المواجهات بسيناء.. تداعيات ومآلات

أصبح ملف سيناء ضمن أولويات القاهرة وبات واضحاً أن إجراءات لا بد أن تتخذ فاستمرار قيود معاهدة السلام على الوجود العسكري المصري في سيناء صار مرفوضا والمشكلة أعقد من مجموعات توصف بإرهابية تتكفل بها فرق عسكرية وهو ما يجعل سيناريوهات المستقبل مفتوحة.
201281511395436734_20.jpg
القوات المسلحة المصرية تستعد لتنفيذ عملية أمنية واسعة شمال منطقة سيناء (الفرنسية)

مثلت عملية رفح تحدياً لمسار المرحلة الانتقالية المصرية، ووضعتها في مواجهة ملفات حساسة قُـرِّرَ ضمناً تأجيلها لحين استقرار الوضع السياسي الداخلي. ولكن رب ضارة نافعة؛ فتداعيات الهجوم عززت مطالب إبعاد الجيش عن التدخل في الشأن السياسي وضرورة تفرغه لمهامه التقليدية، كما أن العملية العسكرية الواسعة في سيناء تفتح الباب لإعادة صياغة مفهوم الأمن القومي المصري وعلاقة سيناء مع اسرائيل وقطاع غزة، خاصة إذا تبعتها إجراءات تعالج الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المتدهورة في سيناء.

الهجوم الغادر: رصاصات على مائدة الإفطار

مع غروب شمس الخامس من أغسطس /آب 2012 تعرضت وحدة "الماسورة" الحدودية المصرية –قبالة معبر كرم أبو سالم- لهجوم مباغت أثناء تناول أفرادها طعام الإفطار مما سهل مهمة المنفذين. وفي غضون خمس دقائق قتل المهاجمون ستة عشر من أفراد الوحدة، وجرحوا سبعة آخرين. استولى من يسمون إعلاميا بالإرهابيين على مدرعتين، قصفت القوات الاسرائيلية احداهما لتقتل جميع من فيها أثناء محاولتها مهاجمة معبر كرم أبو سالم -حسب الرواية الاسرائيلية- بينما عثر على الأخرى مدمرة في رمال سيناء.

سبق الهجوم بثلاثة أيام اصدار "هيئة مكافحة الإرهاب" بديوان رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو تحذيرات بمغادرة السياح الإسرائيليين سيناء، بحجة توفر معلومات حول نية "إرهابيين" ضرب أهداف إسرائيلية في سيناء. وهو ما برر فيما بعد استعداد اسرائيل للهجوم المتمثل في حضور قائد المنطقة الجنوبية الجنرال "طل روسو" لمكان العملية لحظة وقوعها (لمتابعة التعامل مع محاولة اختراق الحدود) وسرعة القضاء على المنفذين.

من موقع الهجوم توعد الرئيس المصري وقيادات الجيش المهاجمين، وبحلول مساء الثلاثاء السابع من أغسطس /آب 2012 بدأت القوات المسلحة والشرطة تنفيذ عملية أمنية واسعة. للمرة الأولى منذ اتفاقية كامب ديفيد تطأ أقدام جنود الصاعقة المصرية مدعومة بعشرات الدبابات وتحت غطاء من طائرات الأباتشي هذه المنطقة من سيناء(1).

وجهت أصابع الاتهام إلى مجموعات السلفية الجهادية التي تنشط على جانبي الحدود بين مصر وغزة(2)، وخاصة "مجلس شورى المجاهدين في أكناف بيت المقدس"(3)، الذي سارع بنفي أي صلة له بالهجوم وأكد أن هدفه الرئيسي قتال الإسرائيليين.

لم يرتبط نشاط المجموعات المسلحة في سيناء بموجة العنف الإسلامي في مصر الذي شهد ذروته في التسعينيات، بل ارتبط بظاهرة الجهاد العالمي وانتمى فكرياً لأدبيات تنظيم القاعدة والسلفية الجهادية. ومع عدم تمتعها بأي بناء تنظيمي متماسك، استطاعت القيام بعمليات نوعية (طابا 2004 – شرم الشيخ 2006-  دهب 2007) استهدفت جميعها أفواجاً سياحية اسرائيلية(4). أكد الأمن المصري عدم ارتباطها بمنظمات خارجية، وإن ضمت عناصر غير مصرية، وبالغ في تصوير قوتها وانتشارها لتمرير إخفاقه، ولتبرير عمليات الاعتقال والتعذيب التي ارتكبها بحق البدو عقب تفجيرات طابا.

