفاظ على ديمومة الجماعة وهويتها السياسية والثقافية، ولو تطلب الأمر بَتْر بعض من أعضائها، يشكِّل عصابًا جمعيًّا ملازمًا للثقافة الجماعاتية وبوتقة بنيوية للعنف. ولكن ذلك لا يعني بالضرورة حصانة الثقافة الفردانية ضد ممارسات إزهاق الأرواح بدل الحفاظ على الحياة. وبالرغم من أنه لا يليق من الناحية الأخلاقية المفاضلة بين الأمم، في مجال النزوع نحو اقتطاع الحياة، فإن تفاوت منسوب شر العنف السياسي حسب الجغرافيا الثقافية لا يجوز تفسيره من خلال مقولة السمات الثقافية الثابتة كما يحلو لمزاعم التحليل الجوهراني. فالظواهر الاجتماعية والسياسية والثقافية المقارنة لابد لها من استحضار مبدأ النسبية الذي يستقي مرتكزاته على المعطيات التاريخية والثقافية المتجذرة في ميادين التجربة الإنسانية. ولا غرو أن علاقة الثقافة السياسية بالعنف، منظورًا إليها من خلال التقسيم الجغرافي، تتعرض لفترات من المد والجزر ولا تستقر على حال عبر التاريخ الطويل للشعوب.

مما لا شك فيه أن تجربة القتل العمد لدوافع سياسية أو اجتماعية-اقتصادية، تثير أشد أنواع الاشمئزاز في الثقافات الإنسانية. وبالطبع، لا تشكِّل الثقافة العربية الإسلامية استثناء في هذا الشأن. فالضفاف الثقافية والدينية المغايرة لدار الإسلام، بما فيها تلك التي تحفل بمدح ذاتي بخصوص الديمقراطية وحقوق الإنسان، لا تبشر بالربيع في علاقة الجسد بالسياسة. لقد أزاح مقتل المواطن الأميركي، جورج فلويد، الستار ليس فقط عن ذلك الصنو من الزهو الإرعائي المفعم بالثناء على الثقافة الأميركية باعتبارها تبشيرًا بالخلاص السياسي للشعوب، ولكن أيضًا عن الوجه القبيح للعنصرية الذي يتوارى وراء النسيج المؤسساتي.

إن إثارة الانتباه تلك، إلى حقيقة الوجودية السياسية للجسد الحرام في الثقافة الغربية، لا يعطي تبريرًا لما يجري في بعض أنظمة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ولعل موقع هذه الجغرافيا على مؤشر انتهاك السلامة البدنية خارج القانون، لخير دليل على ضرورة التوسل بتعويذات فكرية انعكاسية، ضد الشر الكامن في قمقم الثقافة السياسية العربية كما تنسجها الأنظمة السياسية.

هكذا يبدو العالم العربي على ضوء تقارير الخارجية الأميركية ومعطيات بعض المنظمات الحقوقية: معدلات مرتفعة نسبيًّا على مستوى ممارسة الرعب السياسي بشكل يفوق المعدل الدولي، وفروقات جوهرية ذات معنى من الناحية الإحصائية، حيث بلغت قيمتا اختبار -t - لمؤشري الرعب 4.13 في معطيات منظمة العفو الدولية و4.2 فيما يتعلق ببيانات الخارجية الأميركية، وكانتا دالَّتين عند مستوى 0.001.

ولا تنفك هذه المعطيات المقارنة تؤكد زيف المجال العام الذي بلغ، في الاجتماع السياسي العربي، شأوًا جعله يفتقد إلى منافذ السياسة الأصيلة كما حددتها الفلسفة السياسية عند حنَّة أرندت. إن النزوع نحو ممارسة الرعب السياسي الرسمي يشكِّل أحد الأوجه البارزة لآليات دفاعية تدفع أدوات الحكم في السلطة السيادية إلى إسقاط رهابها من المقاومة الاجتماعية، على الجسد المتمسك بحقه الوجودي في الكلام.

ومن سخرية القدر أن يدفع الرهاب السياسي الشديد إلى تجاوز الإمكانيات الهائلة التي يسمح بها احتكار آليات العنف المشروع لتأديب الخروج عن القانون، وذلك في اتجاه الاقتطاع المروع للحياة خارج النواميس الإلهية والوضعية، وهو ما ينعكس سلبًا على منسوب قيم التعبير عن الذات في الاجتماع السياسي العربي، بالرغم من حيازته لما تجود به بواطن الأرض من موارد طبيعية، يمكن توظيفها في تنمية الإنسان عوض إهدار طاقاته وكبح جماح تطلعه المشروع إلى الحرية والانعتاق.

