انتخابات أرض الصومال: دينامياتها المحلية وأبعادها الخارجية

تتناول هذه الورقة بالتحليل ديناميات الانتخابات البرلمانية والمحلية التي شهدتها صومالي لاند، إلى جانب قراءة لنتائج الانتخابات وأبعادها الداخلية والإقليمية، ورصد آفاق ومستقبل العلاقات بين أرض الصومال من جهة وجوارها الإقليمي ومحيطها العربي من جهة ثانية، هذا إلى جانب استشراف المرحلة القادمة من علاقاتها في المنطقة بسبب الانتخابات المرتقبة فيها عام 2022 في الصومال وإثيوبيا.
انفصلت أرض الصومال أو صوماليلاند عن الصومال الأم عام 1991 لكنها لم تحظ باعتراف دولي (الفرنسية)

شهدت جمهورية ما يسمى بـ"أرض الصومال"، انتخابات محلية وبرلمانية في 31 من مايو /أيار الماضي، شارك فيها أكثر من مليون ناخب، وأجريت في دوائر انتخابية جديدة في إقليمي سناغ وسول وهي مناطق متنازع عليها بين ولاية بونتلاند وصومالي لاند. وهو ما سمح بتسجيل ناخبين جدد؛ حيث تم تجهيز ألفين و709 مراكز اقتراع، لانتخابات 246 عضواً للانتخابات المحلية و82 مرشحاً للبرلمان، وتنافس فيها مرشحو ثلاثة أحزاب سياسية (يسمح دستور أرض الصومال بإنشاء 3 أحزاب سياسية فقط)، يبلغ مجموعهم الكلي 798 مرشحاً، من بينهم 28 إمرأة، ترشحت 13 منها للبرلمان و15 لعضوية مجالس البلديات. وشدّت الانتخابات الأخيرة التي انتهت بهدوء دون تسجيل خروقات قانونية أنظار العالم، وهي المنطقة التي تقع في قوس أزمات واضطرابات سياسية وأمنية في منطقة القرن الأفريقي(1).

وعكست الانتخابات البرلمانية والمحلية في أرض الصومال صعوداً جديداً للمعارضة على حساب الحزب الحاكم الذي هيمن على مقاليد السلطة والنفوذ في المنطقة منذ انتخابات عام 2005؛ حيث شهدت أرض الصومال ميلاد أربعة أنظمة سياسية منتخبة، تصدر فيها حزب "كلمية" مرتين صدارة المشهد السياسي، لكن الانتخابات الأخيرة أفرزت انقلاباً في الموازين السياسية والتأثير الداخلي ما قد يسمح لأحزاب المعارضة الوصول إلى سُدة الحكم مستقبلاً.

وتعرج هذه الورقة على ديناميات الانتخابات البرلمانية والمحلية التي شهدتها صومالي لاند، إلى جانب قراءة لنتائج الانتخابات وأبعادها الداخلية والإقليمية، ورصد آفاق ومستقبل العلاقات بين أرض الصومال من جهة وجوارها الإقليمي ومحيطها العربي من جهة ثانية، هذا إلى جانب استشراف المرحلة القادمة من علاقاتها في المنطقة بسبب الانتخابات المرتقبة فيها عام 2022 في الصومال وإثيوبيا.

انتخابات أرض الصومال: قراءة النتائج

مع إعلان اللجنة الوطنية للانتخابات في صومالي لاند للنتائج، أخذت أحزاب المعارضة في الإقليم صدارة المجلس التشريعي، وحصدت 51 مقعداً من أصل 82 من مقاعد البرلمان؛ حيث حصل حزب أوعد (حزب سياسي تأسس عام 2001، بزعامة فيصل علي ورابي العائد من المهجر، وهو أقدم حزب سياسي في أرض الصومال ) على 21 مقعداً، بينما حصد الحزب الوطني (تأسس عام 2012، ويترأسه عبد الرحمن عرو) 31 مقعداً، أما الحزب الحاكم فضمن 30 مقعداً في البرلمان(2).

