من البديهي أن تفضي الثورات الشعبية على النظم الأوتوقراطية إلى مرحلة تستدعي جهود حثيثة لبناء الدولة، وليبيا ليست باستثناء، فالشواهد على ذلك كثيرة. إلا أن الحالة الليبية تستوجب قدرًا أكبر من الاهتمام والتركيز، ولعل أبرز مسوغات ذلك أن ليبيا شهدت عقودًا من العبثية والظلم والاستبداد المطلق (1969-2011) حيث جرى خلالها توظيف كافة خيراتها وإمكاناتها للتمترس في الحكم، وتكريس ذلك الواقع على حساب التنمية والحياة الكريمة للمواطنين. كما أن الحرب للقضاء على هذه الحقبة (فبراير/شباط 2011-أكتوبر/تشرين الأول 2011)، وبغضِّ النظر عن مبرراتها وتصنيفاتها والأطراف المنخرطة فيها، كانت باهظة الكلفة، وذلك من حيث الخسائر في الأرواح والممتلكات، ناهيك عن الجرحى والمفقودين والانتهاكات والدمار، مع انتشار الأسلحة وإطلاق سراح السجناء؛ والأخطر من ذلك؛ تكلس وتفشي ثقافة ناجمة عن مناخ وسلوك استبدادي ممنهج، لعل من تداعياتها انحطاط في منظومة القيم تتمثل في الأنانية والشخصنة والانتهازية والجشع والمصالح الضيقة والفساد، وغيرها من رواسب ممارسات الأنظمة الشمولية، أي "ثقافة القبح" التي تتشكل تحديدًا من "ثالوث إهدار المال العام والشخصنة والإقصاء"(1).
اللافت للنظر أيضًا أن عملية الانتقال في ليبيا ليست كما هي الحال عليه في عديد الدول الأخرى التي تمر بظروف مشابهة؛ حيث تستوجب العمل على تجاوز ثلاث مراحل، وهي: من لا دولة إلى الثورة ثم إلى الدولة. كما أنه من الجدير بالملاحظة في هذا الصدد أن التجارب، وخاصة في إطارنا الإقليمي، تشير إلى أنه كلما تكرس الاستبداد، من حيث التمترس والحدة والانتشار، استعصت سبل القضاء عليه وعلى تكلساته. ولتأكيد هذه الفرضية، يمكن إجراء مقارنة لما يجري من انفلات واحتراب في سوريا والعراق واليمن وليبيا، مع الاستقرار النسبي للأوضاع في كل من مصر وتونس. هذه هي الحقيقة التي تفند أي تعميم في المقارنات الخاطئة بين دول ما تسمى "ثورات الربيع العربي" تحديدًا، والتي يجري تناولها دون مراعاة لهذه الرؤية.
تسعى هذه المساهمة إلى تسليط الأضواء على عنصر بالغ الأهمية والإلحاح، وخاصة في هذه المرحلة التاريخية الحساسة التي تستدعي مزيد الجهود للسعي من أجل صناعة وبناء السلم/الدولة، وهو: "العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية"(2). إن هذا العنصر/المرتكز لا يزال يشكل عائقًا كبيرًا في المسارات التفاوضية، وجهود التحول الديمقراطي وبناء الدولة، وذلك بعد انقضاء ما يناهز العقد من العبث وعدم الاستقرار، أو بالأحرى الانقياد نحو تصنيفات "الدولة الفاشلة".
من هذا المنطلق، نحاول في هذه الورقة البحثية استجلاء السجال الحاصل في ليبيا فيما يخص الجدال حول إشكالية حسم الأولويات بين العدالة والمصالحة، وكيفية التوصل إلى رؤية تنجلي فيها هذه الضبابية المعيقة للاستقرار والتنمية، وذلك بغية المساهمة في مساعي تجاوز المأزق الراهن.
جدلية الأولويات
عند تفحص الأدبيات ذات الصلة، بما في ذلك النظر إلى الحالات المماثلة، نجد أن هناك عدة مقاربات ومدارس فكرية بخصوص مسألة الأولويات فيما يتعلق بموضوع الدراسة، والتي يمكن حوصلتها في السياق التالي:
- هناك رؤية تؤكد على أولوية العدالة الانتقالية، وذلك من خلال وضع مرجعيات قانونية تضمن الحقوق الناجمة عن الأضرار والانتهاكات التي ارتُكبت، وتتضمن الإجراءات والأطر المؤسساتية الرسمية الراعية والداعمة لجهود المصالحات، وما ينجم عنها من توافقات ونتائج.
- وعلى النقيض من المسار القانوني سالف الذكر، هناك رؤية أخرى تستند على فرضية مفادها أن المصالحة عملية استباقية للعدالة الانتقالية، وبالتالي لا يمكن تحقيق وتفعيل الأخيرة إلا بإجراء مصالحة وطنية شاملة. يبدو أن هذه المقاربة مستمدة من موروث ديني ثقافي مجتمعي متجذر منذ القدم. وفق هذا الفهم، نجد من يجزم بأن المصالحة يجب ألا تشمل الانتهاكات المتعلقة بالشرف والعِرض، ومن أبرزها حالات الاغتصاب والتحرش الجنسي. ومن خلال هذا التباين في الرؤى برزت مطالبات تمهيدية/احترازية مفادها ضرورة العمل على الشروع في حوار وطني يشمل كافة أطياف الشعب الليبي، وتُطرح من خلاله أبرز القضايا الخلافية، ولكن هذه المطالبات أفرزت إشكالات جديدة تدور حول عناصر جوهرية تنصب حول ماهية الجهات والأطراف المخولة لإدارة الحوار والضامنة لمخرجاته، بما في ذلك إشكالية تحديد المفاهيم، ومدى مؤامة المناخ والظروف المصاحبة لإجرائه، والتوصل من خلاله إلى مخرجات نتائج توافقية وقابلة للتطبيق.
- وهناك توجه يمزج بين الرؤيتين السابقتين؛ أي يؤسس منطلقاته الفكرية على تلازم متوازٍ لعمليتي العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، بحيث لا يمكن تحقيق إحداهما دون الأخرى. هذا المنحى يعول أساسًا على التفسيرات والاجتهادات القانونية لهذه العلاقة، والتي تؤكد أن المصالحة جزء لا يتجزأ من منظومة العدالة، ويؤكد على حتمية التماهي بين الموضوعين، وذلك من حيث درجة الترابط والتشابك والتداخل والاعتمادية. أي بمعنى، أنهما (العدالة والمصالحة) تدخلان ضمن إطار بنية متكاملة تتمثل في العدالة الاجتماعية، ولهذا لا يمكن تحقيق نجاح لأي منهما بمعزل عن الآخر.
