نماذج تنموية واعدة: حالة أربع دول إفريقية

الإصلاح السياسي والاقتصادي يبدأ من الداخل عبر استثمار الموارد والاستفادة منها. كل هذا مع ذلك يتوقف على إرادة القادة السياسيين، فالاعتماد على المؤسسات الدولية والقروض والمنح واستيراد البرامج والمشاريع السياسية لن يكون الحل الناجع لمعالجة الإشكاليات السياسية والاقتصادية، لأن كل فاعل دولي تحركه مصالحه.
رواندا تطلق قمرها الاصطناعي لتطوير النظام التعليمي (مواقع التواصل)

ارتبطت القارة الإفريقية في أذهان شعوب العالم بالتخلف والجهل والفقر والبؤس والاقتتال القبلي والعرقي، كما عُرفت بأنها مصدر للثروات والمعادن للإمبراطوريات الاستعمارية والقوى العظمى. إلا أنه في مطلع القرن الحادي والعشرين برزت بعض النماذج الإفريقية الواعدة اقتصاديًّا وسياسيًّا، مثل: جنوب إفريقيا، وأنجولا، ورواندا، وإثيوبيا. أسهم الاستقرار الداخلي في تلك الدول بجذب الاستثمارات من رؤوس الأموال الصينية والأميركية والتركية والهندية والفرنسية لاسيما المرتبطة بمجالات الطاقة والمعادن والانشاءات التي اعتمدت على القروض والمنح. وبالرغم من ذلك، فإن الفساد لا يزال يشكِّل مهدِّدًا لاستكمال مسارات النهوض والصعود التنموي. باستثناء جنوب إفريقيا، فإن النظم السياسية للنماذج الواعدة تعاني من إشكاليات ذات صلة بالتداول السلمي للسلطة والحريات. لذا، من خلال البحث، سوف نتناول الفرص والتحديات أمام هذه الدول التي تسعى لأن تكون صاعدة وكذلك مستقبل الإصلاح السياسي والاقتصادي في إفريقيا.

قراءة تاريخية للنماذج الإفريقية الواعدة لفهم عواملها ودوافعها للصعود

تجربة جنوب إفريقيا

تعتبر حالة جنوب إفريقيا استثنائية بكل المقاييس؛ حيث تقع في أقصى جنوب قارة إفريقيا تحدها كل من ناميبيا، وبوتسوانا، وزيمبابوي، وموزمبيق، كما أن دولة ليسوتو تقع في داخلها وهي محاطة بالكامل بأراضي جنوب إفريقيا، وهي تكاد تحيط أيضًا بدولة سوازيلاند.

لقد كان للتكوين الاجتماعي أثر كبير وفاعل في تحديد نوع العلاقة بين المجتمع والنظام السياسي، فبعد اتفاق المستوطنين البيض على إقامة دولة الرجل الأبيض (الأبارتهايد) دون الاعتراف بالحقوق المدنية والسياسية للأغلبية السوداء، تميز المجتمع الأبيض بثقافة سياسية تمحورت حول مفاهيم ذات صبغة عنصرية منعت الأغلبية السوداء من المشاركة السياسية وإبداء الرأي(1).

إن سياسة الفصل العنصري على الصعيد الاجتماعي لم تستند فقط على مبدأ التمييز بين الأجناس على أسس عرقية ولغوية ودينية وإنما جرى معها فرض سياسة العزل العنصري للجنس الأسود فيما يسمى بالباتوستونات. اعتمد البيض على مجموعة أدوات سياسية واجتماعية ودينية وثقافية من أجل دعم أيديولوجية النقاء العرقي وترسيخ سياسة الفصل العنصري في البلاد(2).

تعرض نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا إلى مقاومة السود الذين كان لهم تاريخ من النضال الوطني يعود إلى السنوات الأولى من القرن العشرين من أجل حصولهم على حقوقهم الاجتماعية والسياسية، فتشكلت منظمات وطنية وأحزاب سياسية مثَّلت المحور الأساسي للحركة الوطنية في البلاد. وكان في طليعة تلك الأحزاب حزب (المؤتمر الوطني الإفريقي) الذي قاد نضال الأفارقة ضد التمييز والفصل العنصري منذ تأسيسه عام 1912. شنَّ الحزب الكثير من المعارك السياسية وقاد التنظيمات الاجتماعية ضد نظام الفصل العنصري، واستطاع الحزب بالتحالف مع قوى أخرى أن يعقد مؤتمر الشعب، عام 1955، الذي صدر فيه (ميثاق الحرية) مؤكدًا على أن جنوب إفريقيا هي مِلك لكل من يعيش فيها من سود وبيض وأن الشعب هو الذي سيحكم على أسس العدل والمساواة في الحقوق وتكافؤ الفرص(3).