خاض نحو 246 مرشحاً الانتخابات البرلمانية، وتم ترشيحهم من قبل الأحزاب السياسية الثلاثة في أرض الصومال. وتميزت الانتخابات الأخيرة باستخدام التكنولوجيا المتطورة للتعرف على بصمات العين، المعروفة اختصاراً بـ"IRIS" للحيلولة دون تصويت الناخب أكثر من مرة، والحد من التزوير الانتخابي، الأمر الذي أعطى هذه الانتخابات نزاهة وشفافية بين الأحزاب السياسية في الإقليم(3).

وفيما يلي يوضح جدول نتائج الانتخابات النيابية في صومالي لاند طبقاً للتوزيع الجغرافي للأقاليم:

 

الإقليم (الدائرة الانتخابية )

حزب "كلمية"

الحزب الوطني

حزب "أوعد"

1

سول

5

4

3

2

سناغ

4

5

3

3

تكطير

4

7

4

4

أودل

5

5

3

5

ساحل

4

3

3

6

مروردجيح

8

7

5

المجموع

30

31

21

أما في الانتخابات المحلية، فخاض 552 مرشحاً لضمان مقعد في مجالس البلديات، والتي يبلغ عددها 249 مقعدا من أصل ستة أقاليم بأرض الصومال، وحققت المعارضة فوزاَ في الانتخابات المحلية أيضاً، وهو ما يمكنها من الاستحواذ على إدارة الأقاليم، على أن يذهب نصفها على الأقل لفائدة المعارضة ( حزبي أوعد ووطني)، وهو ما يضيق الخناق على الحزب الحاكم، الذي يتهيأ لخوض جولة جديدة في الاستحقاق الرئاسي أواخر عام 2022، وهي فترة كافية ربما تمكن الحزب الحاكم من سد الثغرات التي أحدثتها الانتخابات البرلمانية والمحلية الحالية.

ما الذي استجد في الانتخابات الأخيرة؟

لعل السؤال الأبرز في سياق هذا التقرير بتمثل في المستجدات التي قلبت موازين المعادلة السياسية في أرض الصومال، والتي يصفها المراقبون بأن الانتخابات البرلمانية قلبت الطاولة على الحزب الحاكم؛ حيث لم يضع في حسبانه إمكانية أن تذهب نصف مقاعد البرلمان وأكثر للمعارضة السياسية التي تقاسمت 51 مقعداً. ويبدو النجاح الذي حققه أحد المرشحين من القبائل المهمشة في صومالي لاند، والتي تعد أقلية في النسيج الاجتماعي في المنطقة، كان ملفتاً للجميع، كما أن مشاركة المرأة في المعترك الانتخابي أضحى ضئيلاً جداً، وتوج حضورها الباهت بثلاثة مقاعد فقط في المحليات دون أن تتمكن 13 من السيدات اللواتي خضن غمار المنافسة البرلمانية من ضمان مقعد على الأقل في البرلمان.

ويمكن تلخيص تلك المستجدات التي طرأت في انتخابات أرض الصومال في المحاور الآتية:

  1. تنامي القومية أمام الحضور القبلي: كلما اتجهنا في الصومال بشكل عام نحو الشمال يبقى حضور القبيلة طاغياً في المشهدين السياسي والاجتماعي، وذلك على حساب الهوية القومية للمجتمع الصومالي، ولم تتمكن السلطات الصومالية من المحيط إلى النهر من تقليل هذا الحضور الهائل للقبيلة خاصة في الشأن السياسي في الإدارات الصومالية مهما كان نظام حكمها السياسي. وتعد قبيلة (الإسحاق) أكثر من نصف السكان وهم الأكثرية في المدن كـ"هرجيسا" العاصمة، و"بربرة" الميناء الرئيسي للبلاد، و"برعو" مركز تجارة الثروة الحيوانية، ويتفرع منها عدد من البطون الفرعية ذات الوزن السياسي والاجتماعي والاقتصادي الثقيل في هذه المنطقة. بينما تعد قبيلة سمرون سعيد (جودبيرسي) أيضاً من القبائل ذات الكثافة السكانية في المنطقة، إلى جانب قبيلة طلبهنتي المنتشرة في الجنوب الشرقي لأرض الصومال على امتداد المدن الحدودية بين بونتلاند وصومالي لاند، ولديهم تأثير سياسي في النظامين الإداري للإقليمين، وأخيراً تأتي قبيلة ورسنغلي التي ينتمي إليها بعض السياسيين والوزراء في صومالي لاند(4).

