هبة المقدسيين والصراع على القدس ومآلاته

لا يزال الصراع على الهوية في القدس حيًّا والمدينة مرشحة لأن تشهد جولات تصعيد في المستقبل، لأن إسرائيل تتجه سياسيًّا بخطى ثابتة إلى أقصى اليمين الذي لا يرى إمكانية للتفاوض مع الفلسطينيين حول مصير القدس، وليس أمام الفلسطينيين إلا الاستمرار في المواجهة.
20 May 2021
أبرز مفجِّر لتحركات المقدسيين ضد الاحتلال كان المسجد الأقصى بما له من مكانة روحية، وللثورة على الأوضاع الصعبة بالقدس (رويترز).

شهدت فلسطين "التاريخية" بحدودها الانتدابية هَبَّة كانت القدس عنوانها، وتخَلَّلها تصعيد عسكري في غزة؛ الأمر الذي يطرح تساؤلات حول خلفيات ما يجري في المدينة من صراع في الديمغرافيا والهوية الاجتماعية والدينية والوطنية، لأن الصراع حول هذه المفاهيم وحقائقها وتداعياتها على الأرض، هو ما أوصل الأوضاع في المنطقة لهذا الانفجار. تراجع الورقة وضعية مدينة القدس ومآلها المستقبلي من خلال هذه العناوين، مع إضاءة موجزة حول السياق الذي أدى إلى هذه الهبَّة.

سياق هَبَّة القدس

شهدت مدينة القدس مع بداية شهر رمضان 2021 (13 أبريل/نيسان 2021)، تطورات متسارعة بدأت بمحاولة الاحتلال ترحيل 28 عائلة لاجئة من حي الشيخ جراح شمالي القدس، في مشهدٍ ذكَّر الفلسطينيين بفكرة التطهير العرقي التي واجهها منذ النكبة، مرورًا بصدامات بين شرطة الاحتلال ومستوطنيه والشباب المقدسي في باب العامود، يوم 10 رمضان (22 أبريل/نيسان 2021)، لتصل ذروتها يوم 28 رمضان (10 مايو/أيار 2021) عندما حاولت ما تسمى "جماعات المعبد المتطرفة" اقتحام المسجد الأقصى، فردَّت المقاومة الفلسطينية في غزة بقصف القدس بالصواريخ لأول مرة منذ 2014.

وشهدت شوارع مدن وبلدات الخط الأخضر احتجاجات من فلسطينيي أراضي عام 1948، وكذلك في الضفة الغربية حيث اشتبك الفلسطينيون مع الاحتلال على امتداد نقاط التماس، في مشهد أعاد للأذهان أحداث انتفاضة الأقصى عام 2000، ودخلت غزة في حرب رابعة مع الاحتلال، وضعت فيها حماس كل المدن الإسرائيلية كافةً تحت النار لأول مرة بهذا الحجم منذ إنشاء الدولة. وتوسعت الأحداث حتى عمَّت كل فلسطين "الانتدابية"، في مشهد نادر ذابت فيه الفروق بين مكونات الشعب الفلسطيني الذي سعت إسرائيل على مدى ثلاثة وسبعين عامًا لتقطيعه إلى هويات وكيانات ترتبط بقوانين متفاوتة، وأوضاع واحتياجات متباينة بشكل كبير.

وبالنظر إلى سياق الأحداث، فإن ما حصل لم يكن أزمة عارضة مع الحكومة الإسرائيلية، وإنما كان يقع ضمن سياق استراتيجي عملت فيه حكومة بنيامين نتنياهو على محاولة وضع قرار إدارة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل موضع التطبيق، مع استغلال "اتفاق أبراهام" الذي ضمن لإسرائيل حلفًا ما، مع دول عربية، لاسيما أن بعض هؤلاء تغاضى أو تماهى مع الرؤية الإسرائيلية في القدس(1). ويمكن فهم انطلاق الأحداث من حي الشيخ جراح في هذا الوقت بالذات باعتباره يشكِّل وفق وجهة النظر الإسرائيلية، الخاصرة الأضعف في شمال القدس، ولأن الحديث يدور حول 28 منزلًا فإن هذا -بالاعتقاد الإسرائيلي- قد يخفِّف أثر عملية التطهير العرقي فيه، إضافةً إلى الصمت العربي العام عمَّا يجري في المسجد الأقصى. هذا جميعًا شجَّع حكومة نتنياهو على محاولة التقدم في نفس الوقت خطوة للأمام في تنفيذ اقتحام 28 رمضان، بما يؤدي إلى البدء بإجراءات عملية لتغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى، فكان الرد الفلسطيني شاملًا ومساويًا لمكانة المدينة ومسجدها. إلا أن الصراع في مدينة القدس بكل ما تملكه من رمزية ومكانة دينية وتاريخية ليس مؤقتًا بالأوضاع الحالية، وإنما يعود إلى فترة الاحتلال نفسها وطبيعة الإجراءات التي اتخذتها السلطات الإسرائيلية تجاه سكان القدس وعملت عليها طوال أكثر من خمسين عامًا، إضافة إلى الوضع الذي تعيشه مدينة القدس حاليًّا.

