بنية الصحافة العربية بجنوب السودان: وظائفها وتحدياتها

تتناول الدراسة تجربة الصحافة العربية بجنوب السودان، خلال ما يقرب من عشرة أعوام (يناير/كانون الثاني 2011- يوليو/تموز 2020) التي تلت مرحلة ما بعد استقلال البلاد عن دولة السودان، في استفتاء شعبي، عام 2011. وتهدف الدراسة إلى التعرف على بدايات الصحافة العربية بجنوب السودان قبل وبعد الاستقلال، وتحديد بنيتها ووظائفها والتحديات التي تواجه تطورها.
مستقبل الصحافة العربية في جنوب السودان مرتبط بمدى صمود واستمرار اللغة العربية التي تراجعت مساحة تأثيرها عقب استقلال البلاد (الجزيرة)

تضافرت عوامل عدَّة حملت على ميلاد تجربة الصحافة الناطقة باللغة العربية في جمهورية جنوب السودان، فبعد إجراء استفتاء تقرير المصير لمواطني الجنوب، في يناير/كانون الثاني 2011، والذي جاءت نتيجته لصالح قيام دولتهم المستقلة، كانت هناك حاجة ماسَّة لإيجاد صحافة مستقلة في البلاد تقوم مقام الصحف العربية التي كانت تأتي من الخرطوم بوصفها العاصمة الجامعة قبل الانفصال بجانب أخريات كانت تُطبع في كمبالا ونيروبي بعد أن شكَّل عدم وجود المطابع عقبة كأداء أمام صناعة الصحافة المحلية آنذاك. لذا، شهدت الفترة التي أعقبت الاستفتاء وإعلان ميلاد الدولة الجديدة نشاطًا ملحوظًا لعدد من الصحف اليومية والأسبوعية التي صدرت للمرة الأولى من عاصمة الدولة الجديدة (جوبا).

كان طبيعيًّا أن تقوم تلك الصحف بسدِّ فراغ عريض نتج عن تداعيات الواقع الجديد الذي قضى بانشطار السودان. وبالرغم من التحديات البنيوية والمهنية التي واجهت الصحافة الناطقة بالعربية عشية ولادتها في الدولة الجديدة، فإنها استطاعت القيام بدورها الطبيعي في تنمية الوعي لدى جمهور القرَّاء بمختلف ميولهم واتجاهاتهم(1)، وكذلك تزويد الناس بالأخبار والمعلومات والحقائق، وتوثيق الأحداث، ونشر الثقافة والمعرفة، وتكوين الرأي العام، وممارسة النقد في الشأن العام...إلخ.

كما واجهت تلك التجربة تحديًا آخر تمثَّل في التصدي للبروباغاندا والدعاية السلبية، والحرب الشعواء التي كانت تشنُّها بعض وسائل الإعلام في السودان، الدولة الأم، بدعم مباشر من السلطة الحاكمة وفقًا لاستراتيجيتها المبنية على ترسيخ فكرة معلولة عن جمهورية جنوب السودان، وقد نجحت إلى حدٍّ بعيد في تكوين صورة زائفة وغير واقعية عن البلاد على الصعيدين، الداخلي والخارجي، وأسهم في رسوخها غياب صحافة محلية فاعلة، وكذلك ضعفها وعدم قدرتها على مجاراة نسق الصحافة السودانية المتمرسة.

ويحاول الباحث من خلال مقاربة تجربة الصحافة العربية في جنوب السودان على صعيد الممارسة والتطبيق والرؤى المستقبلية، الإجابة على عدة تساؤلات يمكن إجمالها في الحقل الاستفهامي الآتي:

- ما الخلفية التاريخية لمراحل نشأة وتأسيس الصحافة العربية بجنوب السودان؟

- كيف بدأت التجربة الحديثة للصحافة العربية في جنوب السودان (صحافة ما بعد الاستقلال)؟ وما الظروف والعوامل التي اقتضت قيام صحافة ناطقة باللغة العربية في البلاد؟

- ما الدور الذي لعبته الصحافة العربية خلال فترة "ما بعد الاستقلال"، وخاصة أثناء توقيع حكومة جنوب السودان وبعض فصائل المعارضة على اتفاقية السلام النهائي في العاصمة الإثيوبية، أديس أبابا، في سبتمبر/أيلول 2018؟

- ما واقع الحريات الصحفية في جنوب السودان؟

- ما أبرز التحديات التي تواجه صناعة الصحافة العربية على مستوى بنيتها وهيكليتها؟

- ما مستقبل الصحافة العربية بجنوب السودان؟ وما مستقبل اللغة العربية في ضوء المتغيرات السياسية والقانونية في الدولة الجديدة؟ 

لقد مرَّت التجربة الحديثة للصحافة جنوب السودانية بمنعطفات عديدة، واعترت مسارها جملة من التحديات والمعوقات التي تضافرت وأثَّرت على نموها وتطورها، بل ظلَّت باستمرار تُشكِّل مصدر خطر على بقائها. وتهدف هذه الدراسة إلى تناول تجربة الصحافة العربية بالتركيز على ما أسماه الباحث "تجربة الصحافة ما بعد الاستقلال"، والتي تغطي نحو عقد كامل، وذلك بالوقوف على ظروف صناعة الصحافة، وواقع الحريات الصحفية، ودور الصحافة العربية في عملية السلام، بالإضافة إلى مستقبل هذه الصناعة. وخلال الفترة المذكورة (2011- 2020) صدرت أكثر من عشرين صحيفة ناطقة باللغة العربية، متخصصة في السياسة، والرياضة، والمجتمع والمنوعات، واحدة فقط صدرت خارج العاصمة، جوبا، وهي صحيفة "11 يوليو"، في مدينة (واو) حاضرة ولاية غرب بحر الغزال.

وتكتسب هذه الدراسة أهميتها انطلاقًا من مقاربتها لموضوع لم يحظ بمعالجة علمية، بعد مرور أكثر من ثلاثين عامًا على صدور أول صحيفة ناطقة باللغة العربية في جنوب السودان، كما تسعى الدراسة إلى المساعدة في تطوير صناعة الصحافة العربية؛ لأنها تُمثِّل وسيلة اتصال مهمة بين فئة مؤثِّرة من مكونات الدولة، وكذلك باعتبارها وسيلة يمكنها ربط جنوب السودان بمحيطه العربي باعتبار أن الدولة الجديدة لا تزال تُشكِّل مع السودان جسر التواصل العربي-الإفريقي.

وبالرغم من صدور عشرات الكتب والدراسات والبحوث التي تناولت تجربة الصحافة السودانية -أغلبها لكتَّاب سودانيين- فإن تجربة الصحافة في الإقليم الجنوبي آنذاك ودولة جنوب السودان المستقلة حاليًّا، لم تجد حظًّا وافرًا من البحث والدراسة سوى لمحات وإضاءات عابرة، إلى أن صدر أول كتاب عن تجربة الصحافة في جنوب السودان عام 2014(2)، والذي أشار في أحد فصوله إلى بدايات تأسيس الصحافة العربية، فيما لم يصدر بعد أي كتاب عن تجربة الصحافة العربية بجنوب السودان، فقد ظل هذا الحقل بعيدًا عن تناول الكتَّاب والباحثين خلال العقود الماضية. لذلك، تسعى هذه الدراسة إلى رصد التجربة، من خلال تقديم خلفية تاريخية عن الصحافة العربية جنوب السودانية، وبدايات تأسيسها ومراحل تطورها، والتحديات التي تواجه صناعتها حاليًّا، وآفاقها المستقبلية. 

ولتحقيق هذه الأهداف، اعتمد الباحث في جمع معلوماته على المصادر الأولية والثانوية، منها: الكتب والمقالات، والتقارير الصحفية، وأرشيف الصحف، ومواقع الإنترنت وغيرها. واستخدم أيضًا المقابلة أداة لجمع المعلومات، وذلك باستجواب عدد من الفاعلين في الحقل الصحفي، كما اعتمد على الملاحظة أداة أخرى لجمع البيانات والمعطيات الخاصة بموضوع الدراسة. واتبع الباحث المنهج الوصفي التحليلي الذي يتناول ظاهرة أو موضوعًا محددًا خلال فترة أو فترات زمنية معلومة، كما هو الشأن في هذه الدراسة، من أجل تحديد سمات تجربة الصحافة العربية جنوب السودانية، وخصائصها ومقوماتها كما هي في الواقع. ويوضح المنهج الوصفي العلاقات بين الظواهر، كالعلاقة بين السبب والنتيجة، بما يساعد على فهمها وتفسير أبعادها. وهنا، تبدو أهمية وخصوصية المنهج الوصفي الذي ينحو نحو الواقعية في دراسة الظاهرة، واستخدام أساليب وأدوات مختلفة كمية وكيفية للتعبير عن خصوصية الظاهرة وتحليلها.

