من اليمين، بنيامين نتانياهو، علي خامنئي، وباراك أوباما (الجزيرة) |
لم يحدث منذ عقود أن حاولت قيادة إسرائيلية التدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية كما حاول رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتانياهو، في الأسابيع القليلة الماضية. أن يسعى الإسرائيليون وجماعات التأثير الصهيونية الأميركية الموالية لهم إلى التأثير في الانتخابات الأميركية، ليس بالأمر الغريب أو الاستثنائي، ولكن تدخل نتانياهو هذه المرة كان سافرًا وصريحًا، ولم يخلُ من اندفاعة تنم عن شعور باليأس والخوف أو التسرع غير المحسوب.
الملف الذي وظّفه نتانياهو للتدخل كان بالطبع الملف النووي الإيراني، الذي بات يشكِّل الهاجس الاستراتيجي الأكثر إلحاحًا وقلقًا للإسرائيليين. والهدف الذي سعى نتانياهو لتحقيقه كان إظهار الرئيس الأميركي باراك أوباما، الذي يحاول الفوز بفترة رئاسة ثانية في مواجهة تحدٍّ لا يستهان به من المرشح الجمهوري ميت رومني، بمظهر المرتبك وغير الحازم في سياسته الخارجية تجاه إيران، وما يصفه الإسرائيليون باقترابها المتسارع من حيازة القدرة على صناعة سلاح نووي.
هذه قراءة لأسبوع من الصدام شبه المعلن بين أوباما ونتانياهو، لأسبابه، ولما يمكن أن تتركه تداعياته من أثر على العلاقات الإسرائيلية مع إدارة اوباما، في حال فوز الأخير بولاية رئاسية ثانية.
الصدام على الخطوط الحمراء
في خطوة مفاجئة، بادر الرئيس الأميركي يوم الثلاثاء 11 سبتمبر/أيلول 2012 إلى إجراء حديث هاتفي مع رئيس الحكومة الإسرائيلية استمر لساعة كاملة. أن يتحدث رئيس أميركي مع رئيس حكومة دولة أخرى، بما في ذلك دولة حليفة للولايات المتحدة، لمثل هذا الوقت في الأسابيع الأخيرة من حملة انتخابية محتدمة، فلابد أن يكون هناك شيء ما في سماء العلاقات بين البلدين، أو على الأحرى بين الإدارتين. طبقًا لمصادر أميركية، حاول نتانياهو خلال الحديث أن يحصل من أوباما على تعهد بإعلان خط أميركي أحمر للمشروع النووي الإيراني، يؤدي تخطيه من قبل طهران إلى توجيه ضربة عسكرية أميركية للمشروع الإيراني ومنشآته.
يتلخص مقترح نتانياهو في أن يتعلق الخط الأحمر، أولاً، بحجم المخزون الإيراني من اليورانيوم المخصب لدرجة تقترب من اليورانيوم المعد للسلاح النووي، والمقصود بذلك التخصيب المتوسط، الذي لا يتطلب سوى مرحلة إضافية واحدة من التخصيب لجعله جاهزًا لصناعة قنبلة نووية. أما الحد الثاني المحتمل للخط الأحمر فيتعلق بتحديد الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، إضافة إلى ألمانيا، فترة إنذار زمنية للإيرانيين في المباحثات الدائرة معهم، بصورة متقطعة، تصبح إيران بعدها، في حال عدم الالتزام بالاستجابة لمطالب الدول الغربية، عرضة لضربة أميركية. طبقًا للمصادر ذاتها، رفض أوباما المقترحين الاثنين اللذين طرحهما نتانياهو لما يسميه بالخط الأحمر، معيدًا التوكيد على التعهد الذي سبق أن قدمه للإسرائيليين في مارس/آذار 2012 بأن الولايات المتحدة لن تسمح لإيران بامتلاك السلاح النووي.
