بعد ديبي: انتقال سياسي محفوف بالمخاطر

أدخل مقتل الرئيس ديبي المفاجئ تشاد في مرحلة انتقالية حرجة؛ إذ تولى الحكم مجلس عسكري غير دستوري، ووعدت المعارضة المسلحة بمواصلة هجومها على العاصمة، ووقعت الدول الإفريقية في معضلة الموازنة بين رفض الاعتراف بشرعية المجلس العسكري والخشية من تخليه عن دعم أمن دول الساحل الخمسة.
يواصل الجيش بعد رحيل ديبي حكم تشاد (رويترز)

ما إن عاد الرئيس التشادي، إدريس ديبي إيتنو، لبلاده قادمًا من برازفيل حيث حضر حفل تنصيب الرئيس الكونغولي، ساسو نغيسو، حتى توجه نحو جبهة القتال المشتعلة في الشمال بين جيشه وبين قوات جبهة التغيير والوفاق المسلحة، وبُعيد وصوله بأقل من 24 ساعة أُعلن، في 20 أبريل/نيسان 2021، عن مقتله، وقد تزامن ذلك مع الإعلان عن فوزه في الانتخابات الرئاسية لتولي عهدة سادسة. بادرت قيادة الجيش التشادي بتعيين ابنه، الجنرال محمد إدريس ديبي، ذي السبعة والثلاثين عامًا، حاكمًا للبلاد، ورئيسًا للمجلس العسكري الانتقالي الذي قرَّر فورًا تجميد الحكومة والبرلمان وتولي السلطة ثمانية عشر شهرًا، يعقبها إجراء انتخابات جديدة.

ترك مصرع إدريس ديبي، الذي تولى السلطة منذ ثلاثين عامًا، وكان الشريك الأبرز للغرب عمومًا وفرنسا خصوصًا في الحملة ضد القاعدة وتنظيم الدولة في منطقة الساحل، فراغًا، قد يطلق نزاعات داخلية على السلطة تهدد بقاء النظام، وقد يضطر القوات التشادية المنتشرة خارج البلاد إلى العودة لحماية الأمن الداخلي، فتحدث فراغًا يؤزِّم أوضاع المنطقة الأمنية ويضعضع أهم ركن في استراتيجية فرنسا بمنطقة الساحل.

انتقال عسكري

كان الوقت الفاصل بين مقتل الرئيس إدريس ديبي وتشكيل مجلس عسكري انتقالي، الذي أُسندت إليه قيادة البلاد، قصيرًا جدًّا وهو ما يعني أن قيادة الجيش منسجمة إلى حدٍّ كبير ولا تثق في القيادات المدنية وتقطع الطريق أمام أي نزاع بين الطامحين للسلطة، والتفَّ المجلس بذلك على المادة 82 من الدستور التشادي، المعدَّل في ديسمبر/كانون الأول 2020، والتي تحدد آلية تداول السلطة بعد شغور منصب الرئيس وفق إجراءات دستورية لا تعطي أي دور للجيش في انتقال السلطة. هذا الإجراء ينزع الشرعية الدستورية عن المجلس العسكري، مع أن قيادة المجلس تتذرع بأن البلاد في حالة حرب، وأن التمرد يهدد كيان الدولة فلا مناص من اتخاذ إجراءات غير دستورية.

يبرز من طريقة انتقال السلطة أن القوة الفعلية المسيطرة على البلاد هي نتاج الترابط بين عائلة الرئيس ديبي وفروعها العشائرية، خاصة الزغاوة والقرعان، وقيادة الجيش، وتتميز هذه العوامل بجوانب قوة وضعف، ستحدد مسار الأحداث.

رغم أن سنَّ رئيس البلاد، الجنرال محمد إدريس ديبي إيتنو، لا تتجاوز السابعة والثلاثين إلا أن والده رقَّاه إلى أعلى هرمية المؤسسة العسكرية وجعله قائد كتيبة الحرس الرئاسي وهي أقوى كتائب الجيش وأحسنها تسليحًا وكفاءة. وقد برهن على كفاءته القتالية بمشاركته في العمليات الحربية بمالي في 2013. 

وجد الرئيس الشاب نفسه بعد مقتل والده محاطًا بأربعة عشر جنرالًا عسكريًّا يشكِّلون أعضاء المجلس الانتقالي. صحيح أن خمسة من الجنرالات في المجلس من عشيرة الرئيس الجديد الأقربين ويجدون مصلحتهم في دعمه، وكان أبوه قد اعتمد عليهم كثيرًا كرئيس الأركان ولواء القوات المسلحة، أبكر عبد الكريم داود، ومدير عام المخابرات العسكرية، طاهر إردا تاورو، والفريق أحمد يوسف محمد إيتنو. 