في تقديرنا، ومع مراعاة الحساسية المفرطة للموضوع، يمكن القول: إن توافر الإرادة والمصارحة واستجلاء الحقائق، وتجسير الهوة في وجهات النظر بغية خلق أرضية حوار وبناء الثقة، مع العمل على ترتيب الأولويات في التوافق ومراعاة الظروف النفسية الناجمة عن مرحلة النزاع، وما بعده، يشكِّل العامل الحاسم لخلق مناخ ملائم لتحقيق نجاحات بالخصوص، ولو بشكل نسبي ومرحلي.
مما سبق من توطئة، فإن المغزى من تضمين "جدلية الأولويات" في عنوان الموضوع محل البحث، هو التوصل إلى استنتاجات وأفكار مجدية، سنتطرق من ثلاث زوايا بحيث سنتناول في الجزئية الأولى العدالة الانتقالية، وفي الثانية المصالحة الوطنية، وفي جزئيته الثالثة والختامية، سنسعى إلى طرح مقترحات تتضمن محاولة لحسم إشكالية/جدلية الأولويات، لعلها تسهم في توضيح بعض اللبس الحاصل في التعاطي مع مثل هذه القضايا الحساسة.
العدالة الانتقالية
إن أبرز معوقات التحول الديمقراطي في ليبيا حاليًّا -ومن أهم عناصره تحقيق عدالة تشريعية/مؤسساتية انتقالية- تكمن في تحديد المفاهيم (أي التنازع المفاهيمي – conceptual conflict). على الرغم من توافر مرجعيات موثوقة تحدد هذا المصطلح، وبشكل جلي إلى حدٍّ كبير، إلا أن الحالة الليبية، كما حصل في حالات أخرى مشابهة، تستوجب تفسيرات ومبررات متباينة. هذا دفعنا إلى استجلاء الخلط الحاصل في الاستخدام والتوظيف بين العدالة الانتقالية، والعدالة الانتقائية/الانتقامية.
حينما تمارَس العدالة بشكل انتقائي أو انتقامي يستوجب الأمر توافر بنية وظروف محددة. ورغم حقيقة تصنيف ليبيا "بالدولة البسيطة" وفق "نظرية الدولة" المتعارف عليها في أبجديات علم السياسة، إلا أن الصراع الدائر في ليبيا مردُّه أشخاص ونخب وفئات وتيارات وأيديولوجيات وقبائل ومناطق ومصالح وأجندات وتدخلات خارجية ونوايا مختلفة ومتقاطعة، سواء كانت مصادرها قديمة (ما قبل الاستقلال 1951) أو حديثة (حقبة النظام السابق 1969-2011) أم مستجدة (إفرازات ما بعد انتفاضة 2011). فكل طرف يسعي إلى تحقيق مأربه عبر الاستحواذ على السلطة واحتكارها، وبوسائل وتكتيكات، ومبررات متنوعة.
من وجهة نظرنا، إن تحديد مراكز القوى الفاعلة في ليبيا، مع إمكانية تطابقه مع دول أخرى، يكمن في أن الطرف الأقوى في "حلبة الصراع" هو من يمتلك خماسية السيطرة على مفاصل الدولة، أي تحديدًا: السلاح والمال والتوجه (مهما كان مبعثه ومآربه) والإعلام والدعم الخارجي. بالمقابل، ولا مجال هنا لوضع حسابات المصلحة الوطنية، إلا لأسباب تكتيكية تضليلية.
إن العدالة الانتقالية، وبمفهومها المجرد، تعني إحقاق الحق في المجتمعات التي تمر بمرحلة انتقالية تسمى في نظريات تحليل وتسوية المنازعات بمرحلة ما بعد النزاع (post-conflict)، وتحديدًا عملية بناء السلام (peace building)، والتي تسعى من خلالها المؤسسات المؤقتة التي تسيِّر شؤون الدولة مجابهة التعامل مع إرث ضخم لأنظمة مستبدة يشمل انتهاكات لحقوق الإنسان؛ كالإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية، وذلك في مسعى إلى رفع الحيف، ورد المظالم، وجبر الضرر، وتحقيق دولة المؤسسات والقانون. في هذا الصدد، تتبنى عملية العدالة الانتقالية عدة مقاربات متعارف عليها، لعل أبرزها: تقصي الحقائق ورفع الدعوى القضائية والتعويض وإصلاح مؤسسات الدولة، وخاصة الأمنية منها.
إن الحالة الليبية لا تحتاج إلى توضيح فيما يتعلق بضرورات تطبيق العدالة الانتقالية بعد عقود من الاستبداد المطلق والحرب المدمرة؛ ناهيك عن صراعات وسلوكيات وانتهاكات ما بعد انهيار النظام السابق، ولكن السؤال المطروح في المشهد الليبي هو الكيفية التي يجب التعامل بها لكي نصل إلى تحقيق عدالة انتقالية أمثل، وفي سياق زمني أسرع.
قبل محاولة توضيح هذا التساؤل المحوري المهم، مع الأخذ بعين الاعتبار مدى التطبيقات على حالة الدراسة، ينبغي رصد وتحديد الإطار النظري لاختصاصات العدالة الانتقالية. فمن خلال المنطلقات الفكرية والتجارب العملية ذات الصلة، يمكن بلورة هذه الاختصاصات في أربعة جوانب، وهي:
- الجانب الزمني: أي المرتبط بالفترة الزمنية التي تقع في نطاقها عملية تحقيق العدالة. ففي حالة ليبيا، هناك مرحلتان تاريخيتان (قبل وبعد فبراير/شباط 2011) تدخلان في السجالات الدائرة حول تطبيقات العدالة الانتقالية.
- الجانب المكاني: أي بمعني مدى شمولية تطبيقات العدالة على الانتهاكات المرتكبة ضد المواطنين داخل النطاق الإقليمي الوطني وخارجه.
- الجانب الذاتي/الشخصي: المتعلق بماهية الأشخاص المرتكبين للانتهاكات. هذا يستدعي تحديد كونها مورست من قبلهم بحكم عملهم مع الحكومة، وفي إطار سلوك رسمي منظم، وليس بشكل فردي؛ كما تشمل هذه الشريحة المواطنين والأجانب، وكل من ساهم في ارتكابها أو التخطيط لها، سواءً بشكل مباشر أو غير مباشر.
- الجانب الموضوعي: وهو المتعلق بتحديد نوعية ودوافع الانتهاكات المرتكبة، والتي تدخل في ضمن نطاق الأهداف والاختلافات السياسية/الأيديولوجية وقضايا حقوق الإنسان والشعوب، مثل القتل والتعذيب والخطف والإخفاء القسري ومصادرة الممتلكات والحريات وغيرها من الجرائم ضد الإنسانية(3).
