رهان الثوار: تمزيق قوات النظام للسيطرة على دمشق

تمكن الجيش الحر من استعادة المبادرة بفضل استراتيجية تتكون من شقين: الأول، تمزيق قوات النظام السوري على عدة جبهات تستنزف امكاناته، فتتراخى قبضته على مساحات واسعة من سوريا؛ والشق الثاني هو القضم المتواصل للعاصمة دمشق حتى تنهار معنويات القيادة السورية.
201212311271596734_20.jpg
تضييق الخناق على دمشق (الجزيرة)

يبدو مشهد الحرب الداخلية في سوريا وكأنه قد عبر بشكل كبير نقطة اللاعودة منذ أواخر سبتمبر/أيلول الماضي (2012)؛ حيث افتقد النظام زخم هجماته البرية على مراكز المعارضة في الشمال والوسط والجنوب، واتجه إلى الاعتماد على استخدام النيران البعيدة التي توفرها كل من قواعد المدفعيات بعيدة المدى (قواعد النيران) المنتشرة في مواقع قرب المراكز الحضرية، وطائرات القتال والهيلوكوبترات التي تعمل، انطلاقًا من قواعدها الجوية، بحرّية دون مراعاة قواعد للاشتباك تحد من الخسائر في الأرواح والممتلكات المدنية عند إسقاطها لقنابلها على مناطق سكانية حضرية وريفية معًا. في مواجهة ذلك، فإن الثوار بفضل حيازتهم المبادأة يتحولون من تكتيكات الاستنزاف إلى السيطرة على مزيد من مواقع قوات النظام، فضلاً عن إحكامهم الحصار بشكل ممتد لقواعد نيرانه تمهيدًا لاقتحامها في وقت لاحق، ووسط ذلك يستمر تصاعد وتيرة عمليات الثوار في دمشق وريفها منذ أواخر أكتوبر/تشرين الأول الماضي (2012)، بما يفرض ضغطًا غير مسبوق على العصب السياسي-العسكري للنظام.

قوات النظام: تراجع في أغلب الجبهات

تؤشر الوقائع الجارية على الأرض في الشهور الثلاث الأخيرة إلى تراجع تواجد قوات النظام في معظم جبهات المواجهة خاصة في مناطق الشمال والشمال الشرقي والعاصمة وريفها.
 
جبهة الشمال (إدلب وحلب)
إدلب: يمكن رصد أبرز وقائع وتطورات الوضع العسكري كالتالي:

  • سيطرة الثوار على غالبية المراكز الحضرية وآخرها معرة النعمان (9 أكتوبر/تشرين الأول 2012)، وسراقب (2 نوفمبر/تشرين الثاني 2012)، اللتان تتحكمان في الطريقين السريعين (دمشق-حلب) و(اللاذقية-حلب). 
  • سيطرة الثوار على معسكرات النظام (قواعد النظام) بعد حصار لعدة أسابيع (الويس-حميشو-سلقين-حارم)، واستمرار محاصرة أخرى (وادي الضيف-تفتناز-مسطومة-القرميد-المعصرة).
  • استكمال السيطرة على قوس الحدود الشمالي الغربي مع تركيا من بداما (15 أكتوبر/تشرين الأول  2012) وحتى حارم (2 نوفمبر/تشرين الثاني 2012)، وكذلك السيطرة على المعبر الحدودي الرئيسي مع تركيا باب الهوى (15 أغسطس/آب 2012).

حلب: يمكن رصد أبرز وقائع وتطورات الوضع العسكري كالتالي:

  • السيطرة على معظم الريف الحلبي، وإنشاء أول مخيم للاجئين في داخل سوريا، (8 أكتوبر/تشرين الأول 2012)، قرب أطمة على مشارف الحدود مع تركيا.
  • السيطرة على معسكرات النظام (إيكاردا-الفوج 46 بالأتارب-خان العسل)، واستمرار محاصرة أخرى (الشيخ سليمان-منغ).
  • تحول معركة مدينة حلب إلى استنزاف لموارد النظام وإشغاله المتعمد عن دعم عمليات أخرى (بدأت معركة حلب منذ 20 يوليو/تموز الماضي 2012)، ويسيطر الثوار حاليًا على حوالي 70% من المدينة.
  • السيطرة على كافة المعابر الحدودية مع تركيا (السلامة-جرابلس-عين العرب).

 جبهة شمالية - شرقية (دير الزور-الحسكة-الرقة)

مثّلت هاجسًا للنظام منذ اندلاع الانتفاضة باعتبار مواردها المائية والزراعية والنفطية، وكذلك نظرًا للارتباطات القبلية واللغوية والثقافية مع الأقاليم الغربية والشمالية الغربية للعراق، وما يعني ذلك من مخاطر على نظامي الحكم في دمشق وبغداد.

