الاقتصاد المصري.. المشاريع التجميلية بديلا عن التنمية الهيكلية

تناقش هذه الورقة، مصداقية البيانات والتصريحات المتعلقة بنسب النمو الاقتصادي والفقر في مصر، وتحلِّل سياساتها، وطريقة تناول ومعالجة موضوعها، لتنهي بتفسيره وتجذيره ضمن سياقه التاريخي والأيديولوجي العام ودوافعه الموضوعية الخاصة في السياق المصري.
واقع الفقر في مصر لم يتراجع فعليا رغم المؤشرات الإحصائية المعلنة (وكالة الأنباء الأوروبية)

مع إصدار الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء تقريره الأخير عن الدخل والإنفاق والاستهلاك لعام 2020، أطلقت وزارة التخطيط على أساس من بياناته تصريحات لافتة عن انخفاض معدلات الفقر في مصر لأول مرة منذ عشرين عامًا؛ ما يمثل إنجازًا جديرًا بالاحتفاء والتعليق حال صحته، لكن الغريب أن تلك التصريحات قُوبلت بحالة غريبة من عدم الاهتمام، والتي تستدعي بحدِّ ذاتها التساؤل والتأمل!

فهل يعكس عدم الاهتمام هذا استخفافًا بالإنجاز في حدِّ ذاته في بلد يعاني فقرًا حادًّا أم يعبِّر عن حالة عدم الثقة التقليدية في التصريحات والبيانات الحكومية؟ وهل يتعلق الأمر بمجرد ميراث عدم الثقة بين المواطن والحكومة في مصر لسوابقها في عدم المصداقية أم أن له أبعادًا أخرى تعكس موقفًا عامًّا من مُجمل نموذج السياسات المصري الحالي؟

وللمُصادفة الغريبة، تزامن مع هذه التصريحات هجوم بعض المحسوبين على الإعلام الحكومي على فيلم "ريش"، بدعوى تشويهه لسمعة مصر، بدعوى كذبه وتهويله حول حقائق الفقر فيها، وإنكاره للمُنجزات التي تحققت في مصر في ظل "الجمهورية الجديدة"؛ ما أثار خليطًا من السخرية والاستياء، سواء من مبالغات ماسحي الجوخ الملكيين أكثر من الملك، أو من محاولة كتم أي صوت مُخالف، ولو بشكل فني غير مباشر!

هذا ما تناقشه هذه الورقة، فتبدأ بمراجعة مُوجزة للمصداقية "التقنية" للبيانات والتصريحات نفسها،  تردفها بفحص علمي للمصداقية "السياقية" لموضوعها ذاته، ثم تحلِّل الإطار السياساتي العام الذي تأتي ضمنه التصريحات والبيانات وطريقة تناول ومعالجة موضوعها، لتنهي بتفسيره وتجذيره ضمن سياقه التاريخي والأيديولوجي العام ودوافعه الموضوعية الخاصة في السياق المصري.

أنصاف الحقائق: نظرة في الحقائق المادية

إن أحد أذكى أساليب التورية على الحقائق، هو التركيز على بعضها وتجاهل بعضها الآخر، أو إبراز بعض جوانبها والتغاضي عن جوانبها الأخرى، وهذا هو بالضبط ما يمكن قوله عن التصريحات الحكومية الأخيرة بـ"انخفاض الفقر في مصر لأول مرة منذ عشرين عامًا"، فبمنطق الأرقام والتقديرات المعزولة عن أي سياق، بما فيها سياق واتجاه تطور الأرقام نفسها، لا خطأ في القول في حدِّ ذاته وبمعناه الضيق على الإطلاق، فقد انخفض معدل الفقر من 32.5% إلى 29.7% خلال الفترة 2017-2020، وبغضِّ النظر عن الاختيار التحكمي للفترة (وما يمكن أن يُساق لتبريره من حُجج يتفاوت مدى قبولها بحسب اتساق منطقه وهدفه)، بتجاهل التقرير فترة ما قبل التعويم وما بعد الكورونا، ببدء بياناته بعد تجاوز آثار الأول (2017) والتوقف بها قبل ظهور الثاني مباشرةً (2020)!؛ فقد تغافلت التصريحات عن عدد من الجوانب الأخرى الكاشفة فائقة الدلالة في فهم حقيقة هذه الأرقام.

فأولًا: يقتصر هذا الانخفاض على الفترة ما بعد عام 2016؛ حيث لا تزال الأرقام الحالية أعلى من نظيرتها قبل الارتفاع الكبير نتيجة صدمة التعويم، فدقيق القول هو: "انكسار الاتجاه الصاعد" في  الفقر منذ عشرين عامًا لأول مرة، والذي لم تتأكد حتى الآن حقيقته كانعكاس للاتجاه أم مجرد تراجع عَرَضي، ناهيك عن تراجعه لمستوياته قبل عشرين عامًا، كما حاولت بعض الصفحات الإعلامية غير الرسمية تصوير الأمر عن وعي مُغرض أو سوء فهم؛ حيث لا يزال الفقر في الواقع أعلى بكثير من مستواه في ذلك الوقت، ونعني بكثير هنا، قُربه مما يكاد يكون ضعف مستوياته في ذلك الوقت!

ثانيًا: وكما ذكرت الدكتورة هبة الليثي، المتخصصة في دراسات الفقر في مصر(1)، ومستشار رئيس جهاز التعبئة العامة والإحصاء، ترافق هذا الانخفاض في تلك الفترة مع زيادة عمالة الأطفال وانخفاض معدلات التعليم الأساسي؛ بما يوضح الطريقة التي انخفضت بها معدلات الفقر، وهي محاولة التكيف مع تدهور أوضاع المعيشة بزيادة الدخل النقدي من خلال زيادة كمية العمل على مستوى الأسرة، ولو بإخراج الأطفال من التعليم الأساسي ودفعهم إلى سوق العمل؛ لتوفير أساسيات حياة الأسرة؛ ما يدخل في باب التدهور بمعايير الفقر متعدد الأبعاد، بل ويرفع معدلات الفقر في الأجلين، المتوسط والطويل، حتى وإن بدا من الخارج تحسنًا في دخل الأسرة بمعيار الدخل النقدي في الأجل القصير؛ الأمر الذي تدعمه مراجعة أبواب الإنفاق العام عمومًا، وتوزيعه خصوصًا، التي تكشف عن تراجع الحصص النسبية للتعليم والصحة في الموازنات الأخيرة، فضلًا عن عدم تلبية نسبهما الدستوية، وهو ما يعني تراجعًا في مستوى الخدمات العامة والمنافع التحويلية؛ بما لا يشير لأي تراجع في مستوى الفقر بمعناه الواسع.

