مأزق المالكي: أزمة نظام المحاصصة والإقصاء

يواجه رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي أخطر مأزق خلال سنوات حكمه، لأن المظاهرات على سياسته اتسمت بالسلمية والاستمرار والاتساع، جغرافيا إلى مناطق جديدة واجتماعيا إلى كافة مكونات الشعب العراقي، وستكون نتيجتها في كل الأحوال إضعافا لحكمه.
201312184933736734_20.jpg
توزيع الجماعات الإثنية والدينية بالعراق (الجزيرة)

اندلعت الحركة الشعبية العراقية، في الأسبوع الأخير من العام المنصرم2012 ، كرد فعل على تحرك رئيس الوزراء نوري المالكي ضد د. رافع عيساوي، أحد زعماء القائمة العراقية ووزير المالية الحالي. واكتسبت الحركة طابعًا منظمًا منذ بدء اعتصام محافظة الأنبار في 23 ديسمبر/كانون الأول .2012 كان المالكي، في تكرار للهجمة التي قادها قبل عام ضد نائب رئيس الجمهورية، والقيادي البارز الآخر في القائم العراقية، طارق الهاشمي، أصدر أمرًا باعتقال عدد من الضباط والجنود المرافقين لعيساوي بتهمة ارتكاب أعمال إرهابية. تهديدات المالكي لعيساوي ليست جديدة؛ وكان رئيس الوزراء أكد، خلال فترة التوتر التي واكبت الهجمة ضد الهاشمي، أن ملف عيساوي جاهز هو الآخر. وتقول مصادر عراقية: إن عناصر حماية عيساوي تعرضوا، كما سبق مع عناصر حماية الهاشمي، للتعذيب، وأن المالكي أصدر بالفعل قرار اعتقال لعيساوي بتهمة المساعدة على الإرهاب، ولكن انطلاق المظاهرات الاحتجاجية الصاخبة، ابتداءً من مدينة الرمادي، جعل رئيس الوزراء يتراجع عن قراره.

خلال الأسابيع التالية، انتشرت الحركة الاحتجاجية في كافة محافظات الوسط والشمال العراقية، ذات الأغلبية العربية السنية، وأصبح يوم الجمعة، موعدًا للحشد والتظاهرات الكبرى. وبانقضاء فعاليات الجمعة 18 يناير/كانون الثاني  2012، يكون الحراك الشعبي العراقي قد أتم أسبوعه الخامس. وكما السوريين من قبلهم، بدأ العراقيون في إعطاء أسماء خاصة لفعاليات الجمعة (مثلاً، العزة والكرامة ليوم الجمعة 28 ديسمبر/كانون الثاني 2013، والصمود لجمعة 4 يناير/كانون الثاني، والرباط لجمعة 11 يناير/كانون الثاني، ولا تخادع لجمعة 18 يناير/كانون الثاني، وهكذا). كما تشكّلت لجان تنسيق محلية في مراكز المحافظات، ولجنة تنسيق مركزية للتشاور وتوحيد المطالب ورسم السياسات.

فهل كانت قضية الوزير عيساوي تتطلب مثل هذا الحراك الشعبي الواسع والمستمر، أم أن هذه حركة تطورت إلى ما هو أكبر بكثير من الشرارة التي أطلقتها؟ وما هي مطالب العراقيين هؤلاء، وإلى أي حد يمكن تحقيقها؟

قوة الاحتجاج: السلمية والاتساع

كان طبيعيًا ورافع عيساوي ابن محافظة الأنبار أن تنطلق مظاهرات الاحتجاج الأولى على استهدافه من مدينتي المحافظة الرئيستين: الرمادي والفلوجة. وإن كانت المظاهرات في ديسمبر/كانون الأول 2012 فاجأت رئيس الوزراء ومنعته من القبض على وزير حكومته الأبرز، فلا يبدو أن المالكي استشعر في البداية خطرًا كبيرًا على سلطته؛ وهذا ما جعله يصفها بالفقاعة، في إحدى تصريحاته، ومتظاهري الدولار في تصريحات أخرى. ولكن أخذ رئيس الوزراء في إدراك حجم التحدي الذي يواجهه منذ الجمعة 28 ديسمبر/كانون الأول، عندما اتسع نطاق الحراك الشعبي إلى مدن المحافظات الوسطى والشمالية الأخرى.