دلالات الحادث وتداعياته داخلياً

تمثلت خطورة الحادث في أنه مس هيبة القوات المسلحة المصرية؛ فهو الأول ضد أفراد من الجيش، كما أن الإخفاق بدا لافتاً سواء في منع حدوثه أو التصدي له(5). بالإضافة لذلك عزز الهجوم من الاتهامات الاسرائيلية المتكررة لمصر بعدم قدرتها على ضبط الأمن على الحدود، وانتشار الجماعات الموصوفة بالارهابية في سيناء.

توقيت الهجوم الحرج زاد من خطورته، حيث تزامن مع عدم الاستقرار السياسي، وتصاعد الاحتقان الاجتماعي نتيجة أزمات معيشية وطائفية، بالإضافة لتداعياته على السياحة والاقتصاد المصري الذي يمر بأزمة حقيقية.

مع ذلك لم يوحد الهجوم المصريين، ولم يتجاوز حالة الاستقطاب السياسي، بل وظف كمادة جديدة لها، مما يعكس غياب حقيقي لمفهوم الأمن القومي لدى كثير من النخب والقوى السياسية المصرية، والذي من المفترض أن يتجاوز الحسابات السياسية الخاصة. لم يُختلف على ضرورة ممارسة مصر سيادتها الكاملة على أرض سيناء، لكنهم اختلفوا حول القضايا المرتبطة بالاستقطاب والصراع السياسي المستمر في مصر؛ فقطاع غزة لدى البعض لم يعد مرتبطاً بالأمن القومي المصري، بقدر ما هو مقراً لحركة حماس وحكومتها وبالتالي نفوذ جماعة الإخوان المسلمين المصرية.

وضع الهجوم الرئيس المصري أمام اختبار حقيقي لقدرته على مواجهة أزمة بهذا الحجم، خاصة وأن كثيراً من وسائل الإعلام حمّلته جزءاً من المسؤولية نتيجة فتح معبر رفح. ظهر ذلك واضحاً في الجنازة الرسمية للشهداء التي تقدمها المشير طنطاوي ورئيس الوزراء السابق كمال الجنزوري، وسط حضور لافت لمعارضي مرسي، بينما غاب هو، واضطر رئيس الوزراء الحالي هشام قنديل -الذي أمّ المصلين في صلاة الجنازة- للمغادرة مبكراً بعد الاعتداء عليه أثناء خروجه من المسجد. بدا واضحاً أن الحدث يراد توظيفه في المواجهة السياسية الداخلية لإضعاف مرسي، لكنه اتخذ قرارات مفاجأة، فأحال مدير المخابرات العامة اللواء مراد موافي للتقاعد بعد تصريحاته المثيرة للجدل حول معلومات مسبقة لدى المخابرات المصرية بالحادث(6)، وأقال محافظ شمال سيناء، وأجرى تغيرات طالت قائد الحرس الجمهوري وقائد الشرطة العسكرية وقيادات أمنية في القاهرة، وهو ما اعتبره البعض البداية الحقيقة لممارسة مرسي صلاحياته.

الإخفاق الأمني وضع الجيش في موقف حرج، أوجد رغبة عسكرية في استعادة هيبة القوات المسلحة بعملية هي الأوسع في سيناء منذ حرب أكتوبر /تشرين الأول 1973، زاد من حجمها المقاومة التي تتعرض لها القوات المصرية في عدة مناطق قرب رفح والشيخ زويد.

الموقف خارج الحدود: اسرائيل والقطاع

استطاعت اسرائيل توظيف الحدث بالتأكيد على تحملها منفردة عبء تأمين الحدود؛ فهي من تنبأت بالعملية وهي من استطاع مواجهتها، وهو ما يتطلب ضغوطاً على مصر للقيام بواجبها في تأمين الحدود وتدمير الأنفاق مع غزة وفرض مزيد من القيود على معبر رفح. عبر عن ذلك إيهود باراك قائلاً: "يتضح من مرة لأخرى أنه في كل ما يتعلق بأمن إسرائيل، علينا أن نعتمد على أنفسنا فقط وعلى قواتنا الأمنية فقط".