ويُقصد بمصطلح "الصحافة العربية"، في سياق هذه الدراسة، الصحافة التي تصدر في جنوب السودان باللغة العربية التي تعتبر حاليًّا لغة غير رسمية في الدولة، ولكن يتحدث بها قطاع معتبر من المواطنين. أما مصطلح "صحافة ما بعد الاستقلال" فيُراد بها على حدٍّ سواء الصحافة العربية والإنجليزية التي نشطت في جنوب السودان خلال فترة ما بعد استقلال البلاد عن دولة السودان في العام 2011، وهي الحقبة الزمنية التي تتناولها الدراسة بالأساس. 

1. خلفية تاريخية

ليس هناك تاريخ منفصل للصحافة العربية في جنوب السودان، بل يأتي الحديث عنها في إطار تجربة صحفية واحدة؛ اتخذت لغات مختلفة لإيصال رسالتها إلى المتلقين والجمهور، واحتلت الصحافة الناطقة بالإنجليزية تاريخيًّا موقع الريادة من حيث الانتشار والتأثير؛ إذ كانت غالبية النخب الجنوبية المتعلمة والمثقفة في الفترة ما قبل وبعد استقلال السودان، في يناير/كانون الثاني 1956، قد تلقت تعليمها باللغة الإنجليزية، إما في المدارس الكنسية التي كانت تشرف عليها البعثات التبشيرية المسيحية، أو في دول شرق إفريقيا أو في دول الشتات (أوروبا، أميركا). وقد تأخر ظهور الصحافة العربية إلى ما بعد اتفاقية أديس أبابا، عام 1972، ولكن قبل ظهورها رسميًّا كانت هناك بعض المساهمات لكتَّاب جنوبيين باللغة العربية في صفحات خاصة بالدوريات والنشرات الكنسية وفي الصحف والمجلات السودانية المختلفة.

وقد ارتبطت نشأة الصحافة في جنوب السودان مطلع القرن الماضي بالمبشرين المسيحيين. وصدرت أول صحيفة في الجنوب من قبل الكنيسة الكاثوليكية بمدينة (واو) حوالي العام 1930 باسم ماسنجر (Messenger)، وكانت تصدر باللغة الإنجليزية، وتنشر تعاليم الدين وأنشطة التبشير. ثم صدرت عدة صحف باللغات المحلية تحت إشراف البعثات التبشيرية للكنيسة الكاثوليكية والصحفيين الجنوبيين البارزين في الحقل الإعلامي خلال الفترة بين 1940- 1960(3). أما الصحافة الناطقة باللغة العربية، فقد ظهرت لاحقًا عقب التوقيع على اتفاقية أديس أبابا بين الحكومة السودانية وحركة أنيانيا الجنوبية المسلحة، في عام 1972؛ إذ ظهرت أول صحيفة باللغة العربية في الجنوب، في مارس/آذار 1977، باسم "الوحدة"، وترأَّس تحريرها الصحفي، شول كوانج دينق، وصدرت بمناسبة الذكرى الخامسة لاتفاقية أديس أبابا ضمن الصحف التي كانت تُصدرها وزارة الثقافة والإعلام في حكومة المجلس التنفيذي العالي الإقليمي، وصدر عنها عدد خاص عن إنجازات اتفاقية أديس أبابا تم توزيعها على الضيوف خلال الاحتفال السنوي بجانب عدد خاص من صحيفة "ذي نايل ميرور" الإنجليزية (The Nile

Mirror)(4).

وبعد أكثر من عشر سنوات صدرت صحيفة "صوت أعالي النيل" (Voice of Upper Nile)، في 6 مايو/أيار 1992، والتي ترأَّس تحريرها جيمس نياك رياك، وصحيفة "فشودة" (Fashoda Provincial Bulletin) التي صدرت في 16 يناير/كانون الثاني 1993، وترأَّس تحريرها يوسف فضل الله حسن(5). وأغلب هذه الصحف أُنْشِئَ لأغراض الدعاية، لاسيما صحيفة "الوحدة".

وفي الفترة التي تلت اتفاقية أديس أبابا، كانت تُوَزَّع أيضًا صحيفتا "الأيام" و"الصحافة" واسعتا الانتشار المملوكتان لناشرين شماليين، في الإقليم الجنوبي، ولاحقًا، ازداد عدد الصحف السودانية التي كان يتم توزيعها في مدن الجنوب المختلفة. وفي ظل شُحِّ المصادر المكتوبة عن بدايات الصحافة العربية في جنوب السودان يصعب تقديم تقييم شامل وصورة كلية لتلك الحقبة المبكرة.

الجدول رقم (1) يبرز أهم الصحف الصادرة باللغة العربية والإنجليزية واللغات المحلية خلال فترة ما قبل استقلال جنوب السودان

م الصحيفة تاريخ الصدور اللغة دورية الصدور
  ماسنجر (Messenger) حوالي 1930 الإنجليزية  شهرية    
  ريري قيني (Ruru Gene) حوالي 1940 الزاندي شهرية    
  أقاملونق (Agamlong) حوالي 1940 الدينكا شهرية    
  ذي نايل ميرور (The Nile Mirror) 1970 الإنجليزية يومية    
  الوحدة مارس/آذار 1977 العربية أسبوعية
  هيرتيج (Heritage) 1983 الإنجليزية أسبوعية/شهرية
  صوت أعالي النيل (Voice of Upper Nile) 6 مايو/أيار 1992 العربية شهرية    
  فشودة (Fashoda Provincial Bulletin) 16 يناير/كانون الثاني 1993 العربية شهرية    

* ملحوظة: بعض الصحف تغيَّرت دورية صدورها بين فترة وأخرى لعدة عوامل من ضمنها ظروف الطباعة.

2. الصحافة العربية الحديثة (مرحلة ما بعد الاستقلال)

عند الحديث عن تجربة الصحافة جنوب السودانية في مرحلة ما بعد الاستقلال، تجدر الإشارة أولًا إلى التراجع في أداء الصحافة في الفترة الأخيرة، خاصة الصحافة العربية التي رافق بداياتها زخم كبير، إضافة إلى الكساد في سوق الصحف وتدني مداخيل التوزيع، وتراجع تأثيرها في الرأي العام، بالمقارنة مع المحطات الإذاعية التي تُعَدُّ حاليًّا وسيلة الاتصال الجماهيري الأكثر شعبية وانتشارًا وتأثيرًا؛ فوفقًا لاستطلاع للرأي أُجري خلال الفترة الممتدة من 24 أبريل/نيسان إلى 22 مايو/أيار 2013، في جنوب السودان، بهدف معرفة المصدر الأساسي الذي يستقي منه المواطنون معلوماتهم، ذكر 61% منهم أن المصدر الأساسي لمعلوماتهم هو الإذاعة (الراديو)، بينما يعتمد 4% على التلفزيون، و2% فقط يحصلون على معلوماتهم من الصحف. أما على مستوى الأقاليم الثلاثة في البلاد (أعالي النيل، بحر الغزال، الاستوائية)، فأشار 43% من إقليم أعالي النيل أن مصدر معلوماتهم الأساسية يتمثَّل في الإذاعة، وذكر 48% و63% في إقليمي بحر الغزال والاستوائية على التوالي أنهم يستقون معلوماتهم من الإذاعة، وأوضح 1% فقط من المستجوبين في الأقاليم الثلاثة أنهم يحصلون على معلوماتهم من الصحف(6).

ويأتي في مقدمة أسباب ضعف تأثير الصحافة تفشي الأمية؛ إذ إن ثلاثة أرباع السكان البالغين غير متعلمين(7)، وكذلك غياب الانسيابية في توزيع الصحف والمطبوعات وعدم وصولها بانتظام إلى الولايات، نتيجة تذبذب خطوط الطيران ووعورة الطرق ووجود تهديدات أمنية تحدُّ من الحركة بين المدن. لذلك، لا يجد المواطنون خيارًا آخر سوى الاعتماد على خدمة الإذاعة في التزود بالأخبار والمعلومات، أما الصحافة التليفزيونية، فباستثناء هيئة جنوب السودان للبث (South Sudan Broadcast Corporation)، فإنه من المبكر تقديم تقييم موضوعي شامل عن تجربة الصحافة المرئية بسبب ضعفها ومحدوديتها. 

لقد وُلِدت الصحافة العربية في جنوب السودان من رحم الصحافة السودانية، وهي امتداد لهذه المدرسة الصحفية العريقة، فبعد الانقطاع الطويل للجيل الأول الذي حاول الخوض في هذا المضمار بعد اتفاقية أديس أبابا، 1972، كانت الغالبية العظمى من الكوادر الصحفية التي انبرت لمهمة تأسيس صحافة وطنية ناطقة باللغة العربية من الجيل الذي بدأ تجربته الصحفية في الخرطوم. وقد اقتضت عدة عوامل نشأة صحافة وطنية في جنوب السودان تصدر من العاصمة، جوبا، وتضع في الاعتبار خصوصية البلد الذي خرج للتو من نزاع طويل ومدمر، واجه فيه صنوفًا من الإقصاء والتهميش السياسي والاقتصادي والثقافي المنظم، وكان على الصحافة أن تلعب دورًا محوريًّا وأن تُشكِّل وسيطًا موثوقًا لنقل المعلومة من وإلى المواطن، وإتاحة مساحات واسعة للتعبير والنقاش ومراقبة أداء الحكومة الجديدة، وإعادة إنتاج صورة مغايرة وحقيقية عن البلاد وإيصالها إلى العالم الخارجي، تحديدًا في المحيط الإقليمي والقاري، فضلًا عن المساهمة المعرفية والثقافية في وضع اللبنات الأساسية لمجتمع ديمقراطي.  

