أنهت المحكمة الاتحادية في العراق الجدل الحاد حول الانتخابات العامة، بعدما صادقت يوم الاثنين الماضي على نتائجها، لتبدأ مرحلة التحضير لتشكيل الحكومة واختيار الشخصيات التي ستتولى المناصب السيادية، وهي عملية لن تقل تعقيدًا وتشابكًا.
من المقرر حسب الدستور العراقي أن يدعو رئيس الدولة خلال 15 يومًا بعد المصادقة على النتائج إلى انعقاد مجلس النواب الجديد، وهو ما قد يحصل قبل منتصف يناير/كانون الثاني من العام 2022، لكن خلال هذه الفترة ستكون القوى السياسية أمام تحدي تحديد هوية المرشحين للرئاسات الثلاثة: الجمهورية والوزراء ومجلس النواب، وهي آلية سرت منذ أول انتخابات عامة عام 2005، من خلال ما عُرف بمبدأ التوافق، والمحاصصة الطائفية والعرقية، حيث يكون المنصب الأول للكرد، والثاني للعرب الشيعة، والثالث للعرب السنَّة.
وقد مثَّلت هذه الآلية في توزيع المناصب والوظائف حسب الطوائف والأعراق، حلًّا افتراضيًّا استنسخته سلطة الاحتلال الأميركي للعراق من التجربة اللبنانية لمنع طغيان مكون معين كما ذكر في حينه، وفي نفس الوقت جرى تكريس مبدأ (التوافق) الذي كان يفرض نفسه في كل استحقاق سياسي، لتجنب العيوب التي فرضتها المحاصصة. لكن كلًّا من الآليتين اللتين جرى اعتبارهما جزءًا من الحلول الواقعية، اتُّهمتا لاحقًا بالتسبب في انتشار الفساد وغياب مبدأ الكفاءة في ملء المناصب، وانهيار مفهوم المواطنة، وطغيان الانقسام الاجتماعي، وبالتالي تحفيز عناصر الصراع الطائفي وغياب التنمية وتراجع الخدمات وهيبة الدولة وقدرتها على تقديم الخدمات أو حفظ الأمن.
جدل النتائج وغياب الحلول
تركز الجدل الحاد بعد الانتخابات العامة في العاشر من أكتوبر/تشرين الأول الماضي في استقطاب حاد بين من اعتُبر فائزًا أو خاسرًا. اعتبر الفائزون أن الانتخابات جرت بطريقة نزيهة وعادلة، وأن المجتمع الدولي قام بما يجب لضمان ذلك، أما من اعتُبروا ضمن الخاسرين، فقد واصلوا التأكيد على أن الانتخابات شابها التزوير وعدم النزاهة سواء في آلية إجرائها أو في عدِّ وفرز الأصوات بالطريقة الإلكترونية، واتهموا كلًّا من السفير الأميركي، ماثيو تولر، وممثلة الأمم المتحدة، جينين بلاسخارت، بالتدخل في العملية الانتخابية ونتائجها، وبالضغط على القضاء العراقي للمصادقة على النتائج.
استمر هذا الجدل السياسي والإعلامي والقانوني حتى اللحظة الأخيرة، حينما قررت المحكمة الاتحادية ردَّ الطعون التي قدمها هذا المعسكر والمصادقة على النتائج كما هي، لكن ذلك لم يكن سوى أحد وجهي الأزمة، ففي جانب آخر، كان معسكر المعترضين على النتائج ولاسيما ما سُمِّي بالإطار التنسيقي (الشيعي) قد استخدم احتجاجاته السياسية والإعلامية والقضائية وكذلك تحريض أنصاره على التظاهر والاعتصام على بوابات المنطقة الخضراء، بل والتلويح بخيارات عسكرية، في سبيل إرغام الطرف الأكثر حضورًا -وهو تحديدًا التيار الصدري- على التخلي عن رغبته بحكومة أغلبية والبقاء ضمن إطار التوافق مع شركائه الشيعة.