حاولت اسرائيل تجديد علاقاتها مع مصر، وتجاوز الأضرار التي أصابتها عقب سقوط نظام مبارك(7)، فالتصريحات الرسمية والصحف الاسرائيلية روجت لمقولات من نوع أن الهجوم يوضح للمصريين أن اسرائيل ليست المشكلة، وأن العلاقة الودية مع قطاع غزة لا توفر مِنعة للنظام المصري في مواجهة الجماعات المتطرفة، وأن التعاون مع اسرائيل في ضبط الحدود سينعكس على مناخ السياحة والاستثمار في مصر.

في المقابل انعكس الوضع سلباً على التفاهمات والتسهيلات المقدمة لقطاع غزة والتي توجت باستقبال الرئيس المصري لإسماعيل هنية، خاصة مع ربط وسائل الإعلام المصرية الهجوم بفتح معبر رفح -دون أي سند منطقي(8)- ومطالبتها بضرورة هدم الأنفاق وهو ما بدأت فيه القوات المصرية بالفعل.

الآفاق المحتملة للأمن الإقليمي بسيناء

وضع الهجوم ملف سيناء ضمن أولويات النظام الجديد، وبات واضحاً أن إجراءات ما لا بد أن تتخذ. لم يعد من المقبول مصرياً استمرار القيود التي تفرضها معاهدة السلام على الوجود العسكري المصري في سيناء، في الوقت نفسه تبدو المشكلة أعقد من مجموعات تنعت بكونها إرهابية تتكفل بها فرق الصاعقة والطائرات الحربية ما يجعل سيناريوهات المستقبل غير محسومة تماماً.

 الغياب الأمني الطويل واكبه عدم اهتمام بتنمية وتعمير سيناء، ليوفر مناخاً لممارسات غير شرعية، خاصة تجارة المخدرات والسلاح والتهريب(9)، قد تنجح العملية العسكرية في مواجهتها مؤقتاً، بينما تصطدم خطط تعمير سيناء المستقبلية بالأزمة الاقتصادية وغياب التمويل اللازم لمشروعات تنموية كبرى وإحجام الاستثمار الخارجي عن المخاطرة في بيئة غير مستقرة أمنياً.

يتوقع إقدام مصر على إجراءات عسكرية دائمة في سيناء، تتم في الغالب بتفاهمات مصرية اسرائيلية؛ فلا يتوقع في ظل السياسة الخارجية المصرية الهادئة بعد الثورة أن تُتخذ قرارات تمس معاهدة السلام في الوقت الراهن دون تفاهمات مع اسرائيل، وربما الولايات المتحدة أيضاً.

لا ترجح المؤشرات تقبل اسرائيل ذلك بسهولة، حيث تشير تقارير إلى قبولها بالعملية العسكرية الحالية شريطة أن تعود جميع القوات والآليات فور انتهائها، وتؤكد اسرائيل دائماً أن القوات المصرية في سيناء كافية لضبط الأمن ولكن ما ينقصها هو توفر الإرادة لذلك. ويبدو الهاجس الاسرائيلي من المستقبل المجهول للعلاقة مع النظام المصري الجديد معززاً لهذا الرفض.