كانت هذه نهاية غير مرضية، من وجهة نظر رئيس الحكومة الإسرائيلية، لمكالمة يبدو أن الرئيس الأميركي حاول من خلالها تخفيف حدة التوتر بين الطرفين. ولذا، فقد سارع نتانياهو في عطلة نهاية الأسبوع إلى المشاركة في أكثر من برنامج حواري سياسي على قنوات التلفاز الأميركية، مدافعًا عن وجهة نظره وسياسة "الخط الأحمر"، بمعنى أنه قرر الذهاب مباشرة إلى الرأي العام الأميركي لطرح الخلاف مع أوباما حول السياسة تجاه إيران. وكان واضحًا أن موقفه يجد صدى في هجمات رومني الانتخابية على سياسة أوباما الخارجية، حيث اتهم المرشح الجمهوري منافسه بعدم القيام بما يكفي لحماية حليف وثيق للولايات المتحدة (يقصد إسرائيل).
ينكر المسؤولون الإسرائيليون المقربون من نتانياهو أية نية لديه للتدخل في مسار الانتخابات الأميركية. ويقولون: إن ما دفع رئيس الحكومة الإسرائيلية إلى التصعيد كان الشعور بالإحباط الذي ولَّده لقاء مبكر مع وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون، وتأكيدها خلاله على أن واشنطن لن تتبنى إنذارات بخطوط حمراء. ولكن المؤكد أن المكالمة الهاتفية بين نتانياهو وأوباما جاءت في سياق أكثر توترًا من مجرد محاولة لاحتواء رد فعل إسرائيلي، سيما بعد أن سربت دوائر إسرائيلية لوسائل إعلام أميركية أن الرئيس أوباما رفض أن يحدد موعدًا لمقابلة نتانياهو مطلع سبتمبر/أيلول 2012، عندما حضر الأول للقاء مع الأمين العام للأمم المتحدة في نيويورك. ولكن الناطق باسم البيت الأبيض سارع إلى نفي صحة هذا الأمر، مُعزِيًا عدم ترتيب اللقاء إلى مشاغل روتينية تتعلق بجدول الرئيس المزدحم. مثل هذا النفي، على أية حال، يوحي بأن أوباما لم ير أن ثمة ما يستدعي ترتيب اللقاء.
خلف ذلك كله، تبدو إدارة أوباما الطرف الأقل قلقًا وتوترًا في التعامل مع التصعيد المفاجئ من رئيس الحكومة الإسرائيلية. أما نتانياهو فإنه كشف في قوله بأن إدارة أوباما لا تملك "الحق الأخلاقي" لمنع إسرائيل من القيام بعمل عسكري منفرد (ضد إيران) طالما أنها (واشنطن) ترفض وضع حد لمشروع إيران النووي، عن نزق سياسي وشعور متزايد بالأزمة بات يسم موقف رئيس الحكومة الإسرائيلي. فما الذي دفع نتانياهو لتبني مثل هذه المقاربة من إدارة أوباما، في مثل هذا المنعطف الزمني بالغ الحساسية في دورة السياسة والحكم الأميركية؟
حسابات نتانياهو: توريط أمريكا
لم تكد أصداء المكالمة الهاتفية بين نتانياهو وأوباما تبدأ في الانحسار قليلاً حتى دخل نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي لشؤون الاستخبارات والشؤون النووية، دان ميريدور، إلى ساحة الجدل بتصريح لراديو الجيش الإسرائيلي قال فيه: إنه "لا يريد خطوطًا حمراء أو إنذارات زمنية". ميرودور ليس وحده. الحقيقة أن هناك معارضة إسرائيلية واسعة لقيام الدولة العبرية بتوجيه ضربة عسكرية منفردة للمشروع النووي الإيراني، وهي السياسة التي يبدو واضحًا أن نتانياهو يدفع إليها، على الأقل على مستوى التصريحات العلنية. وتشمل المعارضة عددًا ملموسًا من أعضاء الحكومة الإسرائيلية وكبار قادة الجيش والاستخبارات الحاليين والسابقين. التأييد لنتانياهو في الواقع لا يتجاوز نائب رئيس الحكومة، رئيس الحكومة الأسبق، إيهود باراك، الذي لا يتمتع بقاعدة انتخابية قوية، ووزير الخارجية أفيغدور ليبرمان، الذي لا يؤخذ مأخذ الجد، لا داخل إسرائيل أو خارجها. وتنبع المعارضة الإسرائيلية الواسعة لتوجهات نتانياهو من أسباب عملية وحسابات عسكرية وليس من اعتبارات أخلاقية.