ويقول أتيم سايمون مبيور، وهو أول رئيس تحرير لصحيفة "المصير" اليومية التي صدر عددها الأول، في 21 فبراير/شباط 2011، بشأن أسباب ظهورها: "ثمة عوامل كثيرة كانت وراء صدور الصحيفة، منها وجود جيل كامل من الجنوب نشأ في الشمال، وتعلم هناك، وهو ما أثَّر في تشكيل خلفيته الثقافية... والمسألة الأخرى الأكثر أهمية أن هذا الجيل كان يكتب في الصحف الشمالية باللغة العربية، وبالتالي فإن أحد أهم أدوات التعريف بجنوب السودان هو إنشاء صحافة محلية ناطقة باللغة العربية تكون مرجعًا ومصدرًا يعكس حقائق ما يجري في جنوب السودان. ومن هنا، جاءت نظرتنا للصحيفة وفي الذهن صحافة شمالية تُشوِّه صورة الجنوب. وطالما أننا موجودون في الواقع فإننا مطالبون بتعديل هذه الصورة لكل العالم، ولابد أن نكون المصدر الأساسي للمعلومة والتحليل"(8).

وبعد المصير، توالت الصحف العربية في الصدور بشكل لافت، ومنها صحيفة "الاستقلال" التي تولَّى الإشراف على رئاسة تحريرها الصحفي، جاتيقو أموجا دلمان، وصحيفة "المستقبل" التي ترأَّس تحريرها الصحفي الراحل، لام كوي لام، و"9 يوليو" (رئيس تحريرها أبراهام مليك)، و"الخبر" (مرتضى جلال الدين)، و"الموقف" (مثيانق شريلو)، و"المجهر السياسي" (زكريا شامبيل)، و"الرأي" (وزير مايكل لياه)، و"الوطن" (مايكل ريال كريستوفر)، و"إرادة الشعب" (فرانسيس مييك)، و"صوت الشعب" (رئيس تحريرها شول كات ميول)، و"المسار" (جوانا فوني)، و"الوحدة" (بحيرات بختان)، و"قوون الرياضية" (مكير وين بوك)، و"المصير سبورت" (قور مشوب)، و"الحوادث" (رئيس تحريرها فليب جيمس لوكودو)، و"11 يوليو (واو)" (مايكل دانيال مرجان)، إلى جانب صحف عديدة أخرى صدرت لفترات قصيرة جدًّا.

الصورة رقم (1) تُبرز الصفحة الأولى لأحد أعداد صحيفة "الاستقلال" التي ظهرت بعد استقلال جنوب السودان في يناير/كانون الثاني 2011

1

بعض هذه الصحف، كان يُدار من قِبَل صحفيين بدأوا تجربتهم الصحفية في السودان كما أشرنا آنفًا، إلا أن معظمهم لم يتلقَّ أي تدريب صحفي ممنهج، إلى جانب آخرين امتهنوا الصحافة من باب مقالات الرأي، وانضمت إليهم مجموعة من الكوادر الشابة من الذين درسوا في الجامعات السودانية والمصرية، أو في الجامعات الجنوبية الثلاثة الكبرى (جوبا، وبحر الغزال، وأعالي النيل). وتجدر الإشارة هنا إلى أن جامعة جوبا هي المؤسسة الأكاديمية الوحيدة في البلاد التي تمنح إجازة في تخصص الإعلام من كلية الآداب والعلوم الإنسانية، وأيضًا إجازة في الاتصال التنموي من كلية دراسات المجتمع والتنمية الريفية، وتسعى الجامعة حاليًّا إلى تأسيس كلية مستقلة للصحافة والإعلام.

استحوذت على اهتمام الصحافة في تلك الفترة المبكرة تغطية المواضيع السياسية والاجتماعية، والأنشطة الحكومية والخاصة، وإجراء مقابلات واستجوابات مع المسؤولين الحكوميين والشخصيات العامة، كما اهتمت الصحف بمقالات الرأي التي تخاطب قضايا الراهن. وقد بدا واضحًا أثر ضعف الخبرة والمهنية لدى أغلب الصحفيين لغياب التدريب والتأهيل حتى عند القيادات الصحفية نفسها؛ فمعظمها ولج الصحافة عبر نافذة مقالات الرأي، كما أشرنا آنفًا، إلى جانب تأثير المواقف الشخصية على شكل المحتوى، لاسيما أن الصحافة المحلية بطبيعتها في جنوب السودان ومنذ البداية صحافة موالية إما لأشخاص بأعينهم أو لتيار سياسي(9).

ويُعلِّق رئيس التحرير السابق لصحيفة "9 يوليو"، أبراهام مليك، على بدايات الصحافة العربية، وتجربة صحيفة "9 يوليو"، التي صدر عددها الأول بتاريخ 7 أبريل/نيسان 2012 واستمرت في النشاط حتى توقفها عن الصدور في نوفمبر/تشرين الثاني 2013، قائلًا: "لم يكن تأسيس صحافة ناطقة باللغة العربية حدثًا غريبًا في جنوب السودان عقب الاستقلال؛ لأن هناك جيلًا كاملًا درس العربية، ونال شهادات علمية عالية من الجامعات السودانية التي كانت تُدرِّس العربية، لذا فكَّر هذا الجيل في التواصل مع عدد كبير من الناطقين باللغة العربية عبر صحافة تنقل وتناقش قضايا تكوين الدولة، وهناك أمر آخر يتمثَّل في أن بعض المؤسسين للصحافة العربية في جوبا عملوا صحفيين وكتَّاب رأي في الصحافة السودانية التي يفوق عمرها مئة عام، وقد أدرك هؤلاء أهمية التواصل مع هذا الجيل باللغة العربية ومخاطبة القضايا السياسية والاجتماعية".  

وأضاف مليك: "في عام 2012، بدأ بعض الزملاء الصحفيين الذين كانوا يكتبون في صحيفة المصير مناقشات لتأسيس صحيفة "9 يوليو" الأسبوعية، وهؤلاء الشباب كانوا كتَّابًا وصحفيين مميزين رفعوا من شأن الصحيفة آنذاك.. وقد أسسنا "9 يوليو" وكانت صحيفة (أسبوعية شاملة مستقلة) وكانت تُطبع في العاصمة الكينية، نيروبي، وكنا نشدِّد على نشر قصص وتقارير إخبارية من المصادر، ولا ننشر أي مادة من الإنترنت؛ ما جعلنا نتميز في المحتوى والقصص التي تُنشر أسبوعيًّا"(10).

وبخلاف صحف المصير، والمستقبل، و9 يوليو، والموقف، والرأي، والوطن، والوحدة وصوت الشعب، طَوَت صحف كثيرة تجربتها الإعلامية دون أن تترك خلفها أثرًا، ولم تلبث أن تبعتها الصحف التي استطاعت الصمود سابقًا لفترة أطول، لتستمر في الساحة الإعلامية صحيفتان فقط، هما: "الموقف" و"الوطن"، اللتان تواجهان حاليًّا خطر التوقف بسبب ارتفاع تكاليف التشغيل من ناحية، ومضايقات السلطات من ناحية أخرى.

الصورة رقم (2) تُظهر الصفحة الأولى للعدد الأول من صحيفة "9 يوليو" التي توقفت في نوفمبر/تشرين الثاني 2013

2

وعلى الرغم من ذلك، أسهمت وزارة الإعلام في جنوب السودان التي كانت تُشرف على قطاع الصحافة والإعلام -قبل إجازة القوانين المنظِّمة للعمل الإعلامي- في تأسيس الصحافة الوطنية ما بعد الاستقلال، خاصة الصحافة العربية؛ وذلك عبر تسهيل الحصول على التراخيص وعدم التشدد في شروط وضوابط إصدار الصحف.

ويقول مدير عام الإعلام السابق بوزارة الإعلام بجنوب السودان، مصطفى بيونق مجاك، الذي شغل المنصب خلال الفترة الممتدة من 2006 إلى 2014: "منذ عام 2005 وحتى صدور قوانين الإعلام في عام 2014، كانت مسؤولية إصدار تراخيص الصحف من اختصاص وزارة الإعلام وتقع ضمن مهام مكتب مدير عام الإعلام".

وأضاف بيونق: "كل الصحفيين الذين ترأَّسوا الصحف في تلك الفترة لم تكن تنطبق عليهم شروط الأهلية لتولي منصب رئيس التحرير الذي يتطلب على الأقل 15 عامًا من الخبرة. وكذلك شرط تأمين مبلغ مالي قدره 50 ألف جنيه (ما يعادل آنذاك حوالي 25 ألف دولار)، وميزانية تمويل الصحيفة فيما يخص الطباعة والأجور مثلما كان العمل به في الخرطوم. وكان يمكننا التشدد في مسألة التراخيص حال عدم استيفاء الشروط، ولكننا صرفنا النظر عن كل ذلك من أجل إتاحة الفرصة للصحافة العربية"#a11.