بالرغم من حظر الحزب منذ عام 1960 من قِبل النظام إلا أن قياداته بزعامة (نيلسون مانديلا) استمروا في نضالهم ضد العنصرية من خلال المؤتمرات والندوات ودعوات العصيان المدني. وقد شكَّلت نضالات الكفاح الوطني للسود ضغوطًا كبيرة على حكم الأقلية البيضاء وأضرَّت بمصالح البيض. استمرت جهود البيض لقمع الحراك المدني المطالب بالحقوق المدنية والسياسية بينما رفض المجتمع الدولي سياسة الفصل العنصري وواجه النظام مقاطعة سياسية من أغلب الدول فضلًا عن العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة. ازداد التوجه نحو ضرورة إجراء إصلاحات سياسية وإنهاء سياسة الفصل العنصري والتمهيد لتحقيق المشاركة السياسية الديمقراطية لعموم المجتمع وبكافة أجناسه ليس فقط نتيجة لنضال الشعب الإفريقي وإنما لازدياد الضغوط الخارجية خاصة التي بدأت فاعلية تأثيرها بعد انتهاء الحرب الباردة وظهور مفردات جديدة مرتبطة بالاتجاه الليبرالي الرأسمالي كالديمقراطية وحقوق الإنسان والتعددية الحزبية(4).

تم الاتفاق السياسي على تفكيك نظام الأبارتهايد بعد مفاوضات مطوَّلة مطلع التسعينات وجرت الانتخابات التعددية الديمقراطية في 1994 حيث تمتع السود بحق المشاركة السياسية بالترشح والتصويت لأول مرة. ورغم محاولات اليمين من البيض والسود تقويض الانتخابات إلا أن حزب المؤتمر الوطني الإفريقي تمكن من الحصول على (252) مقعدًا من مجموع (400) مقعد في الجمعية الوطنية. وفاز الحزب الوطني بـ(82) مقعدًا ونال حزب الحرية (43) مقعدًا، وتوزعت المقاعد الباقية على الأحزاب الأخرى. انتُخب نيلسون مانديلا رئيسًا لاتحاد جنوب إفريقيا بدون معارضة داخل الجمعية الوطنية وبدأت الحكومة بتطبيق برنامج الإعمار والتنمية معتمدة في تنفيذه على قروض ذات فوائد قليلة، وتمثِّل فترة حكم الرئيس نيلسون مانديلا البداية الفعلية للنهضة الجديدة في جنوب إفريقيا(5).

تجربة أنغولا

تقع أنغولا في الجنوب الغربي للقارة الإفريقية يحدها من الشمال الكونغو الديمقراطية ومن الجنوب ناميبيا، أما من الشرق فتحدها زامبيا ومن الغرب المحيط الأطلسي(6).

لقد خضعت أنغولا للاستعمار البرتغالي عقب مؤتمر برلين لعام (1884-1885) حتى قيام الجمهورية البرتغالية سنة 1910؛ حيث وظَّفت البرتغال كل موارد وثروات أنغولا لخدمة إمبراطوريتها الاستعمارية. أعلن النظام الجمهوري الجديد عن عدَّة قوانين وبدأ نوعًا من التنظيم الإداري القائم على أساس عنصري في أنغولا وتوالى صدور التشريعات من العام 1914 إلى العام 1920 بحيث منحت هذه القوانين الحاكم البرتغالي في أنغولا الاستقلال الذاتي الإداري. تعرَّض النظام الجمهوري في البرتغال إلى هزات عديدة وكان من نتائجها حدوث انقلاب عسكري وأضحت البلاد تحت حكم شمولي مستبد تحت اسم "العهد الجديد" حتى 1974 حين جرت الإطاحة بالنظام وسحب القوات من المستعمرات(7).

عملت القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني على تبصير المواطنين الأنغوليين بحقوقهم المدنية والسياسية وكشف مساوئ الاستعمار البرتغالي، ومن أهم تلك الأحزاب العصبة الوطنية الإفريقية والجمعية الإفريقية ونقابة عمال السكة الحديد والجبهة الوطنية لتحرير أنغولا والحركة الشعبية لتحرير أنغولا التي أسهمت بفعالية في الكفاح الوطني ضد الاستعمار، وفي العام 1960، انتقلت حركات التحرر من مرحلة الكفاح السلمي إلى مرحلة الكفاح المسلح فقد قام الثوار بمهاجمة الثكنات العسكرية. وكمحاولة منها للسيطرة على الأوضاع، استخدمت سلطات الاستعمار القمع والاستبداد لكبح جماح الثوار إلا أن محاولتها باءت بالفشل(8).