ليس ثمة شك أن الإسرائيليين جميعًا، من يؤيدون وجهة نظر نتانياهو ومن يعارضونها، قلقون من البرنامج النووي الإيراني. والأرجح أن الاعتقاد السائد في الدولة العبرية يميل إلى أن العقوبات الغربية الاقتصادية والمالية بالغة القسوة على إيران لن تنجح في إيقاف التقدم الإيراني في المجال النووي. ما جعل الإسرائيليين أكثر قلقًا كان التقرير الأخير للوكالة الدولية للطاقة النووية، الذي أكد على أن المخزون الإيراني من اليورانيوم منخفض ومتوسط التخصيب وصل إلى حجم يؤهل الإيرانيين لصنع ست قنابل نووية في حال أُخضِع هذا المخزون لمزيد من التخصيب.
بيد أن المؤكد أن الإسرائيليين، دون مشاركة أميركية، أو دعم أميركي كبير، لا يستطيعون توجيه ضربة عسكرية ملموسة للمشروع النووي الإيراني. وهذا ما تعرفه الدوائر العسكرية والاستخباراتية الإسرائيلية. بل إن هذا ما أشار إليه رئيس الأركان الأميركي، مارتن ديمبسي، في تصريح علني له. لا يملك الإسرائيليون العدد الكافي من الطائرات القادرة على الوصول إلى أهم المنشآت النووية الإيرانية، الموزعة على أنحاء متباعدة من الجغرافيا الإيرانية الواسعة، ولا العدد الكافي من طائرات التزود بالوقود في الجو، ولا العدد الكافي من القذائف القادرة على اختراق التحصينات الإيرانية. ولأن دولاً عربية وإسلامية تفصل بين إسرائيل وإيران، مهما كان خط الطيران الإسرائيلي، وأن هذه الدول لن ترحب باستخدام الإسرائيليين لمجالها الجوي؛ بل إن بعضها هدد صراحة بإسقاط الطائرات الإسرائيلية إن اخترقت مجالها الجوي، فإن تنفيذ ضربة عسكرية إسرائيلية منفردة أمر محفوف بالمخاطر ويواجه عقبات متعددة.
في أفضل السيناريوهات، قد يستطيع الإسرائيليون إيقاع دمار محدود بعدد محدود من الأهداف لا أكثر، بدون أن ينجحوا في تعطيل ملموس للبرنامج الإيراني. بل إن مثل هذه الضربة، ستوفر للإيرانيين مبررًا أكثر قبولاً من الرأي العام الإقليمي والعالمي للذهاب إلى صنع السلاح النووي. هذا، إضافة إلى تصعيد حدة التوتر في المنطقة، واحتمال قيام الإيرانيين بالرد، بما في ذلك تنفيذ تهديدهم المتكرر بإغلاق مضيق هرمز والتسبب في أزمة اقتصادية عالمية.