القدس: الجغرافيا والسياسة

اختلف مفهوم مدينة القدس من الناحية الإدارية والسياسية عبر تاريخها الطويل باختلاف طبيعة الحكم الذي مرَّ عليها، إلا أن اختلاف المفهوم لم يكن في أية فترة تاريخية بعيدًا عن حدود سور المدينة تبعًا لشكل ومفهوم المدن القديمة وعناصرها التي كان أهمها السور. لكنها بدأت تخرج من البلدة القديمة المسوَّرة مع نهاية فترة الحكم العثماني؛ حيث بلغت مساحة الحدود البلدية للقدس في ذلك الوقت حوالي 13 كيلومترًا مربعًا(2). وكانت حدود البلدية في ذلك الوقت تمتد لتشمل حي الشيخ جراح شمالًا وحي البقعة إلى الجنوب الغربي ومنطقة مستشفى "شاعري تصيدق" اليهودية غربًا. وكان عدد الأحياء التي بُنِيت خارج حدود البلدة المسورة خلال تلك الفترة يبلغ 102، منها 24 حيًّا فلسطينيًّا أو مختلطًا، و78 حيًّا يهوديًّا(3).

ومع بداية حرب عام 1948 وإعلان دولة الاحتلال، سيطرت قوات الهاغاناه(4) الصهيونية على كامل القسم الغربي لمدينة القدس بعد أن ارتكبت مجموعة من "المذابح" بحق سكان القرى والأحياء العربية في تلك الجهة كان أشهرها "مجزرة دير ياسين". وكانت هذه المرة الأولى التي تقسم فيها مدينة القدس إلى قسمين: شرقي، وغربي، حيث كانت مساحة الجزء الغربي الذي تم احتلاله في ذلك الوقت تبلغ نسبة 85% تقريبًا من مساحة بلدية القدس الكاملة في العهد البريطاني(5). بينما بقي القسم الشرقي من المدينة بيد القوات الأردنية.         

في صبيحة يوم 7 يونيو/حزيران 1967، تمكنت قوات الاحتلال من السيطرة على الجزء الشرقي من مدينة القدس، وأصبحت المدينة كاملة تحت سلطة الاحتلال، وتحاول دولة الاحتلال في أدبياتها تقديم هذا الاحتلال على أنه توحيدٌ لشطري المدينة الموحدة تحت السلطة الإسرائيلية. وتستعمل في الإشارة إلى ذلك الحدث بيوم "توحيد القدس". وكان أول ما قامت به سلطات الاحتلال بعد عشرين يومًا فقط من احتلال الشطر الشرقي من مدينة القدس، أي في يوم 27 يونيو/حزيران 1967، إصدار تشريع عن الكنيست (البرلمان) الإسرائيلي يقضي بتوحيد شطري القدس تحت السيادة الإسرائيلية(6). وتبع ذلك (29 يونيو/حزيران 1967) إزالة وتدمير جميع الحواجز العسكرية التي كانت تفصل بين شطري المدينة بين عامي 1948 و1967 في إشارة واضحة إلى توحيد المدينة، وشهدت مدينة القدس توسعات في حدود البلدية الإسرائيلية بدءًا من ذلك العام لتصبح حدود البلدية كاملة تغطي مساحة حوالي 126 كيلومترًا مربعًا هي حدود البلدية الرسمية حتى اليوم(7).