ثالثًا: تشير الاتجاهات التقشفية من تقليص للإنفاق الاجتماعي ورفع للرسوم والضرائب غير المباشرة إلى حتمية تدهور التوزيع النسبي لإنفاق الأسر، بتوجيه حصة أكبر من الدخول إلى الغذاء والأساسيات؛ بما يمثل تراجعًا في مستوى المعيشة ونوعية الإنفاق بمنطلق قانون أنجل في تطور نوعية الاستهلاك مع ارتفاع الدخل؛ ما يعني انخفاض متوسط الدخول الحقيقية، أي العينية كسلة استهلاك حقيقي، على مستوى البلد؛ بسبب ارتفاع المستوى العام للأسعار، بشكل يؤدي للتخلي عن بعض أشكال الإنفاق الأكثر تقدمًا، لصالح أشكال أكثر بدائية منه، بما يمثل تزايدًا في متوسط حالة الفقر على مستوى البلد!

رابعًا: تعني النقطة السابقة بالخصوص، أن ذلك التحسن قد حدث من خلال إعادة توزيع للدخل، وهو ما لا يدعمه استقرار بيانات مؤشر جيني ومنحنى لورينز لتوزيع الدخل، وتناقضه الآثار المنطقية المعروفة علميًّا لسياسات التعويم والتقشف والتمويل بالاستدانة على توزيع الدخل في الحاضر والمستقبل؛ ما يعني أن إعادة التوزيع هامشية غير جوهرية، كما قد جرت بعيدًا عن مستويات الدخل العليا، أي على حساب الطبقة الوسطى وبالخصم من حصتها من الدخل؛ ما يمثِّل نمطًا شاذًّا من إعادة توزيع الدخل ومفهومًا هزليًّا للعدالة الاجتماعية؛ مما يستحق معالجة مستقلة في موضع آخر(2).

خامسًا: تعتمد قياسات الفقر عمومًا على معايير معيبة لقياسه(3)؛ ما يظهر أثره خصوصًا في الحالة المصرية، مع ما هو معروف عنها من "ضحالة الفقر"(4)، أي تمركز نسبة كبيرة من السكان حول خط الفقر، بفوارق دَخْلية لا تُذكر عن مستواه، بشكل تكفي معه أي زيادة تافهة في الدخل، بلا أي تأثير حقيقي عمليًّا أو معنوي إحصائيًّا في مستوى المعيشة، لارتفاع نسبة منهم لأعلى من خط الفقر، وخروجهم بالتالي من عِداد الفقراء؛ ومن ثم إقامة الأفراح والاحتفالات بانخفاض نسبة الفقر في البلد، وهي سمة قديمة للفقر في مصر، حتى إن البنك الدولي قد قدَّر أوائل الألفية، أنه بمقدور مصر بسياسات استهداف سليمة للدعم النقدي والتحويلات الدخلية، القضاء على الفقر كليًّا، فقط بمبلغ 350 مليون جنيه سنويًّا، أو ما يعادل 0.1% فقط من الناتج المحلي الإجمالي عام 2000 (5)، ويدعم تلك الفكرة، من جهة أخرى، ما ذكره تقرير حديث للبنك الدولي عن الفقر في مصر من اتساع نطاق "الفئات المُهددة بالفقر"، وهشاشة وضع الطبقة الوسطى بمعناها الواسع، أي الاحتمالية العالية للسقوط في هوة الفقر مع أية صدمة مفاجئة، خاصة أو عامة؛ نتيجة اقتراب دخول تلك الفئات من خط الفقر، وقد قدَّر البنك الدولي الفئات المُهددة بالفقر بحوالي 30% من الشعب، أو ما يتراوح بين العُشيرين الرابع والسادس(6)؛ ما يجعل حوالي 60% من الشعب إما فقراء أو مُهددين بالفقر، مع ملاحظة أن هذه التقديرات قبل صدمة التعويم القاسية، ويوضح الشكل البياني (1) بتاليه التوزيع الطبقي للدخول على أساس الإنفاق في مصر عام 2015.

شكل (1): التوزيع الطبقي للاستهلاك في مصر عام 2015 (7)

1

سادسًا: نتيجة لهذه الضحالة نفسها؛ تنعكس التذبذبات العشوائية في دخول الفئات الواسعة المنتشرة حول خط الفقر في مواقعهم منه بشكل متكرر؛ بشكل لا يجعل لذلك الانخفاض أهمية جوهرية أو مستقرة؛ ما تؤكده السوابق في ذلك المجال، مثلما حدث عندما انخفضت نسبة الفقر من 19.4 إلى 16.7% خلال الفترة 1996-2000 (8)، لتعاود الارتفاع بمعدلات أسرع لاحقًا، مُستكملةً الاتجاه الأساسي لارتفاع نسبة الفقر، بما مسح ذلك التحسن "العَارض"، الذي يشبه التصحيحات العَارضة التي لا تغير الاتجاهات الأساسية في أسعار الأصول، فلا تغير التراجعات السعرية الصغيرة الاتجاهات الصاعدة، والعكس بالعكس؛ فهذا بحدِّ ذاته جزء من الطبيعة الأصيلة للاتجاهات؛ فنادرًا ما تعرف الطبيعة أو المجتمع اتجاهات خطية بسيطة أو أحادية الوتيرة.