المحافظات التي أصبحت مركز الحراك الشعبي: الأنبار، ديالى، صلاح الدين، نينوى، كركوك، هي كلها محافظات أغلبية عربية سنية. ولأن المظاهرات الأولى انطلقت بصورة عفوية، فقد تسللت إليها عناصر ذات هوى بعثي، على الأرجح، رفعت أعلام عراق السابق؛ وربما أطلقت شعارات ذات جرس طائفي. كل هذه المظاهر تمت محاصرتها بصورة كلية في الأيام القليلة التالية، عندما تشكلت اللجان الشبابية المحلية المنظمة للتظاهرات والاعتصامات والمشرفة عليها، ولكن المالكي وقيادات قائمته صاغوا محاولاتهم لمحاصرة الحركة الشعبية بتوجيه اتهامات الطائفية والبعثية والارتباط بتركيا وقادتها الإسلاميين إلى المتظاهرين، وبالسعي إلى إسقاط الدولة الجديدة ودستورها. وحتى إن لم تفتّ هذه الاتهامات من عضد المتظاهرين، فإن هدف المالكي الأبعد كان إثارة المخاوف في أوساط العرب الشيعة من العراقيين ومنع حركة الاحتجاج من التحول إلى حركة وطنية.

ولكن، وبالرغم من الانقسام الفئوي والطائفي الذي تعاني منه البلاد، لم ينجح خطاب رئيس الوزراء الاتهامي سوى جزئيًا؛ إذ نظرًا للخلافات السياسية المتفاقمة بين المالكي، من جهة، وشركائه الآخرين في التحالف الوطني الشيعي، سيما التيار الصدري وحكومة إقليم كردستان، من جهة أخرى، فقد تلقّى المتظاهرون دعمًا علنيًا من مقتدى الصدر وقيادات كتلة الأحرار البرلمانية التابعة لتياره، ومن حكومة إقليم كردستان؛ كما بدا أن قيادات المجلس الأعلى الذي يقوده عمار الحكيم تتفهم الحركة الشعبية كذلك. ومنذ نهاية ديسمبر/كانون الأول، كانت وفود من التيار الصدري ومن القيادات الكردية، كما من شخصيات عشائرية جنوبية شيعية بارزة، تتوافد على مراكز الاعتصام والتظاهر في الرمادي والموصل لإعلان مساندتها، كما قام مقتدى الصدر بأداء صلاة الجمعة الأخيرة من ديسمبر/كانون الأول في مسجد عبد القادر الكيلاني، السني التاريخي، بمدينة بغداد.

ذلك لا يعني أن الحراك امتد إلى مدن محافظات الأغلبية الشيعية؛ بل ظلّت المظاهرات محصورة بكبريات مدن الأغلبية السنية. كما حاول أنصار المالكي حشد رأي عام شيعي لمساندة رئيس الوزراء، أولاً: بتنظيم تجمعات محدودة في مدن شيعية جنوبية، ثم يوم 11 يناير/كانون الثاني 2013، بتنظيم مظاهرات في ساحة التحرير بالعاصمة بغداد وفي مدينة النجف الشيعية، ولكن تلك المحاولات لم تستطع تعبئة حشود جماهيرية ملموسة، مما دفع أحد قيادات التيار الصدري بوصفها بالمدفوعة الثمن.

وبالرغم من التوتر الكبير الذي يشوب الحياة السياسية، واستمرار نشاط مجموعات تُحسب على القاعدة في كافة أنحاء البلاد، حافظ الحراك الشعبي على سلميته بصرامة غير مسبوقة.