 الجدول رقم (2) يبرز أهم الصحف الناطقة باللغة العربية خلال  مرحلة ما بعد استقلال جنوب السودان (2011-2020)

م

الصحيفة

تاريخ الصدور

دورية الصدور

ملاحظات

1

المصير

21 فبراير/شباط 2011

يومية

توقفت في 10 يونيو/حزيران 2014

2

المستقبل

12 مارس/آذار 2011

يومية

توقفت في ذات العام

3

9 يوليو

7 أبريل/نيسان 2012

أسبوعية/يومية

توقفت في نوفمبر/تشرين الثاني 2013

4

الموقف

20 يونيو/حزيران 2014

يومية

لا تزال تصدر حتى الآن

5

الرأي

25 أغسطس/آب 2014

يومية

توقفت في 21 يوليو/تموز 2015

6

الوطن

10 أغسطس/آب 2015

يومية

لا تزال تصدر حتى الآن

7

صوت الشعب

12 مارس/آذار 2015

يومية

توقفت في 20 أغسطس/آب 2016

8

الوحدة

9 يناير/كانون الثاني 2016

يومية

توقفت في نوفمبر/تشرين الثاني 2016

3. تحديات صناعة الصحافة العربية بجنوب السودان

خلَّف تدهور أوضاع البلاد نتيجة الحرب الأهلية آثارًا سلبية على صناعة الصحافة كما هي حال القطاعات الأخرى؛ حيث ارتفعت أسعار طباعة الصحف بسبب التضخم لتصل إلى مبالغ قياسية. كما اضطرت الصحف إلى تقليص عدد الصفحات المطبوعة إلى النصف، فمن أصل 24 صفحة في عامي 2011 ﻭ2012 وحتى 2013، تقلصت إلى 16 ﺻﻔﺤﺔ في 2017، ثم إلى 12 ﺻﻔﺤﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻘﻄﻊ ﺍﻟﻨﺼﻔﻲ (تابلويد) ﺣﺎﻟﻴًّﺎ. وبات أغلب الصحف يطبع يوميًّا ألف نسخة فقط بعد ﺃﻥ وصل بعضها قبل الأزمة إلى طباعة ثلاثة آلاف نسخة، بينما قفز سعر الصحيفة إلى 150 جنيهًا، أي ما يعادل حوالي 120 سنتًا، وقد لجأت إدارات الصحف لهذه التدابير من أجل ضمان الاستمرارية. وتكلف عملية الطباعة لكل ألف نسخة مبلغًا قدره 51 ألف جنيه، أي ما يعادل حوالي 160 دولارًا.

وتواجه صناعة الصحافة عمومًا جملة من التحديات والمعوقات المتشابكة، بعضها يتعلق ببنية وهيكلة الصحافة نفسها، وأخرى تتعلق بالبيئة المحيطة، إضافة إلى ضعف القدرات والإمكانات. 

1.3. بنية وهيكلية الصحافة العربية

تأسَّست الصحافة العربية في جنوب السودان على إرث الصحافة السودانية؛ إذ تُمثِّل امتدادًا -كما ذكرنا- لهذه المدرسة الصحفية العريقة من حيث البناء الهيكلي والإداري والأداء المهني، خاصة أن أغلب الكوادر التي وضعت اللبنات الأولى لها اكتسبت خبرتها من خلال العمل في الصحافة السودانية، خلافًا للصحافة الإنجليزية التي راكمت خبرتها عبر المزج بين الصحافة السودانية وصحافة شرق إفريقيا.

لم تقم الصحافة العربية في مرحلة ما بعد الاستقلال على أُسُس راسخة وقواعد متينة ورؤية واضحة، لذلك ترنَّحت في منتصف الطريق وواجهت في أطوار نموها عقبات كبيرة، وأسهم في ذلك غياب سياسات واستراتيجيات واضحة من قِبَل الحكومة لترقية الإعلام والنهوض به، بالإضافة إلى تأخر صياغة قوانين الإعلام وتكوين المؤسسات المختصة التي عانت لاحقًا عقب تأسيسها أزمة في التمويل والدعم لتطبيق خططها وأنشطها. وقد اتبعت الصحافة العربية التركيبة الإدارية المتبعة في الصحافة السودانية؛ حيث تبدأ هيكلة الصحيفة، بـ"مجلس الإدارة، وهيئة التحرير، والمحررين والعاملين"، ولكن الهيكل الإداري لم يكن مكتملًا في معظم الصحف التي صدرت خلال هذه المرحلة.

أما الناشرون، فينقسمون ما بين السياسيين ورجال الأعمال، وبعض المبادرات الفردية من الصحفيين أنفسهم؛ حيث يتم تسجيل شركات خاصة بغرض إصدار الصحف، ولكن في أغلب الأحيان لا يتم إيداع مبالغ مالية في حسابات بنكية لتأمين استمرارية الصدور، ويسعى الناشرون من خلال إصدار صحفهم إلى تحقيق جملة من الأهداف منها الربح المادي، والخدمة الإخبارية والمعلوماتية، والدعاية.

2.3. البيئة السياسية للصحافة العربية

ازداد حجم القيود القانونية والسياسية المفروضة على الصحافة في الفترة الأخيرة، وذلك على الرغم من شعور الصحفيين ببعض الارتياح بعد تأسيس سلطة الصحافة التي تأخر تشكيلها منذ إجازة قوانين الإعلام في العام 2013. وتعتبر سلطة الصحافة كيانًا رسميًّا يتمتع باستقلالية إدارية، ومهمتها تنظيم عمل الصحافة وتطويرها، ومراقبة صناعتها، والتخطيط وإدارة الترددات الإذاعية(12)، لكنها لم تفعل الكثير من أجل الحد من الانتهاكات التي تطول الصحفيين وحرية الصحافة، بل تحوَّلت في أحيان كثيرة إلى أداة لقمع الآراء وتهديد الصحف وفرض الرقابة عليها. وعلى الرغم من أن قانون سلطة الصحافة لسنة 2013 يمنع الاعتقال التعسفي ومضايقة الصحفيين أثناء العمل وحجب المعلومات، والرقابة القبلية على الصحف، فإن هذه الممارسات ظلت سائدة على الدوام. ففي يناير/كانون الثاني 2019، وجهت سلطة الصحافة وسائل الإعلام بعدم تغطية أخبار الاحتجاجات المناهضة للنظام الحاكم في دولة السودان، واعتبرتها "قضية داخلية تؤثر على دولة صديقة، ولا يجب التطرق لها من قبل وسائل الإعلام المحلية"(13)، وأمرت صحيفة "الوطن" بالتوقف الفوري عن كتابة أية مواضيع تتعلق بالتظاهرات في السودان، بعد نشرها مقالات رأي عن التظاهرات المناهضة لحكومة الرئيس، عمر البشير، الذي أطيح به لاحقًا من قبل المتظاهرين. 

وعندما حاول الصحفيون، وفي مقدمتهم رئيس تحرير صحيفة "الوطن"، مايكل كريستوفر، مناهضة القرار تمت معاقبة صحيفته بالإيقاف عن الصدور لعدة أشهر، بعد أن لجأت سلطة الصحافة إلى قضية الترخيص، الذي يعتبر أحد القيود القانونية التي تستخدمها السلطات لإسكات صوت الصحافة. ولاحقًا، اعتُقل كريستوفر الذي مكث في مراكز الأمن 39 يومًا، ثم أُطلق سراحه من دون توجيه أية تهمة له أو تقديمه للمحاكمة.

كما منعت الرقابة صحيفة "الموقف" اليومية، خلال شهر واحد في عام 2019، من نشر مادتين: كانت الأولى شكوى من قِبَل مجلس إدارة إحدى الصحف حول ملابسات إغلاقها، والثانية مقالات مترجمة للكاتب والباحث، بيتر أدوك نيابا، والمعنونة بـ"اعوجاج الفكر السياسي وأزمة بناء الأمة والدولة بجنوب السودان". وفي المرتين لم يتم إخطار هيئة التحرير مسبقًا بالقرار، بل حدث الأمر ليلًا في مقر المطبعة، وهو تجاوز لحق التعبير وحرية الرأي، وانتهاك لقانون الصحافة الذي يحظر الرقابة القَبْلية وحجب المواد الصحفية، وبالرغم من تقديم الصحيفة احتجاجًا رسميًّا لسلطة الصحافة فإنها تجاهلت الأمر(14).

