بعد الانهيار السريع للجيش الأفغاني وسيطرة مقاتلي طالبان على العاصمة الأفغانية كابل دون قتال، بدأ الحديث ينصب على بعض السيناريوهات المحتملة للوضع في أفغانستان.
سعت حركة طالبان بصورة واضحة إلى تقديم رسائل طمأنة داخلية وخارجية تمثلت بإعلان عفو عام، والدعوة للسلام والمصالحة وضمان حقوق المرأة والأقليات وتعليمات صارمة لمقاتليها بعدم الدخول إلى المنازل، وشارك أعضاء من الحركة في مراسم عاشوراء في واحدة من الحسينيات. أكدت الحركة في أول مؤتمر صحفي لها على أن أفغانستان لن تكون منطلقًا لأي عمل يوجَّه ضد أية دولة، ووعدت الشعب الأفغاني بتغيير إيجابي ينعكس على حياته اليومية. وقال الناطق باسم طالبان، ذبيح الله مجاهد: إن الحركة ستركز على ترميم البنية التحتية والمشاريع التنموية. وشدَّد على أن من حق الشعب الأفغاني أن يكون له قانونه الخاص، قائلًا: "على العالم أن يحترم قيمنا". وأوضح أن الحركة تريد بناء نظام إسلامي قوي وستشكِّل حكومة للبتِّ في كل الأمور العالقة. وأكد أن "الإمارة الإسلامية تتعهد بمنح المرأة حقوقها الكاملة التي منحتها لها الشريعة والقانون". وقال: إن المرأة ستباشر عملها في الدوائر الحكومية، وهناك "حصص خاصة بالنساء".
في داخل أفغانستان، وبينما يُجري الرئيس السابق، حميد كرزاي، وعبد الله عبد الله، رئيس مجلس المصالحة الأفغاني، وقلب الدين حكمتيار، رئيس الوزراء الأسبق، محادثات مع قادة طالبان لتسهيل عملية انتقال السلطة بصورة سلمية، يعلن أمر الله صالح، نائب الرئيس الأفغاني الفار، نفسه رئيسًا لأفغانستان ويتحدث عمَّا أطلق عليه "المقاومة".
وما بين الترقب والحذر، تواصل دول العالم متابعة مجريات الساحة الأفغانية، وفي وقت أرسلت الصين رسالة إيجابية بخصوص الاعتراف بحكم طالبان مستقبلًا، ما زال الموقف الباكستاني يراوح بين الدعم ووضع الشروط. وتراقب إيران الوضع مع انتهاج لغة حذرة في الحديث عن طالبان وبقيت سفارتها في كابل مفتوحة ونشطة. أما الدول الغربية، فبادرت بإغلاق سفارتها في كابل وتنتظر الترتيبات الأميركية بشأن المطار لتواصل عمليات الإجلاء.
اعترفت الولايات المتحدة الأميركية بالفشل في أفغانستان ووصفها بايدن بأنها "مقبرة الغزاة" ملقيًا باللوم على الحكومة الأفغانية المدعومة من واشنطن التي سقطت في وقت قياسي وهرب رئيسها، وأكد بايدن أن "القوات الأميركية يجب ألا تقاتل وتموت في حرب رفضت القوات المحلية خوضها".
وقال بايدن -في تغريدة له-: "مهمتنا العسكرية الحالية في أفغانستان قصيرة ومركزة، وهي نقل مواطنينا وحلفائنا بأقصى سرعة. بمجرد انتهاء مهمتنا في أفغانستان نُنهي أطول حرب خاضتها الولايات المتحدة". وأصدر بايدن قرارًا بتخصيص 500 مليون دولار من ميزانية الطوارئ لتلبية احتياجات الهجرة العاجلة من أفغانستان. وذكر بايدن أنه أمر بإرسال 6 آلاف جندي إلى أفغانستان للمساعدة في إجلاء المواطنين والحلفاء والأفغان المعرضين للخطر.
وأحدث الانهيار السريع للحكومة الأفغانية صدمة في واشنطن، وأضرَّ بسمعة الولايات المتحدة بصفتها قوة عظمى خاضت حربًا لمدة عشرين عامًا في أفغانستان. وتعرض بايدن لانتقادات حادة قالت إنه أساء إدارة انسحاب القوات الأميركية؛ مما دفع الولايات المتحدة إلى المسارعة لإخلاء سفارتها وإجلاء رعاياها، بعدما كان قلَّل قبل شهر من أهمية المخاوف من سقوط سريع للحكومة الأفغانية.
طالبان والتحديات القادمة
لا يمكن وصف سيطرة طالبان على أفغانستان بـ"الانتصار السهل" على الرغم من الانهيار السريع للحكومة الأفغانية المدعومة من واشنطن وتفكك الجيش الحكومي الذي خصصت له مبالغ ضخمة في إطار الإعداد والتدريب. وقد أنفقت الولايات المتحدة 2.261 تريليون دولار على الحرب في أفغانستان، وفقًا لمشروع تكاليف الحرب في معهد واتسون بجامعة براون ومركز باردي بجامعة بوسطن.
