في 26 يوليو/تموز 2021، قوة أمنية تونسية بلباس مدني ورسمي تقتحم مكتب الجزيرة -في مهد الربيع العربي وما يعتبره كثيرون "قصة نجاح" في تجارب الانتقال السياسي التي عرفتها بعض الدول منذ مطلع العام 2011- وتطلب من الصحفيين إغلاق هواتفهم والحواسيب ونزع التوصيلات الكهربائية، وتصادر مفاتيح مكتب الجزيرة، ثم تُخرج بالقوة جميع الصحفيين الذين لم يعد مسموحًا لهم بدخول مقر عملهم، دون أي إنذار مسبق ولا اتصال مع مدير المكتب، لطفي حجي، ولم يكن الاقتحام تنفيذًا لأمر أو حكم قضائي يُرتِّب جزاء وقف نشاط المكتب لما قد يكون مخالفة للوائح القانون الأساسي لحرية الاتصال السمعي البصري، وهو القانون نفسه الذي يضمن حرية الاتصال السمعي البصري، واستقلالية المنشآت الإعلامية بموجب الدستور والمعاهدات الدولية التي صادقت عليها تونس.
كان قرار إغلاق مكتب الجزيرة، وهو إغلاق أمني، يستمد قوته من الحالة السياسية الناشئة التي خلقها الرئيس قيس سعيد بقوة الانقلاب على المنهجية الديمقراطية، وإعلانه تجميد عمل البرلمان ورفع الحصانة عن النواب، وإعفاء رئيس الحكومة من مهامه، وتولي الرئيس بنفسه السلطة التنفيذية بمساعدة رئيس حكومة يعيِّنه، ورئاسة النيابة العمومية، وتكليف المؤسسة العسكرية بتصريف أعمال المحافظات والبلديات. وقد اعتبر الرئيس هذه الإجراءات أو التدابير الاستثنائية ضرورية لحماية الدستور ومصالح الشعب، وإنقاذ الدولة التونسية وإنقاذ المجتمع التونسي، بينما اعتبرها آخرون "انقلابًا على الدستور والثورة"، وعلى عملية الانتقال الديمقراطي التي تعيشها البلاد منذ 14 يناير/كانون الثاني 2011.
في ظل هذه الإجراءات، والوقائع المتسارعة التي تُنشِئ واقعًا جديدًا يُعطِّل عملية الانتقال السياسي التي واجهت تحديات كثيرة خلال الأعوام العشر الماضية، يصبح بناء السلطة/وية وأجهزتها قائمين على "التعليمات" التي تصدر عن "الجهات العليا"، كما يؤكد أفراد القوة الأمنية التونسية الذين نفذوا أمر إغلاق مكتب الجزيرة: "ننفذ التعليمات". وبذلك تضع هذه الحالة السياسية الناشئة، والبناء الجديد للسلطة الذي يتجاوز قواعد العمل المؤسسي الديمقراطي من خلال حكم القانون والمؤسسات، حدًّا لعملية الانتقال الديمقراطي وإيقاف مسارها عبر الانقلاب على المنهجية الديمقراطية في التداول على السلطة، أو "الخروج على المنهجية الديمقراطية"، وهو اصطلاح أو عبارة ناعمة ومُلَطَّفة نحتتها قيادة حزب الاتحاد الاشتراكي بعد إنهاء تجربة التناوب التوافقي بالمغرب، في أكتوبر/تشرين الأول 2002، إثر تعيين وزير أول تكنوقراطي من خارج الأحزاب السياسية المتنافسة في الانتخابات التشريعية. وكانت العبارة تأخذ بعين الاعتبار المقتضيات المرجعية للفصل 19 لدستور ما قبل 2011.