ما سبق يقودنا إلى مجابهة الحقيقة الأهم، ألا وهي أن مثل هذه الاختصاصات تتطلب اشتراطات مسبقة لتحقيق المبتغى (العدالة). إن أبرز هذه الاشتراطات يكمن في وجوب توافر مرجعية قانونية، أي قانون للعدالة الانتقالية، وهذا لا يتأتى إلا بوجود مشرِّع أو سلطة تتمتع بالشرعية والمشروعية، ولها صفة تشريعية. كما يجب أن تكون آليات التطبيق واضحة وقادرة وفعالة، مع وجوب توافر ضمانات لفرض ما يصدر عنها من أحكام وقرارات.
عند استحضار الحالة الليبية (عقب 2011)، ومدى مواءمتها للتأطير النظري للعدالة الانتقالية(4)، نستنتج أن موضوع صياغة تشريع يشمل العدالة كان من ضمن اهتمامات "المجلس الوطني الانتقالي المؤقت"، وهو سلطة تشريعية انتقالية تشكلت إبان الصراع للإطاحة بالنظام السابق. ففي 26 فبراير/شباط 2012، أصدر "المجلس الانتقالي" القانون رقم (17) لسنة 2012 "بشأن إرساء قواعد المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية".
لقد عرَّف القانون في مادته الأولى، والتي خصها بالتعريفات، أن القصد من مصطلح العدالة الانتقالية هو: "مجموعة من الإجراءات التشريعية والقضائية والإدارية والاجتماعية التي تعالج ما حدث خلال فترة النظام السابق في ليبيا وما قامت به الدولة من انتهاكات لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية والعمل على إصلاح ذات البين بالطرق الودية بين بعض فئات المجتمع". كما حددت نفس المادة مصطلح "الوقائع" (أي الجانب الموضوعي) بأنه يشمل "كل فعل يشكل جرمًا أو انتهاكًا لحقوق الإنسان"(5).
أما المادة (2) من القانون، فقد نصت على تحديد النطاق الزمني لتطبيق هذا القانون، وأن أحكامه تسري "...على الوقائع التي حدثت منذ تاريخ 1 سبتمبر/أيلول 1969، إلى حين تحقق الأهداف المرجوة من هذا القانون ولا تسري على الأشخاص الذين أتموا الصلح في ظل النظام السابق كما لا تسري على المنازعات التي صدرت بشأنها أحكام قضائية تم تنفيذها"(6).
وأشار القانون، في المادة (3) منه، إلى أن أهدافه تتمثل في(7):
1- ترسيخ السلم الاجتماعي.
2- ردع انتهاكات حقوق الإنسان.
3- بث الطمأنينة في نفوس الناس وإقناعهم بأن العدالة قائمة وفعالة.
4- تحديد مسؤوليات أجهزة الدولة عن انتهاكات حقوق الإنسان.
5- توثيق الوقائع موضع العدالة الانتقالية وحفظها ثم تسليمها للجهات الوطنية
المختصة.
6- تعويض الضحايا والمتضررين.
7- تحقيق مصالحات اجتماعية.
عند التمعن في الجزء المتعلق بالعدالة الانتقالية من هذا القانون، وخاصة المادتين الأولى والثانية (المشار لهما أعلاه)، يتضح جليًّا ما يكتنفه من ضبابية وانتقائية ومثالب (بعمد أو دونه)؛ مما أدى إلى خضوعه للتأويل والامتعاض، بل والرفض والإلغاء في مرحلة لاحقة. لذا، يمكن بلورة ما حدث من جدال حوله في السياق التالي:
أولًا: لقد حصر القانون، وبصياغة مبهمة، المدى الزمني لسريانه على الأفعال الإجرامية وانتهاكات حقوق الإنسان منذ تولي النظام السابق الحكم (1 سبتمبر/أيلول 1969)، وحتى تحقيق الأهداف المرجوة منه، متجاهلًا بذلك التضمين الصريح لما حصل من وقائع إجرامية من كل الأطراف، وخاصة تلك التي حاربت وأسقطت النظام السابق.
ثانيًا: لقد استثنى القانون من تطبيقاته شريحتين، يستوجب تسليط الضوء عليهما، وذلك لاعتبارات موضوعية، ووفق تقديرنا هما:
- أن المعنيين من الأشخاص الذين تصالحوا مع النظام السابق، هم أولياء الدم لمن أُعدموا، أو ممن كانوا في السجون، أو من المطلوبين، من المعارضين له. لقد تركزت هذه الشريحة على الجماعات الإسلاموية، وعلى رأسها جماعة "الإخوان المسلمين" (التي تبنت الوسائل السلمية لتمكنها من تحقيق أهدافها وغاياتها)، و"الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة" (التي انتهجت ودعمت القوة المسلحة من أجل الإطاحة بالنظام السابق)، مع جماعات إسلامية أخرى، تعد نسبيًّا أقل تأثيرًا وانتشارًا(8).
عقب صراع مع النظام السابق -منذ أن استولى معمر القذافي على دفة الحكم في ليبيا عام 1969- وخاصة خلال عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن المنصرم (بشكل سري أو علني)، ونتيجة للظروف والتطورات الإقليمية والدولية المصاحبة، ومع نزوع "الإخوان المسلمين" للحوار مع النظام السابق، وتخلي "الجماعة المقاتلة" عن مقارعته بالعنف وقوة السلاح، والتي حصلت في نهاية الألفية الماضية ومطلع هذه الألفية، وإثر انطلاق ما كان يسمى "مشروع ليبيا الغد" برعاية "مؤسسة القذافي العالمية للجمعيات الخيرية والتنمية" التي كان يترأسها ويوجهها سيف الإسلام القذافي (نجل "معمر القذافي"، تم التتويح الرسمي للمصالحة بين النظام السابق والجماعات الإسلاموية المعارضة له في منتصف العقد الأول من هذه الألفية.
في عام 2005، وبعد حملة اعتقالات واسعة ومكثفة طالت عناصر من "الجماعة المقاتلة"، بادر سيف الإسلام القذافي، وبتوجيه ومباركة من والده -معمر القذافي- لا محالة، بعقد جولات من المفاوضات الداعية للمصالحة ونبذ العنف والتطرف. وفي عام 2009، نجم عن هذه المفاوضات التوصل إلى اتفاق أفضى إلى إصدار "...قادة «الجماعة المقاتلة» في ليبيا "مراجعات" جديدة للجهاد في شكل وثيقة دينية من 417 صفحة بعنوان "الدراسات التصحيحية". لقد أوضحت المراجعات الجديدة أن الكفاح المسلح ضد نظام القذافي غير شرعي من منظور الشريعة الإسلامية وأعدت إرشادات جديدة تبين متى وكيف يصح الجهاد. ومع ذلك، ذكرت هذه المراجعات أن الجهاد جائز إذا غزا العدو بلاد المسلمين، وتم ذكر أفغانستان والعراق وفلسطين كأمثلة. وقد أدى ذلك في النهاية إلى إطلاق سراح الكثير من قادة «الجماعة المقاتلة» وأعضائها من السجون في مارس/آذار 2010..."(9).