وأمام هذه الحضور الطاغي علت في الانتخابات الأخيرة أصوات بعض مرشحي الأقليات، وتمكنوا عبر استخدام تأثير وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي من حصد أصوات الناخبين، وعلى سبيل المثال حصل النائب الجديد برخد بتون المنتمي لقبيلة غبوي (تمال) إحدى القبائل المهمشة اجتماعياً في بقاع الصومال، على 22 ألف صوت، ليصبح أكثر مرشح حصد تلك الأصوات، وذلك بفضل الدعاية الانتخابية التي تميزت بها حملة المرشح "برخد" من خلال الترفع عن القبلية، وتكريس شعارات القومية والهوية الوطنية لصومالي لاند، وهو ما أكسب الرجل أصواتا شعبية كثيرة، وأبدت نضجا في تفكير الناخبين في صومالي لاند وتغيير قناعاتهم السابقة لاختيار الأقرب إليهم عشيرة ونسبا. وكانت مدينة هرجيسا العاصمة، بما تمثله من ثقل سياسي ورمزي، حاملة لواء هذا التغيير بانتخابها "برخد" نائبا في البرلمان مع خسارة شخصيات بارزة ومن قبائل وعشائر مرموقة في العاصمة.

واللافت أيضاً أن مرشحين آخرين ترشحوا في مناطق لا تتركز فيها قبائلهم، ومع ذلك حظوا بتصويت شعبي غفير، نتيجة المشاريع السياسية والتنموية التي يحملونها كأجندات ومبادرات سياسية، إلى جانب كفاءاتهم العملية وانجازاتهم الميدانية، وهو ما أكسب بعض النواب إمكانية العودة إلى البرلمان أو لعضوية مجالس البلديات.

ووفق مراقبين، فإن برخد بتون يعد حالة نادرة وفريدة في أرض الصومال، لكنها ليست قابلة في اسقاطها على إطار التعميم، بل يمكن أن يطلق وبشكل عام على التأثير القبلي في المنطقة هبوطاً وصعوداً، لكن يمكن القول إن استخدام رموز وشعارات الهوية الوطنية والقومية في الدعاية الانتخابية لمرشحي الأقليات أو أصحابا الكفاءات، كان لها الأثر البالغ في نفسيات الناخبين، غير أن لجم تأثير القبلية بحد ذاتها في المشهد السياسي في الصومال عامة، وفي أرض الصومال خاصة، يحتاج لجهد أكبر من خلال قولبة الهوية وترسيخ مبادئها في المكون القبلي، الذي يلقن النشء منذ الصغر أبجديات قبيلته من اسمه حتى آخر فخذ من القبيلة التي ينتمي إليها.

  1. ضعف مشاركة المرأة: تواجه المرأة في الصومال على نحو عام تحديات جمة في خوض المعترك السياسي، ورغم أن المرأة في الصومال حُدد لها 24% من مقاعد البرلمان، وتسعى لرفع حصتها في البرلمان القادم لنحو 30%، وذلك من خلال سياسة تخصيص بعض المقاعد البرلمانية للنساء دون غيرها، إلا أن جهود المرأة في أرض الصومال، لتخصيص نسبة مماثلة ومحددة للإناث في المحليات ومقاعد البرلمان، اصطدمت بموجة من التحديات الاجتماعية والسياسية، وبرفض الأحزاب السياسية بعد تقديم مقترح لتحديد نسبة 24% للصوماليات في مناطق صومالي لاند؛ حيث أحيل للشارع الذي ينحاز للرجل دوماً حق البت في هذا القرار أثناء عملية الانتخابات لاختياره من سيمثله ذكوراً أم إناثاً، وهو ما يشي بأن السردية التي تقول إن المرأة هي سيدة بيتها ولا دخل لها في السياسة سردية رائجة فعلاً، وهو ما أفرزته نتائج الانتخابات المحلية والبرلمانية الأخيرة، بفوز ثلاث سيدات في الحصول على مقاعد في الانتخابات المحلية، من أصل 28 إمراة ترشحن للانتخابات، بينما لم تتزين قبة البرلمان بنكهة التنوع، وأصبح مجلساً ذكورياً بامتياز(5).