يؤكد التيار الصدري أن مبدأ التوافق السياسي تسبَّب بتراجع قدرة الدولة على خدمة مواطنيها، وأنه كان وراء تعميم الفساد وعدم الكفاءة، ولذلك فهو يصرُّ على حكومة أغلبية يفترض أنه الأحق بتشكيلها بحكم النتائج، لكن زعيمه مقتدى الصدر لم يمانع في أن يذهب تياره إلى المعارضة في حال تمكنت قوى أخرى من بناء ائتلاف سياسي يمثل (الكتلة الأكبر عددًا) في أول جلسة للبرلمان الجديد، وتكون حينها الأحق بالتكليف لتشكيل الحكومة حسب التفسيرات الدستورية.
مثَّل إصرار الصدر على فكرة (حكومة الأغلبية) عنصر الخلاف الرئيس مع أقرانه من القوى السياسية الشيعية، فهذه الأخيرة ترى أن الصدر رغم انتصار تياره في الانتخابات (73) مقعدًا من بين 329 مقعدًا، إلا أنه لا يمتلك النصف زائد واحد ليشكِّل بمفرده (حكومة الأغلبية) التي يسعى لها، ولذلك فهو قد يتحالف مع قوى سنِّيَّة وكردية لبلوغ ذلك الهدف. وتعتقد قوى (الإطار التنسيقي) التي تضم القوى الشيعية المعترضة أن هذا التطور قد يؤثر على وحدة ما يسمَّى (البيت الشيعي)، وهو مصطلح ظهر في عام 2003 وكان يرمز إلى القوى السياسية الشيعية التي كانت أول من تكتَّل خلف الهوية الطائفية، لتفتح الباب أمام ما وُصِف لاحقًا بالمحاصصة. وترى هذه القوى أن ضعف وربما تفتُّت (البيت الشيعي) سيكون تغييرًا في مسار العراق ما بعد الغزو الأميركي 2003 لأنه سيتضمن لأول مرة حكومة لم تؤسسها أو تهيمن عليها القوى السياسية الشيعية، لاسيما التقليدية منها، بل إن هذه القوى قد تجد نفسها خارج الحكومة والمناصب التنفيذية الرئيسية مما يعني سابقة قد لا تتوقف عند هذا الحد.
لكن هذا القلق على مصير (البيت الشيعي) اختلط أيضًا بمجموعة المصالح والمتغيرات التي طرأت على قوى هذا (البيت)، فمن ناحية، أصبحت السلطة والمواقع التنفيذية أدوات قوة وثروة ونفوذ للتيارات السياسية المختلفة، وفقدان هذه المواقع يهدد بخسارتها مزيدًا من قدراتها الشعبية والسياسية. ومن ناحية أخرى، فقد طغت الجماعات المسلحة على المشهد السياسي الشيعي، وأصبحت هذه الجماعات ظاهرة مؤثرة بشدة في المشهد العراقي العام، ومنه مشهد ما بعد الانتخابات.
السلاح والثروة والنفوذ
في الحادي عشر من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وفي أول خطاب له بعد إعلان النتائج الأولية للانتخابات، أطلق مقتدى الصدر فيما وُصف بـ(خطاب النصر) مجموعة رسائل مباشرة اعتُبرت مثيرة لقلق كثير من الأطراف، وأبرزها الجماعات الشيعية المسلحة التي بات يُطلق عليها (الولائية) ترميزًا لولائها للمرشد الإيراني، آية الله علي خامنئي، وارتباطها بما يسمى (محور المقاومة) الذي تقوده إيران.
تحددت محاور خطاب الصدر في العناصر التالية: حصر السلاح بيد الدولة، و"منع استخدامه خارج هذا الإطار، وإن كان ممن يدَّعون المقاومة"، ومحاربة الفساد، و"منع الأحزاب من التحكم بالخيرات".
