تحالف واشنطن وأنقرة: إما أزمة متجددة أو شراكة مستديمة

بدرت من إدارة بايدن نُذر أزمة وشيكة في العلاقة مع أنقرة، تعود أسبابها إلى اختلافات ظرفية وتحولات بنيوية في موازين القوى، لكن مصالح الطرفين المشتركة قد تدفعهما إلى التوافق على أسس جديدة لشراكة مستديمة.
أردوغان وبايدن يواجهان ملفات بينية شائكة (وكالة الأناضول)

لم تكن علاقات تركيا أردوغان بإدارة ترامب على ما يرام دائمًا. ففي 2018، عندما لم تستجب أنقرة لمطالب واشنطن بالإفراج عن القس الأميركي، أندرو برنسون، الذي سجنته السلطات التركية بانتظار محاكمته بتهمة الاتصال بتنظيمات إرهابية كردية، فرض ترامب عقوبات سريعة على مسؤولين أتراك كبار. وطوال أربع سنوات من عهد الرئيس الأميركي السابق، لم تستطع تركيا إقناع الولايات المتحدة بالتخلي عن دعم الفصائل الكردية السورية، التي تقول أنقرة إنها ليست سوى فرع لحزب العمال الكردستاني، الذي يخوض حربًا ضد الدولة التركية منذ بداية ثمانينات القرن الماضي. وقبل أيام من نهاية ولاية ترامب، لم تتردد إدارته في فرض عقوبات على مؤسسة الصناعة العسكرية التركية، على خلفية شراء تركيا منظومة الدفاع الجوي الروسية إس 400. وكانت الولايات المتحدة قبل ذلك، وفي خطوة إنذار أولى، قد أوقفت توريد طائرات إف 35 لتركيا، بالرغم من أن الأخيرة شريكة في صناعة الطائرة، وأنها دفعت ثمن الطائرات المتعاقَد عليها مقدمًا.

ولكن، ولأن ترامب وأردوغان حافظا على علاقة مباشرة، وبدا في سياق هذه العلاقة أحيانًا أن الرئيس الأميركي السابق يتجاوز موقف مؤسسات الأمن والدفاع الأميركية (كما حدث في محاولة ترامب المجهَضة للانسحاب العسكري الكامل من سوريا)، وُلِد انطباع في أوساط مراقبي الشرق الأوسط بأن إدارة ترامب كانت مفضَّلة من صانع القرار التركي.

الآن، وبعد أن انتهت ولاية ترامب في أجواء سياسية عاصفة، وتسلم الديمقراطي، جو بايدن، مقاليد البيت الأبيض، واعدًا بإعادة نظر شاملة في سياسة سلفه الخارجية، تثار أسئلة لا تنتهي حول مستقبل العلاقات الأميركية-التركية. ثمة تحالف عميق الجذور بين الولايات المتحدة وتركيا، يعود إلى نهاية الأربعينات، وإلى التحاق تركيا بعضوية حلف شمال الأطلسي (الناتو). ولكن أسئلة العلاقات الأميركية-التركية لا يثيرها مستقبل هذا التحالف وحسب، بل وبروز تركيا في الأعوام القليلة الماضية قوةً بالغة التأثير في جوارها العربي، وفي البلقان، وجنوب القوقاز، وشرق المتوسط.

فأي مسار يمكن أن تأخذه علاقات أنقرة وواشنطن في ظل إدارة بايدن؟ وما الذي يمكن أن يتركه اتجاه هذه العلاقات من أثر على السياسات الأميركية في محيط تركيا الإقليمي؟