سابعًا: لا تعبِّر أرقام التضخم الحكومية عن واقعه الفعلي، ولا اتجاهات تطوره الحقيقية؛ بسبب طريقة صياغة سلَّة السلع التي تُحسب على أساسها الأرقام القياسية للمستهلكين، بشكل يجعلها لا تعبِّر عن الواقع الإنفاقي للمصريين ولا حجم ونوع وتوزيع التكاليف الحقيقية لتغيرات الأسعار؛ فتخفض القيم المعلنة للتضخم عن قيمها وتأثيراتها الواقعية على الدخول العينية الحقيقية للمصريين عمومًا (ولفئاتهم الأدنى خصوصًا)، الذين ينفقون أكثر من ثلث دخولهم على الطعام والشراء، كمتوسط عام محدود الدلالة بشموله إنفاق أغنيائهم؛ بشكل دفع البعض لاقتراح نوع من مؤشر منفصل ومستقل للتضخم على أساس سلة السلع الأساسية للطبقات الأفقر؛ ليكون أكثر تعبيرًا عن التضخم الحقيقي الذي تعانيه الكتلة الأكبر من المصريين من الطبقتين الوسطى والدنيا(9).

خفض حقيقي أم عملية تجميلية؟: القنوات الحديدية لخفض الفقر

بالتقدم خطوة لما وراء البيانات، والتلاعب بدلالتها بطريقة أنصاف الحقائق، يبرز مستوى مختلف من التلاعب الأكثر ذكاءً بالحقائق ذاتها، من خلال التجميل السطحي للظواهر الاجتماعية؛ ليبدو الأمر من وجهة ظاهرية وكمية مجردة حقيقيًّا، حتى ولو يكن كذلك على الإطلاق!

والفقر، كغيره من الإشكالات الاجتماعية المتأصلة بنيويًّا، تتطلب معالجته معالجةً نوعية حقيقية المرور بقنوات حديدية لا يمكن الالتفاف حولها، فالأمر ببساطة يتحقق إما بـ"زيادة الكعكة" أو "تحسين توزيعها"، أو بالاثنين معًا وهو غاية المُراد، أي إما بنمو حقيقي أو بتحسين توزيع ثماره، أو بالاثنين معًا، وهو الأمر المشروط بنوعية ذلك النمو، فهل حققت مصر أيًّا من الثلاثة؟ وإلى أي مدى نجحت في ذلك؟

تشير البيانات إلى ارتفاع معدل النمو من 2.18% إلى 5.55% بين عامي 2013 و2019، والذي يبدو جيدًا بالمقارنة بالأداء العالمي الذي انخفض من 1.46% إلى 1.38% لنفس الفترة، لكن نجد من المؤشرات الدالة، التفارق السلبي بين مُجمل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بأسعار السوق، ومُجمل نمو نصيب الفرد من ذلك الناتج، مُثبتًا بأسعار 2016/2017، عن كامل الفترة، فبينما بلغ الأول 30.2% بين عامي 2015-2019، لم يتجاوز الثاني 8.4% لنفس الفترة، بشكل يعكس الفارق بين النمو الاسمي والحقيقي (وذلك دون خصم معدل النمو السكاني الذي يجعل صافيه الحقيقي سلبيًّا)؛ ما لا يبتعد كثيرًا عن متوسط معدل التضخم، أو مُكمش الناتج المحلي الإجمالي، وفقًا لتقديرات البنك الدولي، البالغ 15.75% خلال الفترة 2016-2019، بنقطة ذروة 22.93%، عام 2017 اللاحق على صدمة التعويم(10).

يخبرنا ذلك بعدم اختلاف معدلات النمو "الحقيقية" بشكل جوهري عن معدلاتها المعتادة، كما يشير التحليل النوعي لمكوناته إلى تحقق معظمها من ذات القطاعات المعتادة، مُنخفضة معدل التشغيل؛ فلم تشهد مصر زيادةً في قطاعات التصنيع والقطاعات السلعية عمومًا؛ بحيث نتوقع ارتفاعًا في معدلات التشغيل، على أساس نفس المعدلات الكمية من الاستثمار والنمو، ما يفاقمه الدور الكبير للإنفاق الحكومي المباشر في ذلك النمو، بما لا يعكس تحسنًا في الأداء الاقتصادي الذاتي، ومن ثم المُستدام، للاقتصاد؛ حيث يتوقف على استمرار ذلك الإنفاق، كما يتكلف بتكلفته التمويلية والاجتماعية الواضحة في ارتفاع موارد الضرائب والرسوم وفاتورة المديونية والفوائد في الموازنة العامة؛ بما يجعله "نمو مديونية" سريع الانتكاس، على غرار نمو السبعينات الانفتاحي الذي انتعكس لنمو حقيقي بالسالب أوائل الثمانينات، ومثله نمو الثمانينات المترافق مع الإنفاق الحكومي بالاقتراض طوال الثمانينات، الذي كاد ينتهي بمصر للإفلاس (لولا جدولة نادي باريس المُسيَّسة بمشاركة مصر في حرب الخليج الثانية)، وذلك فضلًا عمَّا يتسم به ذلك الإنفاق عمومًا، وفي السياق السياساتي الحاضر خصوصًا، من غلبة الاستثمار في البنية التحتية، لا الإنتاجية المباشرة، ما يتصل بنمو المساهمة القطاعية لقطاعي البناء والتشييد والتعدين، وتراجع الخاصة بالزراعة والصناعة التحويلية، الأهم إنتاجيًّا وتشغيليًّا بخاصة في الظرف المصري.