كان الدعم الذي تلقاه المتظاهرون من العالم السني العراقي البارز عبد الملك السعدي، وحثه المتظاهرين على الحفاظ على سلمية حركتهم، وتحذيره الحكومة من استخدام القوة (بيان السعدي، 5 يناير/كانون الثاني2012)، إضافة إلى وعي القيادات الشابة المحلية، والعلماء المساندين لهم، بمخاطر اندلاع العنف وعودة البلاد إلى أجواء الصراع الأهلي التي هددت وحدة العراق والعراقيين خلال سنوات 2005 –2008. هذا الوعي، كما هو متوقع، لم يمنع الجماعات التي يُعتقد بارتباطها بالقاعدة، من استغلال حالة التوتر السياسي وشن هجمات متفرقة، أوقعت عشرات القتلى والجرحى في أوساط المدنيين، كما حدث يومي 16 و17 يناير/كانون الثاني.

الطابع السلمي للحركة الشعبية، والمساندة التي تلقتها من قطاع واسع من القيادات السياسية، حدّتْ من خيارات المالكي في المواجهة، وأثنته عن تنفيذ تهديداته المتسرعة باستخدام القوة لمنع المظاهرات، أو لفض اعتصام الأنبار، الذي بدأ منذ 23 ديسمبر/كانون الأول 2012. بيد أن رئيس الوزراء استخدم درجة منخفضة نسبيًا من العنف لمواجهة المتظاهرين في العاصمة بغداد، وفي مدينة العراق الثانية: الموصل؛ ففي بغداد، نُشرت قوات أمن ووحدات جيش على نطاق واسع في أيام الجمعة لفرض حظر على التظاهر خارج المسجدين السنيين الرئيسيين: أبي حنيفة والكيلاني. وفي الموصل، عملت قوات الجيش الموالية للمالكي، التابعة لما يُعرف بقيادة منطقة دجلة، على تفريق التظاهرات ومنع اجتماعها في موقع واحد. ولكن عنف قوات الجيش والأمن ظل محدودًا؛ والواضح أن المالكي لن يستطيع الذهاب إلى ما هو أبعد من هذه الإجراءات طالما ظلّت الحركة الشعبية سلمية وظل التأييد الوطني لفعالياتها ومطالبها على ما هو عليه. يتخوف رئيس الوزراء من أن انفجار العنف يأخذ العراق إلى طريق الصراع الأهلي والانقسام، ربما بلا رجعة.

جذور الغضب: الاقصاء والاستبداد

يحكم المالكي العراق منذ أكثر من ستة أعوام بقليل. في مطلع ولايته الأولى، عندما كان العراق لم يزل رهينة لعنف الجماعات المسلحة، قدّم المالكي نفسه بصفته زعيمًا وطنيًا، وسارع إلى خوض معركة بالغة العنف ضد المسلحين الشيعة في محافظة البصرة. ولكن الواضح أن خطوات المالكي المبكرة كانت تستهدف تعزيز قبضته على آلة الحكم وتوفير شيء من الشرعية لمشروع أكبر من محاصرة فوضى الجماعات المسلحة. في العامين الأخيرين من ولايته الأولى، وخلال العامين المنصرمين من ولايته الثانية، بعد أن عاد إلى الحكم على رأس ائتلاف دولة القانون وبدعم وتوافق إيراني-أميركي، أظهر المالكي توجهات تميل إلى الطائفية والاستبدادية.

من جهة، عمل المالكي على تعزيز سلطته المطلقة، حتى على حساب حلفائه من القوى الشيعية، الذين أوصلوه للحكم بأصواتهم، سواء على مستوى الحكم المركزي أو الإدارات المحلية. ونظرًا للخلافات، الحقيقية والمصطنعة بين القوى السياسية، التي منعت طوال العامين الماضيين التوافق على وزيري الداخلية والدفاع، فقد ضم رئيس الوزراء الوزارتين بالغتي الحساسية لسلطاته. هذا، إضافة إلى تحكمه الكامل في مقدرات الجيش والاستخبارات، وسيطرته غير المباشرة، وغير القانونية، على السلطة القضائية. في مثل هذا الوضع، وبالرغم من الضغوط الإيرانية الهائلة على التحالف الوطني الشيعي، الضامن لبقاء المالكي في موقعه، تحول التحالف إلى تحالف مذهبي يستهدف تأمين الحكم الشيعي، بينما تنقسم قواه على نفسها سياسيًا.