مؤشرات لا تبعث على ارتياح أنقرة

خلال الصيف الماضي، وفي ذروة الحملة الانتخابية الرئاسية في الولايات المتحدة، نُشر شريط تسجيل صوتي لمقابلة بين المرشح، جو بايدن، وعدد من كبار صحفيي النيويورك تايمز. احتوى الشريط على تصريحات بالغة الحدة لبايدن بشأن تركيا، شجب فيها سياسات أردوغان، وقال: إن على الولايات المتحدة تعزيز اتصالاتها بقوى المعارضة التركية والعمل على إطاحة أردوغان. لم يكن ثمة شك في صحة الشريط؛ الأمر الذي أكدته نيويورك تايمز، ولكن تصريحات بايدن فُسِّرت حينها بأنها محاولة منه لكسب ودِّ صحفيين ليبراليين، أو أن بايدن تحدث بوحي اللحظة، دون أن يدقق بالضرورة في كلماته. بيد أن الشريط، من وجهة نظر أنقرة، كان أول مؤشر على أن فوز بايدن لن يأتي بكثير من الخير لمستقبل العلاقات بين البلدين. وما إن حُسمت نتائج الانتخابات لصالح بايدن، حتى ازدادت المؤشرات على متاعب جديدة لأنقرة في علاقاتها بحليفتها الغربية الرئيسة.

وقبل أسابيع قليلة من تولي بايدن مقاليد الرئاسة، تسربت تقارير من أنقرة حول قيام الرئاسة التركية بطلب اتصال هاتفي بين أردوغان والرئيس الأميركي المنتخب، ولكن بايدن تجاهل طلب الاتصال التركي. وحتى نهاية يناير/كانون الثاني، لم يكن قد سُجِّل بعدُ أي اتصال مباشر بين الرئيسين، بالرغم من أن بايدن، قبل وبعد بداية رئاسته، سارع إلى إجراء عدد من الاتصالات الهاتفية بقادة عدد من الدول الحليفة، إضافة إلى روسيا. وفي 19 من نفس الشهر، أثناء جلسة استماع مجلس الشيوخ، الخاصة بإقرار ترشيح بايدن تولِّي أنتوني بلينكن وزارة الخارجية، سُئل بلينكن عن تصوره للعلاقات مع تركيا. أجاب وزير الخارجية المرشح في لغة ساخرة بأن "تركيا، التي يقال: إنها شريك استرتيجي"، هي مسألة بالغة الصعوبة. وخلال يومين من توليه منصبه، أجرى بلينكن ما لا يقل عن 20 اتصالًا بنظرائه من وزراء الخارجية في مختلف الدول، بما في ذلك العراق، ولكن لم يكن من بينها اتصال بين بلينكن ووزير الخارجية التركي.

في 28 يناير/كانون الثاني، قال جيك سوليفان، مستشار بايدن للأمن القومي، في جلسة لمركز أبحاث أميركي: إن تركيا باتت مصدر قلق مشترك لأميركا وحلفائها في أوروبا. وفي الوقت نفسه، كان نائب المندوب الأميركي في الأمم المتحدة (لم تكن المرشحة لمنصب المندوب قد أُقِرَّت بعدُ في مجلس الشيوخ)، يتحدث في جلسة لمجلس الأمن الدولي خاصة بالأزمة الليبية. طالب نائب المندوب الأميركي في كلمته روسيا وتركيا بسحب قواتهما من ليبيا، والتوقف عن عسكرة الساحة الليبية. وهذا هو أول موقف أميركي صريح من الدور التركي في ليبيا، الذي أخذ طابع التعاون العسكري والأمني، منذ الاتفاق التركي مع حكومة الوفاق الشرعية في نوفمبر/تشرين الثاني 2019.

بخلاف هذا الأخير، لم تصدر عن مسؤولي إدارة بايدن، ولا حتى عن الرئيس نفسه، أية توضيحات حول دوافع قلق واشنطن الجديدة من السياسات التركية. ومع ذلك، تشير تصريحات مسؤولي إدارة بايدن إلى أن ثمة رؤية سلبية مسبقة لتركيا، وربما بالغة السلبية، ولكنها لا تقول الكثير حول جذور هذه الرؤية. والمؤكد أن ترشيح بايدن بلينكن لوزارة الخارجية، وجيك سوليفان مستشارًا لمجلس الأمن القومي، وبرت ماكغورك مسؤولًا للشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي، أطلق أجراس الإنذار في أنقرة حتى قبل تولي بايدن الرئاسة. سيكون لهؤلاء المسؤولين الثلاثة دور مباشر وبالغ التأثير في رسم سياسات الإدارة الجديدة في الشرق الأوسط وتجاه تركيا. وقد عُرف بلينكن وسوليفان، بعد نهاية إدارة أوباما، بكتاباتهما الناقدة لتركيا وسياساتها الخارجية. كما لعب ماكغورك دورًا رئيسًا، خلال توليه مسؤولية مكافحة الإرهاب في عهد أوباما وحتى استقالته من إدارة ترامب في نهاية 2018، في رسم السياسة الأميركية في سوريا، ودعمها الهائل للفصائل الكردية السورية. بعبارة أخرى، لا تقتصر الرؤية السلبية لعلاقات الدولتين على مسؤولي إدارة بايدن، بل هي أيضًا السمة الرئيسة لتقدير أنقرة لهذه العلاقات منذ ولاية أوباما الثانية على الأقل.

