الغارة الأميركية على مواقع الحشد العراقي ودائرة الانتقام المفتوحة 

28 June 2021
صورة جوية نشرها البنتاغون لأحد المواقع التي طالتها غارات الأثنيت قبل القصف بلحظات (البنتاغون )

مهما كانت التداعيات المحتملة للغارة الأميركية الأخيرة التي استهدفت مواقع فصيل عراقي مرتبط بالحشد الشعبي على الحدود العراقية السورية، فإنها ليست سوى جزء من سياق عام سياسي وعسكري، وهي ترتبط بظروف واستحقاقات عراقية وإيرانية وأميركية على حد سواء.

وزارة الدفاع الأميركية (بنتاغون) قالت إن الغارة جاءت بموافقة من الرئيس جو بايدن، واستهدفت مواقع "مليشيات مدعومة إيرانيا" على الحدود العراقية السورية فجر الاثنين 28 يونيو/حزيران 2021، معتبرة أنها إجراء "مناسب ومدروس لإرسال رسائل ردع واضحة"، ردا على "هجمات استهدفت أفرادا ومواقع أميركية في العراق"، وأكدت أن المواقع المستهدفة "تستخدمها المليشيات المدعومة من إيران للدعم اللوجستي ونقل الأسلحة التقليدية المتقدمة، بما في ذلك الطائرات المسيّرة".

من جانبه قال آمر اللواء 14 التابع للحشد الشعبي إن لواءه المرابط في منطقة القائم على الحدود مع سوريا، تعرّض لضربات أميركية تسببت في مقتل أربعة من المقاتلين. وللعلم فإن هذا اللواء تابع لفصيل "كتائب سيد الشهداء"، وآمره أحمد المكصوصي هو نائب الأمين العام لهذا الفصيل. وقد توعد هذا الفصيل بشن "حرب مفتوحة" ضد القوات الأميركية، وهدد أمينه العام أبو آلاء الولائي برد "قاس" على الغارة.

وقد اتفقت ردود الفعل الفورية داخل العراق على إدانة الضربة الأميركية التي "تنتهك السيادة العراقية"، لكنها اختلفت ما بين دعوة الحكومة وبعض القوى السياسية إلى "التهدئة وتجنب التصعيد"، ودعوة الفصائل ومؤيديها السياسيين إلى "الثأر" وتأكيد ما يسمى "تنسيقية المقاومة العراقية" بأن "يذوق العدو مرارة الانتقام".

أما إيران فقد سبقت حكومة بغداد في إدانة الغارة الأميركية، واعتبرت وزارة خارجيتها أن "الولايات المتحدة تسير في طريق خاطئ، وأن الضربات الأخيرة جزء من غطرستها"، وأردفت أن "إثارة التوتر في المنطقة ليست من مصلحة الولايات المتحدة".

أهداف الضربة

هذه الغارة هي الثانية من نوعها ضد فصائل عراقية منذ تولي الرئيس بايدن مقاليد البيت الأبيض مطلع العام الحالي. وشُنّت الغارة الأولى يوم 25 فبراير/شباط الماضي، واستهدفت أيضا مواقع لفصائل عراقية تابعة للحشد الشعبي في منطقة الحدود مع سوريا. غير أن واشنطن دأبت على التأكيد أن الضربات تُنفذ داخل الأراضي السورية، في حين تؤكد الفصائل أن مقراتها تتعرض للقصف داخل الجانب العراقي من الحدود.

في الغارة السابقة، سقط عدد أكبر من القتلى بين صفوف المقاتلين العراقيين، وكانت المبررات الأميركية وردود الفعل العراقية متماثلة مع واقعة الغارة الثانية فجر الاثنين. ومنذ الغارة الأولى، لم تتوقف الهجمات التي تتعرض لها معسكرات تؤوي جنودا أميركيين داخل العراق، بل إن هذه الهجمات ازدادت كمًّا وتطورت نوعًا من خلال استخدام الطائرات المسيرة، التي تحولت منذ أسابيع إلى سلاح أساسي للفصائل ضد القوات الأميركية.