من جهة أخرى، عمل المالكي بصورة حثيثة على إقصاء العراقيين السنّة عن كافة مواقع الدولة والحكم المؤثرة، ما عدا تلك التي تفرضها المحاصصة السياسية؛ فأبعد الضباط السنة عن قيادة فرق الجيش كلية، وعن ألويته الفاعلة؛ كما أُطيح بقائد جهاز المخابرات السني. وتكاد البعثات التعليمية المدنية والعسكرية للخارج تقتصر على طائفة رئيس الوزراء؛ بينما تمضي عملية بناء سلاح الجو بلون طائفي واحد. كما جرت عمليات تطهير منظمة للموظفين السنة في الوزارات والدوائر الحكومية التي يقودها وزراء وإداريون شيعة؛ وعمليات تطهير موازية للأساتذة السنة في جامعات العراق المختلفة؛ كما تتعهد الأجهزة الأمنية حملات اعتقال واسعة النطاق في المناطق السنية، طالت عشرات الآلاف منذ تولي المالكي للحكم.

مضت خطوات السيطرة الطائفية على مقدرات الحكم والدولة بصورة تدريجية وحثيثة في البداية، ولكن استمرارية الثورة السورية، والخشية المتزايدة في بغداد وطهران من سقوط النظام السوري وتغيير المناخ الجيو-سياسي في المنطقة، دفعتا المالكي إلى الإسراع في مخطط السيطرة الشاملة، حتى إن اضطرّ إلى تبني إجراءات صادمة، كما حدث في قضيتي الهاشمي وعيساوي.

الأدوات الرئيسة التي يستخدمها المالكي لتحقيق السيطرة الشاملة هي، بصورة ما، أدوات قانونية ودستورية، أهمها: قانون المساءلة والعدالة، الذي هو صيغة معدلة قليلاً لقانون اجتثاث البعث، الذي وضعته سلطة الاحتلال، وقانون مكافحة الإرهاب. الوعي بهذه الحقيقة، والوعي بالننتائج الفادحة لسياسة السيطرة الطائفية والسياسية الشاملة، هو الذي صاغ مطالب الحراك الشعبي.

ما تبلور من مطالب المتظاهرين وُضع في النهاية في لائحة من 14 مطلبًا رئيسيًا، اتفقت عليها مراكز الحراك الشعبي، أهمها: إلغاء قانون المساءلة والعدالة، وتعديل قانون مكافحة الإرهاب، سيما التخلص من المادة الرابعة في القانون، المتعلقة بالمخبر السري، التي استُخدمت لتسويغ حملات الاعتقالات البشعة والتطاول حتى على كبار القيادات السنية، والإفراج عن الآلاف من المعتقلين بدون محاكمة أو من انتهت محكومياتهم، سيما المئات من النساء، اللاتي يتعرضن لممارسات مهينة وغير قانونية أو أخلاقية من قِبل رجال الأمن، والكشف عن مراكز الاعتقال المختلفة، سيما السرية منها، والتي تُدار من جهات حكومية وأمنية وعسكرية مختلفة، وتحقيق التوازن في بنية الدولة والحكم بين كافة قطاعات الشعب العراقي، ورحيل الحكومة الحالية وتشكيل حكومة محايدة تشرف على انتخابات جديدة.