الصورة رقم (3) تبرز أحد أعداد صحيفة "الموقف" اليومية التي مُنِعت من نشر مواد صحفية عام 2019

3

ومنعت سلطة الصحافة، في يونيو/حزيران 2017، نحو عشرين صحفيًّا أجنبيًّا من الدخول إلى البلاد بسبب اتهامهم بكتابة قصص وتقارير إخبارية غير واقعية عن جنوب السودان. ودافع المدير الإداري لسلطة الصحافة، إليجا إلير كوي، عن القرار، وقال: "إن معظم الصحفيين الذين مُنعوا من دخول البلاد كتبوا قصصًا إخبارية يمكن أن تثير الكراهية والعنف". وذكر أن بعض التقارير لا يستند إلى مصادر موثوقة ومواقع محددة، ولكنها تعمِّم الأحداث والأشخاص، لافتًا إلى أن بعض التقارير انتهكت قانون سلطة الصحافة. وأضاف أن "القضايا المتعلقة بخطاب الكراهية، والتحريض على العنف، والتضليل غير مقبولة في قانوننا"، ونفى أن تكون سلطة الصحافة تواجه مشاكل مع الصحفيين الذين يقومون بتغطية حقائق عن البلاد. وأوضح أن المؤسسة أصدرت أكثر من 200 تصريح للصحفيين الأجانب ووسائل الإعلام للعمل في جنوب السودان(15).

وكان الصحفي، أفندي جوزيف، الذي يعمل بصحيفة "التعبير"، قد اضطر إلى مغادرة البلاد، بعد أن اعتقله جهاز الأمن الوطني، في 29 ديسمبر/كانون الأول 2015، بسبب مادة صحفية وقبع في مراكزه لحوالي شهرين، وبعد إطلاق سراحه بأيام قليلة "اختطفته قوة مسلحة، في 4 مارس/آذار 2016، واقتادته إلى مكان مجهول؛ حيث تعرض لتعذيب شديد، بعد الاختطاف والاحتجاز غير المشروع، وعُثِر عليه بعد أيام بالقرب من مقبرة في أحد أحياء مدينة جوبا"(16).

وفي الصحافة الإنجليزية، دفعت المخاطر والمضايقات رئيس تحرير صحيفة "ذي سيتيزن" (The Citizen)، نيال بول أكين، إلى اعتزال الصحافة في 2015 بعد سنوات طويلة قضاها في الحقل الصحفي، وكانت صحيفته قد تعرضت للإغلاق من قبل السلطات، في يونيو/حزيران 2014، وصرح بول حينها: "أمني مهدد، إنه خيار صعب، لكنني قررت التوقف بعد أن استنتجت مع أسرتي ضرورة أن نفعل هذا لأسباب أمنية"(17).

كما أغلقت السلطات الأمنية، في نوفمبر/تشرين الثاني 2011، صحيفة "ذي ديستيني" (The Destiny) الناطقة بالإنجليزية، واعتقلت رئيس تحريرها، نقور أرول قرنق(18)، ونائبه، دينقديت أيوك(19)، على خلفية مقال كتبه الأخير منتقدًا زواج ابنة رئيس جنوب السودان، سلفاكير ميارديت، من مواطن إثيوبي، واتهم جهاز الأمن الصحيفة بعدم الالتزام بأدبيات وأخلاقيات مهنة الصحافة، ولكنه أطلق سراح الاثنين لاحقًا دون تقديمهما للمحاكمة.

وهذه ليست الحالات الوحيدة التي تُنتهك فيها حقوق الصحافة والصحفيين في جنوب السودان، فقد شهدت السنوات التسعة الماضية عشرات الحوادث المشابهة، التي تمت توثيقها من قِبَل المنظمات الصحفية المحلية والدولية، وجعلت البلاد تحتل مراتب متأخرة في مؤشر حرية الصحافة العالمية. كما يعتبر جنوب السودان حاليًّا من أخطر البيئات من حيث العمل والتضييق على حرية الصحافة؛ إذ صنَّفته التقارير الدولية للمنظمات الصحفية كواحد من أخطر البيئات التي يمكن أن يعمل فيها الصحفيون على مستوى العالم، وحلَّ في المرتبة 138 من أصل 180 بلدًا في آخر تصنيف لمؤشر حرية الصحافة العالمية(20).

وأشارت منظمة "مراسلون بلا حدود"، في تعليقها على أوضاع الصحافة في البلاد، إلى أن "الضغوط ما زالت تلقي بظلالها على الصحفيين ووسائل الإعلام الأجنبية. ففي عام 2019، طُرِد صحفيان كانا يعملان لحساب "الأسوشيتدبرس" و"فرانس 24" على التوالي. وفي العام السابق، أُوقِف نشاط "بي بي سي" وإذاعة الأمم المتحدة. فالإعلاميون الذين يحاولون تقديم أخبار حرة يجدون أنفسهم عرضة للاضطهاد؛ "حيث يكون مصيرهم الاعتقال أو المضايقات أو الاحتجاز التعسفي أو التعذيب أو الإعدام". وأضاف تقرير المنظمة أن أجهزة الأمن القومي بجنوب السودان لا تتوانى عن التدخل مباشرة في عملية طبع المنشورات لفرض رقابة على محتويات معينة؛ حيث حذفت عدة مقالات من صحيفة الموقف خلال عام 2019، كما حاولت المخابرات إجبار مدير إذاعة على التحقق من محتويات المقابلات الصحفية قبل إعطاء الضوء الأخضر لبثها. ويفضِّل البعض مغادرة البلاد، بينما يختار الآخر إغلاق منابرهم الإعلامية حفاظًا على سلامتهم(21).

هذه العلاقة المتأزمة بين الصحافة والحكومة استفحلت بشكل بارز أثناء الحرب الأهلية الأخيرة؛ حيث اختلف الطرفان منذ البداية حول كيفية تغطية أخبار الحرب ومفاوضات السلام؛ إذ سعى كل طرف لحماية مصالحه، أحيانًا ضد الحقيقة وما تقتضيه المصلحة العامة، وقد فشلت جميع مساعي رأب الصدع وتقريب وجهات النظر وبناء الثقة، من خلال الورش وحلقات الحوار التي نظَّمتها سلطة الصحافة بالتعاون مع منظمة "صحفيون لحقوق الإنسان" (جهر)، في تحقيق أي تقدم في هذا الاتجاه، وظلت العلاقة بين الطرفين متوترة على الدوام.

3.3. ضعف القدرات والإمكانات

تواجه صناعة الصحافة أزمة في المقومات الأساسية، فمن الناحية الاقتصادية تعاني من ضعف مصادر التمويل لتوفير التزاماتها متمثلة في تكاليف الطباعة وأجور الصحفيين والعاملين ونفقات الإيجارات وغيرها، كما تعاني من غياب البنية التحتية، مثل: المطابع ومصانع الورق ومراكز المعلومات وغياب شركات التوزيع المتخصصة، التي تعتبر أهم مقومات صناعة الصحافة؛ إذ توجد مطبعة خاصة واحدة في العاصمة، جوبا، أما مطبعة الحكومة فقد توقفت مبكرًا عن طباعة الصحف لأسباب غير معروفة، وكذلك تعاني الصحف من غياب وسائل النقل وعدم وجود شبكة كهرباء منتظمة وضعف خدمة الإنترنت. أما من ناحية المقومات البشرية، فتعاني الصحافة من ضعف قدرات الكوادر العاملة بسبب غياب التأهيل والتدريب الدوري، وهو ما يؤثر سلبًا في أداء ومردود الصحف.

أما الإعلانات التي تشكِّل 75% من إيرادات الصحيفة -ثم يأتي بعد ذلك التوزيع والموارد المساندة الأخرى(22)- فهي تتدفق فقط في مواسم محددة، مثل الأعياد والمناسبات الوطنية، وعند صدور تعيينات جديدة في الحكومة، وتفضل المنظمات الأجنبية نشر إعلاناتها في الصحافة الإنجليزية بسبب عامل اللغة، فضلًا عن ذلك فإن سعر الإعلان في الصحافة المحلية يعتبر من أكثر الأسعار تدنيًا. وفي ظل عدم انتظام تدفق الإعلانات بشكل ثابت، وقلَّة الأموال التي تخصصها الدولة للإعلان باعتبارها المعلن الأكبر في الساحة، وضعف ثقافة الإعلان لدى المؤسسات والشركات الخاصة، وعدم وجود سياسة واضحة من قِبَل سلطة الصحافة لتوزيع الإعلانات على الصحف، ومع اعتماد الصحافة على عوائدها بشكل أساسي في تسيير أنشطتها، تضطر الصحف في أحيان كثيرة إلى الاحتجاب عن الصدور بسبب عجزها عن سداد نفقات الطباعة التي تُدْفَع للمطبعة بصفة يومية، كما تواجه صعوبات كبيرة في دفع أجور موظفيها وعامليها.

4. دور الصحافة العربية في عملية السلام

شاركت الصحافة العربية بفعالية في تغطية مفاوضات السلام (الأولى والثانية) بين الحكومة ومجموعات المعارضة، واستطاعت للمرة الأولى تزويد قرائها بالأخبار، والتقارير، والحوارات، والمشاهدات الحية، مباشرة من قاعات التفاوض، وربطهم بكل التطورات والتفاصيل الدقيقة حول مراحل سير عملية التفاوض. وكانت الصحافة الوطنية قبل ذلك، تعتمد في الحصول على الأخبار على الوكالات الإخبارية العالمية أو هيئة البث القومي، ذات التوجه الحكومي؛ لعدم قدرتها على إرسال مندوبيها من جوبا إلى أديس أبابا والخرطوم لصعوبات لوجستية، ولكن بات ذلك ممكنًا عندما قامت مفوضية المراقبة والتقييم المشتركة (جيمك) عبر منظمة تمكين المجتمع من أجل التقدم (سيبو) بتقديم دعوات لرؤساء تحرير الصحف العربية والإنجليزية بجانب الإذاعات، للمشاركة في تغطية عملية التفاوض مباشرة من أرض الحدث.