وتؤيد المشاهدات الاقتصادية المباشرة هذه الحقائق، من حيث نوعية النمو وتأثيره على نمط التوزيع، فبخلاف عدم تحسن صافي التدفقات الاستثمارية الجديدة في القطاعات غير النفطية، الخاصة والخارجية، إن لم يكن تراجعها في بعض سنوات الفترة (11)، مع تركز معظم الاستثمارات والنمو في الأنشطة الحكومية والقطاعات الاستخراجية(12)، نرى تراجعًا في القطاع الصناعي الأعلى تشغيلًا من غيره، ولا أدل على ذلك من إغلاق حوالي 30% من مصانع الملابس الجاهزة(13)، التي تمثل إحدى أبرز وأكبر الصناعات في مصر، مع عمل باقي المصانع بحوالي نصف طاقاتها الإنتاجية أو أقل؛ ما يعكس حالة الركود العامة وتراجع الإنتاج والعرض؛ وبالتالي عدم تراجع الأسعار إن لم يكن ارتفاعها، مع التراجع في الطلب المحلي، ما يقودنا بمجموعه لاستنتاج آخر تدعمه المشاهدات، هو تراجع القوة الشرائية(14)، مما لا يدعم فرضية تحسن مستوى المعيشة بالتأكيد؛ ولا يدعم بالتالي أي تصورات عن زيادة حجم الكعكة أو إعادة توزيعها بصورة أكثر عدالة، أو بصيغة أكثر تقنية، أي تصورات عن زيادة صافي المنافع في المجتمع!

وقد انعكس كل ما سبق فيما شهدته الفترة من تراجع في قيم الأجور الحقيقية بنسب بلغت 28.7% لعمال القطاع العام و12.4% لعمال القطاع الخاص عن ذات الفترة (2015-2019)، بالتوازي مع ارتفاع الأرقام القياسية لأسعار المستهلكين والمنتجين بنسب بلغت 86.7% و102.7% على التوالي، ما يشير لتدهور مباشر في مستويات معيشة حتى أكثر المجموعات العاملة أمنًا في القطاع الاقتصادي الرسمي، فضلًا عن تراجع هوامش أرباح المنتجين ومن ثم ضعف قدرتهم على التوسع والتشغيل والحفاظ على دورة رأسمالهم العامل عند ذات مستوياتها؛ ما ينعكس كله بشكل مباشر وغير مباشر على التوظيف والأجور(15).

يدعم ما سبق تلك الملاحظة الغريبة، القديمة الجديدة، لدراسة حديثة حول النمو والتشغيل والفقر في مصر(16)؛ حيث تبين ضعف العلاقة الارتباطية بين ارتفاع معدلات النمو وانخفاض معدلات البطالة من جهة، وانخفاض معدلات الفقر من جهة أخرى، خلافًا للعلاقات المألوفة بينها؛ حيث استمرت معدلات الفقر في الارتفاع رغم انخفاض معدلات البطالة؛ ما لا يمكن تفسيره –بافتراض صحة أرقام البطالة- سوى بتأثيرات سلبية لنوعية ومصادر واتجاهات النمو نفسه، وما ينتج عنها من معاملات تشغيل قطاعية وتأثيرات على مستويات الأجور الحقيقية، على ما سلف ذكره آنفًا.

وهكذا، لا يمكن افتراض تحسن أحوال الطبقات الشغيلة من خلال زيادة الكعكة، بالنمو والتشغيل، فماذا عن إعادة توزيعها، بالعدالة الاجتماعية؟

لا يخبرنا تطور مؤشر جيني لتوزيع الدخل عبر السنوات المعنية بشيء ذي قيمة؛ نظرًا لعدم حسابه بعد عام 2017، مُنخفضًا بنسبة طفيفة من 31.8 إلى 31.5% بين عامي 2015-2017 (17)، بما يتناقض مع النتائج المنطقية لصدمة التعويم وآثارها التضخمية السلبية على التوزيع أواخر عام 2016، وبما يدعم التشكك عمومًا في مصداقية تقييماته في مصر على ما سبق وتناولناه في مواضع أخرى(18)، وبحسب نقد توماس بيكيتي وآخرين، بمن فيهم خبراء البنك الدولي(19)، لتقديراته المصرية وإعادة تقييمه بمستوى أعلى كثيرًا على أساس تقديرات قيم وعوائد الممتلكات العقارية، كشكل الثروة الأساسي في مصر وكمنتج أحد أهم قطاعاتها الرائدة اقتصاديًّا، وهو الارتفاع الذي تؤكده ملاحظات عدة، من أبرزها انخفاض "مؤشر التنمية البشرية المُعدل بعدم المساواة" عن نظيره العادي لمصر، عام 2020، بتسعة مراكز(20)، تمثل وحدها تأثير عدم المساواة في الدخول والفرص، ما يعني على الأقل، في ضوء عدم تحسن مؤشر جيني المذكور آنفًا، عدم تحسن التوزيع وعدم مساهمته إيجابيًّا في معالجة وضع الفقر في مصر.

وهكذا، لا يبقى سوى طريق واحد لا غير، لا يحل المشكلة هيكليًّا، بل مؤسسيًّا من خلال النفقات التحويلية عبر الموازنة العامة، ما ظهر في البرامج الاجتماعية المتعددة التي فسر بها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء تلك التطورات الإيجابية في حالة الفقر(21)، مثل برامج تكافل وكرامة وحياة كريمة وفرصة ومستورة للتمويل متناهي الصغر وغيرها.

هذه الحلول هي تكرار لتجربة الصندوق الاجتماعي للتنمية محدودة النجاح (في أفضل التقديرات وأكثرها تساهلًا)، وهي على فائدتها المرحلية، تظل حلولًا هامشية كمًّا وكيفًا، فلا هي يمكن أن تستمر بشكل مُستدام، فضلًا عن أن تتسع لتشمل كل الفئات المعنية، في اقتصاد متخلف فقير يعاني أزمات مالية مزمنة، ولا هي تقدم انتقالًا حقيقيًّا من حالة الفقر لأغلب المستفيدين منها، خلافًا لما يمكن لتنمية هيكلية حقيقية أن تفعل!

والمأساة الأكبر أنها لعدم معالجتها لمصادر الفقر والعشوائية، فإنها ستُواجَه بوابل مستمر منهما لا تستطيع مجابهته في الأجلين، المتوسط والطويل؛ لتلحق بسياسة الدعم التي تسلقت على أكتاف تقليصه أساسًا، ما يجعلها لا تعدو كونها مجرد مُسكنات تجميلية تتلاشى آثارها، والأرجح أن تتبخر هي ذاتها مع الوقت، حتى بدون أي أزمات استثنائية!