الجدول (1) يبين نسبة مشاركة المرأة في الانتخابات المحلية في أرض الصومال (6)

#

الإقليم (الدائرة الانتخابية)

حزب كلمية

الحزب الوطني

حزب أوعد

1

الساحل

0

0

0

2

مروردجيح

1

1

0

3

سناغ

1

1

2

4

سول

3

2

0

5

تكطير

0

0

1

6

أودل

1

1

1

المجموع

6

5

4

 

الجدول (2) يوضح نسبة مشاركة المرأة في الانتخابات النيابية في أرض الصومال (7)

#

الإقيم (الدائرة الانتخابية)

حزب كلمية

الحزب الوطني

حزب أوعد

1

الساحل

2

1

2

2

مروردجيح

0

1

1

3

سناغ

1

0

1

4

سول

1

0

1

5

تكطير

0

1

0

6

أودل

0

0

1

المجموع

4

3

6

ويرجع الخبراء أسباب تراجع مكانة المرأة سياسياً في صومالي لاند، إلى غياب المرأة عن الحياة السياسية على نحو تدريجي، إلى جانب غياب تأثيرها في النسيج القبلي والمشهد السياسي في العقد الأخير، هذا فضلاً عن تفاقم ظاهرة الهيمنة الذكورية في المكون الصومالي ، وهي سياسات اجتماعية تعزل المرأة سياسياً، ولها مبررات أكثر قبولاً لدى رجال القبائل مفادها بأن المرأة لا يمكن أن تحمل هموم قبيلتها بقدر ما يمثلها الرجل في المحافل السياسية والدوائر الرسمية ومجالس التنفيذ والتشريع، بينما في الحياة الاجتماعية تبدو المرأة هي المكافحة في إعالة الأسر، من خلال العمل في الأسواق وعلى جوانب الشوارع ليلاً ونهاراً(8).

  1. تراجع شعبية الحزب الحاكم: تشكل حزب كلمية عام 2010 في هرجيسا، بعد تفكك حزب أودب برئاسة طاهر ريالي كاهن؛ حيث انضم أعضاء حزبه إلى حزب كلمية، بينما ذهبت البقية إلى الحزب الوطني المعارض، ويعد الحزب الحاكم حالياً واجهة لطبقة سياسية ناضلت من أجل استقلال الإقليم، وتمكن الحزب في تلك الفترة من حصد أصوات الشعب بفترتين رئاسيتين، لكن شهد في الانتخابات الأخيرة نكسة كبيرة، إثر تراجع مقاعده في الانتخابات المحلية والبرلمانية، وهو ما يدفع رئيس الحزب موسى بيحي عبدي (رئيس أرض الصومال الخامس) إلى تشكيل تحالفات مع النواب والأحزاب الأخرى، بهدف الحصول على أصوات كافية تمكن حزبه من رئاسة مجلس البرلمان والسعي نحو العودة إلى الحكم في الرئاسيات المقبلة أواخر العام القادم.

وأسباب تراجع الحزب في الانتخابات الأخيرة تمكن في النقاط التالية:

  • الانقسام داخل الحزب الحاكم: يبدو أن النزاع في الهيمنة على موازين الحكم في أرض الصومال كانت تدور رحاها بين تيارين قديمين في المنطقة، هما التيار العسكري والتيار المدني؛ حيث إن أغلب مناضلي أرض الصومال كانوا من التيار العسكري، أو بعبارة أوضح من المنشقين عن النظام العسكري السابق في ثمانينيات القرن الماضي، وأبرزهم موسى بيحي عبدي. بينما يمثل أعضاء التيار المدني الواجهة التي ضبطت ايقاعات وإدارة معركة الانفصال والاستقلال. لكن منذ وصول موسى بيحي عام 2017 إلى قصر هرجيسا همّش دور المدنيين في الحزب، مفضلاً رفقاء دربه العسكريين، كما أقصى أنصار الرئيس السابق لأرض الصومال أحمد سيلانيو (2010-2017)، وهو ما أحدث انقساماً عمودياً وأفقياً داخل الحزب، وأثر سلباً على القاعدة الشعبية للحزب، المنقسمة بين تيارين مختلفين في النظام السياسي لهرجيسا.(9)
  • صعود الحزب الوطني: منذ انتخابات عام 2017 والتي تنافس فيها مرشحا حزب كلمية والوطني، وفاز بها مرشح الحزب الحاكم موسى بيحي، ظهرت شعبية الحزب الوطني المنافس بشكل لافت، وأصبح يحظى بتأثير سياسي وقبلي بارز في صومالي لاند؛ حيث أن آلية الترشيح في الانتخابات الأخيرة طغى عليها دور القبائل في اختيار مرشحيها، على حساب المرشحين المفضلين للأحزاب، وهو ما أدى إلى استفادة أحزاب المعارضة من إحجام الحزب الحاكم عن استقبال مرشحي عشائر ذات وزن ديمغرافي اعتبره ضئيلاً، وهو ما صبّ في مصلحة الحزبين المعارضين، وكان لحزب "وطني" نصيبُ الأسد في ذلك، إضافة إلى قاعدته الشعبية التي استمرت في النمو في السنوات الأخيرة، مستفيداً من أخطاء وإخفاقات الحزب الحاكم.(10)

