تشي الحكومة الجديدة التي تمكّن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بصعوبة من تشكيلها بطابع وسمات النظام السياسي في إسرائيل، الذي يضمن التأقلم مع التغيير في موازين القوى الداخلية، وذلك بفعل بؤر الاستقطاب الأيديولوجي والإثني والطبقي والنزعات الشخصية؛ فقبل أشهر معدودة كان يئير لبيد، مجرد مقدم برنامج حواري في قناة تلفزة إسرائيلية، وكان أكثر ما يهمه أن ينجح في الاستطلاع السنوي الذي يجرى في أوساط النساء في إسرائيل؛ حيث اختير لمرات عديدة "الرجل الأكثر إثارة"؛ وهو اليوم يقف على رأس حزب "ييش عتيد"، ثاني أكبر حزب في الائتلاف الحاكم الجديد، ويتولى منصب وزير المالية، أحد أهم ثلاث حقائب "سيادية" في الحكومة، مع أن حزب "ييش عتيد" خاض الانتخابات للمرة الأولى. وما ينطبق على لبيد، ينطبق على نفتالي بنت؛ فهذا الشاب، الذي يبلغ من العمر 40 عامًا، كان يدير قبل أشهر شركة تقنيات متقدمة، ويقف اليوم على رأس حزب "البيت اليهودي" المتدين، الذي يُعتبر ثالث أكبر قوة في الحكومة الجديدة، ويتولى منصب وزير الصناعة والتجارة، ثاني أهم وزارة اقتصادية في إسرائيل.
إن التحولات في موازين القوى، كما عكستها التشكيلة الوزارية الجديدة، تؤذِن بمزيد من التحولات على صعيد موازين القوى الداخلية، وستفرز حدودًا جديدة للسياسة الداخلية. لكن هذه التحولات لا تضمن حدوث تغيير على صعيد السياسة الخارجية لإسرائيل بشكل عام، بل على العكس تمامًا، فالتركيبة الحزبية والشخصية للحكومة الجديدة تمثّل وصفة، ليس فقط لمواصلة سياسة الاستيطان والتهويد ورفض الاستجابة لمتطلبات تحقيق تسوية سياسية للصراع؛ بل إن هناك ما يدفع للاعتقاد بأن إسرائيل ستصبح أكثر انغماسًا في مشاريع الاستيطان والتهويد، وأكثر تشددًا على صعيد العلاقة مع الفلسطينيين والعرب، وأكثر استعدادًا لخيار القوة في التعاطي مع إيران.
الاستقطاب داخل اليمين
توحي الخارطة السياسية الإسرائيلية بأن التنافس على قيادة دولة إسرائيل سيبقى لسنين طويلة منحصرًا بين القوى التي تشكّل اليمين، بشقيه العلماني والديني، لكن تشكيلة الحكومة الجديدة ستؤدي إلى حدوث تحول واضح على صعيد العلاقة بين مركبات اليمين الإسرائيلي؛ فمنذ التحول السياسي في العام 1977، الذي جاء باليمين بقيادة حزب الليكود لسدة الحكم في إسرائيل، تعاونت الأحزاب والقوى العلمانية اليمينية مع الأحزاب والقوى الدينية من أجل ضمان تواصل حكم الليكود. ووصل الأمر، في العقد الأخير، إلى حد أن اتجه المتدينون إلى اختراق الأحزاب العلمانية اليمينية. على أن تشكيل الحكومة الجديدة يمثل في الواقع نقطة تحول فارقة في العلاقة بين مكونات اليمين الإسرائيلي، بحيث تبلور معسكران رئيسيان متمايزان داخل معسكر اليمين: علماني وديني، يسعى كل منهما إلى توظيف وجوده داخل الحكومة الجديدة لتعزيز فرصه في التنافس على قيادة الدولة. يتمثل أحد هذين المعسكرين في حزب "ييش عتيد"، العلماني من يمين الوسط، وهو الذي يطمح إلى بلورة تشكيل معسكر يضم مكونات اليمين العلماني، وضمنها حزب الليكود، بعد أن يتحرر من وطأة القوى الدينية داخله، التي يتزعمها موشيه فايغلين وزئيف إلكين وغيرهما.