تفادى الاتحاد الإفريقي فرض عقوبات على المجلس العسكري التشادي، واكتفى بالتعبير عن قلقه العميق من الوضع والدعوة إلى العودة بسرعة إلى إرساء النظام الدستوري ونقل الحكم إلى المدنيين. وقفت الولايات المتحدة تقريبًا نفس الموقف؛ إذ أعلنت متابعتها للوضع في تشاد عن كثب وعن قلقها من العنف في البلاد، وأي عقبات أمام الانتقال الديمقراطي. الموقفان يشيران إلى أن الدول الإفريقية والولايات المتحدة توافقان ضمنيًّا على الحكم العسكري الجديد وتنتظران منه العودة إلى الأطر الدستورية. 

كان الموقف الفرنسي أكثر مساندة للقيادة التشادية الجديدة؛ فلقد دعا إلى الانتقال السلمي للسلطة والحوار مع القوى السياسية والمجتمع المدني. وحضر الرئيس ماكرون جنازة ديبي، وتعهد بالدفاع عن استقرار تشاد، وهذا تلميح بالتصدي لقوى المعارضة المسلحة إن صمَّمت على مواصلة تقدمها إلى العاصمة، نجامينا.

يمكن فهم المواقف الإفريقية والفرنسية والأميركية بالنظر إلى دور القوات التشادية في مناطق النزاع بالساحل؛ ففي قوات دول الساحل الخمس تبلغ نحو 1650 عنصرًا من إجمالي 6000 عنصر، ثم أضافت تشاد لها 1200 عنصر، في نهاية مارس/آذار، كي تنتشر في منطقة الحدود الثلاثية بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو حيث تنتشر الجماعات الإسلامية المسلحة. وتشارك القوات التشادية أيضًا بنحو 1500 عنصر في قوات مينوسما التابعة للأمم المتحدة المشرفة على حفظ الاستقرار بمالي. لو تنحسب القوات التشادية من مالي ستترك شمالها مكشوفًا أمام الجماعات الإسلامية.

هذا الوضع قد يفسر تفادي الثلاثي، الإفريقي والفرنسي والأميركي، اعتبار تولي المجلس العسكري التشادي السلطة انقلابًا لأن المجلس قد يرد بإعادة هؤلاء الجنود المرابطين في هذه المناطق لتعزيز أمن العاصمة والالتحاق بجبهة القتال في الشمال لصد قوات جبهة التغيير، أي تخلي تشاد عن التزاماتها الإقليمية والدولية تجاه مكافحة القاعدة وتنظيم الدولة بمنطقة الساحل.

بادرت دول الساحل الخمس، وبدعم فرنسي، إلى تخفيف الضغط على المجلس العسكري، فكلفت الرئيسين، النيجري محمد بازوم والموريتاني محمد ولد الغزواني، بإجراء حوار مع القوى السياسية المعارضة للاستماع إلى رؤيتها في الانتقال السياسي ثم رفع نتائج هذه المشاورات إلى المجلس العسكري. 

رغم هذا الدعم الذي يحظى به المجلس العسكري إلا أنه يعاني من جوانب ضعف كثيرة. لا يوجد إجماع داخل عائلة ديبي على تولي محمد مكان أبيه، وتبرز في هذا السياق هندة، زوجة الرئيس ديبي الرابعة التي كانت مستشارته الخاصة، وتمكنت من وضع عدد من أقاربها وحلفائها في مفاصل السلطة، ووردت تقارير عن أن الرئيس ديبي كان يخشى عليها بعد وفاته فسعى للحصول على الجنسية الفرنسية لها.

توجد أيضًا نزاعات داخل عشيرة ديبي، فلقد شنَّ عليه ابن عمه، تيمان أرديمي، هجومًا من ليبيا، في 2019، فاستنجد ديبي بفرنسا التي استعملت الطيران الحربي لإفشال الهجوم.

توجد أيضًا تباينات داخل القيادات العسكرية، فلقد وردت أنباء عن رفض بعضهم طريقة انتقال السلطة.