وهذا يعني أن الضربات الأميركية لن تكون بالضرورة سببا وجيها لحماية المصالح الأميركية في العراق، بل يمكن أن تكون سببا لنتائج عكسية عما تأمله الولايات المتحدة كما جاء في بيان البنتاغون، حيث فشلت الضربة السابقة وقبلها الضربات المتكررة خلال ولاية الرئيس السابق دونالد ترامب؛ في وقف الهجمات ضد القوات الأميركية، حتى إن هذه الأخيرة اضطرت إلى مغادرة معظم القواعد العسكرية التي كانت ترابط فيها، لتستقر في ثلاثٍ فقط، على أمل تركيز قدراتها الدفاعية، والابتعاد عن مصادر التهديد قدر الإمكان. ومع ذلك، فقد تعرضت هذه القوات إلى عشرات الهجمات خلال الشهور الأخيرة في قواعدها الثلاث (قاعدة فيكتوريا في مطار بغداد، وقاعدة الحرير في أربيل، وقاعدة عين الأسد غربي العراق). كما تعرضت قاعدة بلَد الجوية شمالي بغداد، التي تؤوي طائرات "إف-16" التابعة للقوات الجوية العراقية، إلى هجمات مماثلة رغم أنها لا تضم سوى فنيين أميركيين متعاقدين مع الحكومة العراقية لصيانة هذه الطائرات.

السلوك الأميركي مع هذا التصاعد في الهجمات بدا مرتبكا، حتى إن واشنطن عرضت خلال يونيو/حزيران 2021 مكافآت تصل إلى 3 ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات عن هجمات مخطط لها أو سابقة ضد المصالح الأميركية في العراق، لكن هذه الطريقة لم تنجح في وقف التهديدات التي لم تتسبب في قتل أميركيين حتى الآن، لكنها يمكن أن تنجح في تحقيق ذلك، وهو ما قد يضع إدارة الرئيس بايدن في حرج كبير، وقد يجبرها على سلوك أكثر شراسة في العراق.

سياق الضربة

جاءت الغارة الأميركية الأخيرة في سياق سياسي معقد، فمن ناحية تسعى الحكومة العراقية إلى تهيئة أجواء مناسبة لإجراء الانتخابات المبكرة المقررة يوم 10 أكتوبر/تشرين الأول المقبل، ومثل هذا التصعيد قد يتسبب في منح الفصائل مبررات إضافية للرد وتوسيع دائرة الهجمات على المصالح الأميركية، ومن بين ذلك معاودة الهجمات على السفارة الأميركية في بغداد، مما يربك الوضع الأمني، ويزيد الضغط على سمعة حكومة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي وقدرتها على ضبط الأوضاع.

كما أن ذلك قد يعزز عملية الضغط على المناخ السياسي العام، ليتسق مع أهداف هذه الفصائل التي تعتبر نفسها "مقاومة"، وهو ما قد يسهم في تهميش القوى المعتدلة، لا سيما في الأوساط الشيعية -ومن بينها قوى حراك تشرين- لصالح العناصر المتشددة القريبة من الفصائل والمؤيدة للعسكرة والقريبة من إيران، ويزيد حظوظها في الانتخابات المقبلة.

ويعزز هذه الفرضية أن الحشد الشعبي يتوزع خطابه بين انتماء للدولة وتبعية للقائد العام تارة، وبين انتهاج "المقاومة" خارج سيطرة الدولة تارة أخرى، من خلال فصائل مسلحة تتبع قياداتها الخاصة وترتبط بإيران، وتنفذ أجنداتها بما في ذلك الهجمات ضد قوات أميركية متواجدة في العراق بموافقة حكومة بغداد.