وفي المقابل، هناك المعسكر الذي يقوده حزب "البيت اليهودي" الديني، الذي يطمح أيضًا إلى قيادة الدولة في المستقبل؛ لذا فهو سيسعى إلى تشكيل معسكر كبير يضم الأحزاب والحركات الدينية بمختلف توجهاتها. على أن ما سيساعد نفتالي بنت، زعيم "البيت اليهودي"، الذي يمثل التيار الديني الصهيوني، على تحقيق مسعاه هذا، هو حالة السخط العارمة التي تجتاح المعسكر الديني الحريدي (1)، وتحديدًا حركتي "شاس" و"يهدوت هتوراه"، اللتين لم تعودا جزءًا من تركيبة الحكم؛ مع العلم بأنه باستثناء فترة قصيرة جدًا، ظلت هاتان الحركتان جزءًا لا يتجزأ من الائتلافات الحاكمة التي توالت على إدارة شؤون إسرائيل منذ العام 1977. لقد أصر حزب "ييش عتيد" العلماني على عدم ضم هذين الحزبين للحكومة بحجة أن أتباعهما لا يؤدون الخدمة العسكرية في الجيش، وهما سيغيبان لأول مرة عن دائرة التأثير التي ضمنت لهما تمويل مؤسساتهما الدينية والتعليمية والاجتماعية. صحيح أن الأحزاب الحريدية تشعر بقدر كبير من الغضب على "البيت اليهودي" أيضًا؛ لأنه قبل بخروجهما من الحكومة، إلا أن قيادات هذه الأحزاب تدرك أنه في ظل موازين القوى القائمة لا خيار أمامها سوى التعاون مستقبلاً مع "البيت اليهودي" من أجل بناء جبهة دينية تواجه التيار العلماني.
ومن الواضح أنه في ظل حالة الاستقطاب الجديدة، فإن فرص نتنياهو في المناورة من أجل ضمان بقائه في سدة الحكم تقلصت إلى حد كبير؛ وهذا ما يفسر محاولاته المستميتة لتشكيل ائتلاف جديد، بضم الأحزاب الحريدية وأحزاب يسار الوسط؛ حيث إن هذه الأحزاب لا تقدم نفسها على أنها بديل له في سدة الحكم. كان نتنياهو حريصًا على تشكيل حكومة بدون لبيد وبنت، لأنه أدرك أن حزبيهما سيهددان مستقبله السياسي، لأنهما سيوظفان مصادر النفوذ التي سيحصلان عليها في الحكومة من أجل تحسين قدرة كل منهما على التنافس على زعامة الدولة مستقبلاً، وبذلك سيقويان حالة الاستقطاب داخل اليمين مما قد يؤدي إما إلى تفكك حزب نتنياهو، الليكود، أو إلى تحويله إلى حزب هامشي؛ حيث إن هذا الحزب قائم حاليًا على التجانس بين العلمانيين والمتدينين. ويدرك نتنياهو أن الواقع الجديد سيدفع النخب العلمانية داخل الليكود للانضمام للمعسكر العلماني الذي يسعى لبيد لتشكيله، في حين ستتجه النخب المتدينة نحو المعسكر الذي يقوده البيت اليهودي. ومن نافلة القول: إنه في ظل موازين القوى الجديدة، لم يعد أحد يأخذ بعين الاعتبار أحزاب اليسار، وتحديدًا حزب العمل وحركة ميريتس؛ فهذان الحزبان سيظلان على الأرجح على هامش الحياة السياسية الإسرائيلية لفترة طويلة مقبلة.
حكومة استيطان وتهويد
لا خلاف بين مركبات الحكومة الجديدة الرئيسة: (الليكود وييش عتيد والبيت اليهودي)، على أن مضاعفة وتيرة الاستيطان اليهودي في الضفة الغربية والقدس المحتلة، ستكون على رأس أولويات الحكومة القادمة، مع وجود اختلافات ثانوية. يدافع حزب "ييش عتيد"، الذي عقد مؤتمره التأسيسي الأول في مستوطنة "أرئيل" ثاني أكبر المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية، عن حق المستوطنين في البناء في التجمعات الاستيطانية الكبيرة، كما يؤيد المشاريع التهويدية في القدس. وفي المقابل، يطالب حزب "البيت اليهودي"، الذي يعتبر معظم قادته من المستوطنين، بأن تزيد الحكومة من وتيرة البناء حتى في المستوطنات النائية، التي لا تضمها التجمعات الكبيرة. وبخلاف حزب "ييش عتيد"، حرص "البيت اليهودي" على الظفر بالحقائب الوزارية التي تمكّنه من تطبيق أجندته بشأن الاستيطان؛ فأوري أرئيل، نائب رئيس الحزب، وأحد أبرز قادة المستوطنين في الضفة الغربية، يتولى في الحكومة الجديدة منصب وزير الإسكان؛ وبحكم موقعه هذا، سيتحكم في إصدار العطاءات الحكومية المتعلقة بالبناء في المستوطنات. وقد حرص أرئيل على تبديد أية شكوك بشأن مخططاته في منصبه الجديد؛ حيث قال إنه يؤمن بأن الضفة الغربية (يسميها يهودا والسامرة) هي جزء لا يتجزأ من "الوطن القومي اليهودي"، وشدد بالتالي على التزامه بتكثيف البناء لليهود في كل بقاع هذه المنطقة. وفي المقابل، فإن زعيم الحزب، نفتالي بنت، تولى منصب وزير الصناعة والتجارة، وسيكون بإمكانه من خلال موقعه هذا تحديد ما يعرف بمناطق "الأفضلية الوطنية"، وهي المناطق التي تستحوذ أكثر من غيرها على الاستثمارات الحكومية، كما أن قاطنيها يتمتعون بتسهيلات ضريبية كبيرة. وقد أوضح بنت أنه سيحرص على إقامة مناطق صناعية في محيط المستوطنات اليهودية، ومرافق تشغيل أخرى، لتشجيع اليهود الذين يعيشون في وسط وأطراف إسرائيل على الانتقال للعيش في هذه المستوطنات. وستحظى أية جهود لتعزيز الاستيطان اليهودي في الضفة الغربية بدعم وزراء ونواب الليكود، سيما الجناح المتدين داخل الليكود، الذي يقوده فايغلين وإلكين.