وهو ما أكدته هبة الليثي في حوارها مع جريدة الشروق المصرية(22)، بقولها: إن هذه الإجراءات لا تعدو كونها مجرد مُسكنات مؤقتة، لن تعالج صلب الإشكالية، مؤكدةً على أولوية التعليم والصحة في الخفض المُستدام للفقر، بل واعتبرت أنه "لا توجد وسيلة أخرى -غيرهما- للخروج من براثن الفقر"، واللذان -للمفارقة- كانا ضمن أكثر بنود الموازنات الأخيرة تراجعًا وتجاهلًا من قبل الحكومة، رغم كونهما من أهم ركائز تحسين مستوى المعيشة ورأس المال البشري وتقليص الفقر، مُضيفةً أن "ارتفاع معدلات الفقر خلال السنوات الأخيرة يعود إلى غياب منظومة للتنمية الحقيقية تهتم بالتنمية البشرية وتعمل على تحسين ظروف المواطنين، للخروج من دائرة الفقر، وهي عوامل لا يمكن مكافحتها بالمشروعات القومية"، كما قدَّرت أنه "بعد قرارات رفع أسعار الكهرباء وفرض ضريبة القيمة المضافة، وبافتراض ثبات قيمة الرواتب التي يتقاضاها المصريون، مع ارتفاع الأسعار بنسبة 15% فقط وليس أكثر، ستصل نسبة الفقراء إلى 35%".

يؤكد ما سبق عدم تحسن مؤشرات نوعية الحياة ورأس المال البشري، كما يتضح من تقرير الرخاء الصادر عن مؤسسة ليجاتوم Legatum البريطانية؛ حيث تراجعت مصر بمركز واحد بين تقريري الفترة موضوع التقييم (2017-2020)(23)، كذا تدعمه تقارير مؤشر التنمية البشرية(24)، الذي تراجعت مصر ضمنه خمس مراتب، من المرتبة 111، عام 2016، إلى المرتبة 115، عام 2018، فالمرتبة 116، عامي 2019 و2020 (25).

التجميل النيوليبرالي: سياسة اليأس من التنمية!

والواقع أن هذه السياسات التجميلية لا تستهدف العدالة الاجتماعية حقًّا، وإن بدت كذلك، بل هي جزء من حزمة السياسات النيوليبرالية، التي أثبتت التجربة تلو التجربة أضرارها الاقتصادية والاجتماعية على النطاق الأوسع للمجتمعات على اختلاف أوضاعها ومستوياتها التنموية، كما أثبتت فشلها الكامل في تحقيق التنمية بمعناها الكلاسيكي، الذي يعني أساسًا التغيير الهيكلي للبنية الاقتصادية والاجتماعية بمجملها، من خلال توسيع الصناعة وجعلها القطاع القائد اقتصاديًّا، وتطوير صناعة ثقيلة وبنية تكنولوجية وطنية مستقلة وتصنيع الزراعة..إلخ، ليكتسب النمو "قوة الدفع الذاتية"، التي يستطيع بها الارتفاع طبيعيًّا بمستويات المعيشة مع نمو الكعكة الاقتصادية؛ لتنتهي تلك النيوليبرالية لما يشبه حالة "يأس من التنمية"، تتدهور معها الاقتصادات نوعيًّا، ولا تتحرر من سمات التخلف المؤسسي العالمثالثية، مع انتفاخ ريعي وخدمي لا يحقق نموًّا حقيقيًّا في الثروة القومية، فضلًا عن دفعه توزيع الدخل والثروة لمزيد من التفاوت!

هنا، يظهر دور "السياسات التجميلية"، التي تعمد إلى التركيز على المعالجة السطحية لتلك المشكلات والظواهر، دونما اجتثاث جذري لأصولها، وهو النهج النيوليبرالي الذي ظهر منذ عقدين تقريبًا مُعبِّرًا، خلافًا لما يظهر عليه، عن تلك الحالة من "اليأس من التنمية"، فبدلًا من التركيز على الانتقال بالاقتصادات من حالة التخلف إلى التقدم، من خلال التنمية الهيكلية الشاملة للاقتصادات، غدا التركيز على القضايا الجزئية، بتفكيك "غاية التنمية"، بزعم استهدافها، إلى مجموعة من الأهداف الجزئية المرغوبة، والسعي إليها مباشرةً ولو بآليات تجميلية مظهرية لا تترك أثرًا بنيويًّا عميقًا في الأجل الطويل، من خلال خطابات الأرقام الجوفاء وأنصاف الحقائق المعزولة عن سياقها، وما "أهداف التنمية المُستدامة" الشهيرة سوى نموذج لتلك التفاهة الخطابية الخبيثة!

وهكذا، تفككت التنمية؛ لتصبح أهدافًا متفرقة، يجري العمل عليها بشكل منفصل عن استراتيجية وطنية للتغيير البنيوي للتشكيل الاقتصادي الاجتماعي؛ وكأنما من الممكن تحقيق تطور كيفي دون نمو كمي وتغير هيكلي مواز، فيما اختُزلت الاستدامة في معنييها، البيئي والمالي، دون المحتوى الاجتماعي لها، وكل ذلك دون أن نأتي على ذكر السياق السوسيولوجي والخلفية التاريخية الأشمل!

الجمهورية الجديدة: اللقاء الحتمي بين جمهورية الاستعراض والتجميل النيوليبرالي

والحقيقة أن مصر كانت سبَّاقة دومًا في سياسات التجميل هذه؛ فكان منطقيًّا أن تلتقي "دولة المشاريع القومية" -بدلًا من التخطيط التنموي الهيكلي طويل الأجل- بسياسة التجميل النيوليبرالي الهامشية؛ لتنتج لنا جمهورية استعراض كاملة، يتركز عملها الرئيسي في الاستعراضات العبثية الإهدارية للموارد والأولويات، فتحل المشاريع القومية بديلًا عن التنمية الشاملة، والسياسات المالية الانتقائية بديلًا عن السياسات الدخلية الشاملة، والمساعدات الاجتماعية المشروطة بديلًا عن أنظمة الضمان الاجتماعي المُستدامة، والتمويل بالضرائب غير المباشرة بديلًا عن نظام ضرائب تصاعدية فعال، وما إلى ذلك.