وما يثير الاهتمام في هذه الحالة السياسية الناشئة بقوة الانقلاب على المنهجية الديمقراطية (أو الخروج عليها)، هو سلوكها السياسي/الإعلامي في التعامل مع قناة الجزيرة ومكاتبها الإقليمية، ووسائل الإعلام عمومًا، حيث نلاحظ أن "السلطة الجديدة"، وفي تجارب انتقالية مختلفة، تسارع -بعد تعطيل مسار الانتقال الديمقراطي والانقلاب عليه- إلى إغلاق مكاتب الجزيرة التي تعتبرها المسار الثاني، أو المؤسسة رقم اثنين (2) التي يجب إيقافها وتعطيل مسارها، ومنعها من ممارسة نشاطها الإعلامي، وأداء رسالتها الإعلامية في المعرفة وتنوير الرأي العام المحلي والعالمي بما يجري في تلك الدول.
لم يكن إغلاق مكتب الجزيرة في تونس، والسياقات السياسية والأمنية والإعلامية التي أطَّرته، حالة معزولة أو الإغلاق غير المسبوق في المشهد الإعلامي العربي منذ انفجار الثورات في مطلع العام 2011، بل واجهت مكاتب القناة "تعليمات" الإغلاق وإيقاف نشاطها المهني في دول عاشت بدورها تجربة الانتقال السياسي، كما حدث في مصر، يوم 3 يوليو/تموز 2013، ثم اليمن، في 21 سبتمبر/أيلول 2014-فبراير/شباط 2015. وقد تكرر سيناريو إغلاق مكتب الجزيرة والتحفظ على أجهزته وسحب تراخيص عمل المراسلين في دول عرفت احتجاجات شعبية أدت إلى الإطاحة برأس نظام السلطة كما حصل في السودان، حيث أُغلق المكتب في 30 مايو/أيار 2019.
في الواقع، تطرح حالات إغلاق مكاتب الجزيرة، لاسيما في تونس ومصر واليمن، والتي تترافق مع تعطيل عملية الانتقال الديمقراطي، أسئلة كثيرة حول السلوك السياسي/الإعلامي للأطراف التي تخرج أو تنقلب على المنهجية الديمقراطية، وتأثير ذلك في الحالة السياسية الناشئة التي تتشكَّل مع استكمال حلقات الانقلاب وأركانه، ثم رؤيتها المستقبلية لدور الإعلام في المشهد الإعلامي والسياسي ووظيفته كراوٍ للثقافة السياسية والخطاب العام وأداةٍ للتواصل السياسي بين مكونات المجتمع السياسي والرأي العام. وهنا، سيكون مهمًّا الإجابة عن سؤالين مباشرين: أولًا: لماذا تسارع السلطة الجديدة الناشئة إلى إغلاق مكتب الجزيرة بعد تعطيل عملية الانتقال السياسي والانقلاب على المنهجية الديمقراطية؟ ثانيًا: ما أهداف إغلاق مكاتب الجزيرة في سياق الانقلاب على المنهجية الديمقراطية؟
ما يلفت الانتباه هنا أن السلطة/وية الناشئة تولي اهتمامًا لقناة الجزيرة أكثر من أية وسيلة أخرى، وتجد المحفزات التي تدفعها إلى هذا السلوك وتسريع عملية الإغلاق دون أن تكترث لأي اعتبارات أو ردود أفعال مهما علا صوتها للعودة عن قراراها، وضمان حرية الرأي والتعبير وحرية الصحافة والإعلام، واحترام استقلالية المؤسسات الإعلامية.
