في 5 يناير/كانون الثاني 2021، انعقدت قمة المصالحة الخليجية في مدينة العلا السعودية. حظي أمير قطر، تميم بن حمد آل ثاني، باستقبال حار، لم يكتف ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، باستقباله في المطار بل أخذه بالأعناق، وخصَّه بجولة إلى معالم المدينة في سيارته الخاصة. كان هذا اللقاء تتويجًا لمساع حثيثة قادتها دولة الكويت إلى آخر لحظة قبل انعقاد القمة. فلقد زار وزير خارجية الكويت، أحمد ناصر الصباح، الدوحة، في 4 يناير/كانون الثاني، ثم أعلن عن موافقة السعودية على فتح حدودها وأجوائها، أعقب ذلك تأكيد الديوان الأميري حضور تميم القمة.
شدَّد بيان القمة على روابط التعاون بين دول مجلس التعاون والعمل على توثيقها في المجالات السياسية والأمنية والاقتصادية، والصحية لمواجهة كوفيد 19، وخلا من الإشارة للقضايا الخلافية. أعلن بعد ذلك بأيام وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، عن اعتزام بلاده إعادة فتح سفارتها بالدوحة.
أبدت بقية أطراف الأزمة، الإمارات والبحرين ومصر، حماسًا أقل، فلقد أعلنت عن تفويضها للسعودية في قيادة المصالحة لكن حرصت على أن يكون تمثيلها في القمة منخفضًا للإشارة إلى أنها لا تزال تريد البتَّ في بعض القضايا الثنائية العالقة قبل العودة الكاملة للعلاقات مع الدوحة.
ما الدواعي التي جعلت القيادة السعودية تدفع إلى المصالحة في هذا التوقيت بالذات؟ وما تداعيات المصالحة على موازين القوى بالمنطقة؟ وما احتمالات استمرارها أو انحسارها؟
الحليف الأميركي
ليست هذه المرة الوحيدة التي عملت فيها الكويت والولايات المتحدة على تسوية الأزمة الخليجية، بل حاولت عدة مرات من قبل لكنها أخفقت. وقد يكون العامل الذي جعل وساطتهما تنجح هذه المرة هو التحول في القيادة بالولايات المتحدة من رئاسة دونالد ترامب إلى جو بايدن. كان الرئيس، ترامب، يدافع عن السعودية ويتصدى لمحاولات الكونغرس فرض عقوبات عليها سواء في حرب اليمن أو قضية مقتل جمال خاشقجي. أما الرئيس الجديد، بايدن، فلقد أبدى امتعاضه من الدور السعودي في الملفين وتوعَّد بالنظر فيهما. لا يخدم هذا الموقف الأمن السعودي؛ حيث كان التحالف مع الولايات المتحدة من أهم دعائم أمن المملكة منذ اللقاء الشهير بين الملك عبد العزيز والرئيس روزفلت على متن السفينة "كوينسي" عشية الحرب العالمية الثانية. وتزداد حاجة السعودية لهذا التحالف في الوقت الراهن لأن نفوذ إيران اتسع بشكل غير مسبوق منذ نشأة المملكة فلقد بات على حدودها الشمالية الشرقية في العراق والجنوبية باليمن، وبلغ سوريا ولبنان، بل إن الموقف السعوي قد يتضرر أكثر إذا ما نفذ الرئيس بايدن وعده بالعودة للاتفاق النووي وحصلت إيران في المقابل على اعتراف، ولو ضمنيًّا، من الولايات المتحدة بنفوذها في المنطقة والاندماج مجددًا في الاقتصاد الدولي. ستكون السعودية حينها في وضع حرج لأن إيران ستكون أكثر ثقة وجرأة في مواصلة توسيع نفوذها وتعزيزه بالمنطقة.
تقتضي مصلحة السعودية الأمنية تفادي الوقوع في هذا المأزق، فشرعت في لعب دور بسط الاستقرار في المنطقة من خلال تسوية النزاعات التي قد تعيق مخططات الإدارة الأميركية الجديدة في منطقة الشرق الأوسط. ومن هذه النزاعات أو ربما في مقدمتها: الأزمة الخليجية؛ لأن الإدارات الأميركية منذ عهد الرئيس أوباما سعت إلى إعادة تنظيم علاقتها الاستراتيجية بمنطقة الخليج من خلال إنشاء تحالف أو تكتل إقليمي يكون موازنًا للتحالف الذي نجحت إيران في تشكيله، ولن تستطيع تحقيق ذلك إلا إذا تمكنت في المقام الأول من إعادة الروابط المنقطعة بين دول الخليج.