تواجه حركة طالبان اليوم مجموعة من التحديات، سيكون مستقبل الحركة ومشروعها السياسي رهنًا بطريقة استجابتها ومعالجتها لها، وأهمها:
مصير قوات الجيش الأفغاني: ما مخطط الحركة لإعادة ضبط هذه القوات بعد انهيار المؤسسات الأمنية والعسكرية في أفغانستان: هل تعيد طالبان بناء الجيش الأفغاني كجيش وطني يستوعب هذه القوات أم تتحول إلى ميلشيات محلية مما يفاقم من مخاوف اندلاع حرب أهلية؟ وباستثناء إعلان العفو عن هذه القوات التي قاتلت الحركة خلال السنوات الماضية لم تتحدث الحركة عن خطتها للتعامل مع هذا التحدي.
مستقبل المصالحة: وذلك مرتبط كذلك بتصور الحركة لشكل أفغانستان في المستقبل ونموذج الحكم: هل ستعيد تكرار نموذجها في الحكم أم تقبل بحكم تعددي يستوعب عددًا من الفرقاء المؤثِّرين؟ ويرتبط ذلك أيضًا بالمحادثات التي تجريها الحركة مع الثلاثي المتمثل بحامد كرزاي وعبد الله عبد الله وقلب الدين حكمتيار.
المشروعية والاعتراف الدولي: تعتقد الحركة أنها أثبتت مشروعيتها على الأرض، لكن المسألة تحتاج إلى ما هو أبعد من السيطرة العسكرية على مفاصل البلاد. ويبدو أن تجربة الحركة في مواجهة الاحتلال الأميركي تجعلها تدرك أن الأدوات والمهارات اللازمة لبناء الدولة ككيان سياسي مختلفة عن تلك التي يجري الاحتكام لها في حالات الصراع. ولذلك، فهي تحتاج إلى علاقات جوار وتفاعل على الساحة الدولية وتحتاج بصورة مؤكدة اعترافًا دوليًّا. وإلى الآن أرسلت الحركة رسائل تُظهر اهتمامها الشديد بهذه المسألة.
العلاقة مع "التنظيمات الجهادية": جمعت حركة طالبان وتنظيم القاعدة علاقة قوية ومكلِّفة في ذات الوقت، وكان من كلفها العالية الحرب التي شنَّتها الولايات المتحدة الأميركية على أفغانستان. وحيث لا يمكن تجاهل العلاقة التاريخية بين القاعدة وطالبان يبدو أن طالبان اليوم تحتاج إلى إعادة تعريف العلاقة ومقتضياتها. ولم يتوانَ حلف الناتو عن تحذير الحركة، وقال الأمين العام للحلف، ينس ستولتنبرغ، في أول مؤتمر صحفي له منذ سقوط كابل في أيدي طالبان: "أولئك الذين يتولون السلطة الآن يتحملون مسؤولية ضمان ألا يستعيد الإرهابيون الدوليون موطئ قدم (في أفغانستان)".
أما تنظيم الدولة، حديث الظهور في أفغانستان، فيشكل تحديًا جوهريًّا لمستقبل المشروع السياسي لطالبان، وقد تجد الحركة نفسها مجبرة على الدخول في عمليات مواجهة مسلحة مع التنظيم.
شكل المستقبل
تنقل شبكة "طلوع"، وهي شبكة إخبارية خاصة، عن طالبان أن قيادتها تُجري حاليًّا محادثات في الدوحة وكابل وأنها على اتصال مع المجتمع الدولي والأحزاب السياسية داخل أفغانستان. ويبدو أن الحركة تدرك أنه حان الوقت لتثبت قدرتها على إدارة الدولة وإعادة الحياة إلى مفاصلها. تتحدث طالبان عن مشاورات مع المجتمع الدولي والساسة الأفغان لتشكيل حكومة إسلامية شاملة؛ حيث قال أمير خان متقي، رئيس هيئة الإرشاد والدعوة لطالبان: إن نظام المستقبل مِلك لمن يحكم أفغانستان الآن.
وكما تحتاج إلى مشروع سلام داخلي تحتاج الحركة إلى اعتراف دولي ودعم اقتصادي، ووفقًا لإحصاءات البنك الدولي في عام 2019، كانت المساعدات الخارجية لتنمية البلاد تعادل 22٪ من صافي الدخل لأفغانستان، وهو قريب جدًّا من الناتج المحلي الإجمالي لها. وقد سارعت بعض الدول الغربية، وفي مقدمتها ألمانيا، إلى التهديد بأنها ستوقف مساعداتها إذا أقدمت طالبان على إعلان حكم إسلامي يطبِّق الشريعة.
يمكن لأفغانستان الغنية بالمعادن أن تنهض بأحوال مواطنيها بحسن الإدارة ومحاربة الفساد الذي كان صفة ملازمة للحكومة السابقة. وفي الوقت ذاته، تحتاج إلى التعامل الاقتصادي مع الخارج، ولذلك ستكون الصين التي تحتاج أفغانستان في مشروعها الضخم "الحزام والطريق" خيارًا جيدًا بالنسبة للحكومة المستقبلية في أفغانستان. واعتراف سياسي صيني من شأنه أن يقدم دعمًا سيكون مضاعفًا إذا ما انضمَّت روسيا إلى قائمة المعترفين بالحكومة الجديدة.