بروتوكول الانقلاب على المنهجية الديمقراطية
في التجارب الانتقالية الثلاثة (تونس ومصر واليمن)، التي انتهت بالانقلاب على المنهجية الديمقراطية وإيقاف مسار عملية الانتقال السياسي، كانت الجهة التي تمسك بمفاصل السلطة السياسية والعسكرية والأمنية، وتتحكَّم في ترتيبات الحالة السياسية الناشئة، تضع في استراتيجيها الإعلامية متطلبات "اليوم التالي" للمشهد الإعلامي بعد استكمال أركان الانقلاب والهيمنة على مفاصل الدولة. وهو "اليوم" الذي يُراد له أن يكون أيضًا فاصلًا بين مرحلتين أو لحظتين: لحظة الحالة السياسية الناشئة، ومرحلة الانتقال السياسي، باعتبارها بناء سياسيًّا وإعلاميًّا انتقاليًّا وفضاء تعدديًّا تتمتع فيه جميع المكونات السياسية والمنظمات والجماعات والأفراد، فضلًا عن وسائل الإعلام، بحقها في التعبير عن آرائها وأفكارها وأطروحاتها السياسية، دون أن تخشى المنع أو الإقصاء أو الاعتقال...إلخ
هنا، تُسارع السلطة الناشئة عبر قوة أمنية -تحدد هوية وملامح النظام الذي يسعى لإنقاذ الدولة وحمايتها وإنقاذ المجتمع- إلى إغلاق مكتب الجزيرة بعد أن تطلب من الصحفيين إغلاق هواتفهم وقطع التيار الكهربائي عن أجهزة الحاسوب، وتُصادر المفاتيح. وهو ما حصل في تونس، يوم 26 يوليو/تموز 2021، حيث كان مطلوبًا إغلاق مكتب الجزيرة، والذي شكَّل أولوية في استراتيجية الانقلاب على المنهجية الديمقراطية، فكان "المسار" أو "المجال الثاني" الذي استهدفته عملية الخروج على المنهجية الديمقراطية بعد تعطيل المسار الأول (الانتقال السياسي) الذي استمر بناء مؤسساته وهياكله أكثر من عشرة أعوام، رغم الأزمات التي واجهته (الإرهاب، الاغتيالات السياسية، الصراعات السياسية، الأزمة الاقتصادية...).
وتشير المسارعة إلى إغلاق مكتب الجزيرة -منذ اللحظة الأولى للانقلاب على المنهجية الديمقراطية وقبل أن يهيمن على باقي المشهد الإعلامي- إلى التخطيط المسبق لما سيكون عليه "اليوم التالي"، والذي يتطلب إسكات صوت الجزيرة قبل أي صوت آخر، والتمهيد لذلك بحملات إعلامية على صفحات ومواقع التواصل الاجتماعي لشيطنة القناة، ونشر خطاب التحريض ضدها، واتهام الصحفيين بالجاسوسية وتخريب الأوطان، وغيرها من الخزعبلات. وهنا يبدو الإغلاق خطوة أو قرارًا في إطار استراتيجي يتقاطع مع ما حصل في التليفزيون الرسمي التونسي الذي يتلقى مديره "التعليمات" من الجيش بمنع دخول الضيوف، الذين قد يكون لهم رأي غير ما تراه السلطة الجديدة الناشئة، إلى مبنى التلفزيون للمشاركة في البرامج الحوارية. لذلك أصبح معروفًا في بروتوكولات ووصفات الانقلابات، التي شهدتها بعض دول الربيع العربي، كيفما كان نوع هذا الانقلاب سواء خروجًا عن المنهجية الديمقراطية أو انقلابًا أبيض أو انقلابًا دمويًّا، أن استتباب الأمور والتحكُّم في تطورات الحالة السياسية الناشئة يحتاج إلى آلة وحالة إعلامية تقطع مع المرحلة الانتقالية. ونلاحظ هذا الأمر أيضًا في تجارب وحالات انقلابية عديدة في التاريخ الحديث والمعاصر، كما حصل في تركيا، في 15 يوليو/تموز 2016، حيث لجأ الجيش إلى السيطرة على مبنى التليفزيون الرسمي من أجل إذاعة بيان الانقلاب، وتكرر ذلك في العام 1971. وهو ما حدث أيضًا مع حركة "الضباط الأحرار"، في 23 يوليو/تموز 1952 بمصر، (معظم الانقلابات في يوليو/تموز!).