ملفات متراكمة من الخلاف

في مطلع ولايته الأولى، كانت تركيا أولى محطات جولة أوباما الخارجية، حيث اتخذ من إسطنبول منصة لتوجيه كلمة للعالم الإسلامي ومحاولة ترميم علاقة الولايات المتحدة بمسلمي العالم. وقد شهدت علاقات البلدين مزيدًا من الدفء خلال السنوات القليلة التالية، سيما بفعل المقاربة المشتركة للتعامل مع الثورات الشعبية العربية وعملية التحول الديمقراطي التي أطلقتها. ولكن تردد أوباما في لعب دور فعال في مجريات الثورة السورية، منذ بداية ولايته الثانية، وشكوك أنقرة في حقيقة الموقف الأميركي من انقلاب يوليو/تموز 2013 في مصر، بدأت في إحداث نوع من التوتر في العلاقات.

في 2014، فاجأ تنظيم الدولة كافة الأطراف بتوسيع سيطرته في العراق وشرق وشمالي شرق سوريا، وعادت إدارة أوباما للعب دور عسكري في المواجهة مع تنظيم الدولة في العراق وسوريا. ولكن ما عملت عليه إدارة أوباما هذه المرة لم يكن تدخلًا عسكريًّا مباشرًا، تتعهده قوات أميركية، بل إيجاد أدوات محلية، تعمل الولايات المتحدة على تسليحها ودعمها لخوض المعركة ضد تنظيم الدولة. في العراق، أُلقي معظم عبء المواجهة، بدعم أميركي كبير، على الحشد الشعبي. وفي سوريا، وبعد تردد تركيا وحلفائها من الثوار السوريين في تحمل مسؤولية المواجهة، وجدت إدارة أوباما في الفصائل الكردية السورية، ما بات يُعرف بقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي تشكِّل وحدات حماية الشعب الكردية الموالية لحزب العمال الكردستاني عمودها الفقري، الأداة المناسبة، سيما بعد حسم معركة عين العرب (كوباني) في نهاية 2014 وبداية العام التالي.

قبلت تركيا على مضض دورًا لقسد في شرق الفرات، على أساس أن الدعم الأميركي للفصائل الكردية سيظل محدودًا، زمنيًّا وجغرافيًّا. ولكن، وفي ربيع 2016، تدخل أوباما شخصيًّا لدى أردوغان للسماح لقسد بالتحرك غرب الفرات، لتحرير مدينة منبج من تنظيم الدولة، واعدًا بأن تنسحب قوات قسد بمجرد دحر تنظيم الدولة من المنطقة. المشكلة، كما يقول الأتراك، أن أوباما لم يَفِ بوعده، وأن الأميركيين استمروا في حماية ودعم وجود قسد في منبج، بالرغم من عمل القوات الكردية على تغيير البنية الديمغرافية للمنطقة، التي تقطنها أغلبية عربية. استمرار الدعم الأميركي لقسد، ماليًّا وتقنيًّا وتسليحًا، وبصورة كبيرة نسبيًّا، وإحجام الولايات المتحدة عن التدخل لمعادلة التدخل الروسي العسكري المباشر في سوريا منذ خريف 2015، كسر ما تبقى من تفاهمات أميركية-تركية في سوريا.

وفي يوليو/تموز 2016، حين شهدت تركيا محاولة انقلابية، قادتها عناصر موالية لجماعة غولن في القوات المسلحة التركية، وجد الأتراك أن الأميركيين، حتى وإن لم يكونوا خلف المحاولة الانقلابية، عرفوا بها قبل وقوعها، دون أن يبلغوا نظراءهم الأتراك. ما فاقم من الشكوك في أنقرة، كان رفض إدارة أوباما التعامل مع الطلب التركي بتسليم غولن، المقيم في بنسلفانيا الأميركية، لسلطات بلاده. بعبارة أخرى، عندما انتهت ولاية أوباما الثانية في يناير/كانون الثاني 2017، كانت العلاقات الأميركية-التركية قد وصلت أدنى مستوى لها منذ عقود.