ولكن الاحتلال لم يوسِّع الحدود الشرقية للمدينة كثيرًا في الأحياء والقرى العربية الشرقية حرصًا على عدم ضم الكتلة الفلسطينية التي تقع في قريتي (أبو ديس) و(العيزرية) إلى حدود القدس لتقليل نسبة السكان الفلسطينيين داخل حدود البلدية. ومن الضروري الإشارة إلى أن كامل هذه التوسعات والضم كانت تتم في أغلبها في شرقي القدس في الأراضي غير المطورة عمومًا، وذلك كرصيد واضح لصالح المستوطنات التي تنتشر في المنطقة(8). علمًا بأن القسم الشرقي من مدينة القدس يتبع بالكامل بلدية الاحتلال، وتعامله البلدية الإسرائيلية بنفس القوانين التي تجري على القسم الغربي، مع فارق واحد في كيفية تطبيق القوانين؛ إذ إنها تميل في العادة لتطبيق قوانين البناء والتنظيم بشكل أكثر صرامةً -وعنفًا أحيانًا- في الأحياء الشرقية التي يسكنها الفلسطينيون.

فلسطينيو القدس

إن الضم الأول لشرقي القدس، عام 1967، تم قانونيًّا للأرض دون للسكان، فاعتبرت إسرائيل الأرض جزءًا من الدولة، فيما اعتبرت السكان الفلسطينيين "مقيمين" داخل المناطق التي تم ضمها، لا مواطنين. وهذا الأمر حوَّل المقدسيَّ صاحب الأرض في لحظة إلى أجنبي مقيم داخل دولة لا يملك فيها أية حقوق؛ حيث إن إسرائيل منحت المقدسيين بطاقة الهوية الإسرائيلية المدنية الصادرة عن وزارة الداخلية الإسرائيلية، لكنها اعتبرت أن هذه البطاقات هي بطاقات إقامة وليست بطاقة مواطنة(9)، فبقي المقدسيون يحملون جوازات السفر الأردنية حتى بعد قرار فكِّ الارتباط بين الأردن والضفة الغربية، عام 1988، الذي جرَّدهم من الجنسية الأردنية، كما أن تأجيل موضوع القدس إلى مفاوضات الحل النهائي في اتفاقية أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية منع السلطة الوطنية الفلسطينية من الحصول على أية صلاحيات إدارية على المقدسيين.

والتكييف المتعلق بالهوية لدى المقدسيين بالتالي معقد، فهم فلسطينيون، يحملون بطاقة الهوية/الإقامة الإسرائيلية، وجوازات سفر أردنية. والأردن يعتبرهم مواطنين فلسطينيين بحكم قرار فك الارتباط، وبينما تعتبرهم السلطة الفلسطينية تحت السلطة الإسرائيلية بحكم واقع الاحتلال واتفاقية أوسلو، وفي نفس الوقت تعتبرهم إسرائيل مواطنين أردنيين مقيمين فيها. فهم أردنيون فلسطينيون إسرائيليون، وفي نفس الوقت ليسوا قانونيًّا أردنيين ولا فلسطينيين ولا إسرائيليين، وهذه معضلة في الهوية لا يزال المقدسيون يعيشونها باستمرار. كما أن المقدسيين يعانون من قيود كثيرة بسبب هذا التوصيف القانوني الإسرائيلي لهم، فباعتبارهم مقيمين في الدولة، يمكن للحكومة الإسرائيلية سحب بطاقة الإقامة من أي مقدسي وحرمانه من السكن في القدس في حالات كثيرة منها إثبات إقامته خارج حدود بلدية القدس مدةً تتجاوز 3 سنوات! بل وترفض سلطات الاحتلال مثلًا تسجيل المواليد في القدس ومنحهم بطاقة إقامة فيما لو ثبت أن أحد الوالدين في لحظةِ ولادة المولود كان خارج حدود بلدية القدس(10).

وفيما يتعلق بأعداد المقدسيين، فقد بيَّنت الإحصائيات الإسرائيلية لعام 2018 أن عدد سكان شرقي القدس من الفلسطينيين ضمن الحدود البلدية الإسرائيلية بلغ حوالي 345 ألف مقدسي، تصل نسبتهم في القدس بشطريها إلى 38%، علمًا بأن هذه الإحصائيات تشمل حَمَلة الهوية الإسرائيلية في القدس ولا تأخذ بالاعتبار وجودهم داخل أو خارج جدار الفصل الذي بدأ بناؤه عام 2003(11)، فهؤلاء الأخيرون قد يكونون عرضة لسحب بطاقات الهوية منهم إذا ما تم تعديل حدود بلدية القدس، أي إذا أصبحت مطابقة لمسار الجدار الفاصل.