- أما الشريحة الثانية، المستثناة من القانون رقم (17)، المشار له أعلاه، فتشمل المواطنين الخواص الذين قبلوا التعويض (المادي أو العيني)، ممن صودرت ممتلكاتهم بشكل تعسفي من قبل النظام السابق، وذلك تأسيسًا على "الأفكار الاشتراكية" المستمدة من توجيهات معمر القذافي، والمقولات الواردة في "الكتاب الأخضر"(10).
بعد فترة وجيزة من صدور القانون (17)، أي في 2 مايو/أيار 2012، استدرك "المجلس الانتقالي" الجانب المتعلق بمن يشملهم العقاب، وذلك بقناعة منه أو تحت ضغط من قبل "الثوار" الذين شاركوا ومارسوا انتهاكات إبان حرب الإطاحة بالنظام السابق، وأصدر "قانون رقم (35) لسنة 2012 بشأن العفو عن بعض الجرائم"(11).
لقد نصت المادة (1) من هذا القانون على أن الإعفاء لا يسري على ما يلي:
1- الجرائم المرتكبة من زوج المدعو، معمر محمد عبد السلام أبو منيار القذافي، وأبنائه وبناته أصالة أو بالتبني وأصهاره وأعوانه.
2- جرائم الحدود متى رُفعت إلى القضاء.
3- جرائم الخطف والتعذيب والمواقعة بالقوة.
4- جرائم جلب المخدرات والمؤثرات العقلية والاتجار بها.
5- جرائم تسميم المياه أو المواد الغذائية والاتجار بالأغذية والأدوية الفاسدة.
أما المادة (2) منه، فأشارت إلى أن العفو يشمل "الجرائم المرتكبة قبل نفاذ هذا القانون، وتنقضي الدعاوى الجنائية بشأنها، وتسقط العقوبات المحكوم بها، والآثار الجنائية المترتبة عليها، وتُمحى من سجل سوابق المشمولين بهذا العفو، متى توافرت الشروط التالية:
1- في جرائم اختلاس المال العام يشترط رد الأموال المختلسة.
2- التصالح مع المجني عليه أو وليه أو عفو ولي الدم حسب الأحوال.
3- تسليم المحكوم عليه أو المتهم الأشياء والأسلحة والأدوات المستعملة في ارتكاب الجريمة.
4- إعلان التوبة أمام دائرة الجنايات المختصة.
بينما ألغت المادة (3) حق العفو بموجب الأحكام الواردة في هذا القانون "إذا عاد الأشخاص المشمولون به إلى ارتكاب جناية عمدية خلال خمس سنوات من تاريخ نفاذ هذا القانون، ويعادون للسجن لتنفيذ العقوبات المحكوم بها أو ما تبقى منها بالنسبة للمحكومين منهم، وتستأنف الإجراءات الجنائية ضد من انقضت الدعاوى الجنائية بشأنهم طبقًا لأحكام هذا القانون، على أن يعلن ذلك في وسائل الإعلام المختلفة".
عقب تولي "المؤتمر الوطني العام" السلطة التشريعية في ليبيا بتاريخ 7 يوليو/تموز 2012، وانتهاء مهام "المجلس الانتقالي" وفق ما جاء في "الإعلان الدستوري"، وذلك عبر انتخابات ديمقراطية غير مسبوقة منذ العهد الملكي، وتماهيًا مع موضوع الدراسة فيما يتعلق بما دار في أروقته، أصدر "المؤتمر"، في 2 ديسمبر/كانون الأول 2013، القانون رقم (29) لسنة 2013 في شأن العدالة الانتقالية(12)، والذي أُلغي بموجبه القانون رقم (17) المشار له أعلاه.
نص القانون رقم (29) في مادته الأولى على مفهوم العدالة الانتقالية، وأشار إلى أن القصد في تطبيق أحكامه هو: "...معالجة ما تعرض له الليبيون خلال النظام السابق من انتهاكات جسيمة وممنهجة لحقوقهم وحرياتهم الأساسية من قبل الأجهزة التابعة للدولة، عن طريق إجراءات تشريعية قضائية واجتماعية وإدارية، وذلك من أجل إظهار الحقيقة ومحاسبة الجناة وإصلاح المؤسسات وحفظ الذاكرة الوطنية وجبر الضرر والتعويض عن الأخطاء التي تكون الدولة مسؤولة بالتعويض عنها". كما أضاف القانون، وضمن نفس المادة منه، وفي مسعى من المشرع لتجنب الانتقائية في تطبيق أحكامه، مع قدر من التحفظ يتعلق بمن يستهدفه، أنه يشمل تداعيات "انتفاضة فبراير"، وحددها نصًّا في الوقائع التالية:
1- موقف وأعمال أدت الى شرخ في النسيج الاجتماعي.
2- أعمال كانت ضرورية لتحصين الثورة شابتها بعض السلوكيات غير الملتزمة بمبادئها.
وذلك بهدف الوصول الى المصالحة الوطنية وإصلاح ذات البين وترسيخ السلم الاجتماعي والتأسيس لدولة الحق والقانون.
أما المادة (2) من القانون فقد عرَّفت مصطلح "الانتهاك الجسيم والممنهج" بأنه: "انتهاك حقوق الإنسان من خلال القتل أو الاختطاف أو التعذيب الجسدي أو مصادرة الأموال وإتلافها إذا ارتُكب نتيجة توجيه أمر من شخص يتصرف بدافع سياسي، وكذلك التعدي على الحقوق الأساسية بشكل يرتب آثارًا مادية أو معنوية جسيمة". في حين نصت المادة (3) على عنصر جدلي جوهري ضمن جهود المصالحات الوطنية -وهذا ما سنتطرق إليه لاحقًا في هذه الدراسة- وهو المتعلق بالجانب الزمني لمدى سريانه، حيث أشار بأن أحكامه تسري على "...الوقائع التي حدثت اعتبارًا من 1 سبتمبر/أيلول 1969 إلى حين انتهاء المرحلة الانتقالية بانتخاب المجلس التشريعي بناء على الدستور الدائم. هذا يؤكد ويضمن حق الجميع في رفع الدعاوى المتعلقة بالانتهاكات الواردة فيه حتى اللحظة، لأن إقرار دستور دائم للبلاد لم يتحقق حتى تاريخ إعداد هذه الورقة البحثية.
لقد أكد القانون في مادته الرابعة أنه يهدف إلى ما يلي:
1- الاعتراف القانوني بعدالة ثورة السابع عشر من فبراير وكونها حقًّا للشعب الليبي والإقرار بفساد وطغيان وتجريم العهد السابق.