الجزيرة
(الجزيرة)

حروب السيارات رباعية الدفع

أعلنت جبهة الوفاق من أجل التغيير في التشاد عن انسحاب تكتيكي لكنها أكدت مواصلة هجومها بسيارات رباعية الدفع على العاصمة التشادية للاستيلاء على السلطة، وبرَّرت ذلك بأن المجلس العسكري انتهك القواعد الدستورية، وأن ما جرى هو انقلاب عسكري غير شرعي. والملاحظ أن حركات المعارضة المسلحة تعتمد على هذه السيارات في عملياتها القتالية لسرعة حركتها في الصحراء.

بعث تنظيم التحالف العسكري، وهو مجموعة من الفصائل المعارضة المسلحة، برسالة إلى المجلس العسكري الحاكم للوصل إلى تسوية، لكنه توعَّد بالهجوم على نجامينا إن رفض المجلس اليد الممدودة إليه.

يوفر انشغال المجلس العسكري بأمن العاصمة وخروجه عن الشرعية الدستورية، فرصة وتبريرًا للمعارضة المسلحة للتقدم نحو العاصمة، نجامينا، والاستيلاء على السلطة، وقد تغريها الفرصة المواتية بتجاوز انقساماتها، مستغلة التذمر الذي نتج عن حكم ديبي خلال ثلاثين سنة: تذمر اقتصادي يظهر في التفاوت في توزيع الثروة؛ حيث يأخذ 10% من سكان البلاد ثلث ثرواتها، وتذمر عشائري؛ حيث تسيطر زغاوة على أغلبية المناصب المهمة في الدولة، وتذمر مناطقي؛ حيث يسيطر الشماليون على الحكم.

ما يعزز حظوظ نجاح المعارضة المسلحة هو أنها تتبع تقليدًا راسخًا في تاريخ تشاد؛ فلقد كان آخر ثلاثة رؤساء تشاديين قادة في المعارضة المسلحة، وباتت المشاركة في المعارضة المسلحة أفضل طريق للحصول على مناصب سياسية في الدولة.

قد يقوِّي حظوظ المعارضة المسلحة في الاستيلاء على السلطة، ولو بعد مدة، التغيير الجاري في ميزان القوى الدولي بشرق إفريقيا ووسطها. فلقد مُنيت فرنسا، القوة الدولية الرئيسية في جنوب الصحراء والساحل بإفريقيا، بعدة نكسات فيما بين 2019 و2021: فشل اللواء المتقاعد، حفتر، في السيطرة على طرابلس بليبيا، وقُتل حليفها الرئيس ديبي في هجوم شنَّته قوات جبهة التغيير والوفاق التشادية التي كانت في جنوب ليبيا تحت رعاية حفتر وشاركت في هجومه على طرابلس مقابل التسليح والتدريب والتمويل. هذه الإخفاقات الفرنسية يقابلها صعود في النفوذ الروسي، فلقد أشرفت قوات فاغنر الروسية المتحالفة مع حفتر على المعارضة التشادية بجنوب ليبيا، والملاحظ أن قوات فاغنر تكاد تحيط بتشاد من جميع الجوانب، فيوجد ألفان من عناصرهم في ليبيا، وثلاثمئة بالسودان، وأربعمئة وخمسون بجمهورية إفريقيا الوسطى، وعدد غير محدد في غينيا وجمهورية الكونغو ورواندا وأنغولا وبوتسوانا وموزمبيق ومدغشقر وزيمبابوي. وقد يؤشر ذلك إلى سعي روسيا إلى تعزيز وجودها في إفريقيا على حساب القوى الغربية التقليدية، وقد يحدث لذلك تلاقي مصالح بينها وبين قوى المعارضة التشادية المسلحة ولو بعد حين.

تعاني المعارضة من جوانب هشاشة عديدة، فلقد تميزت بكثرة الانشقاقات، وبالتوزع بين عدة دول: السودان وليبيا وإفريقيا الوسطى. ليست جبهة الوفاق من أجل التغيير في التشاد استثناء؛ فلقد نشأت في ليبيا من انشقاق عن اتحاد القوات من أجل الديمقراطية والتنمية. هذه الانشقاقات تضعف قوات المعارضة وتجعل فصائلها تخشى بعضها البعض وقد يسعى بعضها إلى تحصيل تنازلات من النظام التشادي مقابل الامتناع عن شنِّ هجمات عسكرية عليه.  