فبين عامي 1970 و1972، وعندما كانت نسبة المقدسيين في القدس تصل إلى حوالي 26% قدَّمت لجنة (غافني) المشَكَّلة من الحكومة الإسرائيلية توصياتها للحكومة بضرورة العمل على ألا تزيد نسبة المقدسيين على 30% منذ اعتماد هذه التوصية عام 1974. لكن نسبة المقدسيين استمرت في الارتفاع، لتصل عام 2000 إلى 32%، فعادت بلدية القدس في مخطط مشروع القدس الهيكلي لعام 2020 (المصطلح عليه باسم مشروع "القدس 2020") لتعتمد توصية جديدة بالعمل على أن يكون هدف المخطط الهيكلي لبلدية القدس ألا تصل نسبة المقدسيين حتى عام 2020 إلى 40% أو قريبًا منها(12). وذلك من خلال فرض قيود كثيرة تضطرهم للخروج من القدس، منها على سبيل المثال منع المقدسي من ترميم منزله أو البناء أو التوسع فيه دون ترخيصٍ من بلدية الاحتلال، وتضع البلدية لذلك شروطًا كثيرة ومبالغ طائلة تصل إلى 30 ألف دولار للرخصة الواحدة، مع الانتظار فترات قد تصل إلى 5 سنوات لإعطاء قرار بالموافقة أو الرفض، بما يضطر المقدسي للبناء دون ترخيص، فيتم هدم منزله ويضطر بالتالي للسكن خارج المدينة، فتُسحب منه بطاقة الإقامة.

وحسب تلك الإحصائيات، فإن نسبة المقدسيين وصلت إلى 38% عام 2018(13)، وذلك بنسبة اختلال (وزيادة سكانية عربية) لا تتجاوز 0.8% لكل عام. بمعنى أنه حسب هذه الأرقام، فإن نسبة المقدسيين حاليًّا عام 2021 في القدس يُفترض أن تكون قد وصلت إلى حوالي 39.7% وتستمر بالزيادة بانتظام. وهذا ما يعني أن الهدف الإسرائيلي بتخفيض نسبة السكان المقدسيين في القدس لا يتحقق فعليًّا، وهو ما يجعل الاحتلال يضغط باستمرار ناحية اتخاذ أساليب متطرفة في تخفيض نسب المقدسيين كقضم المناطق المختلفة أو إخراجها من حدود البلدية ومنع المقدسيين من التصرف بحرية في الأراضي التي تتبع مناطق وجودهم بحيث يتم دفعهم باستمرار للنزوح خارج المدينة والابتعاد عنها، وبالتالي تقليل نسبتهم فيها، بالرغم مما يظهر من عدم نجاعة هذه الإجراءات فعليًّا.

كما أن الاحتلال يسعى في هذا الصدد إلى منع تكوين هوية سياسية واضحة للمقدسيين في القدس، فعدم وجود سلطة فعلية تحكم المقدسيين -غير سلطة الاحتلال- يعني أن المقدسيين فيها يعيشون بلا ممثل سياسي سواء من الأحزاب أو القوى السياسية الموجودة في الضفة الغربية وغزة وحتى داخل الخط الأخضر، وهو بذلك يسعى إلى تشكيل فراغ سياسي في القدس يمنع منحها هويةً سياسيةً واضحةً ويجعلها تابعةً بالكامل للسلطة الإسرائيلية، ويمنع المقدسيين من وجود تمثيل سياسي بما يمكن أن يشكِّل مرجعيةً قياديةً لهم، ويجعل إسرائيل الممثل الوحيد للمقدسيين، ولعل هذا هو سبب إصرار الاحتلال على منع دخول القدس ضمن منظومة الانتخابات الفلسطينية التي كانت مزمعة في مايو/أيار 2021.