لهذا، لم يبالغ الخطاب الحكومي عندما وصف الهدف من تفريعة قناة السويس يومًا بأنه مجرد "رفع الحالة المعنوية للمصريين"! فهذا هو بالضبط المحتوى والمضمون الأساسي لكثير من -لا نقول: كل بالتأكيد- هذه "المشاريع القومية"، التي كما نلاحظ، تتسم في معظمها بسمة الاستعراضية المباشرة، فهي مشروعات يمكن استكمالها في بضعة أعوام، وبملامح ملموسة ظاهرة للعيان، بل وربما ينتمي بعضها لنوعية "أعاجيب موسوعة جينيس"، لا عجب أن صحبت "العاصمة الإدارية الجديدة" مشروعات استعراضية كأكبر مسجد وأكبر كنيسة وأطول وأعرض وأبدن...إلخ، من صيغ المبالغة!

وأكثر ما يميز هذه السياسات هو كونها مراوَحَة في المكان وضجيجًا بلا طحن، فلا هي تحقق أهدافها المُعلنة بشكل شامل واستراتيجي، ولا هي تعالج جذور الإشكالات في الأجل الطويل بالإسهام في التنمية، وأقصى ما تفعله أن تتزاوج مع استراتيجية الوهم النيوليبرالي القائمة على تجهيز البنية التحتية مراهنةً على جذب الاستثمار الأجنبي الذي لا يأتي، والتي أثبتت فشلها في مصر عبر أربعة عقود من إهدار الموارد المحلية والقروض والمعونات الأجنبية، المُكلفة ماليًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا، على إعداد البنية التحتية؛ لإغراء رأس المال الأجنبي، الذي يبدو متعلقًا بغانيات أكثر جمالًا!

فإعداد تلك البنية التحتية، بالمشاريع القومية وخلافه، أصبح بذاته قلبًا لاستراتيجية تنموية قائمة بذاتها، ومسؤولية الحكومة الوحيدة تقريبًا؛ على افتراض ساذج بأن مصر قد أنجزت مهمة التحول الصناعي بالفعل، وأصبحت اقتصادًا قويًّا قادرًا على النمو الذاتي، يمتلك هيكلًا فعالًا من الحوافز والبنى والديناميات السوقية القادرة على توجيه الموارد لأفضل التوظيفات الاجتماعية مردودية، ولم يبق كاستكمال للجانب الاجتماعي لهذه الاستراتيجية التنموية سوى معالجة قصوراتها وتكاليفها الاجتماعية "المؤقتة"، بالدعم المؤقت لأولئك المتضررين منها، حتى تستكمل الاستراتيجية نجاحها وتؤتي ثمارها فتتمكن من احتوائهم في المستقبل؛ ولا تبقى للإجراءات الاجتماعية المؤقتة حينها ضرورة، ضمن التصور الحالم البائد بـ"تساقط الثمار"، الذي ثبتت وهميته حتى في أكثر المراكز الرأسمالية تقدمًا.

هذا هو مُجمل استراتيجية التنمية التي تروج لها المنظمات الدولية، من صندوق نقد وبنك دولي، منذ نصف قرن تقريبًا، وتطبقها الحكومة المصرية بدرجات متفاوتة منذ الانفتاح الاقتصادي في السبعينات، وبعده الإصلاح الاقتصادي في التسعينات، مُنتهيةً لأكبر جرعة منها بعد تعويم 2016، بفشل ثابت لم تتعلم منه شيئًا، ولا تعوضه سوى بالتجميل الاستعراضي الساذج والمكلف، الذي تتمثل أكثر تجسداته غرابة، في دعاوى زيادة احتياطي العملات الأجنبية، التي تحقَّق جزء معتبر منها بقروض أجنبية وودائع تحت الطلب!

لهذا، تكتسب السيطرة على السردية السياسية السائدة أهمية بالغة لجمهورية الاستعراض هذه؛ فلا عجب أن أغلقت الحكومة المصرية كافة منافذ التعبير السياسي والإعلامي، وحتى البحثي، ولم تقبل بأقل من سيطرة شاملة على وسائل الإعلام الأساسية، واتهام جميع وسائل الإعلام المخالفة بالتآمر(26)، كما لم تترك حتى الوسائل الإلكترونية المُستحدثة، فحجبت كل المواقع المعارضة وطاردت الأصوات المخالفة، بل إنها حتى ابتكرت نظامًا عجيبًا لترخيص المواقع الإلكترونية بتكاليف باهظة، لا تتحملها معظم المؤسسات المصرية، وإن تحملتها؛ فستكون تحت رُهاب الإغلاق والخسارة إن لم تَسِرْ على الخطوط المرسومة مُسبقًا!

وهو ما اكتسب أهمية أكبر في سياق دعاوى "الجمهورية الجديدة"؛ فلكل دولة أسطورتها الضرورية، وحيث تحاول الجمهورية الجديدة التي تعاني أزمة مشروعية في صلب نشأتها ذاتها، أن تعوضها بمشروعية إنجاز تاريخية، في سياق من الأزمات والموروثات المعقدة، يكون لزامًا عليها محاولة إدعاء "القطيعة" مع كل ما سبق، بكل مشاكله الموروثة؛ كمحاولة مبدئية للتبرؤ من رزاياه، ثم تأسيس مشروعية جديدة بإنجازات عيانية عاجلة، تستلزم بعضًا، بل وكثيرًا، من المبالغة، حدَّ خلق سردية كاملة عن تلك الإنجازات الأسطورية؛ الأمر الذي يستلزم معه بعضًا من التأكيدات العيانية -التجميلية والاستعراضية- الملموسة، وليس أفضل في ذلك من المشروعات القومية والسياسات التسكينية العاجلة، التي يمكن بها ملء العيون الساذجة وإخراس الألسنة المشككة!

