سارعت القوى السياسية اللبنانية الرئيسة إلى الاتفاق، في 31 أغسطس/آب 2020، على تعيين السفير السابق في ألمانيا، مصطفى أديب، رئيسًا للحكومة، قبل ساعات من وصول الرئيس الفرنسي، ماكرون، في زيارة ثانية للبنان، حرصًا منها على تلبية طلبه في زيارته الأولى بالإسراع في تشكيل حكومة كفاءات قادرة على إجراء الإصلاحات الضرورية مقابل التزامه بضمان الدعم الدولي للبنان عقب انفجار بيروت المهول الذي كرَّس فشل الطبقة اللبنانية الحاكمة في تسيير البلد وفاقم عزلتها الداخلية والخارجية.
وقد دمَّر انفجار ضخم مرفأ بيروت، في 4 أغسطس/آب 2020، ويُعتقد أنه حدث من احتراق 2750 طنًّا من نترات الأمونيوم، كانت مخزَّنة بشكل غير آمن في أحد مستودعات المرفأ، وقد أوقع أكثر من 170 قتيلًا وأكثر من 5000 جريح وعشرات المفقودين، وخلَّف أضرارًا كبيرة في أجزاء واسعة من العاصمة، بيروت، قدَّرها الرئيس اللبناني، ميشال عون، بنحو 15 مليار دولار، بينما قدَّرها البنك الدولي بما بين 6.6 و8.1 مليارات دولار، منها 3 مليارات خسائر اقتصادية.
وفي وقت يتواصل التحقيق الذي تدَّعي السلطات اللبنانية إجراءه لمعرفة أسباب ما جرى، لا يثق معظم اللبنانيين بما قد يصدر عن المحققين، كما تبين في تسليم قضية اغتيال رفيق الحريري لمحكمة دولية خاصة وليس للقضاء اللبناني، لأسباب مرتبطة بانعدام الكفاءة والشفافية وبتراكم فضائح الفساد وسوء الإدارة، ، إضافة إلى تناقض الروايات حول ظروف وجود كميات ضخمة من نترات الأمونيوم داخل حوض المرفأ منذ أواخر العام 2013 رغم خطورة الأمر ورغم وجود مراسلات إدارية وأمنية حوله، اطلعت عليها السلطات العليا بالبلد، لم تُفضِ إلى أية معالجة أو حتى متابعة جدية من قبل المسؤولين.
نكسة ومبادرة فرنسية
الانفجار الذي أحدث ذهولًا وغضبًا شعبيًّا أدى أيضًا إلى استعادة الانتفاضة اللبنانية بعض زخمها المفقود منذ أشهر؛ فشهد وسط العاصمة، بيروت، مظاهرات حاشدة وعمليات احتلال لوزارات وإدارات عامة، وتعليق مشانق رمزية لأركان السلطة الثلاث، رئيس الجمهورية، ميشال عون، ورئيس المجلس النيابي، نبيه بري، ورئيس الحكومة، حسان دياب، ولعددٍ من المسؤولين السياسيين، بينهم رئيس الحكومة الأسبق، سعد الحريري، وأمين عام حزب الله، حسن نصر الله، الذي طالته تنديدات المتظاهرين أيضًا، إنْ بسبب حماية حزبه للسلطة القائمة أو بسبب اعتبار البعض أن للحزب علاقة بتخزين الأمونيوم، أو على الأقل بالسكوت الرسمي عنه، وهو الحاضر أمنيًّا في معظم المواقع الحساسة في البلد (ومنها المرفأ والمطار)، وإن كان الحزب ينفي كل هذه التهم.
وأدَّى الانفجار كذلك إلى استقالة الحكومة اللبنانية وعدد من النواب إثر تحرك دبلوماسي فرنسي توَّجته زيارة أولى خاطفة للرئيس، إيمانويل ماكرون، إلى بيروت، تبعها مؤتمر للمانحين وتكرار لمشروطية المساعدات على أساس تنفيذ إجراءات لوقف الفساد وضبط الهدر وإصلاح الإدارة والمالية وإنهاء التهريب على الحدود السورية.