صراع الهوية والمقدسات

إن هدف إسرائيل من الناحية الجغرافية والديمغرافية في مدينة القدس هو فرض الوجود والهوية اليهودية بالكامل على المدينة، بحيث تصبح هذه المدينة للناظر إليها مدينة يهودية الطابع، ويمكن القول: إن مركز الفضاء الديني والاجتماعي الذي يبيِّن الرؤية التي تسيطر على المدينة يتلخص في المسجد الأقصى والبلدة القديمة بشكل أساسي، وهنا يمكن القول: إن إسرائيل في الحقيقة فشلت في هذا المسعى حتى هذه اللحظة.

ذلك أن الناظر إلى مدينة القدس من جهة الشرق أول ما يستوقفه مباشرة هو مشهد المسجد الأقصى الذي يسيطر على الفضاء البصري لمدينة القدس بشكل كبير، وبالتالي فإن تغيير هوية القدس من وجهة نظر الاحتلال يستدعي بشكل كبير السيطرة على الفضاء الذي يمثله المسجد الأقصى ومن ثم كنيسة القيامة. وقد فشلت محاولات الاحتلال لإقحام معالم إسرائيلية يهودية في واجهة المدينة، مثل "كنيس الخراب" الذي بُني عام 2009(14)، لكي تكسر المشهد العام للمدينة التي تظهر بشكلها الإسلامي والمسيحي بشكل واضح. ولذلك، فإن غالبية المساعي التي تقوم بها دولة الاحتلال في هذا الصدد تتركز حول المسجد الأقصى سواء من الناحية السياسية أو من الناحية الديمغرافية.

وفيما يتعلق بالناحية الديمغرافية، فإن إسرائيل تسعى إلى كسر الطوق الشعبي العربي الفلسطيني الذي يحيط بالمسجد ويحميه من أي تغييرات جوهرية في بنيته وشكله وهيئته -بما ينعكس على الفضاء البصري والروحي والسياسي للمدينة ككل- ويؤمِّن له بقاء صورته ورمزيته باعتباره واجهة المدينة.

وهذا الأمر يتم فعليًّا من خلال محاولات الاختراق الإسرائيلية لطوق الأحياء العربية في القدس، سواء من خلال البؤر الاستيطانية حول المسجد الأقصى في البلدة القديمة، أو في الأحياء القريبة منها، مثل سلوان وحي الشيخ جراح ورأس العمود وجبل الزيتون وغيرها، أو بمحاولة كسر الوجود الفلسطيني بالكامل في بعض هذه الأحياء، كما يجري حاليًّا في حي الشيخ جراح الذي يشكِّل حلقة الوصل بين الأحياء الشمالية الكبرى في مدينة القدس مثل العيسوية وشعفاط وبيت حنينا من ناحية، والبلدة القديمة من ناحية أخرى. وهذا الذي يفسر الإصرار الإسرائيلي منذ سبعينات القرن الماضي على السيطرة على هذا الحي بالذات من بين الأحياء الشمالية في المدينة؛ حيث إن السيطرة عليه تضمن فصل كافة الأحياء الأخرى الشمالية المذكورة أعلاه بالكامل عن المسجد الأقصى الذي يقع في قلب الرؤية التهويدية للمدينة "المقدسة"، ونفس الشيء يمكن قوله عن حي سلوان في الجنوب، والذي يمثل الرابط بين المسجد الأقصى والبلدة القديمة من ناحية، والأحياء الجنوبية الكبرى في القدس كحي الثوري وجبل المكبر وصور باهر، من ناحية أخرى.

إضافة إلى ذلك، فإن المسجد الأقصى نفسه يتعرض إلى عملية تغيير للوضع الراهن باستمرار من خلال الإجراءات الإسرائيلية التي انطلقت منذ عام 1967 أثناء الاحتلال حتى اليوم. وهذه الإجراءات تتلخص في تغيير الشكل العام للمسجد الأقصى عن طريق الدخول كشريك في إدارة المسجد وبالتالي كشريك كامل في السيادة عليه، وبالتالي كسر السيادة الإسلامية التي تمثلها دائرة الأوقاف الإسلامية التابعة لوزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية في الأردن. وتعتبر الاقتحامات المتوالية للمسجد الأقصى أهم أسلحة دولة الاحتلال في فرض واقع جديد فيه، بحيث يتحول الوجود اليهودي داخل المسجد، والذي تشكِّله ما تسمى بجماعات المعبد المتطرفة، إلى وجود طبيعي.