مثَّل هذان المحوران عاملي قلق عند تيارات سياسية ومسلحة تعتبر أن تهديد الصدر بسحب سلاحها يمثل تحديًا وجوديًّا لها، لاسيما أن الصدر خصَّص بالاسم الجماعات المنخرطة في "تيار المقاومة"، والتي تعتقد أن هذا التيار يمنحها شرعية مناسبة تتخطى الدولة. ولا تقل محاربة الفساد أهمية، فجزء أساسي من مصادر تمويل الجماعات المسلحة والأحزاب المختلفة تتأتَّى من مصادر مالية حكومية تسيطر عليها هذه القوى وتستفيد من مواردها، ومنها منافذ حدودية وموانئ ونقاط تفتيش، فضلًا عن اتهامات لهذه الجماعات والقوى السياسية والمسلحة بفرض عمولات ضخمة على الشركات ورجال الأعمال والسيطرة على مناقصات وعقود ومواقع خدمية وسياحية تدرُّ أموالًا ضخمة.
وكان وزير المالية العراقي، علي علاوي، ذكر في تصريحات سابقة أن الحكومة لا تحصل في واقع الأمر إلا على 10 في المئة فقط من عوائد المنافذ الحدودية التي تبلغ نحو 8 مليارات دولار سنويًّا، كما قال وزير النقل، ناصر الشبلي: إن "جميع الكتل السياسية تركز على الخطوط الجوية والموانئ والنقل البري".
ويمثِّل السلاح بدوره عنصر قوة ونفوذ للجماعات المسلحة في داخل الدولة ومؤسساتها وسببًا لحماية مصالحها المالية ومنع أي مساس بها. وقامت بعض الجماعات الرئيسية باستعراضات عسكرية في مناسبات قليلة، لكنها كانت كافية لتوضيح طبيعة الأسلحة المتطورة التي يمتلكونها، وتضم طائرات مسيَّرة متطورة وصواريخ ومنظومات دفاع جوي وسيارات همر مدرعة، فضلًا عن كل أنواع الأسلحة المتوسطة.
تمثل كل من القدرة التسليحية العالية نسبيًّا والموارد المالية الضخمة، سببًا مباشرًا لنفوذ الجماعات المسلحة الموازي للدولة ومؤسساتها الأمنية والعسكرية، وقد منحها هذا النفوذ فرصًا كبيرة للسيطرة على مراكز مهمة للقرار الإداري والسياسي في بغداد والمحافظات، لكنها ظلت رغم كل السرديات التي تقدمها، تواجه مشكلة الشرعية، فسعت دومًا لربط نفسها بالدولة، واعتبار أنها جزء من المنظومة الرسمية من خلال ارتباطها بالحشد الشعبي، وتبعيتها للقائد العام للقوات المسلحة وهو ذاته رئيس الوزراء، لكن هذه الجماعات أبدت في مواقف كثيرة تمردًا على القائد العام أو أن قيادات أو أفرادًا منها أو أشخاصًا ووسائل إعلام قريبة منها هاجموا رئيس الوزراء، مصطفى الكاظمي، واتهموه بأنه (عميل) للولايات المتحدة، بل إنه تعرض حتى لمحاولة اغتيال بعد الانتخابات ببضعة أسابيع واتُّهمت في حينه بشكل غير رسمي جماعة مسلحة أو أكثر بتنفيذ العملية.