مبادرات أقل من حجم المطالبات

لم يبدأ التحرك السياسي الجاد للتعامل مع الأزمة إلا بعد أن أصبح واضحًا أن الحراك الشعبي في طريقه للاستمرار، وأن المراهنة على يأس المتظاهرين أو مللهم مراهنة في غير موقعها. ويمكن الحديث عن ثلاث مبادرات للمقاربة السياسية:

  1. لجنة السبعة الوزارية التي شُكّلت من قبل المالكي ويرأسها نائب رئيس الوزراء لقطاع الطاقة، حسين الشهرستاني، والتي تُعتبر أهم أدوات التحرك السياسي. وقد بدأت اللجنة اتصالاتها بممثلي الحراك الشعبي والقيادات المحلية والعشائرية في محافظات الأغلبية السنية منذ منتصف يناير/كانون الثاني 2013 للتعرف على مطالب المحتجين. وفي الوقت نفسه، أكد الشهرستاني في تصريحات صحفية على أن مراجعة ملف المعتقلين، رجالاً ونساءً، بدأت بالفعل، وأن عدة مئات قد أُطلق صراحهم بالفعل قبل يوم انطلاق فعاليات الجمعة 18 يناير/كانون الثاني 2013. ولكن السلطات المخولة للجنة الوزارية غير واضحة، كما أن من غير الواضح ما إن كانت اللجنة مخولة بالتفاوض مع ممثلي الحراك الشعبي أو ستقتصر صلاحياتها على تقديم توصيات لرئيس الحكومة.
  2. مبادرة لقاء القوى السياسية الذي دعا إليه رئيس الوزراء السابق ورئيس التحالف الوطني الشيعي، إبراهيم الجعفري. وكان الجعفري، بعد عدة محاولات، قد نجح في عقد اجتماع للقوى السياسية الرئيسية في مكتبه (16 يناير/كانون الثاني)، التي اتفق ممثلوها، بصورة عامة، على الاستجابة لمطالب المتظاهرين، وتشكيل لجنة مشتركة لمتابعة هذه المطالب مع كافة مؤسسات الدولة تقدم تقريرها للقاء خلال ثلاثة أيام. تتشكل اللجنة من الجعفري، ونائب رئيس الوزراء، القيادي في القائمة العراقية، صالح المطلك، ونائب رئيس التحالف الوطني، خالد العطية، ورئيس منظمة بدر، هادي العامري، وعضو التحالف الكردستاني محسن سعدون.
  3. ما عُرف برسالة المرجع الديني الشيعي الكبير آية الله علي السيستاني، التي ذكر (15 يناير/كانون الثاني2013) أنه أرسلها للأطراف السياسية الرئيسية وللمالكي، واعتُبرت بمثابة خارطة طريق للخروج من الأزمة. وبالرغم من أن الرسالة لم تُنشر، فقد ذكرت مصادر عراقية أنها عبّرت عن تفهم لمطالب المتظاهرين، سيما ما يتعلق بملفات المعتقلين ومعايير "اجتثاث البعث".

اللافت أن كافة مبادرات الحراك السياسي جاءت من أطراف شيعية: رئيس الحكومة، رئيس التحالف الوطني، والمرجع الشيعي الأبرز في العراق؛ وهو ما يعكس الخارطة المستبطنة للأزمة؛ بمعنى أن مقاليد السلطة والحكم هي في الحقيقة في أيدي قوى شيعية، تجد نفسها في مواجهة حراك شعبي يمثل المظلومية السنية. ليس ثمة إنكار مطلق للحق الذي يطالب به المتظاهرون، كما فعل المالكي في تعامله مع الحراك الشعبي في أسابيعه الأولى، ولكن الصحيح أيضًا أن ليس ثمة ما يشير إلى قبول كامل بأحقية مطالب المتظاهرين.

مآلات الأزمة المحتملة

أعلنت مصادر المحتجين في 18 يناير/كانون الثاني أن أعضاء اللجنة الوزارية، الذين كانوا وصلوا في اليوم السابق إلى مدينتي الرمادي وسامراء للتفاوض مع قادة الحراك الشعبي وشخصيات عشائرية، لم ينجحوا في مهمتهم. كانت هذه أول محاولة رسمية لبحث مطالب الحركة الشعبية، وقد جاءت بعد أن تداولت الدوائر السياسية العراقية عددًا من الأفكار للتعامل مع الأزمة، ابتداءً من حل البرلمان إلى تخلي المالكي عن منصبه وقيام التحالف الوطني بترشيح شخصية أخرى لرئاسة الحكومة، بدون أن يحقق أي منها تقدمًا يذكر.