وإذا كانت مواجهة الفساد والبدء بإصلاحات جادة يتطلبان، حسب الجهات الناقدة للنظام اللبناني الحالي، كالحراك اللبناني والقيادة الفرنسية، حكومة من خارج المنظومة الحاكمة منذ عقود بمكوِّناتها المتحالفة والمتخاصمة، فإن الضغوط الفرنسية لا تبدو دافعة نحو هذا الأمر بقدر دفعها نحو تسويات سياسية بين حزب الله وحليفه، عون، من جهة، وسعد الحريري وحلفائه، من جهة ثانية، لتشكيل حكومة إنقاذية (مع فتح الباب لشخصيات مستقلة من خارج الاصطفافات لتنضمَّ إليها)، مع حثِّ القيادات اللبنانية على إجراء انتخابات قريبة تسهم في تجديد الطبقة الحاكمة ودمج قطعات اجتماعية ساخطة على الوضع القائم وإحداث تعديلات غير واضحة بعدُ في بنية نظام الحكم. وفي المقابل، يعمل ماكرون على إقناع واشنطن وطهران والرياض بتجنُّب المواجهات في الساحة اللبنانية، وإتاحة الفرصة لباريس للقيام بأدوار وساطة وتنسيق للمساعدات الإنسانية والمادية الخارجية وحماية القيادات اللبنانية الرئيسة من العزلة الخارجية أو العقوبات الأميركية لتأمين استقرار النظام القائم، ويمكن تفسير الدور الفرنسي انطلاقًا من ثلاثة عوامل:
العامل الأول خاص باعتبار فرنسا لبنان وثيق الصلة بها لأسباب تاريخية (تأسَّس بحدوده الراهنة، سنة 1920، في ظل الانتداب الفرنسي)، وثقافية (تجمعه بها الرابطة الفرانكفونية والمؤسسات التعليمية، وهو، بسبب موقعه الجغرافي شرق المتوسطي، مدخل نحو منطقة استراتيجية اقتصاديًّا تراجع فيها التأثير الفرنسي لصالح لاعبين إقليميين (أنقرة وأبوظبي والرياض وطهران)، وطبعًا لصالح واشنطن وحليفتها الوثيقة، إسرائيل، مع عودة روسية مؤخرًا من خلال التدخل العسكري في سوريا. وفرنسا بهذا المعنى بحاجة إلى موقع يتيح لها البقاء الفاعل في المنطقة.
العامل الثاني متعلِّق بكون باريس اللاعب الدولي والإقليمي الوحيد القادر على التواصل مع جميع القوى اللبنانية ورعاتها الإقليميين، بما في ذلك حزب الله، الذي امتنعت فرنسا عن تصنيف جناحه السياسي تنظيمًا إرهابيًّا على خلاف ألمانيا مثلًا. وهذا يمنحها هامش تحرك لا تملكه باقي القوى، بما فيها موسكو التي لم تستثمر سياسيًّا في الساحة اللبنانية ولا تملك مقوِّمات العون الاقتصادي لتواضع حجم اقتصادها وأزماته المتكررة، رغم أنها بدورها تستطيع التواصل مع الأطراف الإقليمية جميعها.