ويعلِّق رئيس تحرير صحيفة "الموقف" العربية، مثيانق شريلو، الذي شارك في تغطية المفاوضات، قائلًا: "إن جميع الأنظار كانت باتجاه أديس أبابا وحقيقة سير التفاوض هنالك، ولم يكن من اليسير أن تتحمل جميع الصحف التي تصدر من جوبا تكاليف السفر والإقامة في العاصمة الإثيوبية، أديس أبابا، لذلك أجريت اتصالات مع تنظيمات المجتمع المدني لكي تساهم في تمويل هذه الرحلة، ولكن لم تأت الاستجابة سوى من منظمة (سيبو) التي استطاعت أن تغطي هذه التكاليف بشكل كامل؛ ما أتاح الفرصة لوجود صحفيين عن قرب لرصد كل ما كان يدور في دهاليز المفاوضات"(23).

من ناحية أخرى، كانت مشاركة الصحافة في المفاوضات تواجهها بعض العقبات والعوائق، فقد حذَّرت الحكومة الصحفيين من عدم استضافة قادة الحركات المسلحة وعدم بث أو نشر أي حوار مع المتمردين(24)، وبدا "بسبب استمرار العدائيات والمواجهات المسلحة بين الأطراف أنها كانت تستبعد أن تقود المفاوضات إلى نتائج ملموسة تعيد السلام والاستقرار للبلاد، فقد كانت الأطراف لا تزال تثق في قوتها العسكرية وتحالفاتها على مستوى الإقليم"(25).

ويشير الصحفي، أتيم سايمون، إلى أن الصحافة كان مطلوبًا منها أن تعتمد في تغطيتها لمسار العملية السلمية على وجهة نظر واحدة، ممثلة في وجهة النظر الحكومية الرسمية؛ حيث كان ممنوعًا استضافة قادة المعارضة أو استجوابهم وإن كانت تصريحاتهم تصب في صالح خدمة العملية السياسية السلمية. لذلك، فقدت التغطية الصحفية خلال تلك الفترة واحدًا من أهم الشروط المهنية، وهو عامل التوازن في التصريحات الخبرية، لافتًا إلى أن تلك كانت سياسة رسمية اتبعتها الحكومة مع وسائل الإعلام.

من جهة أخرى، نجحت الصحافة العربية في تغطية عملية التفاوض ومراحل تنفيذ الاتفاقية بصورة مهنية؛ إذ قامت بترجمة وثيقة "اتفاقية تسوية النزاع بين أطراف الأزمة في جنوب السودان" من اللغة الإنجليزية إلى العربية ونشرتها في حلقات متسلسلة في صفحاتها، وبذلك استطاع قرَّاء العربية معرفة بنود الاتفاقية. كما حاورت قادة المجموعات المختلفة الموقعة على الاتفاقية لمعرفة آرائهم تجاه الأزمة السياسية، واستكتبت المحللين السياسيين والخبراء، وسعت إلى تحويل الخطاب السائد وسط المواطنين إلى لغة السلم، وتشجيع ثقافة الحوار، والتعايش السلمي، والمصالحة الاجتماعية رغم وجود بعض الأصوات الصحفية الشاذة التي ذهبت عكس ذلك.

وعلى الرغم من تلك الأدوار الإيجابية التي لعبتها الصحافة ولا تزال؛ فيما يخص العملية السلمية، إلا أن هناك جوانب أخرى، يجب أن تلتفت إليها الصحف؛ إذ يُلاحَظ أن بعض الأطراف في الحكومة والمعارضة تحدد الأجندة التي يجب على الصحف تناولها فيما يتعلق باتفاقية السلام وكيفية تنفيذها؛ مثلًا نجد أن الصحافة تركز اهتمامها في الفترة الأخيرة على مصالح الأطراف الموقِّعة في قسمة السلطة والتمثيل السياسي؛ حيث أغفلت قضايا أخرى مهمة وذات صلة مباشرة بالمواطن، فاتفاق السلام مصمم في الأساس لوقف الحرب والمعاناة التي يرزح تحتها شعب جنوب السودان، لكن هنالك مسائل أكثر جوهرية كان يجب أن تلتفت إليها الصحافة في تغطيتها للعملية السلمية وهي قضايا الإصلاح المؤسسي والمحاسبة عن الجرائم والانتهاكات التي ارتكبتها الأطراف خلال فترة الحرب، باعتبار أن المساءلة تمثِّل مدخلًا رئيسًا للمصالحة وبناء دولة المستقبل(26).

وفيما يخص حرية الصحافة، لم يجر أي نقاش حولها بشكل منفصل أثناء المفاوضات بين الأطراف، في ظل عدم مشاركة ممثلين فعليين في قطاع الصحافة؛ إذ انحصرت المباحثات حول القضايا الجوهرية المتعلقة بالأزمة السياسية، وقد جاءت حرية الصحافة فقط في سياق مطالبة المجتمع المدني بحرية التعبير وتعديل قانون الأمن الوطني الذي يتضمن مواد مقيدة لها. ولاحقًا، ورد في الاتفاقية بند مراجعة القوانين. كما يلاحظ أن الاتفاقية لم تعط ضمانات كافية لحرية الصحافة والتعبير؛ إذ اكتفت بالإشارة إلى ذلك بشكل عرضي، رغم أن الاتفاقية نفسها تحث الصحافة على التعاون مع الوكالات الحكومية المختصة في الكشف عن الفساد ومحاربته.

5. مستقبل الصحافة العربية

يرتبط مستقبل الصحافة العربية بجنوب السودان بعاملين مهمين، هما: حجم الإمكانات المادية والبشرية المتاحة، ومستقبل اللغة العربية. ونتيجة لضعف الإمكانات وتدهور الأوضاع المحيطة، لم تستطع الصحف مواصلة التطور بشكل طبيعي لتصل إلى مستوى المؤسسات الصحفية الراسخة خلال السنوات المنصرمة، بل فشل العديد منها في توفير الحد الأدنى من متطلبات العمل لقلَّة الموارد والمداخيل، وهو ما اضطر أغلبها للتوقف عن الصدور.

أما واقع الاستثمار في صناعة الصحافة فتحيط به العديد من المشكلات، فهناك عزوف المستثمرين عن الانخراط في صناعة الصحافة بسبب الخوف من الخسارة وعدم تحقيق الأرباح، والجهل بأهمية الصحافة، ومن جانب آخر لا توجد استجابة أو رؤية واضحة من قِبَل الجهات الحكومية لدعم هذا القطاع والمساهمة في تطويره، خاصة عن طريق توفير تسهيلات بنكية وقروض للصحف بغية تقوية إمكاناتها المالية ومساعدتها في الاستمرارية.

ويعلق نائب رئيس تحرير صحيفة الموقف، أنطوني جوزيف، على واقع الاستثمار في صناعة الصحافة في جنوب السودان قائلًا: "انطلق الاستثمار في مجال الصحافة في جنوب السودان من أناس لهم خلفية عن المهنة إلا أن أغلبهم لم يكونوا من أصحاب رؤوس المال، وهذا ما أدى في كثير من الأحيان إلى تأثر الكثير من الصحف، في وقت نأت الحكومة بنفسها عن دعم الصحافة التي تعتبرها المهدد الأول لمصالحها واستقرارها". وعزا أنطوني جوزيف عزوف رجال الأعمال الحقيقيين عن الاستثمار في هذا الصناعة لثلاثة أسباب، أولًا: لتقاطع مصالحهم مع الحكومة التي تمنحهم قروضًا وعطاءات بطرق ملتوية، ثانيًا: معظم رجال الأعمال البارزين في الساحة لم ينالوا قسطًا وافرًا من التعليم يجعلهم يقدِّرون أهمية الصحافة وتأثيرها. ثالثًا: معظم المستثمرين يركزون أعمالهم، منذ استقلال البلاد عام 2011، في مجالات بعينها مثل: قطاع الفندقة وشركات التأمين واستيراد السيارات والعقارات(27).

وفي مسألة اللغة العربية، تبدو الصورة أكثر ضبابية على المديين المتوسط والبعيد، فرغم أن دولة السودان كانت تستخدم اللغتين العربية والإنجليزية لأداء أعمال الحكومة القومية، وفي المؤسسات الجامعية، في الفترة ما بعد اتفاقية السلام الشامل، 2005، التي دعت إلى عدم التعصُّب ضد استخدام أي لغة منهما في أي مستوى من المستويات الحكومية أو التعليمية(28)، فإن الحكومة في جنوب السودان اتجهت بُعيد الاستفتاء إلى إعلان الإنجليزية لغة رسمية للدولة الجديدة وضمَّنتها في الدستور الانتقالي الذي تمت إجازته، في يوليو/تموز 2011، لتصبح وسيطًا للتعليم في كافة المراحل الدراسية وفي المعاملات الرسمية.