وضمن كل هذه المعطيات، فإن دخول القدس في مواجهة مع سلطة الاحتلال كان على الدوام مسألة وقت؛ حيث شكَّلت الأحداث الأخيرة لحظة الذروة لكل ما سبق من إجراءات إسرائيلية حاولت سلب القدس هويتها وسلب المقدسيين حقهم في الوجود على أرضهم. ولذلك، كان من الطبيعي أن يدخل المقدسيون في مواجهة مع الاحتلال على عدة صعد اجتماعيًّا وديمغرافيًّا ودينيًّا، وصادف أن اجتمعت هذه العوامل الثلاث في ثورة المقدسيين على محاولة المس بصورتهم الاجتماعية في أحداث 10 رمضان في باب العامود، وثورتهم على محاولات الترحيل والتغيير الديمغرافي في حي الشيخ جراح، وثورتهم على محاولة المس برمزيتهم الدينية في أحداث 28 رمضان في المسجد الأقصى.

التطورات الأخيرة وسيناريوهات المستقبل

ضمن جميع هذه المعطيات، فإن من الطبيعي أن تتجه الأوضاع في مدينة القدس نحو التأزيم، حيث غالبًا ما كانت القدس مركزًا لأزمات كثيرة مع الاحتلال تغذيها مكانة المدينة "المقدسة"، ولعل أبرز محطات التأزيم تلك في القرن الحالي كانت انتفاضة الأقصى التي انطلقت نهاية عام 2000 من المسجد الأقصى.

على أن العشرية الثانية من القرن الحالي شهدت تحولًا نوعيًّا في طبيعة الحراك في القدس ضد الاحتلال، ويمكن القول: إن ذلك جاء بأثر مما بات يُعرف بالربيع العربي، الذي شهد فيه المقدسيون إمكانية لدى الشعوب العربية لإسقاط أنظمة وتغيير واقع، بغضِّ النظر عن نتائج "الثورات المضادة" التي تلت ذلك. وكما يمكن القول: إن الأوضاع السياسية الصعبة التي يمر بها المقدسيون تعتبر وقودًا للغضب الشعبي العارم في القدس بما يجعله مؤهلًا للتحرك ضد الاحتلال، فإنه يمكن القول: إن أبرز مفجِّر لشرارة التحركات المقدسية ضد الاحتلال كان على الأغلب المسجد الأقصى بما له من مكانة رُوحية.

وإذا رسمنا خريطة عامة للحراك المقدسي في الدفاع عن المسجد الأقصى والثورة على أوضاعه الصعبة في القدس، فإنه يمكن ملاحظة أن الأوضاع السكانية للفلسطينيين في القدس أصبحت في العشرية الثانية من هذا القرن تميل إلى التصعيد الشعبي على شكل هبَّات جماهيرية تحدث على فترات تتراوح ما بين سنة ونصف إلى سنتين تقريبًا بين الهبَّة والأخرى. بدأ ذلك فعليًّا منذ هبَّة الفتى محمد أبو خضير (الذي قُتل تعذيبًا على أيدي مستوطنين) عام 2014، لتتصاعد في انتفاضة السكاكين بالقدس عام 2015، ثم هبَّة باب الأسباط والبوابات الإلكترونية عام 2017، ثم هبَّة باب الرحمة عام 2019#a15(15)، لتصل أخيرًا إلى هبة باب العامود وأحداث 28 رمضان عام 2021. ولدى دراسة هذا النسق في الحراك الشعبي في القدس فإنه يلاحَظ أنه بدأ فعليًّا يأخذ هذا الشكل المتتالي بعد ضرب عملية "الرباط" التي كانت ترعاها عدة مؤسسات تابعة للحركة الإسلامية الشمالية داخل الخط الأخضر، عام 2014، حيث تم إغلاق هذه المؤسسات (التي كانت تعمل على إبطاء التحركات الإسرائيلية في حق المسجد الأقصى وبالتالي الأحياء المحيطة بالبلدة القديمة ما بين عامي 2003 حتى 2013)؛ ما جعل المسجد مكشوفًا ونقل المسؤولية في الدفاع عنه والتعامل مع الإجراءات الإسرائيلية للأفراد والمجتمع المقدسي مباشرة.