يعتقد القطاع الأكبر من المسؤولين الأميركيين أن رئيس الحكومة الإسرائيلية لا يقل عن معارضيه إدراكًا لحدود القوة الإسرائيلية ومخاطر الضربة المنفردة، ولكنه يستخدم التهديد المتكرر بتوجيه ضربة عسكرية منفردة لإيران للضغط على واشنطن ودفع الولايات المتحدة لتبني سياسة أكثر فعالية وهجومية تجاه إيران. ولكن الواضح أن إدارة أوباما ليست في عجلة من أمرها. ما يقوله مساعدو أوباما أن الإدارة ملتزمة بتعهدها السابق بمنع الإيرانيين من امتلاك السلح النووي، ويشكِّك هؤلاء في التقارير التي تقول باقتراب طهران من امتلاك القدرة على صناعة السلاح النووي؛ بل إنهم يشيرون إلى أن ليس هناك ما يؤكد أصلاً على أن مرشد الجمهورية الإسلامية، آية الله على خامنئي، صاحب القول النهائي في الشأن النووي، قد أصدر أمرًا بالعمل على امتلاك القنبلة النووية. من جهة أخرى، يقول المسؤولون في إدارة أوباما: إن الرئيس يجب أن يحتفظ بهامش استراتيجي مفتوح من الخيارات، وإن أحدًا لا يجب أن يفرض عليه وضع خطوط حمراء أو توجيه إنذارات، تحد من قدرته على العمل، وحريته في اتخاذ القرار.
المستقبل: تصاعد التوتر
بالرغم من محاولات أوباما المختلفة، خلال السنوات الأربع الماضية، إرضاء الإسرائيليين ومؤيديهم في الولايات المتحدة، فإن علاقته الشخصية وعلاقة إدارته بنتانياهو وحكومته لم تكن أبدًا حميمة. لرئيس الحكومة الإسرائيلية سجل طويل في اتباع سياسات ملتوية وترسيب عدم الثقة، سواء في واشنطن أو في العواصم الغربية الأخرى. ولكن أوباما كان يعرف عند تسلمه مقاليد الأمور في البيت الأبيض أن رئاسته ستكون محل شك في دوائر الضغط الصهيونية في الولايات المتحدة وخارجها؛ وهو ما دفعه للذهاب إلى ما هو أبعد بكثير من متطلبات السياسة الأميركية في الشرق الأوسط لإظهار انحيازه لوجهة النظر الإسرائيلية فيما يتعلق بالمسألة الفلسطينية.
ما لم يستطع أوباما الاستجابة له من المطالب الإسرائيلية كان بالتأكيد الملف النووي الإيراني؛ فبالرغم من أن العقوبات الأميركية والغربية على إيران، الاقتصادية والمالية والنفطية، وصلت إلى مستوى بات يُوقِع ضررًا بالغًا بإيران، فإن واشنطن تدرك أن الملف النووي هو شأن بالغ التعقيد، وقد أصبح أكثر تداخلاً مع ملفات أخرى، مثل العراق وسورية والصراع على منطقة الخليج. لا يعني هذا بالتأكيد أن من الممكن، أو الصواب والحكمة، استبعاد قيام الأميركيين بتوجيه ضربة عسكرية كبيرة للمقدرات النووية الإيرانية، ولكن قرار مثل هذه الضربة سيُتَّخذ على أرضية من حسابات أميركية وليس الضغوط الإسرائيلية.
ما سيجعل من هذه الحسابات في المستقبل أكثر أميركية وأقل إسرائيلية هو نجاح باراك أوباما في الاحتفاظ بالبيت الأبيض في انتخابات الرئاسة الأميركية في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل (2012). في تعامله مع نتانياهو خلال أسابيع التوتر من سبتمبر/أيلول 2012، أظهر أوباما صلابة واضحة، موحيًا بأنه لا يقبل باستغلال نتانياهو المكشوف للانتخابات الأميركية لتحقيق مكاسب سياسية سريعة في واحد من أكثر ملفات السياسة الأميركية الخارجية حساسية وتعقيدًا، سواء في الشرق الأوسط أو على المستوى العالمي. أما في رئاسته الثانية، فالأرجح أن أوباما سيكون أقل اكتراثًا برئيس الحكومة الإسرائيلية، وربما يسعى حتى لإسقاطه أو إضعافه في الانتخابات الإسرائيلية البرلمانية المقبلة.