يعتبر تاريخ 25 أبريل/نيسان 1974 نقطة تحول بالنسبة للبرتغال ومستعمراتها حيث وقع في هذا التاريخ انقلاب عسكري في البرتغال بقيادة ضباط الجيش وأجبروا رئيس الوزراء (كايتاتو) على التنحي عن منصبه وتسليمه السلطة إلى الجنرال (سبينولا). أدى الانقلاب العسكري في البرتغال إلى حدوث تأثيرات واسعة النطاق على الأوضاع في أنغولا وفي المستعمرات البرتغالية الأخرى. فبعد الثورة، قررت الحكومة البرتغالية أن تجعل من قضية تحرير المستعمرات العنصر الأساسي في سياستها الخارجية وبعد جهد شاق داخليًّا وخارجيًّا نالت أنغولا استقلالها عن البرتغال(9).

بدأت الحرب الأهلية الأنغولية في عام 1975 واستمرت فترات متقطعة حتى عام 2002. كانت الحرب صراعًا على السلطة بين حركتين سابقتين مناهضتين للاستعمار، وهما: الحركة الشعبية لتحرير أنغولا والاتحاد الوطني للاستقلال الكامل لأنغولا (يونيتا)، وفي الوقت نفسه، اعتُبرت بمنزلة حرب بالوكالة تندرج ضمن سياق الحرب الباردة حيث كانت فيها مشاركة دولية واسعة النطاق بشكل مباشر وغير مباشر بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفيتي. كان لكل من الحركة الشعبية والاتحاد الوطني جذور مختلفة في النسيج الاجتماعي الأنغولي؛ حيث اعتنقت الحركة الشعبية أيديولوجية اشتراكية وحاولت نشر الماركسية اللينينية بينما قام الاتحاد الوطني على معاداة الشيوعية ونشر النظام الرأسمالي الليبرالي بالإضافة إلى جبهة تحرير كابيندا وهي جماعة مسلحة انفصالية تناضل من أجل استقلال إقليم كابيندا عن أنغولا. في نهاية المطاف، انتصرت الحركة الشعبية لتحرير أنغولا في 2002 وكذلك وقَّعت جبهة تحرير كابيندا اتفاقية سلام مع السلطات الأنغولية يُمنح وفقها الإقليمُ استقلاليةً أكبر أشبه بالحكم الذاتي، بالرغم من وجود فصائل خرجت عن الاتفاق وتتمسك بالاستقلال عن أنغولا(10).

تجربة رواندا

تقع رواندا في وسط القارة الإفريقية تحدها أوغندا من الشمال وجمهورية الكونغو الديمقراطية غربًا وبوروندي جنوبًا وتنزانيا شرقًا. يتكون سكان روندا من ثلاث عرقيات، هي: التوا بنسبة (1٪)، والتوتسي (14٪)، والهوتو (84٪). كان النظام السياسي السابق في رواندا يقوم على نظام المملكة الهرمي المبني على تسلسل جماعي(11).

بعد الثورة الاجتماعية التي حدثت في 1959 بقيادة الهوتو والتي أفضت إلى استقلال رواندا، دخلت البلاد مرحلة جديدة من تاريخها السياسي خاصة بوصول الهوتو إلى هرم السلطة وتشكيل أول جمهورية رواندية 1962. كان التغيير تغييرًا دمويًّا استُبدلت فيه جمهورية الهوتو بمَلَكيَّة التوتسي وذهب ضحيته آلاف من قومية التوتسي وهرب العديد منهم إلى الدول المجاورة. رغم الجهود الدولية المبذولة من أجل إيجاد حل لقضية رواندا إلا أن هناك عقبات حالت دون تحقيق السلم والمصالحة وكانت في مقدمتها التطرف الإثني بين الهوتو والتوتسي حيث أصبح المعتدلون عرضة للانتقام الشديد منذ بداية الصراع المسلح في أكتوبر/تشرين الأول 1990(12).