والقطيعة، التي يراد لها تأسيس آلة وحالة إعلامية، تتجاوز المعنى اللغوي الذي يشير إلى "الانفراد بالشيء" أو "أن يخص الفرد (أو السلطة) نفسه بشيء"، أو "فصل الشيء بعضه عن بعض"؛ إذ ليس بالضرورة أن يؤسس هذا المعنى لحالة إعلامية جديدة، وإنما يراد بالقطيعة الانتقال إلى حالة جديدة بالمعنى الباشلاري، والتي تُحْدِثانفصالًا عمَّا سبقها من معارف وعلوم، حيث يتكوَّن نظام أو نسق معرفي لم يُعْرَف من قبل. وقد لخصت الباحثة، ألفة لملوم، هذه الفكرة في المجال الإعلامي في عبارتين مفتاحيتين عندما تحدثت عن الانفصال بين مرحلتين إعلاميتين أحدثتهما قناة الجزيرة في المشهد الإعلامي العربي: "ما قبل الجزيرة"، "وما بعد"، ونوظف هذين المصطلحين في تفسير القطيعة الإعلامية التي تكرسها الحالة السياسية الناشئة، أي الحالة الإعلامية قبل مرحلة الانتقال السياسي، ثم الحالة الإعلامية ما بعد الانقلاب على المنهجية الديمقراطية، وفيها يكون الانفصال التام والتجاوز في القيم والتصورات والنهج الإخباري، وهو ما يمكن تسميته بالقطيعة الإعلامية التي تؤسس لـ"ثقافة إعلامية أحادية" تستلهم روح الحالة السياسية الناشئة، أو السلطة/وية الجديدة.
في 3 يوليو/تموز 2013، ستسارع السلطة السياسية الناشئة في مصر -بعد الانقلاب على المنهجية الديمقراطية وأول رئيس مدني منتخب، محمد مرسي- إلى إغلاق مكتب الجزيرة، حيث تقتحم قوة أمنية مقر القناة في القاهرة، وتطلب أسماء الصحفيين وبطاقاتهم الوطنية، ثم مغادرة المكتب، وتشرع في البحث عن جهاز البث لقطع إرسال التغطية في الساحات المؤيدة للرئيس الراحل، محمد مرسي. وينتهي الأمر بمصادرة الكاميرات والمعدات وأجهزة البث بعد بيان الجيش بعزل مرسي، ثم استجواب مدير المكتب، عبد الفتاح فايد، على خلفية اتهامات مزعومة بـ"تعكير صفو الأمن والسلم والتحريض على الفتنة"، واعتقال مهندس الأستوديو، أحمد حسن، واحتجازه مدة يومين. أما في مكتب "الجزيرة مباشر مصر"، فتهرع القوة الأمنية إلى قطع البث المباشر وتأمر الضيوف بوقف النقاش، وتطلب من الصحفيين إغلاق هواتفهم وتسليمها، وتصادر أجهزة البث، وتعتقل مدير القناة، أيمن جاب الله، قبل الإفراج عنه بعد يومين من الاحتجاز. وينتهي الأمر أيضًا بإغلاق المكتب.
هذا البرتوكول الأمني في إغلاق مكاتب الجزيرة بعد الانقلاب على المنهجية الديمقراطية، سنجده في الحالة السياسية الناشئة باليمن، إثر انقلاب جماعة أنصار الله (جماعة الحوثي)، في 21 سبتمبر/أيلول 2014، على مخرجات الحوار الوطني واتفاق السلم والشراكة، حيث بدأت عملية إسقاط صنعاء من الجهة الشمالية، ثم توالت سيطرة الجماعة على مرافق الدولة المدنية والعسكرية في العاصمة اليمنية، حيث أحكمت قبضتها على مقار الحكومة، ووزارة الدفاع، والقيادة العامة للجيش، والبنك المركزي، ومقر إذاعة صنعاء ووزارة الإعلام، وغيرها من المؤسسات. وفي سياق هذه الأحداث المتسارعة، كان مكتب الجزيرة يتلقى رسائل التهديد، خاصة مدير المكتب سعيد ثابت، بالقتل عبر هاتفه الشخصي، وهو ما لم يكن يسمح لفريق الجزيرة بمواصلة تغطية تطورات الأحداث في صنعاء ومحيطها. وبعد إحكام جماعة الحوثي سيطرتها على مفاصل الدولة، وهروب الرئيس عبد ربه منصور هادي إلى عدن، تداهم قوات الحوثي مكتب الجزيرة، في يناير/كانون الثاني 2015، وتمكث فيه لفترة قبل أن تغلقه بالشمع الأحمر، في فبراير/شباط من العام نفسه، حيث اكتملت أركان الانقلاب على عملية الانتقال السياسي، لتبدأ السلطة الجديدة سياساتها بترتيب "اليوم التالي" للمشهد الإعلامي (ما بعد الانقلاب)، قاطعة بشكل جذري مع الحالة الإعلامية السابقة (ما قبل).