دير الزور: يمكن رصد أبرز وقائع وتطورات الوضع العسكري كالتالي:

  • إعلان الثوار سيطرتهم على الريف بكامله، من البوكمال (تأكدت السيطرة بسقوط مطار الحمدان في 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2012) مرورًا بالميادين (بالسيطرة على القاعدة العسكرية في 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2012) وصولاً إلى مشارف دير الزور.
  • احتدام معركة السيطرة على مدينة دير الزور؛ حيث يعاني النظام من تردي أوضاعه العسكرية فيها خاصة بعد نجاحات الثوار في الريف المحيط. 

الحسكة: عقب اتفاق ضمني بين النظام وقوات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني التركي) بتولي الأول شؤون حفظ النظام في المحافظة ليتفرغ الثاني لعملياته في مناطق أخرى؛ أنهى الثوار تلك الحالة من الهدوء الحذِر في المحافظة ذات التركيبة السكانية شديدة التنوع من أكراد وعرب وتركمان وآشوريين وغيرهم؛ حيث سيطر الثوار على معبر رأس العين الحدودي مع تركيا (8 نوفمبر/تشرين الثاني 2012).

توسيع الثوار لعملياتهم في مثلث (رأس العيت-تل تمر-عاليا) بعد سيطرتهم على بلدتي أصفر النجار وتل حلف.
 
الرقة:

  • سيطرة الثوار على معبر تل أبيض الحدودي (19 سبتمبر/أيلول 2012)، ليكتمل بذلك عقد السيطرة على كافة المعابر الحدودية مع تركيا (عدا معبر كسب الأقصى غربًا في محافظة اللاذقية). 
  • سيطرة الثوار على بلدة (سلوك) الاستراتيجية، وتوقعات باحتشاد قوات الثوار لاستكمال السيطرة على باقي أراضي المحافظة والأهداف الحيوية بها، كسد الثورة ودينة الطبقة.

 معركة دمشق: الشوط الأخير

رغم إعلان النظام السوري في أواخر يوليو/تموز الماضي (2012) استعادته السيطرة على كافة أحياء العاصمة ومعظم ريفها في أعقاب اجتياح غير ناجح للثوار في منتصف ذلك الشهر، شهد الأسبوع الأخير من أكتوبر/تشرين الأول الماضي (2012) وحتى الآن، جولة جديدة من هجوم الثوار، الأمر الذي دفع النظام إلى استخدام قوات النخبة لديه (الفرقتين الرابعة والحرس الجمهوري وعناصر من فرقتي القوات الخاصة الرابعة عشرة والخامسة عشرة)، إضافة إلى استخدام طائرات القتال في قصف أهداف داخل العاصمة لأول مرة منذ اندلاع القتال الموسع (حي جوبر في 30 أكتوبر/تشرين الأول 2012).

يمكن رصد أبرز وقائع وتطورات الوضع العسكري كالتالي:

  • تقدم الثوار في الأحياء الجنوبية للعاصمة (القدم-العسالي-الحجر الأسود-التضامن)، إضافة للبلدات المجاورة، ببيلا ويلدا والسيدة زينب، التي خرجت عن السيطرة الكاملة للنظام. 
  • فقد النظام السيطرة على مدن وبلدات الغوطة الشرقية، من دوما شمالاً إلى المليحة جنوبًا على مشارف مطار دمشق الدولي.
  • شن الثوار هجمات تستهدف خطوط اتصال العاصمة بوسط وشرق وشمال البلاد (عبر الغوطة الشرقية)، والجنوب (أوتوستراد دمشق-درعا ودمشق السويداء)، إضافة للطريق السريع المتجهة إلى القنيطرة.
  • نجاح الثوار في السيطرة على العديد من الأهداف العسكرية، ككتائب الدفاع الجوي، وآخرها في بالا (15 نوفمبر/تشرين الثاني 2012) والرحبة (25 نوفمبر/تشرين الثاني 2012)، بالإضافة إلى مطار مرج السلطان (24 نوفمبر/تشرين الثاني 2012) والاقتراب من المطار الدولي (29 نوفمبر/تشرين الثاني 2012).