في ظل التقاعس الدولي إزاء الحرب الأهلية الرواندية وتورط بعض القوى الإقليمية والدولية في دعم أطراف الصراع (أوغندا، وفرنسا)، خرجت رواندا من تجربة الإبادة الجماعية والحرب الأهلية وهي في حالة مأساوية سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا؛ حيث تفكك المجتمع الرواندي. تمكنت الجبهة الوطنية الرواندية بزعامة بول كاغامي من السيطرة على مناطق واسعة من رواندا بدعم من الجيش الأوغندي لتنتهي بعد ذلك الحرب الأهلية مخلِّفة وراءها قرابة المليون قتيل إضافة لتدمير البينة التحتية والاقتصادية. بعدما استتبَّت الأمور للجبهة الوطنية شُكِّلت حكومة جديدة كان من أولوياتها المعلنة المصالحة الوطنية وإعادة ترميم البنية التحتية فأنشئت المفوضية الوطنية للوحدة والمصالحة، 1999، كما وُضِع الدستور في العام 2003. أقرَّ الدستور بتجريم التمييز بين الهوتو والتوتسي ونصَّ على مبدأ الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية والتعددية الحزبية واعتماد الانتخابات كوسيلة للتداول السلمي للسلطة(13).

تجربة إثيوبيا

إثيوبيا أو الحبشة دولة تقع في القرن الإفريقي يحدها من الشرق كل من الصومال وجيبوتي ومن الشمال إريتريا ومن الشمال الغربي السودان ومن الغرب جنوب السودان ومن الجنوب الغربي كينيا. كانت الإمبراطورية الإثيوبية دولة مَلَكية امتدت عبر منطقة جغرافية تضم دولتي إثيوبيا وإريتريا الحاليتين بدأت مع تأسيس السلالة السليمانية في العام 1270 واستمرت حتى عام 1974 عندما أُطيح بالإمبراطور هيلاسيلاسي في انقلاب عسكري شيوعي حكم إثيوبيا حتى 1991(14).

استمرت الحرب الأهلية الإثيوبية بين الحكومة المركزية الشيوعية والمتمردين الإريتريين والإثيوبيين المناهضين للحكومة حيث جرت الإطاحة بحكومة منغستو من قبل قوات الائتلاف، أي الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي والجبهة الشعبية لتحرير إريتريا، في 1991. على إثر ذلك، نالت إريتريا الاستقلال عن إثيوبيا في أبريل/نيسان 1993. وبذلك شهدت إثيوبيا حالة من الاستقرار الداخلي إلا أن الفيدرالية الإثنية والصراع حول السلطة بين العرقيات المختلفة أسفر عن تجدد الصراع المسلح في نوفمبر/تشرين الثاني 2020 بين الحكومة الاتحادية برئاسة آبي أحمد وجبهة تحرير التيغراي، وهو صراع غير محسوم النتائج على المستوى الداخلي بينما تتصاعد المخاوف من أن يسفر عن تفكك الدولة الإثيوبية رغم دعوة الحوار الوطني التي أطلقتها أديس أبابا مؤخرًا(15).

الفرص والتحديات أمام هذه الدول التي تسعى لأن تكون صاعدة

أولًا: الفرص

أدركت أغلب الدول الإفريقية منذ مطلع القرن الحادي والعشرين أهمية الإصلاح الاقتصادي وتحسين بيئة الاستثمار حيث أصدرت تشريعات لتيسير بيئة الأعمال الاستثمارية وجعلها أكثر جاذبية بهدف تبسيط وتسريع إجراءات إنشاء الشركات وتخفيف رسوم الواردات والصادرات. فضلًا عن ذلك، قامت بإصلاحات لحماية حقوق الملكية وحرية تحويل رؤوس الأموال فضلًا عن رفع القيود على الصرف الأجنبي وتبسيط وتخفيف النظم الضريبية. نلاحظ أن فرص الاستثمار تتعدد في جنوب إفريقيا وأنغولا ورواندا وإثيوبيا؛ فهذه البلاد تضم أراضي خصبة للزراعة إلى جانب الطاقة الكهرومائية والموارد البحرية والسمكية والغابات واحتياطيات النفط والغاز عطفًا على الثروات المعدنية(16).

يعد اقتصاد جنوب إفريقيا ثاني أكبر اقتصاد في إفريقيا وهو الأكثر تصنيعًا وتنوعًا من الناحية التكنولوجية في القارة الإفريقية؛ حيث بلغ ذروته بدخل محلي إجمالي بقيمة 400 مليار دولار في عام 2011 لكنه انخفض إلى ما يقرب من 283 مليار دولار 2020 كجزء من تداعيات كوفيد. تشتهر البلاد بمصادر الثروة الطبيعية كالمعادن حيث إنها تمتلك أكبر حصة من احتياطي الذهب والألماس والبلاتين والكروم والمنجنيز، كما تزدهر بها صناعة السيارات والملابس والأحذية والإلكترونيات والموارد الكيميائية، كما تشتهر بالغابات الكثيفة لذا تعد مصدرًا غنيًّا للأخشاب فضلًا عن تصديرها الفول السوداني والقطن والذرة والقهوة(17).