أحزاب المعارضة وحزب "كلمية ": معركة التحالفات والاستقطابات

بعد سيطرة أحزاب المعارضة على مقاعد البرلمان في صومالي لاند، تلوح في الأفق معركة استقطابات وتحالفات داخل الأحزاب السياسية الثلاثة في الإقليم، حيث يشتد الصراع من أجل رئاسة البرلمان والأقاليم؛ حيث تقاسمت الأحزاب المعارضة رئاسة الأقاليم الكبرى في المنطقة، مثل مدينة هرجيسا، العاصمة التي أفلتت من يد الحزب الحاكم ودخلت في جيب الحزب الوطني، بينما نال حزب أوعد رئاسة مدينة برعو (ثاني أكبر مدينة في أرض الصومال) ومدينة بربرة (ميناء الإقليم وعصبها الاقتصادي)، لكن يحاول الحزب الحاكم السيطرة على البرلمان من خلال دخول تحالف مع حزب أوعد الذي يقوده السياسي فيصل علي ورابي، لتحقيق نسبة مقاعد 40 في المئة ليصبح مؤهلاً لرئاسة البرلمان.

الواضح أن تأثير القبيلة في المشهد السياسي وخاصة داخل المكون الحزبي تبقى قوية رغم أن قيادات الأحزاب تحاول التمظهر التمسك بالمبادئ السياسية وعدم جعل القبيلة ركناً أساسياً في نظامها المؤسساتي، لكن عندما تأتي الحاجة إلى بناء تحالفات وشراكات بين تلك الأحزاب، فإن تأثير القيادات التقليدية (القبائل) يبرز دورها، وذلك من خلال ممارسة الأحزاب سياسةَ الإغراءات بالنفوذ والثروات والمكاسب الاقتصادية، وهي سياسة يمكن أن يعتمد عليها الحزب الحاكم في تشكيل تحالفات جديدة مع نواب البرلمان الجدد المنتمين لأحزاب المعارضة؛ حيث أن ولاءات النواب للأحزاب ضعيفة، ودخولهم إلى تلك الأحزاب كان مجرد وسيلة للعبور إلى عضوية البرلمان، وهو ما يعطي فرصة أكبر للحزب الحاكم للتأثير على تماسك الأحزاب حاضراً ومستقبلاً. لكن يبدو أن حزب كلمية يواجه تحدياً كبيراً في تحقيق نسبة 40% من مقاعد البرلمان، فهو مضطر لتشكيل تحالف مع أحد الأحزاب المعارضة، وذلك من خلال الاستعانة بالعشائر التقليدية للضغط على بعض نواب البرلمان، مستخدماً المال السياسي للتأثير في قيادات القبائل من جهة والنواب من جهة ثانية، هذا بالإضافة إلى منع أي تحالف ثنائي بين الحزبين المعارضين المستحوذين على رئاسة المدن الكبرى في البلاد، للحيلولة دون فوزها أيضاً برئاسة البرلمان المحلي، التي تثير إشكالية قانونية في الوسط السياسي في صومالي لاند، ومن سيصبح عمدة العاصمة (هرجيسا) أيضاً؛ حيث إن 290 ألف ناخب في العاصمة يختارون ضمن الانتخابات المحلية 17 نائباً، وهم الذين يحق لهم انتخاب عمدة العاصمة، والمنافسة تجمع بين مرشحين تتفاوت الأصوات التي حصلوا عليها في المعترك الانتخابي، لكن غالباً ما تتم عملية انتخاب رئيس البرلمان بتفاهمات داخل الأحزاب وكذلك أيضاً عمدة هرجيسا، وتبدو أن رئاسة هرجيسا ستكون من نصيب مرشح الحزب الوطني المعارض(11).