على الرغم من إغلاق معبر رفح عقب الهجوم، وتسارع وتيرة هدم الأنفاق بين مصر والقطاع، إلا أن الهجوم قد يدفع باتجاه زيادة التنسيق الأمني بين مصر وحكومة حماس فيما يتعلق بضبط الحدود، مما يضيق الخناق على المجموعات المسلحة، يقابله تسهيلات متوقعة على حركة الأفراد والبضائع من خلال المعبر باعتباره بديلاً يسهل مراقبته من الطرفين، خاصة وأن الرأي العام المصري لن يقبل تورط مصر مجدداً في الحصار الاسرائيلي لقطاع غزة، فضلاً عن مواقف الرئيس المصري المعروفة من قضية حصار غزة.
_______________________
الإحالات
1- بموجب اتفاقية السلام، والملاحق الأمنية لها، قسمت سيناء إلى شرائح طولية موازية لقناة السويس من الغرب إلى الشرق (أ) و(ب) و(ج)، سمح لمصر بوضع قوات مسلحة في المنطقة (أ) فقط، وبتعداد لا يزيد عن 22 ألف جندي، أما المنطقة (ب) فمحظور وضع اكثر من 4000 جندي حرس حدود فقط بها مسلحين بأسلحة خفيفة. والمنطقة (ج) بها بوليس مصري فقط ، أضيف لهم 750 جندي حرس حدود عام 2005 لتأمين حدود غزة بموجب اتفاقية فيلادلفي المصرية الإسرائيلية.  تراقب هذه الترتيبات قوات أجنبية موجودة في قاعدتين عسكريتين في شرم الشيخ والجورة، إضافة إلى 31 نقطة تفتيش أخرى. وهي غير خاضعة للأمم المتحدة، يطلق عليها قوات متعددة الجنسية، 40 بالمائة منها قوات أمريكية.
2- بمشاركة حماس في انتخابات 2006، ثم سيطرتها على قطاع غزة، ظهرت بعض المجموعات الفلسطينية في القطاع – بعضها منشق عن حماس - تتبنى نفس خطاب السلفية الجهادية، أشهرها جيش الإسلام، والتوحيد والجهاد، وجند أنصار الله، وجلجلت. خاضت مواجهات مع حكومة حماس بلغت ذروتها بإعلان زعيم " جند أنصار الله " عبد اللطيف موسى الملقب "بأبي النور المقدسي" عن إمارة إسلامية في غزة، ما أدى إلى اشتباكات مع شرطة حماس انتهت بمقتله ومساعده أبي عبد الله السوري والعديد من عناصر الجماعة منتصف آب/أغسطس 2009. ثم وجدت بعض من هذه العناصر في فراغ سيناء الأمني متنفساً لها، خاصة وأنها تشترك مع مجموعات سيناء في تبني أفكار السلفية الجهادية ونظيم القاعدة.
3- سبق أن استهدف دورية حدودية اسرائيلية وتمكن من قتل احد أفرادها 18 يونيو/حزيران الماضي. أنظر بيانه التأسيسي على الرابط: http://goo.gl/8XlpD
4- أعلنت جماعة تطلق على نفسها اسم "الجماعة الإسلامية العالمية" تفجيرات طابا، ثم اختفت تماما، وبعد حوالي عام ونصف أعلنت السلطات المصرية للمرة الأولى في مارس /آذار 2006 أن جماعة تسمى "التوحيد والجهاد" تقف وراء سلسلة التفجيرات في سيناء (طابا – شرم الشيخ)، بينما لم تعلن هذه الجماعة مسؤوليتها عن أي من عمليات سيناء.
5- ملف سيناء بالكامل في حوزة الجيش المصري، بما في ذلك الادارة المدنية للمحافظة التي لم تعرف سوى المحافظين العسكريين الذين يختارهم الجيش مثل باقي المحافظات الحدودية. جدير بالذكر أن اللواء مراد موافي شغل منصب محافظ شمال سيناء قبل تعيينه مديراً للمخابرات العامة خلقاً للواء عمر سليمان.
6- تتفق تصريحات موافي مع تصريحات نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، موسى أبو مرزوق، لوكالة الأناضول، حيث أوضح أن "الموساد" سلَّم للمخابرات المصرية قائمة بأسماء 9 "إرهابيين"، قبل وقوع الهجوم. كما تتفق مع تصريحات اسرائيلية أخرى.
7- نشرت صحيفة يديعوت أحرونوت، أن رئيس قسم التخطيط في الجيش الإسرائيلي، الجنرال نيمرود شيفر، قام بزيارة مصر مرتين منذ انتخاب محمد مرسي رئيسا لمصر، والتقى عدد من القادة العسكريين، بهدف تجديد التعاون الأمني بين الجيشين المصري والإسرائيلي.
8- جميع العمليات الموصوفة بالإرهابية في سيناء الموجهة ضد الاسرائيليين حدثت قبل تولي حماس السلطة. بالإضافة لعمليات تفجير خط الغاز إلى إسرائيل التي وصلت إلى 14 عملية ظلت تنسب دائما إلى عناصر في سيناء. كما لم يتورط أي فصيل فلسطيني في عمليات حتى في فترة حصار غزة وغلق المعبر.
9- يشير تقرير لمنظمة هيومن رايتس ووتش، أنه خلال الفترة من بداية 2006 وحتى نوفمبر 2008 تسلل أكثر من13000 ألف لاجئ أفريقي من سيناء إلى اسرائيل، بلغ معدل تسللهم ذروته مطلع 2008 حيث بلغ أكثر من 100 شخص في الليلة الواحدة. انظر:
Human Rights Watch, Sinai Perils :Risks to Migrants, Refugees, and Asylum Seekers in Egypt and Israel, Nov2008