إصلاح المناخ الاستثماري في جنوب إفريقيا فتح الباب واسعًا أمام المشروعات والاستثمارات الأجنبية وخصوصًا الصينية لاسيما في مجالات البنية التحية والمواصلات والصناعات والتعدين. وقَّعت جنوب إفريقيا والصين إعلان بريتوريا وهو بمنزلة التأسيس الرسمي للشراكة حتى تم تطويرها إلى شراكة استراتيجية شاملة في عام 2010 عندما تم التوقيع على إعلان بكين مما أسهم في استمرار نهضة جنوب إفريقيا، وأصبحت الصين الشريك التجاري الأول مقارنة بالاستثمارات الأخرى(18).

تعد أنغولا قصة نجاح إفريقية ومثالًا على كيفية قيام دولة مزقتها الحرب الأهلية بإعادة بناء نفسها عبر السلام. وتتمتع أنغولا باقتصاد مزدهر وواعد في مختلف القطاعات مع تنامي علاقاتها وشراكتها على الصعيدين الإقليمي والدولي. كما تتميز بموارد طبيعية كبيرة فهي ثاني أكبر مصدِّر للنفط ومصدِّر للماس والذهب والرصاص والفوسفات، فضلًا عن احتياطيات معدنية ضخمة وإمكانات توليد الطاقة الكهرومائية ومساحات شاسعة من الأراضي الزراعية الخصبة(19).

لقد بدأت أنغولا بكتابة فصل جديد من تاريخها وذلك بتطبيق سلسلة من الإصلاحات الهيكلية السياسية والاقتصادية وتقديم الحوافز الاقتصادية أمام الاستثمارات الأجنبية وتوفير أفضل الظروف المستثمرين(20).

أصبح تأسيس أنشطة تجارية في أنغولا أسهل بالنسبة إلى المستثمرين بفضل القوانين الحديثة وخاصة قانون الاستثمار الحكومي الجديد الذي لا يشترط على المستثمرين الدوليين الحصول على شريك أنغولي، كما يسمح للشركات الأجنبية بإعادة أرباحها إلى مواطنها وللعاملين فيها أيضًا بإعادة رواتبهم إلى دولهم(21).

أنغولا واحدة من أسرع الاقتصاديات نموًّا في العالم وتوصف التحولات والتغييرات منذ نهاية الحرب الأهلية بأنها متسارعة؛ حيث أسهمت عائدات النفط والقروض في إنشاء العديد من الطرق والمطارات ومحطات الطاقة والجسور والمستشفيات وإصلاح الأراضي الزراعية وإحياء صناعات القطن والقهوة، كما أُعيد فتح مناجم النحاس والحديد والذهب القديمة للتنقيب. ويمثل قطاع النفط أكثر من 50٪ من الناتج المحلي وأكثر من 90٪ من عائدات التصدير(22).

استطاعت رواندا أن تتحول من دولة فاشلة تعج بالصراعات والحرب الأهلية والمجاعات إلى قوة اقتصادية واعدة في إفريقيا حيث أصبحت مقصدًا لصغار وكبار المستثمرين ورجال الأعمال من مختلف أنحاء العالم، حيث تتعدد فرص الاستثمار في رواندا وتنخفض المنافسة وتكاليف الاستثمار فضلًا عن سهولة الإجراءات والحصول على التراخيص لذا أصبح مناخ الاستثمار فيها متميزًا يجذب المستثمرين من حول العالم. تحتل رواندا حاليًّا المرتبة 38 عالميًّا والثالثة إفريقيًّا بعد موريشيوس وجنوب إفريقيا من حيث سهولة ممارسة أنشطة الأعمال وذلك وفقًا لتقرير البنك الدولي الذي يتضمن 10 معايير هي الأهم في عالم الاستثمار(23).