وبالنظر إلى شكل وطبيعة المواجهة التي بدأت في القدس في رمضان عام 2021، فإن الأوضاع في القدس قد تتجه للتصعيد على مدار الشهور القادمة، بما يحوِّل المدينة إلى أزمة حقيقية في قلب إسرائيل، وفي هذا الصدد يمكن رسم ثلاثة سيناريوهات يمكن أن تجري ضمنها الأحداث:

  1. تصعيد شعبي متتالٍ يأخذ مسارًا متقاربًا أكثر وأكثف من السنوات الماضية بحيث يؤدي إلى تحويل مدينة القدس بالنسبة للاحتلال إلى مكان غير صالح للبقاء، ويؤدي في النهاية إلى انسحابٍ أحادي الجانب من القسم الشرقي من القدس أو قسم منه، وضمها لمناطق السلطة الفلسطينية، مع بقاء السيطرة الإسرائيلية على غور الأردن، بمعنى إعطاء صورة تحررية غير كاملة للمدينة مع إخفاء كافة المظاهر العسكرية الإسرائيلية من الأحياء العربية في المدينة، وقد يترافق هذا الانسحاب مع انسحاب من جغرافية أخرى بشكل يعتمد على نقاط التحدي والاحتكاك مع الاحتلال.
  2. نجاح اليسار الإسرائيلي أو أحزاب الوسط في لجم اليمين المتطرف في سبيل الحفاظ على الوجود الإسرائيلي في القدس، ومن ثم نجاحه في تخفيف الضغط في المدينة. هذا السيناريو سيؤدي إلى استمرار عملية الاستنزاف والتصعيد ثم التخفيف من الإجراءات بما يطيل الوجود الإسرائيلي في المدينة لعدة سنوات قادمة، مع استمرار حالة الشد والجذب سنويًّا في المدينة ريثما تتوافر ظروف ملائمة لانفجار مواجهة جديدة بحجم أكبر.
  3. احتمال التحول إلى حالة شاملة (انتفاضة) تقلب الأوضاع في كافة مناطق الضفة الغربية، ويبدو هذا الاحتمال أضعف الاحتمالات حاليًّا باعتباره يتطلب قرارًا على مستوى قيادة السلطة الوطنية الفلسطينية أو تغييرًا في نهج السلطة.

وبين هذه السيناريوهات يبدو السيناريو الأول هو الاحتمال الأقرب للحصول على المدى البعيد؛ إذ قد تتجه الأمور بعد هذا التصعيد للهدوء التدريجي في القدس وبقية المناطق الفلسطينية، ولاسيما غزة. غير أن دخول المقاومة الفلسطينية على خط المعادلة في القدس سيعني بالضرورة احتمال تجدد المواجهات وتسارعها أكثر في الفترات القادمة بشكل يعكس ثقة الشارع المقدسي بوجود جهة تُسنده في أية مواجهات قادمة، بما يجعل المجتمع الإسرائيلي يفكر جديًّا في كيفية التخلص من الثقل الذي تمثله هذه المدينة بقسمها الشرقي المليء بالمشاكل، مع المحافظة على إمكانية وصول اليهود للمواقع التي يعتبرونها مواقع مقدسة لهم في البلدة القديمة، مع الأخذ بالاعتبار صعوبة عودة الأوضاع إلى ما قبل 28 رمضان عام 2021 في القدس ومختلف المناطق الفلسطينية. وهذا السيناريو يمكن ترجيحه مع استمرار اليمين الإسرائيلي في الحكم؛ حيث لا يُرجَّح في الوقت الحالي نجاح اليسار الإسرائيلي أو أحزاب الوسط في السيطرة على مقاليد القرار في إسرائيل تبعًا للمزاج الشعبي العام في إسرائيل الذي يميل لليمين باستمرار. كما أن خيار التغيير في قيادة السلطة الفلسطينية بما يغيِّر طبيعتها ونهجها، لا يعتبر حاليًّا خيارًا مرجحًا على المدى القريب، وإن كان ممكنًا على المدى البعيد مع تصاعد الأحداث مستقبلًا في القدس.

خاتمة

يبدو أن الأمور في القدس ستكون بعيدة عن الهدوء في الفترة القادمة؛ حيث مثَّلت الأحداث الحالية حالة شعبية استطاع فيها الشعب الفلسطيني تغيير المعادلات والانطلاق إلى أفق العمل المتكامل بين مناطق وجوده المختلفة مع اتخاذ القدس مركزًا لعملية المواجهة. وهذا يعني أن ما حدث في المواجهة الأخيرة سيعيد وضع القدس في صدارة القضايا المطروحة على الطاولة سياسيًّا، ولعل هذا سيكون محركًا لإعادة القدس على طاولة المفاوضات ومحاولة تخفيف الاحتقان فيها. والثابت في كل ذلك أن خطة "إزاحة القدس عن الطاولة" التي ردَّدتها إدارة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، ضمن خطة جاريد كوشنر للسلام أصبحت من الماضي.