قبل ذلك، كانت إدارة أوباما قد رفضت طلب تركيا شراء بطاريات باتريوت الأميركية المضادة للطائرات. وقد ثار بعض من الجدل بعد ذلك حول الأسباب التي دفعت واشنطن لرفض طلب التسلح التركي، في وقت اشتدت فيه حاجة تركيا لنظام دفاع جوي. في النهاية، أفضى الرفض الأميركي إلى شراء تركيا منظومة الدفاع الروسية المتقدمة إس 400، وهو الأمر الذي ولَّد غضب واشنطن، سواء في الكونغرس أو في مؤسسة الدفاع الأميركية، نظرًا لأن منظومة إس 400 طُوِّرت أصلًا للتعامل مع أسلحة الجو لدول الناتو.

وهكذا، ومنذ تولي إدارة ترامب، أضيف ملف منظومة إس 400، إلى ملفات الخلاف حول السياسة الأميركية في سوريا ورفض واشنطن تسليم غولن. وخلال فترة قصيرة من ولاية ترامب، فتحت سلطات الادعاء الأميركية ملف بنك خلق التركي واتهمت هذه المؤسسة المالية الكبيرة بمساعدة إيران على التهرب من العقوبات الأميركية. ولا يزال هذا الملف مفتوحًا، حتى بعد اعتقال ومحاكمة وسجن وانتهاء محكومية نائب لمدير خلق كان في زيارة للولايات المتحدة.

من جهة أخرى، بدأت تركيا، مدفوعة بعدة أسباب، بما في ذلك تراجع الشرق الأوسط في سلم الاهتمامات الأميركية، بتعهد دور أكثر نشاطًا وفعالية في محيطها الإقليمي، سواء لحماية حلفائها، أو لحراسة ما تراه مصالحها القومية الحيوية. ففي صيف 2017، ردَّت تركيا على حصار قطر بتنفيذ اتفاق التعاون بين البلدين، وتعزيز الوجود العسكري التركي في الدولة الخليجية الصديقة. ولم تتردد تركيا في إيفاد بعثة عسكرية لتدريب وتنظيم جيش الدولة الصومالية الشرعي. كما قدمت يد العون العسكري لكل من حكومة طرابلس في ليبيا ولجمهورية أذربيجان، لحماية الأولى من هجمات اللواء المتقاعد، حفتر، ودعم جهود الثانية في تحرير إقليم قرة باغ من الاحتلال الأرميني.

وبعد ثلاث عمليات عسكرية في الشمال السوري، منذ 2015، باتت تركيا تتحكم في شريط طويل في الجانب السوري من خط الحدود، بهدف تأمين الأرض التركية من هجمات تنظيم الدولة واختراقات الفصائل الكردية، وحماية المدنيين السوريين من هجمات قوات النظام. كما قامت تركيا خلال العامين الماضيين بتسيير سفن استكشاف في شرق المتوسط، سواء في المياه الإقليمية التركية أو تلك المتنازع عليها بين تركيا وجمهورية شمال قبرص، من جهة، واليونان وحكومة نيقوسيا القبرصية، من جهة أخرى.

بخلاف سوريا، حيث اصطدمت نشاطات تركيا العسكرية في مناطق سيطرة قسد بالتأييد الأميركي المكشوف للفصائل الكردية، لم تتخذ إدارة ترامب مواقف واضحة ضد الحراك التركي الإقليمي. ولكن تصريحات متقطعة، نُسبت أحيانًا لمسؤولي الخارجية الأميركية أو القيادة العسكرية المركزية المسؤولة عن الشرق الأوسط، أوحت بعدم ارتياح أميركي من نفوذ تركيا المتزايد في ليبيا، ونشاطاتها الاستكشافية في شرق المتوسط. وبالنظر إلى أن تصريحات بلينكن وسوليفان بخصوص تركيا أشارت إلى قلق أميركي-أوروبي مشترك من السياسات التركية، فالأرجح أن إدارة بايدن تتجه، كما الأوروبيين، سيما فرنسا، إلى إعلان موقف مناهض للمصالح التركية في شرق المتوسط، وللوجود التركي العسكري في ليبيا.