2- الحفاظ على السلم الأهلي وترسيخه.
3- المحاسبة على انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبت تحت غطاء الدولة أو إحدى مؤسساتها أو الأفراد الذين يتصرفون بالاستمداد منها.
4- بث الطمأنينة في نفوس الناس وإقناعهم بأن العدالة قائمة وفعالة.
5- تحديد مسؤوليات أجهزة الدولة أو أي أطراف أخرى عن انتهاكات حقوق الإنسان.
6- تحقيق الوقائع موضوع العدالة الانتقالية وتوثيقها وحفظها وتسليمها للجهات الوطنية المختصة.
7- إلغاء القوانين الجائرة التي انتهكت حقوق الإنسان ومكَّنت للطغيان في البلاد.
8- جبر الضرر الواقع بالضحايا والمتضررين نتيجة الوقائع التي يشملها مفهوم العدالة الانتقالية وفق هذا القانون وتعويضهم عن الأضرار التي تكون الدولة مسؤولة بالتعويض عنها.
9- تحقيق مصالحات مجتمعية.
10- كشف وتوثيق أوجاع معاناة المواطنين الليبيين في النظام السابق.
11- إصلاح مؤسسات الدولة.
كما نص القانون، فيما تبقى من مواد في فصله الأول، على مكونات وجوانب تحقيق العدالة الانتقالية، والتي شملت "المصالحات الاتفاقية" و"العفو التشريعي والعفو العام" (المادة 5)؛ وبطلان ومعالجة آثار "التشريعات الظالمة" التي صدرت في حقبة النظام السابق (المادة 6).
في سياق أهمية إجراءات متابعة وتنفيذ أحكام القانون رقم (29)، وفق رؤية المُشرع، خُصص حيز كبير منه لاستحداث آلية مستقلة تحت اسم "هيئة تقصي الحقائق"، تعرَّض خلالها لجملة من التفاصيل المتعلقة بأهدافها ومهامها واختصاصاتها وسلطاتها وإدارتها ومدة عملها وميزانيتها(13). أما ما تبقي من نفس القانون من مواد ونصوص فقد تطرقت لمسائل التعويضات المادية والمعنوية المترتبة على الانتهاكات التي حصلت (الفصل الرابع)، ودعم العدالة الانتقالية عبر إنشاء "هيئة رد المظالم العقارية"، وسحب الجنسية من الأشخاص الممنوحة لهم من قبل النظام السابق بالمخالفة"، و"التشجيع على رد الأموال المكتسبة بطريقة غير مشروعة" (الفصل الخامس)؛ بالإضافة إلى "أحكام ختامية" تطرقت نصوصها إلى "تجريم الامتناع عن مساعدة الهيئة" و"إلغاء القانون رقم (17)"، وإصدار لائحة تنفيذية تخص "هيئة تقصي الحقائق والمصالحة".
المصالحة الوطنية
عند التمعن في القوانين الصادرة بخصوص موضوع الدراسة، والتي خصصنا لها حيزًا للخوض في بعض التفاصيل ذات الصلة، نستنج أن الجانب الرسمي، والمتمثل في الأجهزة التشريعية بعد 2011، سواء منها المختارة (المجلس الانتقالي) أو المنتخبة (المؤتمر الوطني) والذي حل محله "مجلس النواب" في فترة لاحقة، تبنى مقاربة التعاطي مع المصالحة الوطنية بالتلازم مع تحقيق العدالة الانتقالية، إلا أن صيغ تناول كلا العنصرين شابها شيء من التعارض والغموض والانتقائية؛ مما أسهم إلى حد كبير في عدم التوصل إلى نجاحات عملية، وذلك بسبب اختلاف الرؤى والتوجهات والمصالح والمطامع.
بالإضافة إلى الملاحظات والمآخذ التي تعرضنا لها سلفًا، فيما يخص تطبيقات أحكام نصوص العدالة الانتقالية من زوايا المدى الزمني ومن يشملهم في ذلك (الجانب الذاتي/الشخصي)، ترى الدراسة أن من أبرز الإخفاقات والانتكاسات التي تعرضت لها مساعي القدر المأمول من المصالحات والعدالة، وتحقيق قدر من الاستقرار، وتجنب حدة التصعيد الذي وصل إلى درجة الصراعات المسلحة، تكمن في القانون الصادر من قبل "المؤتمر الوطني العام"؛ تحت اسم "قانون رقم (13) لسنة 2013 في شأن العزل السياسي والإداري"(14).
إن هذا القانون، الذي نعته الكثير بالكيدي/الغرضي، من حيث النوايا والمقاصد والأهداف، شمل شرائح كبيرة من الليبيين؛ مما تسبب في خلق استعداءات مجانية مضافة، وفسح المجال لسجال كبير على النطاق الشعبي، لأنه شمل الوظائف والمناصب، وليس السلوكيات. كما أنه جاء تحت ضغوطات وإكراهات وتهديدات، وذلك نتيجة صراعات على السلطة بين أحزاب وكتل وتيارات سياسية يسعى كل منها لتخوين وإقصاء الآخر من مشهد السلطة وتولي المناصب القيادية العامة، دون مراعاة للمصالح العليا للدولة (العراق أنموذجًا). ومن القضايا الخلافية أن القانون، خلافًا للقانون رقم (17) الملغى بحكم القانون رقم (29)، لم يشمل، وبشكل جلي وقاطع، كل من تصالح مع منظومة الحكم السابقة، والذي يشمل معارضين وسجناء سياسيين، إلا أنه أكد على تطبيق أحكامه على كل الممارسات غير القانونية منذ 1 سبتمبر/أيلول 1969 وحتى 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011؛ أي بمعنى عدم سقوطه بالتقادم، مع عدم ترك مجال لسريانه على الانتهاكات التي وقعت عقب "التحرير".
عقب الانتخابات النيابية التي نجم عنها استحداث وتشكيل "مجلس النواب الليبي" ليحل محل "المؤتمر الوطني العام"، في 25 يونيو/حزيران 2014، واستدراكًا للخلل الذي شاب "قانون العزل السياسي والإداري"، وفي مسعى لكسب ود ورضا شريحة عريضة (إثر الانقسام السياسي/المؤسساتي)، من قبل من شملهم العزل وتضرروا من تطبيقاته، أصدر مجلس النواب القانون رقم 2 لسنة 2015(15)، والذي ألغى بموجبه "قانون العزل" الصادر عن "المؤتمر الوطني" في مرحلة سابقة، معلِّلًا ذلك بأن إقراره كان تحت ضغوطات وليس وفق قناعات، وأنه يشكل حجر عثرة في مسار المصالحة، وبناء الدولة(16).