وبحسب مراقبين، فإن معركة حزب كلمية الحاكم بدأت منذ خسارته الانتخابات النيابية المحلية، وهو ما يدفعه لتغيير سياساته واستراتيجياته إذا أراد خوض غمار الانتخابات الرئاسية المقبلة أواخر عام 2022 بشكل قوي وأكثر شعبية، ويمكن أن يستفيد من فشله الانتخابي الأخير، إلى جانب تأثيره السياسي والاقتصادي والعشائري في تشكيل تحالفات جديدة مع نواب البرلمان وقيادات العشائر، وبدء عملية ترتيب بيته من الداخل عبر إجراء إصلاحات جذرية، وكسب ود أنصاره ومؤيديه داخل الحزب.

انتخابات أرض الصومال: الديناميات المحلية والتأثيرات الخارجية

حظيت انتخابات أرض الصومال بمتابعة محلية وإقليمية ودولية، وشاركت في مراقبتها بعثات أجنبية للاطلاع عن قرب على سير العملية الانتخابية في هذا الإقليم، عاكسة استقراراً سياسياً وأمنياً يمكنها من إجراء انتخابات شفافة، في ظل سياق تشهد فيه الدول المحيطة اضطرابات سياسية وأمنية بسبب النزاع حول تنظيم الانتخابات أو تأجيلها، خاصة إثيوبيا والصومال، وهو ما يدفع إلى التساؤل عن سر تماسك أرض الصومال سياسياً وأمنياً وحتى عشائرياً، لأن الخلافات في الصومال تنطلق من غياب سلطة عشائرية تستطيع حسم الخلافات السياسية وتساهم في الحد من التحديات الأمنية التي يعيش فيها الجنوب الصومالي منذ ثلاثة عقود.

ورغم أن الإسحاقيين "إساق " يسيطرون بالكامل على مجريات الأحداث السياسية والأمنية في صومالي لاند، إلا أن قبائل الهوية القاطنة في الجنوب، لم تتمكن من جمع كلمتها وتوحيد عشائرها، وفشلت قياداتها في تحقيق مصالحة حقيقية بين قبائلها، وهو ما يجعل الحقد الدفين بين بعض القبائل قابلاً للاشتعال، ما لم توجد سياسات اجتماعية مماثلة لتلك التي طبقتها القيادات التقليدية في أرض الصومال، والتي يعود لها الفضل في نزع فتيل الخلافات، إذ تعالج معظم الخلافات وبنسبة تفوق 70% بوساطة من رجال القبائل، وهو ما يجعل عامل القبيلة ودوره الطاغي إيجابيا وأساسياً في الحفاظ على استقرار أرض الصومال السياسي والأمني.

ثمة عوامل عدة لها ارتباط وثيق بمستقبل صومالي لاند التي تقطع شوطاً كبيراً نحو تحقيق انجازات سياسية كُللت بنجاحات ديمقراطية طيلة العقدين الماضيين، وهذه العوامل البالغة التعقيد ستؤطر لسيناريوهات ومستقبل نظام هرجيسا الباحث عن اعتراف دولي منذ ثلاثة عقود.