وتشير تقارير نقابة الصحفيين اليمنيين، وغيرها من المؤسسات والمنظمات الحقوقية، إلى هيمنة جماعة الحوثي على مؤسسات الإعلام العمومي، وإغلاق الصحف والقنوات الفضائية المعارضة لها، فضلًا عن حجب مواقع الصحف المحلية والعربية والدولية، كما تشير هذه التقارير إلى انتهاكات الجماعة ضد الإعلام والإعلاميين من خلال مطاردة الصحفيين واعتقالهم واختطافهم وقتلهم أو محاولة القتل واقتحام المنازل والمؤسسات الإعلامية.
مجال إعلامي هجين للهيمنة على السرد السياسي والخطاب العام
تبيِّن التجارب الثلاثة لإغلاق مكاتب الجزيرة (تونس ومصر واليمن) أن بروتوكول الانقلاب على المنهجية الديمقراطية بقدر ما يكون مهووسًا و"مسكونًا" بإحداث القطيعة الإعلامية مع مشهد ما قبل المرحلة الانتقالية بأدواته الصلبة (الأمنية والعسكرية)، يهتم أيضًا بخلق حالة إعلامية يُشكَّل من خلالها السرد السياسي والخطاب العام للسلطة/وية الجديدة بأدوات مختلفة هجينة (ناعمة وصلبة) تبدأ بالتعليمات والمنع والإقصاء واللوائح الأمنية، وتنتهي بنشر الدبابات والعربات العسكرية أمام مقرات الإذاعة والتليفزيون لمنع "الرأي الآخر" من الظهور على أثيرها وشاشاتها. وهنا، كما لاحظنا في اقتحام القوة الأمنية التونسية لمكتب الجزيرة ثم إغلاقه، وقبل ذلك اقتحام مكتب الجزيرة بالقاهرة ومكتب "الجزيرة مباشر مصر" ثم إغلاقهما، واقتحام مكتب اليمن ثم إغلاقه، كانت السلطة السياسية الناشئة بقوة الانقلاب على المنهجية الديمقراطية تؤسس بإجراءاتها "مجالًا إعلاميًّا" للهيمنة على السرد السياسي والخطاب العام والترويج لأطروحاتها بشأن "حماية وإنقاذ الدولة" و"إنقاذ المجتمع".
وتكشف طبيعة هذا المجال الإعلامي رغبة السلطة الناشئة بقوة الانقلاب على المنهجية الديمقراطية في الهيمنة والاحتفاظ بروايتها الرسمية للأحداث وتطورات الحالة السياسية في البلاد؛ إذ تخشى من "الرأي الآخر"، الذي تعتبره تشويشًا على النظام العام، وتعكيرًا لصفو الأمن والسلم والتحريض على الفتنة، ولا تريد أن تسمع إلا صدى صوتها، الذي يمثِّل في نظرها "المنقذ" من انهيار الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأزمات الاجتماعية والفساد...إلخ. ولذلك لا تسمح بظهور آراء معارضة لما يجري سواء كانت تصفه بالانقلاب الدستوري أو الانقلاب على الثورة، أو الانقلاب العسكري. فلا تريد السلطة لهذا المجال، الذي هو قيد التشكُّل، أن يكون مُسْتَوعبًا لقراءات ووجهات نظر مختلفة، بل مجالًا للرأي الواحد. وهذا ما يفسر حملات الاعتقال التي لحقت المعارضين للانقلاب على عملية الانتقال السياسي في تونس ومصر واليمن، والتحريض على الصحفيين وأهل الفكر والرأي والأكاديميين، خاصة أن السلطة السياسية الناشئة تدرك أن الصوت المعارض، أو الرأي المستقل عن سرديتها وأطروحاتها، يُغذِّي آمال فئات أخرى بالانتصار للمنهجية الديمقراطية وإرساء قواعد الحكم الديمقراطي، كما يُعزِّز وجود المعارضة نفسها، وهو ما لا يمكن أن تسمح به هذه السلطة.