احتمالات انتفاضة ثالثة
من الواضح أن الحكومة الإسرائيلية الجديدة ستقلص ما تبقى من هامش مناورة أمام قيادة السلطة الفلسطينية، وتدفعها إلى خيارات صعبة؛ فعلى الرغم من الضغوط المكثفة التي تتعرض لها السلطة الفلسطينية حاليًا من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، لا يمكنها العودة للمفاوضات في ظل تواصل الاستيطان والتهويد. لقد ألزم الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، نفسه أمام شعبه وأمام العالم بعدم الموافقة على استئناف المفاوضات ما لم تلتزم إسرائيل بوقف الاستيطان، وهذا الشرط لا يمكن أن يتوفر في ظل تركيبة الحكومة الإسرائيلية الجديدة. وما يزيد الأمور تعقيدًا أن تعاظم الاستيطان والتهويد يترافق مع حملات اعتداءات تنفذها مجموعات من المستوطنين اليهود ضد الفلسطينيين في أرجاء الضفة الغربية، دون أن تتمكن السلطة الفلسطينية من تحريك ساكن.
ليس هذا فحسب، بل إن السلطة الفلسطينية ملزمة بالاستمرار في التعاون الأمني مع إسرائيل. وفي الوقت نفسه، فإن كلاً من الولايات المتحدة وإسرائيل تمارسان ضغوطًا كبيرة على قيادة السلطة لعدم تحقيق مصالحة وطنية تنهي حالة الانقسام الداخلي، وهو ما اعترفت به صراحة قيادات في حركة "فتح". كما يخشى عباس أن يؤدي قطع التعاون الأمني مع إسرائيل والتوجه للمصالحة مع حركة حماس إلى اتخاذ قرار أميركي وأوروبي بقطع المساعدات عن السلطة الفلسطينية، مما سيؤدي إلى مزيد من التدهور للأوضاع الاقتصادية في الضفة الغربية. ومن المحتمل أن يدفع انسداد الأفق السياسي والتدهور الاقتصادي والتوسع الذي يمارسه المستوطنون الفلسطينيين نحو ردة فعل جماهيرية قد تصل إلى حد اندلاع انتفاضة ثالثة، تعيد خلط الأوراق في المشهد الفلسطيني والعلاقة مع إسرائيل بشكل كبير.
إحياء عقيدة "لسع الوعي العربي"
إن أكثر ما سيؤثر على السلوك العسكري الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين والعرب هو تعيين موشيه "بوغي" يعلون وزيرًا للدفاع؛ فنتنياهو محاصر بالاستقطاب اليميني؛ وشريكاه الرئيسيان في الحكم، بنت ولبيد، ليسا من ذوي الخلفيات العسكرية الغنية. وبيئة حكومية، كهذه، توفر فرصة مناسبة لتمكين يعلون من وضع مبادئه في التعاطي العسكري مع العرب موضع التنفيذ. ويؤمن يعلون، الذي قاد يومًا وحدة "سييرت متكال"، المسؤولة عن تنفيذ عمليات الاغتيال في عمق البلدان العربية، وتولى قيادة شعبة الاستخبارات ورئاسة هيئة الأركان العامة للجيش، بعقيدة "لسع الوعي الجمعي للعرب" عبر استخدام القوة. وحسب هذه العقيدة التي نظَّر لها في كتابه "درب قصير طويل"، الذي أصدره قبل عامين، يرى يعلون أن القوة وحدها هي سبيل إقناع العرب بالتسليم بوجود إسرائيل في المنطقة، و"ما لم يمكن تحقيقه بالقوة يتحقق بمزيد من القوة". من هنا، فإنه من المتوقع على نطاق واسع أن تتجه الحكومة الجديدة لتصعيد عملياتها العسكرية ضد الفلسطينيين، تحت أي مسوغ. ما قد يؤخر تطبيق هذه السياسة هو تفاقم الوضع في سوريا واحتمال أن تطول الأزمة السورية الأمن الإسرائيلي بصورة أو أخرى.