تفتقد المعارضة التشادية المسلحة الدعم الخارجي. نجحت عمليات إسقاط النظام التشادي في السابق بدعم ثلاث دول: ليبيا والسودان وفرنسا. لا تتمتع المعارضة المسلحة حاليًّا بهذا الدعم. تعاني ليبيا من نزاع داخلي استنزف قوتها، ويعد خليفة حفتر الذي يسيطر على جنوب ليبيا المتاخم لتشاد حليفًا للرئيس ديبي، ويعاني السودان أيضًا من مشاكل داخلية حادة، وظل ملتزمًا باتفاق حسن الجوار الذي اتفق عليه الرئيس السوداني السابق، عمر البشير، والرئيس ديبي، وأما فرنسا فتدعم علنًا المجلس العسكري وتلمِّح إلى استعمال القوة للدفاع عنه.

من المستبعد استفادة المعارضة المسلحة من المعارضة السياسية للإطاحة بالمجلس العسكري، رغم اتفاقهما على اعتبار توليه السلطة انقلابًا على الدستور، لأن المعارضة السياسية هي أشد ضعفًا من المسلحة ولا توجد للمعارضتين هيئة مشتركة للتنسيق، وقد تأكد ضعف المعارضة السياسية في تمكن الرئيس ديبي من البقاء بالسلطة ثلاثة عقود. 

بين إحكام القبضة والانهيار

تواجه تشاد ثلاث وضعيات محتملة: نجاح المجلس العسكري في إحكام سيطرته وصدِّ هجوم المعارضة المسلحة، أو التوصل إلى تسوية على تقاسم السلطة بينه وبين القوى المناوئة له، أو حدوث نزاعات حادة بين مكوناته تدفعه إلى الانهيار.

  •  حكم عسكري جديد: ينجح المجلس العسكري في السيطرة على الحكم لعدة عوامل: قائده محمد يستغل انتماءه لعشيرة زغاوة من جهة أبيه وعشيرة القرعان من جهة أمه لكسب ولاء العشيرتين والاستعانة بأفرادهما المتغلغلين في مفاصل الدولة لإحكام قبضته. علاوة على أن من مصلحة فرنسا دعم محمد الذي تعاونت معه سواء ميدانيًّا في مالي أو مؤسساتيًّا بحكم توليه رئاسة جهاز أمن مؤسسات الدولة (المعروف إعلاميًّا بالحرس الرئاسي)، ومن مصلحتها أيضًا الحرص على تماسك القيادات العسكرية التشادية حتى تظل تشاد ملتزمة بدعم عملية برخان الفرنسية. وقد يوافق المجلس العسكري على تقديم تنازلات شكلية للمعارضة السياسية حتى تعطي شرعية لعملية انتقال السلطة، ويخفف من طابعها الانقلابي. 

قد يعزز من احتمالات تحقق هذا السيناريو توقف هجوم جبهة التغيير والوفاق؛ ما يعطي المجلس العسكري الفرصة لإعادة تنظيم صفوفه، والاستعداد لرد الهجوم، وطلب المساعدة الخارجية الفرنسية، ويبدو أنه حصل عليها، كما تشير كلمة الرئيس ماكرون في حفل تأبين ديبي.

  • سيناريو التسوية: تستأنف جبهة الوفاق من أجل التغيير في التشاد هجومها وقد تحشد إلى جانبها قوة مسلحة أخرى وتتمكن المعارضة السياسية التشادية من تنظيم مظاهرات وإضرابات واسعة تنديدًا بحكم المجلس العسكري، فيضطر إلى تقاسم السلطة مع المعارضة المسلحة والمعارضة السياسية، ويكون انتقالًا شبيهًا بانتقال السودان. يحول دون تحقق هذا السيناريو أن المعارضة المسلحة والمعارضة السياسية متشظيتان، وليستا قادرتين على ترجيح موازين القوى لصالحهما، منفردتين أو مجتمعتين.  
  • سيناريو الانهيار: تقع نزاعات شديدة بين أفرع عائلة الرئيس ديبي، وبين العشائر الرئيسية، زغاوة والقرعان والتبو، وتمتد النزاعات بين قادة الجيش على موالاة أفرع العائلة المتنازعة أو على الاصطفافات الإثنية، وقد ينزع بعض قادة الجيش إلى الالتحاق بجماعات المعارضة المسلحة كما حدث مرارًا في السابق، فتنتهز جماعات المعارضة المسلحة الفرصة وتكثف هجماتها على العاصمة نجامينا، وتتمكن من الاستيلاء على السلطة.
  • والعامل المرجح في كل هذه السيناريوهات هو تماسك عائلة ديبي والمؤسسات الأمنية والعسكرية. ويبدو أن السيناريو الأول هو الأكثر رجحانًا.