وفي سياق هذه الرؤية للمجال الإعلامي الذي تُنشِئه السلطة/وية الجديدة، فإنها تكون مستعدة للقيام بكل "الإجراءات والتدابير" السياسية والأمنية والعسكرية التي تسميها "استثنائية"، ولذلك تستبق الأحداث التي قد تُزْهَق فيها الأرواح بإغلاق مكاتب الجزيرة، فتُغيِّب الشاهد (كاميرا الجزيرة) حتى لا يُوثِّق الفظاعات التي قد تُرتَكب في ظل حكم هذه السلطة، مثلما حصل في أحداث الحرس الجمهوري، يوم 8 يوليو/تموز 2013، ثم أحداث مدينة نصر، وأحداث فضِّ اعتصام رابعة والنهضة، في 14 أغسطس/آب 2014، وغيرها من الأحداث. وتدرك السلطة الناشئة تأثير قناة الجزيرة أيضًا في تشكيل رأي عام محلي ودولي عبر تغطيتها لهذه الفظاعات، ومتابعة تطورات الحالة السياسية والفاعلين فيها من خلال نموذجها الإخباري (الرأي والرأي الآخر).
لذلك تسعى السلطة لأن يكون المجال الإعلامي الذي تُؤسِّسه مُطَهَّرًا ونظيفًا خاليًا من الفظاعات ومشاهد القتل واقتحام البيوت وتفجيرها كما جرى في اليمن بعد إغلاق مكتب الجزيرة، واقتحام المساجد وتغيير الأئمة...إلخ، لأن تغطية هذه الأحداث عبر كاميرا الجزيرة يفضح حقيقة السرد السياسي والخطاب العام الذي تُروِّج له السلطة وتُؤسِّس شرعيتها بمقتضى أطروحاته. وهكذا تعمل هذه السلطة بمقتضى المثل المأثور: "الباب الذي يأتيك منه الريح سده واستريح".
خلاصة
تبدو قرارات إغلاق مكاتب الجزيرة في التجارب الثلاثة (تونس، اليمن، مصر) كاشفة لطبيعة السلطة/وية السياسية الناشئة بقوة الانقلاب على المنهجية الديمقراطية، ونظرتها لدور ووظيفة الإعلام الذي يُراد له أن يكون بوقًا صادحًا بالسردية التي تُشكِّلها "النخبة" المناصرة لأطروحاتها وسياساتها، وأجهزتها الدعائية. لذلك تحاول أن تُغيِّب جميع الأصوات والمنابر والمنصات والشاشات التي قد يكون لها رأي مختلف، ولا تفسح في المجال للرأي والرأي الآخر (مثل النموذج الإخباري لقناة الجزيرة التي تُدرك السلطة الناشئة قوتها وتأثيرها)، وتجهد في بناء حالة أو مجال إعلامي يقطع مع مرحلة الانتقال السياسي (ما قبل الانقلاب على المنهجية الديمقراطية)، ويُؤسِّس لمرحلة لا تريد السلطة أن تسمع فيها (ما بعد الانقلاب على المنهجية الديمقراطية) سوى صدى صوتها حول "حماية الدولة وإنقاذ البلاد من الانهيار وإنقاذ المجتمع". بينما تكون السلطة/وية الناشئة بإجراءاتها وسياساتها الاستثنائية قد بدأت في الواقع من حيث انتهت الأنظمة التي أطاحت بها الثورات وموجة الاحتجاجات في تلك الدول نفسها، فتُعِيد إنتاج الأوضاع ذاتها، ومركب الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ونظام الحكم نفسه الذي يصبح أكثر شراسة وتَوَحُّشًا، وافتراسًا للمعارضين والرأي الآخر، وهو ما لا يحتاج إلى دليل.