(هذه الورقة من ملف: هَبَّة الفلسطينيين والحرب على غزة 2021)

ABOUT THE AUTHOR

References
  1. اتهم نائب الحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني، كمال الخطيب، القيادي المفصول من حركة فتح محمد دحلان، ورجل أعمال إماراتيًّا بالضلوع في محاولات تسريب عقارات مقدسية لإسرائيل والأخير هاجمه وتعهد بملاحقته. انظر النجار، محمد "فضيحة الإمارات وعقارات القدس.. دحلان يهاجم الخطيب والجزيرة"، موقع الجزيرة نت، (تاريخ الدخول 19 مايو/أيار 2021): https://bit.ly/3hPT1cL
  2. انظر:Ruth Kark and Michal Oren-Nordheim, Jerusalem and its environs: quarters, neighborhoods, villages, 1800-1948 (Jerusalem: The Hebrew University Magnes Press, 2001),  p.148
  3. المرجع السابق، ص 156.
  4. انظر: "تعرف على الهاغاناه"، الجزيرة نت، بلا تاريخ، (تاريخ الدخول: 19 مايو/أيار 2021): https://bit.ly/3v1Euy1.
  5. انظر دائرة شؤون المفاوضات-منظمة التحرير الفلسطينية، "موقفنا–القدس"، بلا تاريخ، (تاريخ الدخول: 16 مايو/أيار 2021): https://bit.ly/2RTpJ1M  
  6. انظر الدجاني، برهان وآخرون، "الكتاب السنوي للقضية الفلسطيني لعام 1967"، بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1969، ص 511.
  7. انظر: The Central Bureau of Statistics (Israel), Press Release no. 106/2006, “Jerusalem Day”, May 24 2006
  8. انظر: عمر، عبد الله معروف، "المدخل إلى دراسات بيت المقدس"، عمَّان: مؤسسة الفرسان، 2018، ص 52.
  9. انظر: الهندي، عليان، "مكانة الشعب الفلسطيني بعد الضم"، مجلة الدراسات الفلسطينية، (125: شتاء 2021)، ص 88-89.
  10. هذه النقطة هي نتاج تجربة شخصية مع الكاتب؛ حيث رفضت وزارة الداخلية الإسرائيلية منح ابن كاتب الورقة بطاقة إقامة في القدس لأنها تمكنت من إثبات أن الوالد كان في لحظة الولادة خارج حدود بلدية القدس لأنه كان في الحج.
  11. انظر Korach, Michal and Choshen, Maya, Jerusalem: Facts and Trends 2020, Jerusalem: The Jerusalem Institute for Policy Research, 2020, pp. 4-6
  12. انظر: محسن، محمد، "الصراع الديمغرافي في القدس: الاحتلال يريد عزل 140 ألف فلسطيني"، موقع العربي الجديد، 15 فبراير/شباط 2021، (تاريخ الدخول: 17 مايو/أيار 2021)، (https://bit.ly/3fufWHp)، وكذلك انظر: يعقوب، هشام، "تقرير حال القدس 2014: قراءة في مسار الأحداث والمآلات"، بيروت: مؤسسة القدس الدولية، 2015، ص 11.
  13. انظر: Korach, Jerusalem: Facts and Trends 2020، مرجع سابق، ص 4.
  14. انظر: عواودة، وديع، "كنيس الخراب يحاكي قبة الصخرة"، موقع الجزيرة نت، 15 مارس/آذار 2010 (تاريخ الدخول: 18 مايو/أيار 2021): https://bit.ly/3fsb31J
  15. انظر الجعبري، كمال، "ورقة علمية: المقاومة الشعبية في القدس: الهبَّات والحِرَاكات وولادة الحالة الشعبية 2012-2019"، موقع مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، مايو/أيار 2021، (تاريخ الدخول: 18 مايو/أيار 2021): https://bit.ly/3bBF8dZ