تزايد أنصار ضرب إيران
تعي إسرائيل أنه في كل ما يتعلق بمخططاتها لمواجهة البرنامج النووي الإيراني، ليس بوسعها تجاهل معطيات البيئة الدولية والإقليمية، وعلى وجه الخصوص موقف الولايات المتحدة المتحفظ على خيار استخدام القوة المسلحة تجاه المشروع النووي الإيراني. وفي الوقت ذاته، فإن النخبة السياسية الحاكمة تدرك أن هناك اختلافًا داخل المستويات العسكرية بشأن فرص نجاح أية ضربة عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية وجدواها على المدى البعيد. ومع ذلك، فإن نتنياهو تحديدًا يرى في القضاء على المشروع النووي الإيراني مشروع حياته، كما يروي مقربوه. يؤمن نتنياهو بأن السماح بامتلاك إيران سلاح نووي يعني حدوث سباق نووي يجعل دولاً عربية وإسلامية قادرة على امتلاك هذا السلاح، سيما مصر وتركيا؛ حيث إنه لن يكون بوسع العالم التشكيك في شرعية حصول هاتين الدولتين على السلاح النووي. وما يرجّح خيار الحرب داخل إسرائيل أن هناك أغلبية واضحة داخل الحكومة الإسرائيلية الجديدة لتأييد خيار القوة المسلحة ضد إيران، في حال لم تنجح العقوبات الاقتصادية والحرب السرية القائمة على توظيف الحرب الإلكترونية في إقناع القيادة الأميركية بالعدول عن مواصلة تطوير البرنامج النووي.
قصارى القول: إن الحكومة الجديدة في إسرائيل ستواصل الاستيطان والتهويد وستكون أكثر استعدادًا للضغط على الزناد.
توسيع هامش المناورة الفلسطني
يتضح مما تقدم أن سياسات الحكومة الإسرائيلية الجديدة ستضيف مزيدًا من التحديات أمام العرب والفلسطينيين تحديدًا، وهو ما يجعلهم في حاجة إلى إستراتيجية متعددة المستويات، فلسطينية وعربية ودولية، لمواجهتها وتقليص هامش المناورة أمامها. فبإمكانهم العمل على نزع الشرعية الدولية عن هذه الحكومة، وهناك ما يمكن البناء عليه في هذا المجال بعد الاعتراف بفلسطين كدولة "مراقب" في الأمم المتحدة؛ فلا يمكن أن توافق غالبية دول العالم على أن تطبق الحكومة الإسرائيلية الجديدة برنامجها الذي يقوم على توسيع الاستيطان والتهويد في أراضي إقليم الدولة الفلسطينية التي حظيت باعتراف دولي. ومن نافلة القول أن هذا يستدعي من العرب الإيضاح للبيت الأبيض أنه ليس من مصلحتهم ومصلحة الولايات المتحدة بعيدة المدى قبول الغطاء السياسي غير المسبوق الذي منحه الرئيس الأميركي باراك أوباما لإسرائيل أثناء زيارته الأخيرة لها، والذي يعني تفويضًا مفتوحًا لهذه الحكومة بأن تفعل ما تشاء. ويستطيع الرئيس الفلسطيني محمود عباس توظيف كل أوراق القوة المستندة إلى عضوية فلسطين في الأمم المتحدة؛ سيما الإسراع برفع دعاوى ضد إسرائيل أمام محكمة الجنايات الدولية؛ بسبب تواصل مشاريع الاستيطان والتهويد والمجازر التي ارتُكبت ضد الفلسطينيين في غزة خلال حربي 2008 و2011. ومما لا شك فيه أن إحدى أهم أوراق الفلسطينيين في مواجهة هذه الحكومة الإسرائيلية تتمثل في إنجاز المصالحة الفلسطينية، والتوافق على برنامج وطني شامل، تندرج فيه القوى الفلسطينية الفاعلة، من أجل تقليص قدرة إسرائيل وغيرها على توظيف حالة التشرذم الفلسطيني الحالية في مراكمة المزيد من الإنجازات.
____________________________
هامش
(1) الحريديم هم جماعة من اليهود المتدينين، يعيشون حياتهم اليومية وفق التفاصيل الدقيقة للشريعة اليهودية. ويسعى الحريديم إلى تطبيق التوراة في إسرائيل.