ويعني ذلك أن الموارد الطبيعية التي حوَّلها الاقتصاد الدولي إلى ثروات كبيرة، تُسْتَعْمَل في ترسيخ السلطوية السيادية والحفاظ على مقومات اشتغالها. فترى السياسيين، كما يقول تلميذ جاك لاكان، مصطفى صفوان، يصنعون الشعوب على صورتهم، فيشترون الذمم وينشرون الرعب ويمنعون كل تجمع يمكن أن يساهم في بناء تضامنات حقوقية. فمن دون ثقافة تضامنية ذات طابع أفقي، من السهل على الحاكم سحق المقاومة العلنية والزج بالقادة في غياهب السجون، يقول صفوان: "قد تتجدَّد تظاهرات المقاومة، إلا أنها لن تتوصل أبدًا إلى قلب النظام. إنها تشجع في أحسن الأحوال على وقوع انقلاب عسكري. لكن هذه السياسات ليس لها من هدف سوى إبقاء الرعايا تحت نير الملك، إلا أن الأدهى يتمثَّل في سياسة تجعل الرعايا، تبعًا لأقوال دي لا بويسيه، "يتخلون عن فكرة الحرية ذاتها" أو هم "يكتفون بتذكرها في حالة من الاستكانة المُرَّة".

لعلها مفارقة كبرى أن ينقلب تشبث الاجتماع السياسي الرسمي بِمُثُل الدين إلى مسارح لاقتطاع الحياة ومسالخ لشطب الأجساد من الوجود وترويع النفوس. فقد فضحت الجرائم البشعة للسلطوية السيادية في جزء مهم من المنطقة العربية، زيفَ الحقائق العليا والمثل المتعالية التي تزعم الأنظمة تَمْثِيلَها. إن المؤشرات التي تجعل الدولة العربية تحتل مراتب متقدمة ومعدلات مرتفعة على مستوى اقتطاع الحياة، تجمعها ارتباطات إحصائية دالة مع الممارسة الحقيقية للرعب السياسي. ويعني ذلك أنه كلما زادت نسبة الريع في الاقتصاديات الوطنية واستحوذ الائتلاف المهيمن على الموارد وظل المجتمع قاب قوسين من حالة الطبيعة وكانت الديمقراطية الفعلية هشة، ارتفع منسوب الاغتيال السياسي واشتدت ممارسات التعذيب والاختفاء القسري والاعتقال التعسفي.

خلاصة

تحمل الدراسة نقدًا علميًّا مباشرًا للموارد الطبيعية كبوتقة للسلطوية السيادية وممارسة القمع واقتطاع الحياة، خاصة في الدول التي تستعمل تلك الثروات في خدمة أهداف تتعارض مع تنمية الإنسان وتطلعاته الديمقراطية والبيوسياسية. كما أنها تحمل تأكيدًا للاتجاه الذي تسير فيه الدراسات الدولية التي تعالج الروابط بين الاقتصاد والعلاقة السياسية بالجسد في الأنظمة المختلفة للاجتماع السياسي. ولكن مع ذلك، لا يشكِّل هذا البحث، بيانًا دعائيًّا ضد أية دولة أو دول معينة أو حتى جغرافيا ثقافية بعينها. فضمان الحق في الكلام للمعطيات التي تنبثق من الواقع، في مسألة اقتطاع الحياة في علاقتها باقتصاد الريع، قد حدَّد وجهة الباحث وجنَّب البحث من السقوط في الأحكام التي تفتقر للمعطيات. وعليه، فإن جعل البحث الدول ذات الاقتصاد "الطبيعي" في مرمى التحليل النقدي المبني على البيانات لا ينبني على خلفيات سياسية أو أيديولوجية، سوى تلك المسبقات النظرية التي تستقي ماهيتها من الفلسفة السياسية المعاصرة وعلم السياسة ذي النفحة الأنجلوسكسونية بروافده الاقتصادية والثقافية والنفسانية.

وحيث إن جودة الدراسة ونموذجها المفاهيمي والإحصائي، إنما يرتبط بالدرجة الأولى بمدى التوفيق في اختيار المسبقات النظرية والمتغيرات التي تعبِّر عن تلك المسبقات، وأن العلاقة بين العناصر المفهومية والعوامل الإجرائية هي علاقة احتمالية في طبيعتها، فإن معقولية النتائج المحصل عليها ومصداقيتها ترتبط أيضًا بجودة المعطيات والبيانات التي تم اعتمادها للتحقق من الفرضية الرئيسية للدراسة. وبالنظر إلى ضخامة هذه المعطيات وعدم قدرة الباحث وحده على بناء بيانات خاصة مماثلة، فإنه يكون مضطرًّا، مثله في ذلك مثل مختلف الباحثين في أنحاء العالم، للاعتماد على ما أعدَّه باحثون آخرون ومؤسسات جامعية غربية.

للاطلاع على النص الكامل للدراسة (اضغط هنا) وللاطلاع على عدد المجلة كاملًا (اضغط هنا)

 

ABOUT THE AUTHOR