ولا غرابة إذن في تلك العدوانية تجاه أية سردية مخالفة، كما شهدنا في مهرجان سينما الجونة ضد فيلم "ريش"، والتي حاولت الحكومة التغطية على فجاجتها بتوجيه إدارة المهرجان لإعطاء الفيلم إحدى الجوائز لإظهار كَمْ هي واسعة الصدر راسخة الديمقراطية، فيما هي نفس الحكومة التي تمنع أي إصدارات اقتصادية تخالف روايتها، مثلما فعلت بمصادرة كتاب الدكتور أحمد السيد النجار عن "الاقتصاد المصري في سبعين عامًا"، وكتاب الأستاذ عبد الخالق فاروق "هل مصر بلد فقير حقًّا؟"، بل والأدهى والأمر، حذفها تقرير التنمية البشرية المصري لعام 2016، الذي تصدره هي نفسها بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بمصر، لما تضمَّنه من بعض البيانات غير المرضية حول مسائل العدالة الاجتماعية وغيرها، فيما وصفه البعض صادقًا بما يشبه دفن جثة(27)!

خاتمة: الحقائق آخر ما يعني جمهورية الاستعراض!

كمثال دال من منطقة مختلفة كليًّا، يؤكد وحدة المنطق الاستعراضي، شهد المتعاملون في البورصة المصرية وقائع عجيبة طوال شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي؛ حيث تزامن الطرح الحكومي لسهم شركة "إي فاينانس" الحكومية المتخصصة في مجال المدفوعات الإلكترونية، مع انهيار مستمر في السوق المصرية؛ كانت معه بيانات المؤشر العام للبورصة المصرية شديدة الإيجابية، لدرجة صعوده بأكثر من 10% خلال شهر واحد، فيما كانت أغلب أسهم السوق في الواقع تحقِّق قيعانًا سنوية جديدة، وليس شهرية ولا ربع ولا نصف سنوية حتى، مُنفصلةً عن المؤشر العام ومكبِّدةً المساهمين خسائر فادحة، بينما تخرج البيانات الإعلامية والحكومية لتتحدث عن نجاح الطرح الحكومي وصعود البورصة!

يعكس هذا الموقف طريقة إدارة كثير من الأشياء في مصر، فالحقائق ليست مهمة وليس مهمًّا كيف يجري "الإنجاز"، أو ما إذا كان حقيقيًّا من الأساس، فالمهم فقط هو كيف تظهر الأشياء، فيما يبدو كمسرحية يؤديها المسؤولون المشغولون بإثبات نجاحهم في تحقيق الأهداف التي حمَّلتهم القيادة السياسية مسؤولية تنفيذها(28). ففي موقف الطرح المذكور، جرى الضغط على المؤسسات وتوجيهها لتوجيه سيولتها لإنجاح الطرح، الذي تمت تغطيته ستين مرة تقريبًا، فيما يُعد نجاحًا ساحقًا بالمعايير الرقمية حقًّا، لكن فقط للعين غير الخبيرة التي لا ترى الصورة الكاملة، ولا تعرف كيف أُنجزت الأشياء على الأرض، بالأوامر والتوجيهات، وعلى حساب بقية السوق!

نموذج آخر مشابه، ومما يصعب تبريره بغير سوء النية، ما أظهره تقرير لشبكة البي بي سي البريطانية من فارق ضخم في تقديرات ضحايا حوادث الطرق في مصر خلال الفترة 2013-2019، ما بين تقديرات البنك الدولي والجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، بما تراوح ما بين 50% و300%، كما يوضح الشكل التوضيحي (2) بتاليه.

الشكل (2): قتلى حوادث الطرق في مصر خلال الفترة (2013-2019)(29)

2

هذه المواقف العملية والممارسات الإحصائية ليست بالشيء الاعتباطي، بل إنها تلخِّص كامل منطق عمل جمهورية الاستعراض، فالحقائق آخر ما يعنيها، بل إنها تعاملها كشيء رمزي يمكن تشكيله والتلاعب به تحكميًّا لأغراض صغيرة الشأن قصيرة النظر، بغضِّ النظر عن التكلفة الفعلية والمصلحة العامة، وبغير بشك، دون نظر لاعتبارات الأجل الطويل؛ حيث لا يمكن لتماثيل الشمع أن تصمد تحت حرارة شمس النهار؛ لأنها ببساطة، ومهما طال بها الأمد، تظل تقافزات استعراض لجمهورية لحظة!

References

1 "تحليل بحث الدخل والإنفاق 2019-2020"، د. هبة الليثي، مداخلة صوتية، برنامج حلول للسياسات البديلة، الجامعة الأميركية بالقاهرة، 11 يناير/كانون الثاني 2021، (تاريخ الدخول: 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2021): https://cutt.us/5iiju.

2  في الواقع لا يمثل ذلك النمط من إعادة التوزيع من الطبقة الوسطى للطبقات الأدنى شكلًا من العدالة الاجتماعية، ولا يستهدفها من الأساس؛ فهو يتمركز ضمن استراتيجية هيمنة سياسية تقوم على تقليص الطبقة الوسطى وشغلها بالمحافظة على مستوى معيشتها، مقابل تبريد جذور التمرد والانفجار الاجتماعي المحتملة لدى الطبقات الأدنى، وهي استراتيجية ناجحة بشكل خاص في السياقات الاجتماعية التي تغلب عليها صعوبة تنظيم الطبقة الوسطى؛ بحكم فردانيتها وأنماطها المهنية والسلوكية، بالمقارنة بالطبقات الأدنى الأكثر تضامنًا واستعدادًا للاحتجاج العنيف.

3 مجدي عبد الهادي، "مقاربات نظرية في الاقتصاد السياسي للفقر في مصر"، بحوث اقتصادية عربية، الجمعية العربية للبحوث الاقتصادية، السنة (27)، العدد (82)، نوفمبر/تشربن الثاني 2020، ص 212-214.

4 Khalid Ikram, The Egyptian Economy, 1952–2000.. Performance, policies, and issues, Routledge, London/New York, 2006, p 272.

5 Ibid, p 272.

6 العُشير هو تعبير آخر عن العشر أو نسبة 10% من مجتمع ما، وهو أحد مداخل توصيف البيانات عمومًا، ويُستخدم على نطاق واسع كأحد المؤشرات الوصفية لتوزيع الدخل والثروة في المجتمع.