ليس هذا وحسب، فلنفس الدواعي والمقاصد المبطنة، أصدر نفس المجلس "القانون رقم (6) لسنة 2015 في شأن العفو العام".
وعلى النقيض من الوهن والعوائق التي تعرض لها الجانب الرسمي في مجال المصالحات، تمكن الجانب غير الرسمي/الأهلي، وعلى مستويات مجتمعية ومناطقية متنوعة، من تحقيق قدر من الإنجازات المهمة في هذا الصدد، مما أسهم في تهدئة(17) عديد التوترات التي كادت أن تنزلق نحو التصعيد، وتأجيج الصراعات.
هذا القصور من قبل أداء الجانب الرسمي يتطلب العمل على تبني مقاربة "دبلوماسية المسارات المتعددة" (multi-track diplomacy) في نظرية تسوية المنازعات بالطرق الدبلوماسية(18)، والمطالبة بحوار وطني مجتمعي غير إقصائي تطرح من خلاله كافة القضايا الخلافية الجوهرية.
على الرغم من الاستعصاءات الجمة التي تعتري تحقيق توافق بشأن الحوار -سواء فيما يخص الملفات المطروحة أو الأطراف الداعمة والراعية والمشاركة أو الظروف المصاحبة- إلا أن المصالحة الوطنية لا تزال تشكل الركيزة الأهم في تفعيل الحوار، وذلك بسبب تركيبة النسيج الاجتماعي الليبي؛ وتأثير الموروث الديني/المجتمعي/التاريخي/لثقافي على مفاضلة فض الخلافات سلميًّا. هذا يستوجب التعريج على مفاصل المصالحة الوطنية في السياق الليبي.
في إحدى إسهاماتنا العلمية المنشورة في كتاب حول تسوية المنازعات، أوضحنا أن وسائل التسوية السلمية للمنازعات تستند إلى مصدرين أساسيين: أحدهما دبلوماسي والآخر قانوني. كما اقترحنا التعويل أكثر على الوسائل الدبلوماسية لعدة اعتبارات، لعل أهمها:
- تأصل وتجذر تسخير الوسائل الدبلوماسية في موروثنا الثقافي والاجتماعي.
- الروتينية وما ينجم عنها من ضياع للوقت وهدر للجهود والأموال عند توظيف الآليات القانونية.
- اعتماد الأسلوب الدبلوماسي على الحلول التوافقية أي معادلة الربحية win-win outcome، بمعنى أنه بإمكان كل الأطراف المتنازعة الحصول على حد أدنى من المكاسب. أما القانوني فيبقى خاضعًا لإمكانية الربح أو الخسارة (win-loose outcome)، أي قد يربح طرف ويخسر آخر.
- تنامي ظاهرة الميل للأسلوب الدبلوماسي على الصعيد العالمي(19).
بالإضافة إلى ما سبق ذكره، يمكن القول: إن هناك أسبابًا جوهرية عديدة تجعلنا ننحاز للمسار الدبلوماسي في التسوية. فحين نرصد التفاعلات والتعاملات الحياتية اليومية في مجتمعاتنا قد لا نكون مغالين في الإفصاح عن أن تقاليد اللجوء إلى للوساطة والتفاوض في منطقتنا تحديدًا قديمة قدم النزاعات نفسها.
وتأسيسًا على إرثنا الثقافي المستمد في مجمله من ديننا الإسلامي الحنيف، ونتيجة للتركيبة المتميزة لنسيجنا المجتمعي، فإن الوساطة -وخصوصًا في نسقها الشعبي أو غير الرسمي- لا تزال ضمن القيم الاجتماعية الراسخة التي تحتل مقامًا رفيعًا في أوساطنا الاجتماعية. في هذا الإطار، حيث يجري احتواء النزاع دون اللجوء للوسائل القضائية، فإن أطراف النزاع، ومن ضمنهم الوسيط، أو ما اصطلح على نعته بالطرف الثالث (third party)، يسجَّل في رصيدهم الثناء والتقدير، وذلك من قبل الجماعات التي يقطنون معها أو ينتمون لها.
وفقًا للأعراف والتقاليد السائدة والمتأصلة في هذا الجزء من العالم، فإن عملية اللجوء للمحاكم (أو أية جهة قضائية أخرى) عادةً ما تُفسَّر على أنها سلوك غير سوي، أو مُخزٍ. في هذا السياق، أزعم أن الوسائل القانونية قد تضع حدًّا للخلافات ولكنها في الغالب لا تضع حلًّا نهائيًّا لها. لذا، فإن احتمالية استئناف العداوة، واتساع نطاقها وحدتها بين الأطراف ذوي العلاقة، تبقى قائمة.
فالوسيط في منطقتنا عادةً ما يكون شخصًا قادرًا وذا مكانة متميزة (كشيخ قبيلة أو عشيرة)، أو متعلمًا (والأفضلية للمتخصص في الشؤون الدينية)، أو من يتمتع بسمعة مرموقة في وسطه الاجتماعي (أي من الحكماء والوجهاء والأعيان). أما في عصرنا الراهن، فقد أفرزت الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية السائدة شرائح جديدة بدأت تتبوأ مكانةً بارزةً داخل دائرة تسوية الخلافات. من هؤلاء، وعلى سبيل المثال لا الحصر، المتنفذون أو الأشخاص الفاعلون في المجتمع، كذوي التأثير والنفوذ المادي (الأثرياء) والسياسي (النخب السياسية الحاكمة وصناع القرار)(20).
تأسيسًا على هذه المقاربة النظرية، ومدى مواءمتها مع واقع الحالة الليبية -إثر تأزم الأوضاع بعد 2011- وذلك من حيث المبادرات والجهود التي بذلت من أطراف ومكونات وفاعلين وطنيين مجتمعيين غير رسميين (زعامات قبلية ومناطقية/ شخصيات عامة/ مؤسسات مجتمع مدني/ منظمات غير حكومية) يمكن التأكيد على حقيقة أن نجاحات نسبية قد تحققت؛ مما أسهم إلى حد كبير من محاولة رأب الصدع والحد من تنامي حدة الصراعات. ولكن التجاذبات السياسية والأيديولوجية الناجمة عن غلبة المصالح الفئوية الضيقة، والتدخل الأجنبي بكافة ألوانه، مع انتشار السلاح وتغول التشكيلات المسلحة المارقة، وغيرها من العوامل، قد أربكت المسار غير الرسمي في تحقيق المأمول من درجات المصالحة والسلم والاستقرار وبناء الدولة(21).