وبالرغم من غياب أية إشارة مباشرة من إدارة بايدن إلى العلاقة المتطورة بين تركيا والصين، فالأرجح أن الأميركيين لا ينظرون بارتياح للتعاون التركي-الصيني المتزايد، سيما على الصعيد الاقتصادي وتسهيل طرق التجارة الصينية إلى أوروبا. كما أن الأرجح أن إدارة بايدن ستعيد فتح ملف منظومة إس 400، التي تلحُّ أنقرة على ضرورة إيجاد حل تفاوضي حولها، يحفظ مصالح وأمن تركيا والناتو معًا، ومن ثم استئناف توريد طائرات إف 35 الأميركية ورفع العقوبات الأميركية المتعلقة بهذا الملف. ولكن الأخطر في أفق علاقات البلدين يتعلق بلا شك بالدعم الأميركي لقسد في سوريا، وما يلوح من احتمال تبني إدارة بايدن مشروعًا لإنشاء إدارة كردية ذاتية في شمال وشمال شرقي سوريا. فالملاحظ منذ تولي بايدن مهامه، وهو المعروف بتأييد الخيار الكردي، أن ميليشيات قسد ووحدات حماية الشعب صعَّدت من عملياتها في الحسكة والقامشلي ضد قوات النظام السوري، التي تعايشت معها منذ اندلاع الثورة السورية، مطالبة بإخلاء النظام لكافة مواقعه في المدينتين اللتين تقطنهما كتلة كردية سورية ملموسة.

علاقة مضطربة تتطلب إعادة نظر شاملة

الملاحظ، بعد عام من توسع النفوذ الإقليمي المطرد، أن تركيا بدأت الاستعداد لمواجهة مناخ التأزم المحتمل مع إدارة بايدن بالعودة إلى دبلوماسية الوفاق والمصالحة، سواء في جوارها أو على صعيد العلاقة مع الاتحاد الأوروبي. ولكن هذه الانعطافة في السياسة الخارجية لن تصل إلى حدِّ التخلي عن حلفاء تركيا، أو المس بما تراه أنقرة مصالح قومية حيوية. فتركيا، مثلًا، لن تنسحب من الخليج أو ليبيا أو أذربيجان، ولن تتخلى عما تعتبره حقوقها في شرق المتوسط. وبالتأكيد، لن تتراجع عن معارضة قيام كيان كردي في شمال وشمال شرق سوريا، تقوده قوى كردية وثيقة الصلة بحزب العمال الكردستاني، ويهدد وحدة سوريا. وهذا ما يترك العلاقات التركية-الأميركية في عهد بايدن مفتوحة على كل الاحتمالات.

هناك، بالطبع، من يرى أنه في ضوء التعقيدات التي تحيط بالملف النووي الإيراني وصعوبة تبلور توافق أميركي-إيراني سريع، وتوجه واشنطن نحو التصعيد في المواجهة الجيوسياسية مع روسيا، والاقتصادية مع الصين، فإن إدارة بايدن ستتجنب تأزيم العلاقة مع تركيا. كما أن خطوات تركيا الإيجابية نحو أوروبا، وانطلاق المباحثات الاستكشافية مع اليونان، وإعلان أنقرة بأن السلام في قرة باغ سيؤدي في النهاية إلى التطبيع مع أرمينيا، ستصب جميعًا لصالح تركيا في موازين السياسة الخارجية لإدارة بايدن. ولكن هذا كله قد يكون مجرد تمنيات. فثمة نزعة أيديولوجية تعكسها تصريحات مسؤولي إدارة بايدن بخصوص تركيا، ترتكز، بغض النظر عن تفاصيل الخلافات، إلى خشية واشنطن (كما أوروبا) المتزايدة من الصعود التركي، وبروز تركيا جديدة، مختلفة بصورة كبيرة عن تلك التي عرفتها واشنطن خلال سنوات الحرب الباردة. وهذا، ربما، ما قد يدفع إلى إعادة نظر شاملة وكلية لطبيعة العلاقات الأميركية-التركية، تحرر الدولتين من ميراث تحالف الحرب الباردة الطويل، وتؤسس لشراكة بعيدة المدى، ترتكز إلى أسس جديدة ورؤية براغماتية لمصالح البلدين.