وينص الدستور الانتقالي لجمهورية جنوب السودان لسنة 2011 (المعدل) على أن "جميع اللغات الأصلية لجنوب السودان، هي لغات قومية، ويجب احترامها، وتطويرها وترقيتها" وينص أيضًا على أن "الإنجليزية هي اللغة الرسمية للعمل في جمهورية جنوب السودان، وهي كذلك لغة التدريس والتخاطب في جميع المراحل التعليمية"(29).

ورغم وجود أجيال عديدة درست باللغة العربية في شمال السودان ودول شمال إفريقيا، ولا يعرفون لغة غيرها، إلا أنهم باتوا ضحية السياسة اللغوية الجديدة، لكن بدا واضحًا أن هناك حساسية من قِبَل تيار مؤثر في حزب الحركة الشعبية الحاكم وقطاع من الجنوبيين تجاه اللغة العربية التي كانت ترمز بالنسبة لهم إلى الهوية العربية والإسلامية، لاسيما أن الصراع التاريخي في السودان بين الجنوب والشمال، والذي قاد لانفصاله (الجنوب) في عام 2011، اتخذ في وجه من أوجهه بُعدًا ثقافيًّا واجتماعيًّا لأسباب عديدة لا يتسع المجال هنا لمناقشتها بالتفصيل، وكذلك كانت هناك ضرورات سياسية واستراتيجية يمليها اعتماد الإنجليزية لغة رسمية من ضمنها الحاجة للانفتاح على كتلة شرق إفريقيا، وبالفعل انضم جنوب السودان إلى تجمع دول شرق إفريقيا بعد قبول عضويته بالمنظمة، في مارس/آذار 2016، ووقَّع على معاهدة الانضمام في أبريل/نيسان من نفس العام.

ووفقًا لاستطلاع للرأي أُجرِي حول الوضع اللغوي في جنوب السودان خلال العام 2013، طالب 53% من الذين استُطلع رأيهم بأن تكون اللغة الإنجليزية وحدها اللغة الرسمية للدولة الجديدة، بينما طالب 30% منهم بأن تكون الإنجليزية والعربية معًا اللغتين الرسميتين، وطالب 11% باعتماد اللغات المحلية، وطالب 2% بأن تكون الإنجليزية إلى جانب اللغات المحلية هي اللغات الرسمية، فيما طالب 1% فقط من المستجوبين بأن تكون اللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة#a30.

ويقول رئيس التحرير الأسبق لصحيفة "إرادة الشعب"، فرانسيس مييك: "لا يمكن الحديث عن الصحافة الناطقة بالعربية في جنوب السودان، بدون مسألة استمرار اللغة العربية كلغة تَخَاطُب بين الجنوب سودانيين؛ لأنها ليست اللغة الرسمية للدولة، فاللغة الإنجليزية هي اللغة الرسمية التي تُستخدم في دواوين الحكومة، لكن في الواقع لا يمكن تجاهل تأثير اللغة العربية كلغة تخاطب وتواصل بين الناس، ويمكن أن تشاهد اللافتات أو الإعلانات في شوارع المدن مكتوبة باللغتين العربية والإنجليزية". وأضاف: "إذا تأملت خارطة جنوب السودان جغرافيًّا، فالمنطقة الشمالية منها المتاخمة للسودان يتحدث الناس اللغة العربية قراءةً وكتابةً، أيضًا في غربي البلاد في ولاية غرب بحر الغزال تحديدًا، وفي المنطقة الجنوبية بالاستوائية الكبرى، يتحدث الناس اللغة العربية المحلية المعروفة بـ"عربي جوبا"... هذه مؤشرات تدل على أنه ليس من الحكمة تجاهل تأثير اللغة العربية كلغة رئيسية للتواصل في جنوب السودان"(31)

بينما يرى رئيس تحرير صحيفة "المستقبل"، الراحل لام كوي لام، أن "الصحافة العربية لديها الفرصة للاستمرار في دورها الوظيفي والمهني في جنوب السودان والمحافظة على أدائها إذا تخطَّت حاجز اللغة". ويشير إلى أنه "يمكن الاستفادة من نماذج دول شرق إفريقيا التي اعتمدت الإنجليزية لغة رسمية، ولكنها لم تستغن عن اللغة السواحلية التي تستخدمها بعض صحفها"(32).

وتجدر الإشارة إلى أن المؤتمر القومي للمناهج أوصى، في عام 2016، بتدريس ثلاث لغات إضافية إلزاميًّا إلى جانب الإنجليزية في جميع المدارس بالبلاد، وهي اللغة العربية والفرنسية والسواحلية، وذلك بعد أن يصادق البرلمان القومي على تعديل قانون التعليم الذي يعتبر هذه اللغات اختيارية(33).

استنتاجات

- الصحافة العربية في جنوب السودان تواجه أزمة كبيرة في التمويل والبناء الهيكلي والكادر الصحفي والإداري المؤهل.

- يمثِّل غياب الاستثمار في صناعة الصحافة، وعزوف رؤوس الأموال عن الانخراط في هذا المجال، أهم التحديات الرئيسية التي تواجه تطور ونمو الصحافة الوطنية.

- تُعَدُّ بيئة العمل الصحفي في جنوب السودان بيئة معادية للعمل الصحفي، لاسيما فيما يخص غياب ضمانات السلامة الشخصية للصحفيين العاملين في هذا القطاع، فضلًا عن ضعف الأجور الذي يهدد بتشريد الصحفيين.

- تتعرض الحريات الصحفية، لاسيما حرية التعبير وحق الحصول على المعلومة، لانتهاك مستمر من قبل السلطات، في ظل تواصل ممارسة سياسات التضييق والقمع والتخويف والاعتقال التعسفي والرقابة على المطبوعات وحجب المعلومات.

- هناك أزمة ثقة وتوتر في العلاقة بين الصحافة والحكومة بسبب محاولة السلطات تقييد استقلالية وحيادية الصحافة ومنعها من تسليط الضوء على بعض القضايا الحساسة التي تُعَدُّ من صميم عملها، وسعيها لتوجيه وتقديم إملاءات للصحف بخصوص المحتوى.

- مستقبل الصحافة عمومًا، ومستقبل الصحافة العربية خاصة، مرتبط بمدى حرص الحكومة على دعم صناعة الصحافة، من خلال توفير البنية التحتية وتعزيز وترقية قوانين الإعلام، ودعم معاهد وأقسام الإعلام في الجامعات الوطنية.

- لعبت الصحافة العربية دورًا إيجابيًّا في دعم عملية السلام بجنوب السودان، من خلال تغطية مراحل التفاوض المختلفة بين أطراف النزاع في البلاد، وتغطية أنشطة الاتفاقية عقب التوقيع عليها وترجمة ونشر بنودها.

- الصحافة العربية تواجه تحديات في الوصول إلى أعداد كبيرة من جمهور القراء المفترضين في الخارج بسبب غياب النشر الإلكتروني وعدم امتلاك الصحف لمواقع إلكترونية نشطة.

- مستقبل الصحافة العربية في جنوب السودان مرتبط بمدى صمود واستمرار اللغة العربية التي تقلصت مساحة تأثيرها عقب استقلال البلاد في عام 2011، واعتماد الدولة الجديدة الإنجليزية لغة رسمية لها.

وفي ضوء ذلك:

- يرى الباحث أن الصحافة العربية يمكنها الصمود ومواصلة أداء رسالتها بفعالية، في ظل وجود أجيال عديدة شابة تلقت تعليمها باللغة العربية في السودان قبل الاستقلال، وكذلك مع وجود نسبة كبيرة من المواطنين الجنوب سودانيين الذين لا يزالون يقيمون في دول ناطقة باللغة العربية لأغراض مختلفة، مثل الدراسة والعمل. لذلك، يتعين تحديد جمهور المتلقين وكيفية وصول محتوى الصحف إليهم، وهنا تبرز الحاجة إلى النشر الإلكتروني كخيار أكثر فعالية وقليل التكلفة، ويصل نطاقه إلى أماكن بعيدة وجمهور أكبر لا تستطيع الصحافة الورقية بلوغه في الظروف الراهنة. 

- يجب تضافر كافة الجهود لوضع اللبنات الأساسية لمنظومة إعلامية متكاملة تشمل الصحافة المقروءة والمسموعة والمرئية عبر خطة إصلاحية تتبناها الدولة، وبدعم من المنظمات الصحفية الوطنية والأجنبية، تبدأ بصياغة سياسة إعلامية هادفة وقابلة للتطبيق لصون الحريات، خاصة حرية التعبير التي تعد أساس الحريات، ومراجعة التشريعات المقيدة لحرية الصحافة. وتشمل الخطة أيضًا زيادة الميزانيات المخصصة للإعلام، وتأهيل البنى التحتية، وتدريب الكوادر، وتنفيذ المشاريع ذات الصلة، على غرار المطابع ومصانع الورق ومدخلات الطباعة الأخرى، وتشجيع رجال وسيدات الأعمال للاستثمار في مجال صناعة الصحافة، وتخفيض التعرفة الجمركية على المعدات الصحفية، وإعفاء الصحف من ضريبة أرباح الأعمال، وتأسيس مراكز معلومات مواكبة للتطور التقني والتكنولوجي، وإلزام شركات الاتصالات بتحسين خدمات الاتصال والإنترنت.