بيئة جاذبة
ستخفف المصالحة الخليجية من الاستقطاب الإقليمي، فلقد كانت السعودية والإمارات والبحرين ومصر تعتبر التحالف القطري/التركي موجهًا ضدها، لكن حدثت تغييرات في مواقف بعضهم في هذا الشأن حتى قبل قمة العلا؛ فلقد تحادث الملك السعودي، سلمان بن عبد العزيز، والرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، هاتفيًّا، في شهر نوفمبر/تشرين الثاني، واتفقا على إبقاء قنوات الحوار مفتوحة. قال بعدها وزير الخارجية السعودية إن علاقات بلاده بتركيا طيبة. وعبَّر وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية، أنور قرقاش، عن رغبة بلاده في تطبيع العلاقات مع أنقرة. وليس مستبعدًا أن يزداد هذا الزخم مستقبلًا ويشمل بقية أطراف الأزمة الخليجية لأن أحد العوائق التي كانت تمنع التقارب زال، وهناك مصلحة مشتركة لتقويته وهو حاجة تركيا ودول الخليج للتعاون في العراق وسوريا، خاصة أن الولايات المتحدة تخفض من قواتها والتزاماتها بالبلدين؛ ما يمنح إيران الفرصة للتمدد في الفراغ الناتج عن ذلك.
ستشجع هذه التطورات بقية الدول على تقوية علاقاتها بأطراف الأزمة الخليجية لأنها لم تعد تخشى التعرض للضغوطات أو العقوبات كما كان الوضع في السابق، وتوفر أيضًا بيئة جاذبة لرأس المال لأنها مستقرة تمنح المستثمرين الأجانب الأمان وتحميهم من الضغوطات التي كانت تمارَس عليهم من قبل للانحياز في الأزمة الخليجية حتى يحافظوا على استثماراتهم. وقد كان أحد مؤشرات تأثير المصالحة على الأمان في الأسواق الخليجية، ارتفاع بورصة قطر لأعلى مستوى منذ أربع سنوات.
سرعات المصالحة
هناك ثلاثة اتجاهات ستحدد وجهة المصالحة الخليجية: اتجاه خارجي تقوده الولايات المتحدة يشجع دول الخليج على تغليب عوامل التقارب والتعاون فيما بينها على عوامل التباعد، واتجاه داخل منطقة الخليج يولي أهمية بالغة للقضايا الخلافية، كالموقف من الربيع العربي والعملية الديمقراطية في المنطقة العربية ومكانة قوى المعارضة والدور التركي، ويعطيها الأولوية على عوامل التعاون. أما الاتجاه الثالث، فهو تآكل العوامل التي قام عليها تحالف السعودية والإمارات ومصر والبحرين. لا تتطابق أهداف السعودية والإمارات في اليمن، ولا تتطابق أهداف الإمارات ومصر في ليبيا أو العلاقة مع إثيوبيا، ولا تتطابق مواقف مصر والسعودية تجاه إيران، وقد أنهت المصالحة الخليجية قضية أخرى جمعتهم. هذه الاتجاهات الثلاث ستجعل علاقة دول الخليج ببعضها البعض تتباين حسب موازنتها بين الاتجاهات الثلاث.
ومن الجمع بين الاتجاهات الثلاث، سيكون دور الولايات المتحدة الذي يدفع للتقارب هو المحدِّد الرئيسي خلال عهد بايدن، لأن أطراف الأزمة الخليجية حلفاء للولايات المتحدة، ويعتبرونها ركنًا رئيسيًّا في أمنهم، وسيحرصون على تغليب عوامل التعاون من أجل تقوية شراكتهم بها. قد تقاوم بعض أطراف الأزمة الخليجية هذا الاتجاه لأن لها أولويات تتعارض معه، فالإمارات مثلًا تعتقد أن تعاونها مع روسيا والنظام السوري حليف إيران، سيساعدها في بسط نفوذها بليبيا واحتواء تركيا لأنها، حسب تصريحات قرقاش، تدعم الإخوان المسلمين. وهذا يتعارض مع رغبة إدارة بايدن في إعطاء الأولوية لاحتواء النفوذ الروسي والإيراني بالمنطقة. لكن مقاومة الإمارات ستكون منضبطة بالدفع الرئيسي الذي تقوده الولايات المتحدة.