أما العامل الثالث فمرتبط بالروزنامة الانتخابية الأميركية، فإدارة ترامب تركِّز في أشهرها الأخيرة قبل يوم الانتخاب في شهر نوفمبر/تشرين الثاني المقبل (2020) على اختراقات عربية-إسرائيلية تمكِّنها من القول بتحقيق تقدم في مسار "السلام"، وعلى إصدار قوانين تشدِّد العقوبات على إيران، في حين تتراجع باقي اهتماماتها شرق الأوسطية. وإن فاز ترامب بولاية جديدة ستستمر على الأرجح بنفس السياسات، أما إن فاز المرشح الديمقراطي، جو بايدن، فسيحتاج لأشهر كي يضع مقارباته الدولية الجديدة (المستمدَّة غالبًا من مقاربات إدارة باراك أوباما) حيِّز التنفيذ. وهذا يعني أن الأشهر المقبلة لن تشهد مبادرات أميركية أو تغيرات سريعة. وتنتهز باريس هذه الفترة المذكورة لإطلاق ديناميات لا تستفز واشنطن من ناحية ولا تلتزم بحدود خياراتها من ناحية ثانية، فتسمح بالتالي للدبلوماسية الفرنسية بإجراء بعض المفاوضات والترتيبات لبنانيًّا والتسويات إقليميًّا بما يؤدي إلى أخذ واشنطن لها بعين الاعتبار لاحقًا (خاصة إن كان الرئيس الجديد هو بايدن). ويبدو أن الإدارة الأميركية تترك المبادرة في لبنان حاليًّا للقيادة الفرنسية، فقد جاء في بلاغ وزارة الخارجية الأميركية الذي يعلن عن زيارة مساعد وزير الخارجية، ديفيد شينكر، في 2 سبتمبر/أيلول، أنه سيحض على تشكيل حكومة تلبي مطالب اللبنانيين، في إشارة إلى أن واشنطن تولي الاهتمام حاليًّا لمهمة الحكومة وليس للأطراف المكونة لها؛ ما يعني أنها تغض الطرف عن دور حزب الله السياسي في لبنان في الوقت الراهن، وتبدي استعدادها للتعامل مع الحكومة إذا اقتنعت بأن أجندتها تتوافق مع تصورها للإصلاحات التي يطالب بها اللبنانيون. وبذلك، تتفق القيادتان، الفرنسية والأميركية، بصيغ مختلفة على إعطاء الأولوية لمهمة الحكومة وليس للجهات التي تستند إليها، وهي في الوقت الراهن، حسب موازين القوى السياسية، التحالف المشكَّل بين حزب الله وتيار الرئيس، ميشال عون.
عقبات التغيير
لكن الدور الفرنسي قد تواجهه تحديات في إطلاق الديناميات المبتغاة أو إحقاق التفاهمات اللبنانية، والإقليمية حولها، لأسباب مختلفة.
يصعب إصلاح لبنان بنفس الطبقة السياسية التي أثبتت على مدى العقدين الأخيرين فسادها، فلبنان يقع في المرتبة 138 في تصنيف منظمة الشفافية الدولية في 2019، وأثبتت الطبقة السياسية أيضًا فشلها في إدارة الأزمات التي تتسبب بها أو حلِّها، فاكتفت في أفضل الأحوال بالتعايش مع بعض هذه الأزمات وتأجيل الخوض في بعضها الآخر إلى أن حدث الإفلاس المالي والانهيار الاقتصادي واندلع الحراك الشعبي، في أكتوبر/تشرين الأول 2019، في وجهها.
وليست إيران وأميركا جاهزتين للقبول بقيادة فرنسية في لبنان تحدِّد لكلٍّ منهما ضوابط اللعبة وقواعدها؛ فطهران لا تبحث سوى عن كسب الوقت في انتظار تغييرٍ جذري في واشنطن. والأخيرة تراهن على تكثيف الضغط على طهران حاليًّا حتى تمنع الإدارة القادمة، إن كانت ديمقراطية، من العودة عن قرارات وآليات عقوبات يتطلَّب تعديلها أو إلغاؤها إجراءات طويلة. وليست إسرائيل راضية عن التواصل الفرنسي مع حزب الله والتعامل معه بوصفه طرفًا سياسيًّا لبنانيًّا مثل غيره.
أما الدول الساعية لتوسيع أدوارها في المنطقة وترسيخ نفوذها، لاسيما الإمارات وتركيا، فتُبدي كلٌّ منها اهتمامًا متزايدًا بلبنان وبمشاريع إعادة إعمار مرفأ عاصمته. ومن المرجَّح أن تكون الأولى مسهِّلة للدور الفرنسي، خاصة أن أبوظبي وباريس متحالفتان في ليبيا ومتعاونتان في المجالات العسكرية والأمنية (لكن الإمارات مثل السعودية تميل للمقاربة الأميركية حتى اللحظة في لبنان، أي لا تزال تقول: لا أمل بالإصلاح دون معالجة مشكلة حزب الله أولًا). في المقابل، تبدو أنقرة، أقل ترحيبًا بالدور الفرنسي بسبب التوترات شرق المتوسط والمواجهات في ليبيا وستسعى إلى موازنته أو إضعافه عن طريق بناء تحالفات داخل لبنان أو مع قوى خارجية حتى ترسخ وجودها في شرق المتوسط.