- هناك حاجة ماسَّة لبناء المؤسسات التعليمية والتدريبية في مجال الصحافة والإعلام ودعم أقسام الإعلام بجامعة جوبا، ودعم جهود تأسيس كلية للصحافة والإعلام بالجامعة، وإنشاء كليات للإعلام في الجامعات الوطنية الأخرى، بالإضافة إلى دعم جهود تدريس اللغات في المستويات التعليمية المختلفة بما فيها اللغة العربية، وأن تعترف الدولة باللغة العربية لغة رسمية، والاتجاه نحو تأسيس المنصات الإلكترونية، وإشراك الصحفيين في صنع القرارات المتعلقة بمهنتهم، وخلق قنوات تواصل بين مؤسسات الإعلام والحكومة. كما يجب على الصحفيين تنظيم شؤونهم على نحو أفضل وخلق تواصل وشراكات مثمرة بين مؤسسات الإعلام وبينهم كأفراد، والالتزام بأخلاقيات وقواعد العمل الصحفي، وعدم التهاون في الدفاع عن حرية الصحافة، والحفاظ على حيادية واستقلالية المهنة، وترقية أوضاع حقوق الإنسان في التغطية الصحفية، خاصة أوضاع الفئات المستضعفة كالنساء والأطفال والمسنين، ودعم السلام والمصالحة المجتمعية ومقومات الديمقراطية، وتعزيز الوحدة الوطنية والتنوع والثراء الثقافي. وقبل كل ذلك، يجب حثُّ الأطراف على تنفيذ بنود اتفاقية تسوية النزاع المنشَّطة، بما فيها بند إصلاح المؤسسات ومراجعة القوانين المقيِّدة لحرية الصحافة والتعبير، تمهيدًا للتحول الديمقراطي الحقيقي في البلاد. فلا صحافة حرة ومسؤولة ومهنية في بيئة غير ديمقراطية(34).

نشرت هذه الدراسة في العدد التاسع من مجلة لباب، للاطلاع على العدد كاملًا (اضغط هنا).

ABOUT THE AUTHOR

References

(1) عادل محجوب أحمد العاقب، المدخل إلى علم الصحافة، (جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، 2008)، ص 40.

(2)  يُعَدُّ كتاب "الصحافة السودانية: تجربة الجنوب 1940 – 2005" للصحافي المخضرم، فيكتور كيري واني، مرجعًا توثيقيًّا مهمًّا يتناول تاريخ الصحافة السودانية بالتركيز على تجربة الصحافة في الجنوب منذ ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي حتى العام 2005. للتوسع، انظر:

Victor Keri Wani, Mass Media in Sudan:  Experience of the South (1940-2005), 1st ed. (Juba: 2014).

(3) Ibid, 7-11.

(4) مقابلة عبر الهاتف أجراها الباحث مع مصطفى بيونق مجاك، مدير عام الإعلام السابق بوزارة الإعلام بجنوب السودان، 18 يونيو/حزيران 2020.

(5) Keri Wani, Mass Media in Sudan, 43-47.

(6) The International Republican Institute (IRI), “Survey of South Sudan Public Opinion April 24 to May 22, 2013,” July 19, 2013: 70.

(7) دينيس دومو، "العام الدراسي في جنوب السودان بدأ نظريًّا" رويترز، 28 فبراير/شباط 2018، (تاريخ الدخول: 1 يوليو/تموز 2020): shorturl.at/KNVW2.

(8) حسن فاروق، "أول حوار مع رئيس تحرير أول صحيفة ناطقة باللغة العربية بجنوب السودان"، سودانايل، 10 مارس/آذار 2011، (تاريخ الدخول: 1 يوليو/تموز 2020): shorturl.at/avLY4.

(9) أجوك عوض الله جابو، "صحافة جنوب السودان.. عقبات كبيرة وحرية محدودة"، الجزيرة نت، 19 فبراير/شباط 2014، (تاريخ الدخول: 1 يوليو/تموز 2020): shorturl.at/bnHV7.

(10) مقابلة خاصة أجراها الباحث مع أبراهام مليك، رئيس تحرير صحيفة "9 يوليو"، 16 يونيو/حزيران 2020، جوبا.

(11) مقابلة عبر الهاتف أجراها الباحث مع مصطفى بيونق مجاك، مدير عام الإعلام السابق بوزارة الإعلام بجنوب السودان، مرجع سابق.

(12) قانون سلطة الصحافة بجنوب السودان لسنة 2013، ترجمة: إدارة التشريع بوزارة العدل، 12 أكتوبر/تشرين الأول 2013، ص 25.

(13) "جوبا تمنع وسائل الإعلام من تغطية احتجاجات الخرطوم"، راديو تمازج، 9 يناير/كانون الثاني 2019، (تاريخ الدخول: 20 يونيو/حزيران 2020): shorturl.at/bowAF.

(14) مقابلة خاصة أجراها الباحث مع مثيانق شريلو، رئيس تحرير صحيفة "الموقف"، 1 يونيو/حزيران 2020، جوبا.

(15) Daniel Danis, “Media Authority Bans about 20 Foreign Journalists”, Eye Redio, June 7, 2017, “accessed July 24, 2020”. shorturl.at/dfkEX.

(16) بيان منظمة صحفيون لحقوق الإنسان (جهر)، "بعد تعذيبه.. خضوع الصحفي أفندي جوزيف للعلاج خارج البلاد"، سودانايل، 11 مارس/آذار 2016، (تاريخ الدخول: 1 يوليو/تموز 2020): shorturl.at/gtAY9.

(17) "مخاطر الصحافة تدفع أشهر صحفيي جنوب السودان إلى هجر الصحافة"، العرب، 14 سبتمبر/أيلول 2015، (تاريخ الدخول: 1 يوليو/تموز 2020): shorturl.at/bgFS5.

(18) مثيانق شريلو، "جوبا تغلق صحيفة وتعتقل رئيسها"، الجزيرة نت، 4 نوفمبر/ تشرين الثاني 2011، (تاريخ الدخول: 1 يوليو/تموز 2020): shorturl.at/dfnA1.

(19) مثيانق شريلو، "تهديد لصحفي في جنوب السودان"، الجزيرة نت، 11 ديسمبر/ كانون الأول 2011، (تاريخ الدخول: 1 يوليو/تموز 2020): shorturl.at/qO789.

(20) "تصنيف مؤشر الصحافة العالمية لعام 2020"، مراسلون بلا حدود، (تاريخ الدخول: 1 يوليو/تموز 2020): shorturl.at/muHX6.

(21) "هل هي نهاية سلسلة اغتيالات الصحفيين؟"، مراسلون بلا حدود، (تاريخ الدخول: 1 يوليو/تموز 2020): shorturl.at/bfAUY.

(22) محجوب، المدخل إلى علم الصحافة، مرجع سابق، ص 60.

(23) مقابلة خاصة أجراها الباحث مع مثيانق شريلو، رئيس تحرير صحيفة "الموقف"، مرجع سابق.  

(24) أتيم سايمون، "إضاءات على دور الصحافة الوطنية في تغطية العملية السلمية في جنوب السودان"، (ورقة قدمت في الاحتفال باليوم العالمي لحرية الصحافة بجنوب السودان)، جوبا، 9 مايو/أيار 2019.

(25) المرجع السابق.

(26) المرجع السابق.

(27) مقابلة خاصة أجراها الباحث مع أنطوني جوزيف، نائب رئيس تحرير صحيفة "الموقف"، 23 يوليو/تموز 2020، جوبا.

(28) "اتفاقية السلام الشامل بين حكومة جمهورية السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان"، الجيش الشعبي لتحرير السودان، (نيروبي، (د.ت))، ص 28.

(29) الدستور الانتقالي لجمهورية جنوب السودان لسنة 2011 المعدل، (د.ت)، ص 3.

(30) The International Republican Institute (IRI), “Survey of South Sudan Public Opinion April 24 to May 22, 2013,” (July 19, 2013): 52.

(31) مقابلة خاصة أجراها الباحث مع فرانسيس مييك، رئيس التحرير السابق لصحيفة "إرادة الشعب"، 22 يوليو/تموز 2020، جوبا.

(32) مثيانق شريلو، "تحديات الصحف العربية بجنوب السودان"، الجزيرة نت، 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2011، (تاريخ الدخول: 20 يونيو/حزيران 2020): shorturl.at/htBH1.

(33) أتيم سايمون، "اللغة العربية إلزامية في مدارس جنوب السودان"، الأناضول، 6 أكتوبر/تشرين الأول 2016، (تاريخ الدخول: 20 يونيو/حزيران 2020): shorturl.at/rBCGQ.

(34) ملوال دينق، "الصحافة وصراع البقاء.. قراءة في معوقات صناعة الصحافة في جنوب السودان"، راديو تمازج، 3 مايو/أيار 2019، (تاريخ الدخول: 20 يونيو/حزيران 2020): shorturl.at/ouMU8.