في ظل الضغوط التي تعرض لها رئيس الحكومة من حلفائه في القوى الشيعية، ومن دوائر رجال الدين الشيعة، وإدراكه تصميم المحتجين على مواصلة تحركهم، يمكن فهم الانقلاب في موقف المالكي من الاستهتار بالتظاهرات ومحاولة عزلها إلى التفاوض مع قياداتها. السؤال المهم الآن هو ما إن كان المالكي جادًا في الاستجابة للمطالب المعلنة للحراك الشعبي، أو أنه يحاول كسب الوقت ليس إلا. في دوائر رئيس الوزراء، ثمة من يرى أن الاستجابة لمطالب الحراك ستشكّل تهديدًا جوهريًا لمشروع السيطرة الشاملة على مقدرات الدولة والحكم. وفي ظل التحديات التي يواجهها حكم المالكي في علاقته مع إقليم كردستان؛ فإن التراجع أمام الحراك الشعبي في محافظات الأغلبية السنية، يعني بالضرورة وضع نهاية فعلية لعهد رئيس الوزراء، حتى إن استمر في موقعه لعامين آخرين.

في الأيام الأولى للحراك الشعبي، رُفعت شعارات تدعو إلى إسقاط النظام، ولكن المطالب سرعان ما أصبحت أكثر تحديدًا وقابلية للتفاوض. وما دفع قادة الحراك إلى تحديد مطالبهم كان على الأرجح إدراكهم بأن استهداف نظام الحكم ككل قد يثير مخاوف القوى السياسية الشيعية، ويؤدي إلى خسارة الأصوات التي ارتفعت بين هذه القوى لدعم الحراك الشعبي. وليس ثمة شك في أن دوافع التيار الصدري، أعلى الأصوات الشيعية المؤيدة للحراك الشعبي، مثلاً، تتعلق بالخلاف مع المالكي أكثر منها بالموافقة على كل مطالب المحتجين. من ناحية ثانية، يدرك قادة الحراك أن الذهاب أبعد من المطالب المحدودة التي تم إعلانها يستدعي ربما ما هو أكثر من حركة احتجاج شعبية.

ولكن الواضح على أية حال أن مطالب الحراك تتعلق ببنية دولة ما بعد الغزو والاحتلال، والقابلية الطائفية لهذه الدولة، ونظام المحاصصة الذي ترتكز إليه، وطابعها الفئوي. ولأن مصير العراق بات وثيق الصلة بإيران في الشرق وسورية في الغرب، فمن المستبعد أن تصل هذه الجولة من التدافع إلى حل ملموس للأزمة وتأسيس علاقة جديدة ومقبولة بين الدولة ونظام الحكم، من جهة، وكافة قطاعات الشعب العراق، سيما العرب السنّة، من جهة أخرى.

الاحتجاجات الجارية كشفت عن حجم الظلم الواقع على العرب السنة على وجه الخصوص وأغلب العراقيين على وجه العموم، لكنها كشفت أيضا عن قدرة المحتجين على تجاوز الاصطفافات الطائفية التي تأسس عليها النظام السياسي العراقي واتساع حراكهم لمختلف مكونات العراق بما فيها المكون الشيعي. ومع أن الاستجابة لمطالب الفئة السنية يساعد على استقرار العراق وتماسكه إلا أنها معالجة جزئية لأحد مظاهر التوازن الطائفي الهش، ولن تتم المعالجة الكاملة إلا إذا تحول البعد الوطني للاحتجاج إلى رصيد سياسي يعيد صياغة النظام السياسي على أسس المواطنة العراقية دون اعتبار للانتماءات اللغوية أو المذهبية أو الدينية.