تقدم رواندا تسهيلات عديدة تجعل بيئتها ومناخها أكثر مرونةً أمام كافة المستثمرين. فبدون تأشيرة يمكن للمستثمر أن يسافر إليها لمعاينة الوضع على الطبيعة كما يحظى المستثمرون الأجانب بنفس فرص وحقوق المستثمرين الوطنيين وهذه ميزة مهمة لا تتوافر لدى معظم الدول. عطفًا على الحوافز المالية التي تقدمها الحكومة الرواندية للمستثمرين، ومنها: الإعفاء من ضريبة الأرباح الرأسمالية والإعفاء من ضريبة الدخل لمدة سبع سنوات للمشاريع الكبيرة، وتحويل رأس المال والأصول إلى الخارج، وخصومات تفضيلية على ضريبة الدخل للشركات التي تعمل في قطاع الطاقة والنقل والإسكان والاتصالات والخدمات المالية(24).

على الرغم من الطفرة الاقتصادية التي تحققت خلال السنوات الماضية الا أن هناك فرصًا ومقومات كبيرة تمثل حافزًا للاستثمار في رواندا لاسيما في قطاعات البنية التحية كالنقل والسكك الحديدية والزراعة والاتصالات والتكنولوجيا والطاقة(25).

تعد إثيوبيا من أسرع الاقتصاديات نموًّا في العالم حيث حقق الاقتصاد الإثيوبي نموًّا كبيرًا فضلًا عن تحقيق الأهداف الإنمائية خلال السنوات العشرين الماضية. أسهم النمو الاقتصادي السريع ومناخ الاستثمار المناسب والالتزام الحكومي تجاه جذب المستثمرين الأجانب والتسهيلات في تدفق الاستثمار الأجنبي إلى إثيوبيا. من أهم الحوافز أنه يحق للمستثمر الأجنبي تحويل الأموال بعملة أجنبية والإعفاء من الرسوم الجمركية ومن الضرائب على الدخل، وتخفيف سعر الإيجار للأراضي الزراعية والتوسع في إنشاء المجمعات الصناعية والسكنية(26).

بالحديث عن فرص الاستثمار في إثيوبيا لابد أن تكون البداية بالاستثمار في قطاع الزراعة وهي الركيزة الأهم في الاقتصاد الإثيوبي؛ حيث تمتلك إثيوبيا هضبة مركزية مرتفعة بحوالي من 2000 حتى 3000 متر فوق سطح البحر عطفًا على الخصوبة التي تتمتع بها الأراضي الإثيوبية؛ مما شكَّل تنوعًا كبيرًا في المحاصيل الزراعية (البقوليات، الحبوب المختلفة، الخضروات، القهوة، التبغ، قصب السكر، الشاي، التوابل، الفواكه). كذلك انتعش الاستثمار في القطاع الحيواني بشكل كبير نظرًا لما تتمتع به البلاد من ثروة حيوانية تسهم بشكل كبير في الناتج المحلي من خلال صناعات اللحوم والألبان. فضلًا عن ذلك، تتمتع إثيوبيا بريادة في مجال الصناعات التحويلية(27).

تملك إثيوبيا ثروة معدنية كبيرة أسهمت بقوة في دعم الصناعات التحويلة وقطاع التعدين، ومن أهم تلك الموارد: الأحجار الكريمة، وخام الحديد، والفحم، والنحاس، والرخام، والجرانيت. وفي مجال السياحة، تمتلك البلاد معالم تجذب السياح من مختلف أنحاء العالم، بسبب مناظرها الطبيعية الخلابة والحياة البرية والغابات وشلالات النيل الأزرق والمواقع الأثرية وغيرها من عوامل الجذب السياحي التي تساعد في ازدياد فرص الاستثمار في إثيوبيا(28).

ثانيًا: التحديات التي تواجه الاستثمار

تواجَه الاستثمارات الأجنبية بالعديد من المشكلات، خاصة إذا كانت الدول المضيفة لتلك الاستثمارات تعاني من إشكاليات سياسية واقتصادية، ولم تصل بعد إلى مرحلة الإصلاح الاقتصادي والاستقرار السياسي الذي يضمن بيئة مناسبة لزيادة وكفاءة وفاعلية الاستثمار. ومن بين العقبات والتحديات التي تواجه المستثمرين وتحدُّ من استثماراتهم، وهي عقبات متداخلة ومتشابهة بين كل الدول محور الدراسة، نجد التالي:

  • تراجع مستوى الشفافية في المعاملات المالية وضعف البيانات.
  • عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي وتزايد حدة الصراعات والحروب الأهلية وإمكانية انفجارها من جديد.
  • ضعف البنية التحتية وطرق النقل والمواصلات.
  • تصدير المواد الأولية يجعلها عرضة للتأثر بتقلبات الأسعار في الأسواق العالمية(29).
  • المعوقات الإدارية "البيروقراطية" المتعلقة ببطء الإجراءات فضلًا عن العقبات القانونية وحل المنازعات.
  • عدم استقرار سعر الصرف مما يؤثر بشكل كبير على التكاليف المتوقعة للمشروعات والأرباح.
  • ضعف الحوكمة وعدم احترام العقود لاسيما في حالة تغيير الحكومات.
  • افتقار بعض الدول إلى العنصر البشري الكفء والمدرَّب في العديد من القطاعات.
  • المعوقات المالية الخاصة بالتمويل حيث اعتمدت معظم المشروعات على المنح والقروض مما جعلها فريسة سهلة لتقع في مصيدة الديون(30).

مستقبل الإصلاح السياسي والاقتصادي في إفريقيا

في العقد الأخير من القرن العشرين، انضمت إفريقيا إلى الموجة الثالثة من التحول الديمقراطي؛ حيث انسحبت العديد من النظم الشمولية المستبدة أمام الحكومات الديمقراطية، وجرى استبدال نظام الحزب الواحد بتعددية حزبية. مع ذلك، لا يزال هناك الكثير من النظم الديكتاتورية تصوغ مبررات واهية من أجل الاستمرار في الحكم. إن الدول التي بدأت مشروع التحول الديمقراطي ليس من الضروري أن تنجز معجزات اقتصادية حتى تكتمل مسيرة التحول الديمقراطي، وإنما هي في حاجة لإنجاز وضمان بعض الحقوق المدنية والسياسية كحكم القانون وحماية الحقوق والحريات والتداول السلمي للسلطة عن طريق انتخابات تتميز بقدر عال من النزاهة والشفافية(31).

المعضلة التي تقف عائقًا أمام استكمال مسار الإصلاح السياسي والاقتصادي في إفريقيا هي ارتباط الإصلاح الاقتصادي بشروط وقواعد البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. في ذات الاتجاه، أصبحت البيئة الدولية تفرض تدابير وعقوبات قاسية تجاه الأنظمة التي لا تعتمد النهج الديمقراطي، لذا نجد أن المطلبين لا ينفصلان؛ فإذا أقرَّ أي نظام حزم الإصلاح الاقتصادي وفق السياسات الدولية، فإن ذلك سيؤثِّر بشكل كبير على شعبه ومستقبل ذلك النظام في الحكم، على أساس أن تلك الإجراءات تتمثل في رفع الدعم الحكومي عن السلع والخدمات وتحرير الوقود. لذلك، ينبغي اعتماد مقاربة وصيغة ذات خصوصية تتماشى مع الوضع المعقد في إفريقيا، لاستكمال مسارات الإصلاح السياسي والاقتصادي(32).

إن الدول الإفريقية بحاجة إلى بيئة سياسية واقتصادية ملائمة، كما تتطلب إصلاح النظم ومؤسساتها بما يتواءم ومقتضيات حاجة المواطنين، وإتاحة فرص لكل القطاعات العامة والخاصة للاستثمار في جميع المجالات. هناك أيضًا ضرورة لتأهيل العنصر البشري بما يخدم التنمية الاقتصادية والعمل على ترسيخ مبادئ الشفافية والمساءلة والعدالة في توزيع الموارد والخدمات. إن الإصلاح السياسي والاقتصادي يبدأ من الداخل عبر استثمار الموارد والاستفادة منها. كل هذا مع ذلك يتوقف على إرادة القادة السياسيين، فالاعتماد على المؤسسات الدولية والقروض والمنح واستيراد البرامج والمشاريع السياسية لن يكون الحل الناجع لمعالجة الإشكاليات السياسية والاقتصادية، لأن كل فاعل دولي يتحرك بناء على مصالحه(33).

ABOUT THE AUTHOR

References

(1) حمدي عبد الرحمن، قضايا في النظم السياسية الإفريقية، مركز الدراسات الإفريقية، القاهرة 1998، ص 45.

(2) عبيد عبد العاطي، دور منظمة الوحدة الإفريقية وبعض المنظمات الأخرى في فض المنازعات، دار القومية العربية للنشر، عمان 2005، ص 56

(3) المصدر نفسه، ص 62.

(4) وهبان أحمد، الصراعات العرقية واستقرار العالم المعاصر، دراسة في الأقليات والجماعات والحركات العرقية، دار الجامعية للنشر والتوزيع، 2007، ص 178.