لقد وُلدت علاقات التحالف الأميركية-التركية من مبدأ ترومان، والمساعدات الأميركية الملموسة التي قُدمت منذ نهاية الأربعينات لكل من تركيا واليونان لمساعدتهما على الصمود أمام الأطماع التوسعية السوفيتية. وقد تَعَزَّز هذا التحالف بمشاركة تركيا في الحرب الكورية، وعضويتها في حلف الأطلسي. ولكن تركيا كانت الطرف الأضعف، الأكثر حاجة، في هذه العلاقة التحالفية، سواء على الصعيد الاقتصادي-التجاري، أو على الصعيد التقني والتعليمي، أو على الصعيد العسكري. وقد عملت واشنطن، طوال سنوات الحرب الباردة، على بناء نفوذ كبير في مؤسسات الدولة والمجتمع التركيين. ووُلد بالتالي شعور متعاظم في تركيا، لدى مسؤولي الدولة وفي أوساط المثقفين والصناعيين الأتراك، بصعوبة حدوث أو تغيير أي شيء دون موافقة أميركية.

صحيح أن العلاقات الأميركية-التركية تعرضت لبعض الأزمات خلال سنوات الحرب الباردة، مثل سحب الأميركيين للصواريخ النووية من تركيا في نهاية الأزمة الكوبية، ورسالة جونسون الشهيرة بخصوص قبرص في 1964، والعقوبات التي فُرضت على تركيا بعد تدخلها في قبرص في 1974، وبعد انقلاب 1980. ولكن جوهر العلاقة ظل على ما هو عليه، أسيرًا لاعتقاد واشنطن بأن تركيا شريك صغير، ولكنه حيوي، يقف على خط المواجهة ويحرس الممر من الغرب إلى الشرق، ولسيكولوجيا النفوذ الأميركي الذي لا يقاوم لدى الطبقة السياسية والعسكرية التركية.

ولكن تركيا مختلفة أخذت في البروز خلال العقدين الماضيين. تركيا أكثر ثقة بالنفس، تستلهم تاريخها الطويل، وتأمل في لعب دور أكبر في جوارها. وقد نجحت في بناء صناعة عسكرية متنوعة، جعلتها أقل حاجة لحلفائها الغربيين، وأكثر شعورًا بالاستقلال. وبالرغم من الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها حاليًّا، فإن القاعدة الاقتصادية-الصناعية التركية تؤهلها لاحتلال موقع متقدم بين دول الصف الثاني في العالم. وهذا ما فرض تغييرًا ملموسًا في طبيعة العلاقات مع الولايات المتحدة، ومع الكتلة الأطلسية ككل.

المشكلة، بالطبع، أن الولايات المتحدة ستظل، مهما تغيرت طبيعة الأولويات الأميركية، لاعبًا بالغ التأثير في الشرق الأوسط، وفي محيط تركيا العربي والإيراني والبلقاني والقوقازي. كما أن تركيا باتت دولة محورية في دائرة التوسع الصيني الاقتصادي، من جهة، والحراك الروسي الجيوسياسي، من جهة أخرى. وهذان التطوران يمسَّان بصورة مباشرة رؤية أميركا لدورها وتأثيرها في العالم، كما يُعتبران، من جهة أخرى، مصدر تهديد وفوائد لتركيا، معًا.

هذا كله ما قد يدفع إلى ضرورة إطلاق حوار تركي-أميركي استراتيجي، يأخذ في الاعتبار متغيرات ما بعد الحرب الباردة، سواء ما يتعلق منها بكيفية رؤية تركيا لنفسها ودورها، وبمصالح الولايات المتحدة ومخاوف أنقرة المستديمة من التدخلات الأميركية في الشأن التركي، أو ما يتعلق بالآثار السلبية لتأزم العلاقات الأميركية-التركية على موقع تركيا ومصالحها. بهذا فقط يمكن بناء علاقات أكثر صحية وأكثر قدرة على مواجهة الخلافات الطارئة بين البلدين.