ملاحظات ختامية
من خلال ما سبق طرحه من أفكار ورؤى في ثنايا هذه الدراسة، يمكن القول بأن واقع الحال في ليبيا في هذا الشأن لا يزال تعتريه جملة من المعوقات التي يمكن إيجازها كما يلي:
- يرى البعض ممن تضرر من مرحلة "النظام السابق"، بأنه لا مجال لتطبيق عدالة انتقالية دون تطهير الأجهزة القضائية والعدلية والأمنية من كافة العناصر الموالية والمحسوبة على هذا "النظام"؛ وخاصة ممن ارتكبوا أفعالًا وجرائم مشينة، أو أصدروا قرارات وأحكامًا جائرة ضد كل من عارض معمر القذافي، أو حمل السلاح ضده. كما يرى بعضهم أن المصالحة لا يمكن أن تشمل الجرائم الأخلاقية كالاغتصاب والتحرش الجنسي (أي جرائم العِرض)، أما الجرائم الأخرى، والمتعلقة بالدم، وغيرها من الممارسات الإجرامية (خطف/تعذيب/مصادرة أموال وممتلكات...إلخ)، فهي عرضة للتفاوض وفق قاعدة "الدية" والتعويض وجبر الضرر ورد المظالم، مع إبقاء الحق العام، والمطالبة به عند تفعيل آليات العدالة.
- بالمقابل، نجد الطرف المؤيد لمنظومة الحكم السابقة (أثناءها وخلال حرب 2011)، بمن في ذلك جلُّ من تضرر من التشكيلات المسلحة غير الشرعية وسلوكيات المروق، فيما بعد فبراير/شباط، يطالب بتطبيق العدالة الانتقالية على كل المراحل، دون استثناء، وذلك لتشمل الانتهاكات التي مورست في مرحلة ما بعد سقوط النظام السابق؛ والقصد هنا حالات التهجير والنزوح والخطف والحرابة والإخفاء القسري والقتل والاستيلاء على الأموال والممتلكات والاعتقال خارج إطار سلطة الدولة، وغيرها من التصرفات غير القانونية.
خاتمة
من خلال ما ورد، ومن تتبع واقع الحال المستعصي الراهن في ليبيا، يمكن استنتاج أن السبب لا ينحصر في عدم القدرة على بسط السيطرة، بل يكمن في توجس وعدم رغبة بعض الأطراف في إقرار وتفعيل قانون عدالة انتقالية شامل وغير انتقائي، ولأسباب سعت الدراسة لتفحُّصها وإماطة اللثام عنها. والجدير بالذكر أن الدليل القاطع على حساسية هذا الملف هو بقاؤه من أبرز القضايا الخلافية في المفاوضات الوطنية الليبية، وخاصة فيما يتعلق بتشكيل الحكومة (مهما كانت مسمياتها) والمعايير ذات الصلة بتولي المناصب السيادية الحساسة مستقبلًا.
وخلاصة القول: إن على جميع الفرقاء إعادة النظر في مواقفهم المتصلبة حيال الموضوع، وذلك بالتوافق والعمل معًا من أجل تفعيل قانون للعدالة الانتقالية مع فسح المجال للمؤسسات غير الرسمية لبذل جهود متوازية لتحقيق المصالحة الوطنية وجبر الضرر ورد المظالم والعفو عند المقدرة، والشواهد على إيجابيات هذا المنحى لا تستدعي التعمق وبذل الجهد في التفكير. من هذا المنطلق، أرى أن على القوى المجتمعية الليبية الفاعلة والمؤثرة، ومن أهمها وجهاء وأعيان القبائل والمناطق والحكماء، والنخب الأكاديمية والثقافية، ووسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، ومؤسسات المجتمع المدني (حديثة العهد نسبيًّا) -مع دعم حقيقي من قبل المنظمات الدولية والإقليمية المعنية- أن تكثف جهودها من أجل فض الخلافات والسلم الاجتماعي واستتباب الأمن في بناء دولة القانون والمؤسسات، التي كانت غائبة (أو بالأحرى مغيبة) عن ليبيا ردحًا طويلًا من الزمن.
(1) محمود أحمد أبوصوة، "ليبيا من الاحتلال إلى المروق: دولة العقيد أنموذجًا"، موقع أكاديميا بدون تاريخ، (تاريخ الدخول: 23 سبتمبر/أيلول 2021):
https://www.academia.edu/7403260/Libya_from_occupation_to_a_rogue_State
(2) سنشير لها اختصارًا فيما تبقى من هذه الدراسة بـ"العدالة" و"المصالحة".
(3) انظر مثلًا: مصطفي محمد رحاب وعامر الحسين النعاس وإدريس عمر القويضي، "توطئة نحو بناء رؤية للعدالة الانتقالية في ليبيا"، (طرابلس، مركز ليبيا للدراسات الاستراتيجية والمستقبلية، 2013)، صص 42-43.
(4) في هذا السياق، انظر مثلًا: وحيد الفرشيشي وآخرون، "دليل العدالة الانتقالية في ليبيا"، المعهد العربي لحقوق الإنسان والوكالة السويدية للتعاون الإنمائي الدولي (Sida)، تونس، 2015.
(5) المادة 1 من "قانون رقم (17) لسنة 2012 بشأن إرساء قواعد المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية"، المجلس الوطني الانتقالي المؤقت-ليبيا، 26 فبراير/شباط 2012، الموقع الإلكتروني لمركز جنيف لحوكمة قطاع الأمن-ديكاف، (تاريخ الدخول: 23 سبتمبر/أيلول 2021):
https://security-legislation.ly/ar/node/31725
(6) المادة 2 من "قانون رقم (17) لسنة 2012 بشأن إرساء قواعد المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية"، نفس المصدر.
(7) المادة 3 من "قانون رقم (17) لسنة 2012 بشأن إرساء قواعد المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية"، نفس المصدر.
(8) لمزيد التفاصيل حول التيارات الإسلاموية في ليبيا، انظر على سبيل المثال:
- هارون ي. زيلين، "التيار الإسلامي في ليبيا"، معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، أبريل/نيسان 2013، (تاريخ الدخول: 21 سبتمبر/أيلول 2021):
https://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/view/islamism-in…
- نظرًا للظروف الأمنية في ليبيا، طلب الكاتب من الناشر عدم الكشف عن هويته، "الجماعات الإسلامية في ليبيا: خطوات الهيمنة السياسية وتحدياتها"، منظمة فريدريش إيبرتج Friedrich Ebert Stiftung، 2015.