(5) شبانة أيمن، الصراعات الإثنية في إفريقيا: الخصائص.. التداعيات.. سبل المواجهة، مجلة قراءات إفريقية، المنتدى الإسلامي السادس، سبتمبر/أيلول 2010، ص 8، 9.

(6) محمد صادق، مناطق الصراع في إفريقيا، دار الأمين للطباعة والنشر، القاهرة 2006، ص 253.

(7) المصدر نفسه، ص 256.

(8) إلهام محمد الذهيني؛ بحوث ودراسات في تاريخ إفريقيا الحديث، مكتبة الأنجلو مصرية للنشر، القاهرة 2009، ص 342.

(9) المصدر نفسه، 344.

(10) يحيى جلال، تاريخ إفريقيا الحديث والمعاصر، المكتب الجامعي الحديث، الإسكندرية، 1999، ص 321.

(11) أبو العينين محمود، إدارة وحل الصراعات العرقية في إفريقيا، دار الجامعة للنشر، عمان 1998، ص 263.

(12) المصدر نفسه، ص 268.

(13) إلهام الذهيني، مصدر سابق، ص 155.

(14) يحيى جلال، مصدر سابق، ص 241.

(15) South Africa resources and power, brittannica.date of entry 18/01/2022

https://www.britannica.com/place/South-Africa/Resources-and-power

(16) Amid a lot of uncertainty, lies an opportunity to build the south African, economy Bank better, world Bank, July 23, 2021, date of entry 17/01/2022.

https://blogs.worldbank.org/africacan/amid-lot-uncertainty-lies-opportunity-build-south-african-economy-back-better

(17) Afrique du Sud pour le fml, des réformes économiques drastiques sont nécessaires, le monde 27, nov, 2019. Date of entry 18/01/2022.

https://www.lemonde.fr/afrique/article/2019/11/27/afrique-du-sud-pour-le-fmi-des-reformes-economiques-drastiques-sont-necessaires_6020687_3212.html

(18) Op cit.

(19)- The economist intelligence 7unit GCC trade and investment flows, the emerging – market surge, London: economist 2011, p 19.

(20) سالي محمد، إفريقيا الأكثر جذبًا لتحقيق الاستثمارات والمصالح الخليجية، مجلة آراء حول الخليج، يوليو/تموز 2016، ص70.

(21) المصدر نفسه، ص 71، 72.

(22) عباس شراقي، الموارد الطبيعية في إفريقيا: الفرص والإمكانيات ومصالح دول الخليج، مجلة آراء حول الخليج، العدد 109، يوليو/تموز 2018، ص 45.

(23) المصدر نفسه، ص 47.

(24) حسناء عبد الفتاح، الزراعة في إفريقيا، مجلة إفريقيا قارتنا، العدد 7، سبتمبر/أيلول 2013، 4، 5.

(25) طارق الشيخ، الصين وإفريقيا والتطلع إلى القرن الـ21، السياسة الدولية، العدد 138، أكتوبر/تشرين الأول 1999، ص 196.

(26) المصدر نفسه، ص 198.

(27) رضا هلال، العلاقات الصينية بالدول النامية: المنطلقات والأبعاد، السياسة الدولية، العدد 173، يوليو/تموز 2008، ص135.

 (28) مصطفى محمود، الدور الإثيوبي الجديد في القرن الإفريقي، المركز الديمقراطي العربي، 20 يوليو/تموز 2019، (تاريخ الدخول: 21 يناير/كانون الثاني 2022): https://democraticac.de/?p=61833

(29) The African opportunity! IMD May 2013, date of entry 22/01/2022: https://www.imd.org/research-knowledge/articles/the-african-opportunity/

30- African and the UK challenges and opportunities to expand UK investment, ODI 17/01/2020: https://bit.ly/3um0g2l

31-Economic Reform and Political Transition in Africa the Quest for a Politics of Development Published online by Cambridge University Press: 13 June 2011، date of entry 25/01/2022. https://bit.ly/3AKsTY4

(32) منى عبد الفتاح، هل يواجه الاتحاد الإفريقي أزمات القارة بمزيد من الشعارات، إندبندنت عربية، فبراير/شباط 2021، (تاريخ الدخول: 26 يناير/كانون الثاني 2020): https://bit.ly/32MsGHa

(33) جيهان عبد السلام، الآثار الاقتصادية للانقلابات العسكرية في إفريقيا، 26 أكتوبر/تشرين الأول 2021، (تاريخ الدخول: 28 يناير/كانون الثاني 2022): https://bit.ly/3ucq7cV