ويمكن تلخيص تلك العوامل المؤثرة في مستقبل أرض الصومال في البنود التالية

  1. الانتخابات الرئاسية في أرض الصومال: بعد نجاح تنظيم الانتخابات النباية والمحلية تتهيأ أرض الصومال لإجراء الانتخابات الرئاسية التي من المتوقع أن تكون المنافسة حامية بين الحزب الوطني والحزب الحاكم، وهذه الانتخابات ستكون الفيصل في مستقبل العلاقات بين هرجيسا وأصدقائها من الخارج، ويبدو الحزب الوطني لا ينفك يعارض توجهات السياسة الخارجية لأرض الصومال، وخاصة في إدارة ملف شركة موانئ دبي من جهة والعلاقات مع جيبوتي وكينيا أيضاً.
  2. المفاوضات مع الصومال: بدت عملية إنجاح المفاوضات بين صومالي لاند والحكومة الصومالية الفيدرالية من قبل الوسطاء مهمة شبه مستحيلة، فلم تنجح جهود تقريب المواقف بين الجانبين، بل أصبحت محكومة بالفشل قبل حتى أن تبدأ تلك المفاوضات، ويمكن القول إن المفاوضات التي رعتها أنقرة عام 2015 حققت بعض التقدم، وذلك بسبب التنازلات التي أبدتها الحكومة الصومالية في فترة حكم حسن شيخ محمود وخاصة فيما يتعلق بكيفية استفادة أرض الصومال من مشاريع الأمم المتحدة والاتحاد الأوربي، لكن قطار المفاوضات عاد إلى نقطة البداية منذ وصول الرئيس الصومالي محمد عبد الله فرماجو إلى القصر الرئاسي عام 2017، بسبب غياب بنود وأجندات حقيقية للنقاش بين جانبين مصرّين على مواقفهما، مهما كانت حجج ومبررات الأطراف الصومالية شمالاً وجنوباً.

وتعلق إدارة أرض الصومال آمالاً عريضة على المتغيرات السياسية التي ستشهدها الصومال في الفترة القادمة بعد استحالة انطلاقة مفاوضات جديدة بين الجانبين، ويبدو أن المشهد السياسي والانتخابي في الصومال سيحظى بأهمية بالغة بالنسبة لأرض الصومال، لأنها لا تريد عودة الرئيس فرماجو إلى الحكم؛ لكونه يمثل عقبة أمام تحريك ملف المفاوضات من جهة، وفرض قيود على منح ومساعدات أرض الصومال الخارجية، وبهذا تأمل هرجيسا تنصيب سياسي آخر أكثر مرونة أملاً في تحقيق مكاسب سياسية في أي مفاوضات قادمة، من أجل الحصول على الاعتراف مستقبلاً.

  1. العلاقات الخارجية: تتركز سياسات أرض الصومال الخارجية على فتح قنوات تواصل وحوار مع العالم عبر تعميق سياسة "الديمقراطية الانتخابية " في مناطقها، وهو ما يكسبها بعد كل إجراء انتخابات شفافة تعاطفاً وإعجاباً من بعض الدول، وفي مقدمتها بريطانيا التي تواصل مشاريعها التنموية في أرض الصومال، بحكم الاستعمار، والموقع الجغرافي المتميز لأرض الصومال، المثير لشهية دول العالم؛ حيث حظيت منذ عام 2017 باهتمام إقليمي وعربي، بحكم انفتاحها على دول الجوار والإمارات ومصر وكينيا. وتوظف أرض الصومال سياسة "الندية" في تعاملها مع الصومال، وخاصة في تحريك ملف علاقاتها الخارجية، إذ وقعت هرجيسا اتفاقية ثلاثية مع أبوظبي وأديس آبابا عام 2018، وهي التي أثارت جدلاً في الصومال، وأثّرت سلباً على العلاقات الدبلوماسية بين الإمارات والصومال، إلى جانب الاستفادة من تدهور العلاقات الكينية الصومالية، وإجراء قنوات تواصل مع نيروبي؛ حيث زار موسى بيحي عبدي كينيا بعد تلقيه دعوة من الرئيس الكيني أهورو كينياتا أواخر العام الماضي في أعقاب القطيعة الدبلوماسية الكينية الصومالية، لكن علامة الاستفهام ستظل غامضة حول مدى وحجم تأثير تلك العلاقات بين هرجيسا والدول التي تختلف مع مقديشو، خاصة الإمارات وكينيا، فهل هذه الدول مثلاً ستراجع حساباتها مع أرض الصومال وتظل علاقاتها معها رهناً بحصول تطبيع مع مقديشو، ما يعكس أن تلك الدول كانت تمارس فقط "سياسة الضغوط القصوى" لإخضاع الصومال. لكن بشكل عام يشهد ملف السياسة الخارجية لأرض الصومال تحسناً تدريجياً، مع غياب سياسية خارجية صومالية أكثر نضجاً تحكمها أجندات ومصالح الدولة، بدل المراوحة حول مصالح أفراد وعلاقات دول بعينها. (12)