بموازاة ذلك، تُظهر المملكة العربية السعودية حذرًا تجاه التطورات اللبنانية؛ إذ لا تريد لإيران الاستفادة من أي تقليص للضغط الأميركي على حلفائها، وفي طليعتهم حزب الله، كما لا تريد للاعبين إقليميين آخرين الدخول إلى ساحةٍ كانت، ولغاية العام 2015، لاعبًا أساسيًا فيها. وهي إذ انكفأت منذ ذلك الوقت نسبيًّا عن لعب أدوار أساسية وتخلَّت نسبيًّا أيضًا عن حليفها، سعد الحريري، تعتبر أن مجرد قرار منها بالعودة سيسمح لها باستعادة ما فقدته طوعًا، ولا تريد بالتالي أن يملأ منافسوها الفراغ الذي تركته.
قارب التكنوقراط
وسط كل هذه المعطيات، تستمر الأزمة المالية الخانقة، وتنعدم فرص بلورة سياسة اقتصادية مالية إنقاذية في البلد. وتستمر محاولات الانتفاضة الشعبية تنظيم نفسها واحتلال الحيز العام والضغط على السياسيين والمصرفيين اللبنانيين وعلى جميع الأطراف الإقليمية والدولية من أجل تعديل موازين القوى وفرض تغيير يُطيح بنظام حاكم يحمِّله الحراك اللبناني مسؤولية إخفاق الدولة اللبنانية. والواضح أن دون ذلك حتى الآن عقبات كبرى، أبرزها داخليًّا حزب الله، الوحيد بين الجماعات السلطوية المحافظ على قوته بسبب ترسانته المسلَّحة وسعة قاعدته التمثيلية داخل الطائفة الشيعية، رغم تصاعد الانتقادات له في أوساط كانت تتجنَّب الأمر سابقًا. وأبرز العقبات خارجيًّا، صعوبة المهمَّة الفرنسية في تحييد التوتر الأميركي-الإيراني بالكامل عن الساحة اللبنانية.
لكن في وسط كل ذلك، برزت مساحة للتوافق بين مختلف القوى ستحدد المسار المستقبلي للوضع في لبنان. تركز فرنسا على تشكيل حكومة تكنوقراط قادرة على إجراء إصلاحات اقتصادية حتى تستفيد من العون الخارجي في تعافي لبنان من حالة الإفلاس التي يعيشها. ولا ترى القوى اللبنانية النافذة في هذا الطلب تهديدًا لها بل قارب نجاة يرفع عنها مؤقتًا حالة السخط الشعبي ويحميها من العزلة الدولية ويوفر لها موارد مالية واقتصادية باتت في أَمَسِّ الحاجة لها، ولا تمانع مقابل ذلك أن تحصل فرنسا على بعض النفوذ في لبنان يعزز حضورها في شرق المتوسط.
السيناريو الراجح بناء على ذلك، هو تشكيل مصطفى أديب حكومة تكنوقراط تحظى بقبول فرنسي، وتكون تحت رقابة فرنسية دائمة، من خلال قيام ماكرون بزيارات منتظمة لمتابعة أدائها، لأنه اعتبر التزامه بمساعدة لبنان مخاطرة برصيده السياسي مع العالم الخارجي، وسيحرص على أن تتحقق الوعود التي قطعها للقوى الخارجية التي دعاها لمساعدة لبنان. وقد تُجري الحكومة المشكَّلة انتخابات مبكرة تدمج في السلطة شرائح اجتماعية جديدة، لكن قد لا تتمكن قوى الحراك من إحداث تغيير كبير في موازين القوى لأنها ليست مهيكلة كفاية لتحول زخم الاحتجاجات إلى قوة انتخابية. وقد يكون من المستبعد أن يمتد الإصلاح إلى بنية النظام السياسي اللبناني القائم على المحاصصة؛ لأن القوى السياسية الحالية تستمد نفوذها ووجودها منه، ومن المستبعد أن تخاطر بإقامة نظام ديمقراطي حقيقي بديل يقضي على كل ذلك.