(10) للاطلاع على المرجعيات القانونية ذات الصلة بمصادرة وتأميم الأصول والممتلكات الخاصة، انظر:
- "قانون رقم 4 لسنة 1978 بشأن بعض الأحكام الخاصة بالملكية العقارية"، الأمانة العامة لمؤتمر الشعب العام، 6 مايو/أيار 1978، الموقع الإلكتروني لوزارة العدل، ليبيا، (تاريخ الدخول: 23 سبتمبر 2021): https://aladel.gov.ly/home/?p=1069
- "قانون رقم 123 لسنة 1970م في شأن التصرف في الأراضي الزراعية والمستصلحة المملوكة للدولة‘، مجلس قيادة الثورة، 7 سبتمبر/أيلول 1970، الموقع الإلكتروني لوزارة العدل، ليبيا، (تاريخ الدخول: 23 سبتمبر/أيلول 2021): https://aladel.gov.ly/home/?p=1052
- المادة (2) من "قانون رقم 88 لسنة 1975م بتقرير حكم خاص ببعض حالات بيع الأراضي المملوكة للدولة"، مجلس قيادة الثورة، 3 سبتمبر/أيلول 1975، الموقع الإلكتروني لوزارة العدل، ليبيا، (تاريخ الدخول: 23 سبتمبر/أيلول 2021):
https://aladel.gov.ly/home/?p=1096
لمزيد التفاصيل حول ملابسات وتداعيات القانونين رقم (4) و(123)، انظر:
سليمان إبراهيم وجان ميخائيل أوتو، "علاج منازعات الملكية العقارية في ليبيا ما بعد القذافي، في إطار العدالة الانتقالية"، التقرير النهائي لمشروع شراكة بحثية ليبي-هولندي، مركز دراسات القانون والمجتمع -جامعة بنغازي ومؤسسة فان فولينهوفين للقانون والحوكمة والمجتمع- جامعة ليدن، 2017، (تاريخ الدخول: 25 سبتمبر/أيلول 2021):
https://www.universiteitleiden.nl/binaries/content/assets/rechtsgeleerd…
(11) "قانون رقم (35) لسنة 2012م بشأن العفو عن بعض الجرائم"، المجلس الوطني الانتقالي المؤقت-ليبيا، الجريدة الرسمية العدد 6، 2 مايو/أيار 2012، الموقع الإلكتروني لمركز جنيف لحوكمة قطاع الأمن-ديكاف، (تاريخ الدخول: 25 سبتمبر/أيلول 2021):
https://securitylegislation.ly/ar/node/31677
(12) "قانون رقم (29) لسنة 2013م في شأن العدالة الانتقالية"، المؤتمر الوطني العام، الموقع الإلكتروني لوزارة العدل، ليبيا، (تاريخ الدخول: 19 سبتمبر/أيلول 2021):
https://aladel.gov.ly/home/uploads/sections/458_Transitional_Justice_La…
(13) المواد 7-22 من "قانون رقم (29) لسنة 2013م في شأن العدالة الانتقالية"، نفس المصدر.
(14) "قانون رقم (13) لسنة 2013م في شأن العزل السياسي والإداري"، المؤتمر الوطني العام- ليبيا، 8 مايو/أيار 2013، الموقع الإلكتروني لمركز جنيف لحوكمة قطاع الأمن-ديكاف، (تاريخ الدخول: 25 سبتمبر/أيلول 2021):
https://security-legislation.ly/ar/node/31771
(15) "قانون مجلس النواب رقم (2) لسنة 2015م بشأن إلغاء القانون رقم(13) لسنة 2013 في شأن العزل السياسي والإداري"، مجلس النواب الليبي/دولة ليبيا، 8 يونيو/حزيران 2015، (تاريخ الدخول: 25 سبتمبر/أيلول 2021):
https://www.parliament.ly/wp-content/uploads/2017/05
(16) يستوجب التنويه هنا أنه على الرغم تنامي الشعور بالاستقرار النسبي الذي شهدته ليبيا عقب الانتخابات النزيهة والديمقراطية للمؤتمر الوطني (2012)، والالتزام بما جاء في "الإعلان الدستوري"، مما رفع من سقف الثقة والطموحات لدى عامة الليبيين، إلا أن مجريات وتداعيات انتخابات مجلس النواب عام 2014 شكلت تحولًا مفصليًّا ومنزلقًا جوهريًّا خطيرًا فيما آلت إليه ليبيا لاحقًا من أحداث مؤلمة وخلافات وصراعات، لا يتسع المجال للخوض في تفاصيلها، إلا أنها وصلت إلى حد الانقسام السياسي/المؤسساتي (بين شرق البلاد وغربها)، والانفلات الأمني، والانهيار الاقتصادي، وما ترتب عليه من تردٍّ معيشي، وتصدع في النسيج المجتمعي، وقتال مسلح بين الأطراف المتصارعة من أجل الهيمنة على السلطة والثروة والنفوذ (وتداعياته السلبية الوخيمة كالنزوح والتهجير القسري)، والتي فاقمت من تأججها أطراف أجنبية تسعى لتحقيق مصالحها ومآربها وفق سياسة "الحرب بالوكالة"، بما في ذلك ما تقوم به عناصر من بقايا أتباع النظام السابق الفاعلة، والتي تسعى جاهدة للانتقام والتشوية والخشية من الملاحقة العدلية في حال قيام دولة مؤسسات وقانون.
لمزيد التفاصيل، انظر مثلًا:
معمر الخليل، "القصة الكاملة للثورة الليبية ثورة 17 فبراير-تسلسل الأحداث"، موقع "القصة الكاملة" الإلكتروني، 12 مايو/أيار 2019: https://alstory.co.uk
(17) "التهدئة" (settlement)، وفق علم تسوية المنازعات، هي درجة من درجات التسوية، وهو تصنيف لا يرقى إلى مستوى إنهاء أو الفض النهائي للنزاع، بل هي حالة مؤقتة قد تتوافر ظروف مصاحبة إلى عدم الالتزام بها من قبل الأطراف المتنازعة، وقد توظف أحيانًا من قبل الجانب الرسمي لدواع تكتيكية متعمدة بغية كسب الوقت أو لغرض المساومات على حساب قضايا خلافية أخرى. من خلال تفحص ورصد التجارب، تعتبر "التهدئة" إحدى أبرز ملامح سبل تسوية المنازعات العربية الداخلية والبينية. لمزيد من التفاصيل حول "تصنيفات الاستجابة للمنازعات"، انظر: أحمد علي الأطرش، "تسوية المنازعات الدولية: مدخل نظري في الوساطة الدولية"، (طرابلس، ليبيا: الدار الأكاديمية للطباعة والتأليف والترجمة والنشر، 2009)، صص 36-41.
(18) يمكن الاطلاع على الأفكار والدراسات المتعلقة بهذه الفكرة، من مصدرها ومنبعها الأساس، في موقع معهد دبلوماسية المسارات المتعددة: https://www.imtd.org
(19) أحمد علي الأطرش، "تسوية المنازعات الدولية: مدخل نظري في الوساطة الدولية"، مصدر سبق ذكره، صص 14-15 .
(21) انظر: أحمد علي الأطرش، "المشهد السياسي والأمني في ليبيا: رؤية تحليلية استشرافية"، المنظمة الليبية للسياسات والاستراتيجيات (LOOPS)، 2015.