السيناريوهات القادمة
قبل انعقاد الجلسة الأولى لمجلس النواب المقبل يجب أن تتضح خارطة التحالفات التي ستُعلَن خلال تلك الجلسة معلنة عن الكتلة الأكبر التي تكلَّف بتشكيل الحكومة، ومالم تحدث مفاجأة كبيرة، فإن هناك احتمالًا واضحًا بقيام ائتلاف واسع يجمع الصدر مع كتلة سُنِّية كبيرة تضم التحالف الجديد بين حركة تقدم بزعامة رئيس مجلس النواب السابق، محمد الحلبوسي، وتحالف عزم برئاسة خميس الخنجر، وتضم هذه الكتلة غالبية النواب السنَّة العرب، وفيها أكثر من 60 نائبًا، ومن المفترض أن ينضم لهذا التحالف أيضًا الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البرزاني ولديه أكثر من 30 نائبًا، وسيوفر هذا التحالف وحده أغلبية مطلقة للفوز بالتكليف. وستكون هذه القوى الثلاثة صاحبة القرار باختيار المرشحين للرئاسات الثلاثة، وقد بات من المرجح أن يرشِّح السنَّة العرب الحلبوسي لتولي ولاية ثانية في رئاسة البرلمان، لكن لم يتضح بعد هوية المرشح المحتمل لمنصب رئيس الجمهورية، مع أنباء عن رغبة الديمقراطي الكردستاني بمرشح من بين صفوفه لأول مرة، فيما يُعتقد أن الرئيس الحالي، برهم صالح، لن يحظى بولاية ثانية وربما سيكون آخر رئيس من بين صفوف الاتحاد الوطني الكردستاني منذ تولي الرئيس الراحل، جلال طالباني، هذا المنصب عام 2005.
لكن الصدر الذي سيحظى بحق اختيار أهم المناصب وهو رئيس الوزراء، لم يكتف بما توفره له هذه التحالفات من قدرة، بل إنه سارع إلى دعوة قادة في الإطار التنسيقي الذي كان معترضًا على النتائج للاجتماع معه في مقره بالنجف، للتباحث حول شكل الحكومة المقبلة. مبدئيًّا، ستمثل هذه الدعوة فرصة لإعادة لم الصف الشيعي بعدما ظهر بين أعضائه من خلاف جوهري مع التيار الصدري، وربما ترسل إشارات طمأنة للجماعات المسلحة بأنها لن تكون في دائرة الاستهداف، لكن شكل الدعوة وطبيعة السياق الذي جرت فيه لا يقدم ضمانات كافية لذلك.
فمن ناحية شملت الدعوة ثلاث شخصيات فقط، هم كل من هادي العامري وقيس الخزعلي وفالح الفياض، فيما استثنت زعيم أكبر القوى داخل الإطار التنسيقي، وهو نوري المالكي، الذي فاز حزبه (دولة القانون)، بأكثر من ثلاثين مقعدًا أي أكثر مما فاز به كل من دعاهم الصدر لمقره مجتمعين. ولم يقدم أحد تفسيرًا لهذا التجاهل من الصدر لرئيس الوزراء الأسبق، لكن التبرير بالعلاقة السيئة التي تجمع الرجلين، ليس مبررًا كافيًا، فعلاقة الصدر مع الخزعلي تتضمن كذلك كثيرًا من المشكلات وقد شملته الدعوة.
الراجح هنا أن الصدر يريد تحييد بعض الخصوم (النوعيين) المفترضين من خلال دمجهم في آلية التشكيل الحكومي، لاسيما أن عدد ما حصلوا عليه من مقاعد لن يوفر لهم حق الحصول على مواقع أساسية في السلطات التنفيذية، وربما سيكونون لاحقًا جزءًا من آلية يقودها الصدر ذاته، وهذا سيكون بحدِّ ذاته فرصة لتجريد المالكي من فرصة قيادتهم لتكوين معارضة مؤثرة.
سيكون من الصعب على المدعوين الثلاث رفض الانضمام للحكومة وجهود تشكيلها، رغم أن ذلك غير مستبعد، لكن في حال نجاح جهود الصدر فهو قد يتمكن من تهيئة ظروف أكثر استقرارًا لتشكيل الحكومة دون معوقات ميدانية جدية ومؤثرة من بينها استخدام الشارع لإرباك جهوده. غير أن مثل هذا السيناريو سيعتمد على ما يحصل في اجتماع النجف وتبعاته، وسواء نجح الصدر في مسعاه أم لا فإنه سيظل يمتلك زمام المبادرة، كما أن الدعوة ذاتها تمثل خطوة جديرة بالاهتمام للأداء السياسي له في المستقبل القريب.