وقد كان هذا الحشد "بخطابيه" قد نظم يوم 26 يونيو/حزيران 2021 عرضا عسكريا بمناسبة الذكرى السابعة لتأسيسه، كشف فيه عن امتلاكه أسلحة ثقيلة ومتقدمة، منها طائرات مسيرة ومنصات صواريخ ورادار. وبدا الحشد حريصا على أن يقدم من خلال هذا العرض الذي حضره الكاظمي، رسائل لخصومه في الداخل والخارج؛ بأنه تحوّل إلى قوة أساسية ليس من السهل القضاء عليها.

السياق الآخر للغارة الأميركية يرتبط بعلاقة واشنطن مع طهران، لا سيما فيما يتصل بمفاوضات الاتفاق النووي التي ما زالت متواصلة في فيينا، فهذه الغارة هي أول هجوم أميركي على فصائل عراقية تُعرف بعلاقتها مع إيران وتصفها واشنطن بذلك صراحة، منذ بداية المفاوضات أوائل أبريل/نيسان الماضي. ومن الصعب عزل الغارة وتوقيتها عن التصعيد السياسي الذي عبرت عنه الولايات المتحدة مؤخرا تجاه إيران وفرص استمرار المفاوضات، حتى إن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن قال إن المفاوضات قد تنتهي دون تحقيق أي اتفاق، مطالبا طهران باتخاذ قرارات "صعبة". 

ورغم أن التعليق الإيراني السريع على الغارة الأميركية لم يشر بأي شكل من الأشكال إلى علاقتها بمفاوضات إحياء الاتفاق النووي، فإن هذا التجاهل هو بحد ذاته تعزيز للرابط بين القضيتين، حيث تتبع طهران فيما يتصل بمفاوضات فيينا، سياسة حذرة تتمسك فيها من جانب بمطالبها المعروفة، وتحرص من جانب آخر على عدم تقديم أيّ موقفٍ يوحي باحتمال وقف التفاوض أو فشله أو الانسحاب منه.

من الواضح حسب السلوك التقليدي الإيراني في الحوار الخشن مع الأميركيين داخل العراق، أن تصعّد طهران هجمات الفصائل الموالية لها ضد المصالح الأميركية العسكرية والدبلوماسية، فتكون بذلك قد أعادت الرسالة إلى واشنطن، من غير أن تخسر فرصة رفع العقوبات عنها عبر مفاوضات فيينا، بل إنها قد تفكر في كسب مزيد من النقاط، بتقديم دلائل جديدة للأميركيين على أن نفوذها في العراق يتيح لها إلحاق ضرر شديد بهم متى شاءت، وهو ما قد يكون في صالح ضغوطها للحصول على مزيد من المكاسب في المفاوضات. كما أنه سيكون مرضيا لحلفائها في العراق حينما ينفذون تهديداتهم بالانتقام والحصول على مزيد من المصداقية وسط مؤيديهم وخصومهم على حد سواء، وعلى مزيد من النفوذ والمكاسب السياسية.

في واقع الأمر، ربما تكون الغارة الأخيرة قد عطلت جزءا من مصادر القوة والتهديد ضد القوات الأميركية، لكنها لن تكون مناسبة لخلق حاجز ردع يحمي المصالح الأميركية في المدى الفوري والمنظور، ذلك أن واشنطن تخلت تدريجيا ومنذ سنوات عن مواقع نفوذها السياسي والأمني في العراق، وسمحت لطهران بأن تملأ الفراغ الذي تركته خلفها بعد انسحابها نهاية العام 2011. وسيكون من العسير عليها أن تحمي مصالحها وحتى أرواح جنودها في العراق من خلال ضربات منفردة، خصوصا أن مثل هذه الضربات أصبح أكثر تعقيدا، سواء بسبب ما يسببه من حرج سياسي وأمني للحكومة العراقية، أو بسبب التعقيدات القانونية التي بات على البيت الأبيض أن يواجهها، بعدما أنهى الكونغرس الأميركي أواسط يونيو/حزيران 2021 تفويضه للبيت الأبيض منذ العام 2002؛ باستخدام القوة العسكرية في العراق.

ABOUT THE AUTHOR