7 World Bank, Understanding Poverty and Inequality in Egypt, World Bank, Washington, DC., 2019, p 25.

8  Khalid Ikram, The Egyptian Economy, p 270.

9  محمد سلطان وآخرون، في البحث عن مؤشرات اقتصادية بديلة، دار المرايا للإنتاج الثقافي، 2019، ص 26.

10 مجدي عبد الهادي، حدود الجباية.. تناقضات السياسة المالية للحكومة المصرية، مركز الجزيرة للدراسات، 19 أكتوبر/تشرين الأول 2020، (تاريخ الدخول: 7 نوفمبر/تشرين الثاني 2021): https://cutt.us/SnDxA.

11  برندان ميغان، "المناخ الاستثماري المتزعزع في مصر"، صدى، مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي، 12 يونيو/حزيران 2018، (تاريخ الدخول: 9 نوفمبر/تشرين الثاني 2021): https://cutt.us/n5MBK.

12 "تحليل: مصر.. ارتفاع حدة التعاسة رغم معدلات النمو العالية"، إبراهيم محمد، وكالة دويتش فيله، 4 أغسطس/آب 2019، (تاريخ الدخول: 9 نوفمبر/تشرين الثاني 2021): https://cutt.us/E8ke5.

13  "بعد إغلاق 30% من المصانع.. طلب إحاطة بشأن تدهور قطاع الملابس في مصر"، ابتسام تعلب، المصري اليوم، 15 فبراير/شباط 2021، (تاريخ الدخول: 9 نوفمبر/تشرين الثاني 2021): https://cutt.us/2LPdB.

14" تخوفات بالقطاع الاستهلاكي من تراجع القوة الشرائية"، المال، الأحد، 7 يوليو/تموز 2019، (تاريخ الدخول: 9 نوفمبر/تشرين الثاني 2021): https://cutt.us/ZiqLr.

15  مجدي عبد الهادي، حدود الجباية: https://cutt.us/SnDxA.

16 د. إيمان محمد عبد اللطيف مصطفى، "العلاقة بين الفقر والنمو الاقتصادي بالتطبيق على الحالة المصرية خلال الفترة (1999/2000-2017/2018م)"، المجلة العلمية للاقتصاد والتجارة، (كلية التجارة، جامعة عين شمس، القاهرة)، المجلد (50)، العدد (3)، ص 539.

17 Gini index (World Bank estimate) - Egypt, Arab Rep., World Bank Open Data, (Viewed in 10 Nov. 2021): https://cutt.us/l6kY7.

18 مجدي عبد الهادي، حدود الجباية: https://cutt.us/SnDxA.

  19 Weide, Van Der, et al., Is inequality underestimated in Egypt? evidence from house prices, Policy Research working paper no. WPS 7727, Washington, D.C. : World Bank Group, 2016, p 24-25.

20  "الأمم المتحدة: لأول مرة في مصر مؤشر التنمية البشرية أعلى من المتوسط للدول العربية"، سمر السيد، المال، 27 ديسمبر/كانون الأول 2020، (تاريخ الدخول: 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2021): https://cutt.us/1G3dX.

21  "الإحصاء يكشف أسباب انخفاض معدلات الفقر في مصر لأول مرة منذ 20 عامًا"، مدحت عادل، اليوم السابع، القاهرة، 17 أكتوبر/تشرين الأول 2021، (تاريخ الدخول: 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2021): https://cutt.us/XD9og.

22  "هبة الليثي مستشارة «المركزي للإحصاء» في حوار مع «الشروق»: انخفاض مستوى التعليم أكثر العوامل ارتباطًا بالفقر في مصر.. والمشروعات القومية لن تحسن أحوال الفقراء"، صفية منير، الشروق، 12 ديسمبر/كانون الأول 2016، (تاريخ الدخول: 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2021):https://cutt.us/lZzq2.

23 The Legatum Prosperity Index, The Legatum Institute Foundation , (Viewed in 12 Nov. 2021): https://www.prosperity.com/about/resources.

24 Human Development Reports, UNITED NATIONS DEVELOPMENT PROGRAMME , (Viewed in 12 Nov. 2021): http://hdr.undp.org/en.

25 حسب موقع تقرير التنمية البشرية، لم تصدر تقارير شاملة لعامي 2017 و2018، وجرى الاكتفاء بتحديث إحصائي مُوجز لعام 2018.

26 هـاني عسل، "مع اقتراب تحقيق حلم «العاصمة الإدارية» وغيرها.. الإعلام الأجنبي ينتقل إلى مرحلة التشكيك في مشروعات مصر الكبرى"، الأهرام، 28 أغسطس/آب 2017، (تاريخ الدخول: 14 نوفمبر/تشرين الثاني 2021): https://cutt.us/jgBDg.

27 بيسان كساب، "تقرير التنمية البشرية.. عندما تريد الدولة أن تسمع صوتها فقط"، مدى مصر، 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، (تاريخ الدخول: 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2021): https://cutt.us/cNTz8.

28  بل قد يكون تيسير التلاعب أحيانًا جزءًا أصيلًا مُخططًا له ضمن صياغة أنظمة العمل والإدارة نفسها، ففي مثال البورصة المذكور، جرى تصميم المؤشر العام EGX30 أساسًا بحيث يعتمد بشكل كبير على بضعة أسهم أساسية، يحظى أحدها وحده بما يتجاوز ثلث قيمة المؤشر (البنك التجاري الدولي)، وبما وصل لحوالي 40% منه في بعض الأوقات، ليسهِّل بذلك التلاعب به والتأثير على صافي حركته من خلال تلك الأسهم، وإظهاره بخلاف حقيقة الموقف في مُجمل السوق، بل وحتى توجيه مُجمل حركة السوق أحيانًا؛ من خلال التأثير الكبير لتلك المجموعة الصغيرة من الأسهم.

29 هل تجاهلت الحكومة المصرية حق المشاة في مشروعاتها لتطوير الطرق؟، إسلام سعد، بي بي سي عربي، 8 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، (تاريخ الدخول: 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2021): https://cutt.us/du4BW.