وبالموازاة مع هذه الجبهات الثلاث، فإن جبهات أخرى تدور على أرضها وفي أجوائها معارك تستنفد قدرات النظام؛ الأمر الذي يمثل دعمًا غير مباشر للمعارك الدائرة في الجبهات الثلاث الأولى؛ حيث:

  • تحولت جبهة حمص إلى معارك استنزاف منذ مارس/آذار الماضي (2012)، رغم الحصار والقصف المدفعي والجوي اليومي على مدن حمص والرستن وتلبيسة، إضافة إلى الدعم المباشر عبر تدفق مقاتلين، وغير المباشر عبر القصف المدفعي الذي يوفره حزب الله اللبناني لصالح النظام في منطقة القصير وما حولها.
  • في اللاذقية يبدو تركيز الثوار على قطع خطوط الإمداد مع محافظات الشمال خاصة (اللاذقية-حلب ) و(اللاذقية-كسب)؛ حيث تدور معارك في مناطق جبلي التركمان والأكراد، خاصة في قرى ربيعة وسلمي وقسطل معاف وكنسبا.
  • تتزايد المناطق التي يسيطر عليها الثوار في محافظتي درعا والقنيطرة؛ حيث يسعون إلى استكمال السيطرة على المعابر الحدودية الجنوبية مع الأردن، في الوقت الذي يعززون فيه تواجدهم في بلدات وقرى الجولان المتاخمة للمنطقة منزوعة السلاح.

 أخطاء رئيسية للنظام

يشير رصد الأوضاع العملياتية على الأرض إلى تقلص المساحة التي يسيطر عليها النظام، وإلى افتقاده كل من القدرة والإرادة على استعادة تلك المناطق، بل وانتقال المبادرة إلى الثوار في كافة الجبهات بما فيها العاصمة، وهو ما يعكس اضطراب النظام على المستويات السياسية والعسكرية العليا، يمكن إرجاعها لمجموعة أخطاء ناجمة بالضرورة من طبيعة عملية تقدير المواقف واتخاذ القرارات عادة على المستويات الاستراتيجية في النظم السلطوية التي يمثل النظام السوري أحد نماذجها البارزة.

ويمكن حصر أبرز هذه الأخطاء على النحو التالي:

  • حرب تقليدية: يمارس النظام عمليات مقاومة التمرد بأسلوب الحروب التقليدية، التي تعتمد قوة الضربة للوحدات والتشكيلات البرية الميكانيكية الثقيلة، بإسناد نيراني مدفعي وجوي في ميادين قتال مفتوحة تتجنب فيها بقدر الإمكان المناطق الحضرية في وصولها لأهدافها، الأمر الذي لا يلائم التعامل مع خصم يقاتل بطريقة حرب عصابات في مناطق حضرية كثيفة السكان تحد من الحركة، ويتوافر لديه تقنيات المعلومات الحديثة التي تسهل اتصالاته وعرض إنجازاته، إضافة إلى فضح تجاوزات النظام المتمثلة في أعمال ترقى إلى مستويات جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية، وفي كل ذلك يبدو النظام غير قادر على الخروج من نهجه الحالي لاعتبارات عدة، منها تصلب الفكر الاستراتيجي لديه وعدم قدرة القيادات العسكرية على مراجعة القيادة السياسية في مسار الأحداث الجارية على الأرض.
  • الاحتفاظ بكافة المناطق: يرى النظام في السيطرة على المدن الرئيسية مؤشرًا على تماسكه وإحكام قبضته على الأمور في أنحاء البلاد، ومن ثم لا يعطي الأهمية للمناطق الريفية والأطراف، وهو الأمر الذي استنفد موارد النظام العسكرية، وأفقد التشكيلات الرئيسية قدرة المساندة المتبادلة فيما بينها لعملها في جزر منفصلة. وقد استفاد الثوار من ذلك بتوسعهم في السيطرة على مناطق الريف والتقدم منها لمحاصرة تلك المراكز الحضرية بل واقتحامها (حلب منذ أواخر يوليو/تموز الماضي 2012).
  • اعتماد مفهوم النيران البعيدة: التمدد المفرط لقوات النظام في المراكز الحضرية، ومن ثم انعدام الكثافة المطلوبة لحسم المعارك في تلك الجهات، خاصة مع عدم توافر احتياطيات استراتيجية لدعمها عند الضرورة، فرض على النظام اللجوء إلى الاستخدام المكثف للنيران البعيدة كأسلوب تعويض عن قلة توافر القوات، وبهدف تقديم الدعم لوقف تقدم الثوار، وإسناد هجمات محلية لقوات النظام، فضلاً عن القصف المتعمد من قواعد نيران المدفعية وطائرات القوة الجوية للمدنيين انتقامًا من مساندتهم للثورة، وهو الأمر الذي أدى على المستوى المادي إلى هدر القدرة الجوية للنظام حيث تهاوت مستويات الجاهزية للطائرات إلى حوالي 30% من إجمالي قوتها، فضلاً عن إسقاط عدد من الطائرات (تتراوح التقديرات ما بين 15–26 طائرة وهليكوبتر)، وكذلك اقتحام العديد من قواعد النيران وتدمير أسلحتها. أما على المستوى الإنساني، فقد أوقعت هذه النيران العشوائية خسائر بشرية ومدنية اعتُبرت من قبل المنظمات الدولية  بمثابة جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
  • توسع استخدام قوات غير نظامية: لتعويض النقص الحاد في القوة البشرية التي تعاني منها القوات النظامية نتيجة اختلال منظومة التجنيد الإجباري لاعتبارات طائفية تسود الصراع حاليًا، أو بفعل الاستنزاف البشري المستمر (معدل القتل اليومي يتجاوز الـ 50 فردًا)، فقد لجأ النظام إلى تشكيل ميليشيات طائفية (الشبيحة) وميليشيات (لجان شعبية) من العناصر الموالية له، والتي تتولى "تطهير" المناطق التي تقتحمها القوات النظامية، وهو الأمر الذي وفّر لها بيئة مواتية لممارسة أسوأ أعمال القتل والنهب على الهوية التي ترقى إلى اعتبارها جرائم حرب (وأمثلتها في 2012 هي: الحولة 25 مايو/أيار، والقبير 6 يونيو/حزيران، وتريمسة 12 يوليو/تموز، وداريا 21 أغسطس/آب الماضي).
  • استدعاء الدعم المسلح الخارجي: عمد النظام إلى استدراج قوى إقليمية -يتوافر لديها الاستعداد الطائفي والأهلية لذلك- لتقديم الدعم العسكري المباشر وتوسيع دائرة مسؤوليات الممارسات المدانة دوليًا للنظام، كما في حالة إيران (أقرّ قائد فيلق الحرس الثوري الجنرال محمد علي جعفري في 16 سبتمبر/أيلول الماضي (2012) بوجود أفراد من قواته على الأرض السورية)، وكذلك حزب الله اللبناني الذي يدفع بقواته إلى داخل الأراضي السورية لدعم عمليات قوات النظام هناك (أعلن مقتل قائد قواته هناك علي حسين ناصيف في القصير بمحافظة حمص)، هذا فضلاً عن الإسناد المدفعي من داخل الأراضي اللبنانية وعرقلة تدفق إمدادات الثوار من جهة لبنان. وقد دفعت هذه الممارسة من قبل النظام إلى إعطاء الصبغة الطائفية للصراع -وهو ما يسعى النظام إليه- وجلبت بالتالي في المقابل مزيدًا من الجهاديين إلى الصراع.

هناك اعتبارات عديدة تفسر كيفية بقاء النظام إلى الآن رغم هذه الأوضاع المتردية على الأرض، والأخطاء التي ذُكِرت آنفًا في ممارساته العسكرية للصراع، يأتي على رأس هذه الاعتبارات تماسك الدائرة الضيقة من المسؤولين المحيطين بالأسرة الحاكمة، فضلاً عن عدم اقتراب العسكرية الموالية للنظام بعد من نقطة التحطم (تتراوح نسبة الانشقاقات بين 7%-10% من القوة العاملة حتى الآن)، كذلك معاداة الطائفة العلوية المستمرة، في مجملها، للانتفاضة الشعبية، إضافة إلى انقسامات سياسية تعاني منها قوى المعارضة (رغم الطفرة التي أحدثها تأسيس الائتلاف الوطني لقوى المعارضة والثورة بالدوحة في الحادي عشر من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي 2012) وهو ما ينعكس في تأخر تشكيل قيادة عسكرية موحدة بمعناها العملي الميداني.

إلا أن استشراف المستقبل من المنظور السياسي بفعل تنامي الاعتراف الدولي بالائتلاف الوطني، ومن المنظور العسكري بما يتحقق على الأرض لصالح الثوار، يشير إلى تدهور متسارع في قدرات النظام السياسية والعسكرية على الصمود لفترة من الزمن يتحدد مداها بتوافر التسليح النوعي الذي يغير من قواعد اللعبة في الميدان، ومدى استعداد القوى الدولية لشكل ما من صور التدخل العسكري، إضافة إلى مدى استعداد النظام للتخلي عن حالة الإنكار التي يعيشها والتفاوض على رحيله حتى يقلل خسائره والثمن الذي سيدفعه نتيجة أعماله المعدودة ضمن جرائم ضد الإنسانية.