الخلاصة

اللافت، أن رئيس أرض الصومال موسى بيحي عبدي (2017-2022) حقق انجازاً سياسياً ومكسباً ديمقراطياً غذاة تنظيمه انتخابات برلمانية ومحلية في الـ31 من مايو/آيار الماضي، تلقت مشاركة واسعة من قبل الناخبين، هذا فضلاً عن شفافيتها ونزاهتها التي يشار إليها بالبنان. لكن التحديات التي يواجهها الإقليم منذ ثلاثة عقود متراكمة والتي تحتاج إلى إرادة حقيقية من القيادات العشائرية والسياسية للحد من تبعاتها الإجتماعية والاقتصادية، فنسبة العاطين عن العمل في أوساط الشباب تفوق 70%، ويشدّون الرحال نحو العاصمة مقديشو بحثاً عن فرص عمل في المؤسسات الرسمية، بينما نذرة مشاريع البنى التحتية وغياب الخدمات الأساسية للمواطن البسيط في المنطقة، لا تزال تمثل عقبة أمام تقدم صومالي لاند نحو الأمام. أما الشق السياسي وهو مسألة الاعتراف الدولي فهي الشغل الشاغل للإدارات المتعاقبة في الإقليم والتي أصبحت بمنزلة الهاجس الذي يصيب الأرق والإحباط معاً بالنسبة للأنظمة السياسية في هذا الإقليم. لكن تحسن علاقاتها الخارجية مع أكثر من دولة إقليمية وعربية في الفترة الأخيرة، ربما يكسبهاً قبولاً محلياً ويقلل من السخط الشعبي حولها. غير أن التحولات التي يشهدها القرن الأفريقي والتحالفات التي تدار خلف الكواليس بين دول المشرق الأفريقي من جهة والقوى الدولية الكبرى، ستعقد حتماً مسارات ضم أرض الصومال إلى الأسرة الدولية كدولة معترفة في القرن الأفريقي.

ABOUT THE AUTHOR

References

(1)- انطلاق الانتخابات المحلية والتشريعية في إقليم "أرض الصومال"، وكالة الأناضول، 31 مايو/ أذار 2021، (تاريخ الدخول: 9 يونيو/ حزيران 2021 )، https://bit.ly/3cHpRsW

(2)- Somaliland elections: Opposition parties win majority of seats, Aljazeera.com, 6, Jun, 2021, (visited on: 9 Jun, 2021), https://bit.ly/3gvsf8t

(3)- A VOTE FOR CHANGE: Somaliland’s Two Decades Old Electoral Democracy, AfricaPortal, May 21, (Visited on: 10 Jun 2021), https://bit.ly/2U7gEDH

(4)- أرض الصومال: انتخابات رئاسية من دون تباين في البرامج، جريدة السفير اللبنانية، 29 أكتوبر/ تشرين الأول 2017، (تاريخ الدخول: 10 يونيو/ حزيران 2021)، https://bit.ly/3cDnsiP

(5)- Somaliland: An Overview of the 2021 Parliamentary and Local Council Elections, ISIR.COM, 10 March 2021, (Visited on: 10 Jun 2021), https://bit.ly/3zsr5C4

(6)- مرجع سابق

(7)- مرجع سابق

(8)- انتخابات أرض الصومال تنهي نحو عقدين من هيمنة الحزب الحاكم، العربي الجديد، 7 يونيو/ حزيران 2021، (تاريخ الدخول: 10 يونيو/ حزيران 2021)، https://bit.ly/3wsMdG7

(9)- أسباب هزيمة حزب كلمية في أرض الصومال، صومالاند اليوم، 10 يونيو/حزيران 2021، (تاريخ الدخول: 11 يونيو/ حزيران 2021 )، https://bit.ly/3wlVr7b

(10)- العربي الجديد، مرجع سابق.

(11)- مؤتمر صحفي في هرجيسا لرئيس أرض الصومال، قناة ساب المحلية، 13 يونيو/حزيران2021، (تاريخ الدخول: 14 يونيو/ حزيران 2021)، https://bit.ly/3xkoHv6

(12)- اتفاق للتعاون الشامل بين إثيوبيا والصومال وإريتريا، الشرق الأوسط، 7 سبتمبر/ أيلول 2018، (تاريخ الدخول: 15 يونيو/حزيران 2021)، https://bit.ly/3wxtfhW