حافة الصدام: مناورة روسيا الخطرة في أوكرانيا

تتصاعد الأزمة بين روسيا والدول الغربية حول أوكرانيا، فبينما تطالب روسيا بالتزام مكتوب بألا تلتحق أوكرانيا بالحلف الأطلسي فإن الدول الغربية تحذرها من عواقب وخيمة إذا شنَّت حربًا على أوكرانيا، وقد تُبقي موازين القوى بين الطرفين، الروسي والغربي، الوضع على حافة الانهيار فتظل أوكرانيا غير مستقرة وقيادتها غير قادرة على فرض سيطرتها على مجمل البلاد.
بوتين يلوّح بالسلاح للحصول على تنازلات في أوكرانيا (رويترز).

بدأت روسيا نشر قواتها على حدود أوكرانيا، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي 2021. ومع زيادة حجم الحشود، ارتفع منسوب القلق الغربي من احتمال قيام روسيا بغزو أوكرانيا. ولكن هذا لم يكن الحشد الروسي الأول على حدود الجارة الغربية والجمهورية السوفيتية السابقة، ولا هو بداية الأزمة الأوكرانية. الجديد هذه المرة أن روسيا، التي تقول إنها ليست بصدد الغزو، تطالب الغرب بضمانات أمنية محددة، على رأسها التعهد بعدم ضمِّ أوكرانيا إلى حلف الناتو.

خلال الشهرين الماضيين، حاولت الولايات المتحدة، والدول الغربية الأخرى في أوروبا، احتواء الأزمة، سواء عبر اتصالات مباشرة مع القيادة الروسية، أو التلويح بعقوبات بالغة القسوة على روسيا في حال قامت بالاعتداء على أوكرانيا. ولكن هذه الاتصالات لم تنجح في نزع فتيل الأزمة، التي يبدو أنها تزداد تفاقمًا وتعقيدًا، بدلًا من الانحسار والانفراج.

وأوروبا التي لم تخرج بعد من ضغوط وباء كوفيد 19، والأعباء الهائلة التي ألقى بها الوباء على اقتصاد دولها، تعيش القارة قلق الغزو الروسي المحتمل. صحيح أن التوتر على الحدود الروسية-الأوكرانية لا يمكن أن يعتبر مماثلًا لأزمة برلين في ستينات القرن الماضي، لا في دلالاته ولا سياقه ولا في صلته بالغرب الأوروبي، ولكن تظل هذه أزمة غير مسبوقة منذ نهاية الحرب الباردة؛ وإن تطورت إلى حرب ساخنة، فلا يمكن لأحد توقع عواقبها على دول الاتحاد الأوروبي، ودول حلف الناتو الشرقية مثل تركيا، وتوازن القوى في القارة الأوروبية ككل.

أين تقع جذور هذه الأزمة؟ وهل يقوم بوتين فعلًا بغزو أوكرانيا إن لم تقدِّم له الدول الغربية التعهدات الأمنية التي يطلبها؟ وإلى أين يمكن أن تنتهي تحركات بوتين المسلحة فعلًا، أقدم على الغزو أم لم يُقدم؟

أوكرانيا الجيوسياسية

لم تكن أوكرانيا دولة مستقلة في تاريخها إلا لفترات قصيرة، لوقوعها خلال معظم هذا التاريخ أسيرة مدِّ وجزر الإمبراطوريات الليتوانية، والبولندية، والهنغارية-النمساوية، والروسية. وتحتل أوكرانيا موقعًا خاصًّا في الذاكرة التاريخية الروسية. أوكرانيا هي موطن شعب الروس الأول؛ وفي ميناء سيفاستبول الأوكراني، تقول الأسطورة: اعتنق الأمير فلاديمير، في 998، المسيحية، في أول دخول للكنيسة الأرثوذكسية إلى بلاد الروس. ومنذ القرن التاسع عشر، على الأقل، بدأ المثقفون الروس يروِّجون لفكرة وجود أمة روسية-أوكرانية واحدة، وأن ليس ثمة تمايز إثني-ثقافي جوهري بين الشعبين.

بيد أن الموقع الذي تحتله أوكرانيا في تصور روسيا لفضائها الجيوسياسي يفوق بكثير موقعها في الوعي الثقافي الروسي. أوكرانيا هي بوابة روسيا إلى الغرب، وهي حزام الأمن الضروري بين روسيا والقوى الأوروبية الغربية، وعبر ممرها السهلي الفسيح تعرضت روسيا للغزو مرتين منذ تأسيسها: الغزو النابليوني في بداية القرن التاسع عشر، والغزو النازي في أربعينات القرن العشرين. وبالرغم من أن روسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي تنظر بقلق كبير إلى متغيرات ما يُعرف بالخارج القريب، فإن موقع أوكرانيا لا يمكن أن يقارن بأية صورة من الصور بدول القوقاز ووسط آسيا. ليس ثمة شك في أن موسكو ترى أن من الضروري الحفاظ على نفوذ فعال في القوقاز ووسط آسيا، ولكن الصحيح أيضًا أن روسيا لا تتوقع مواجهة تهديد وجودي في الجنوب. أوكرانيا شأن مختلف تمامًا.

في حال التحقت أوكرانيا بحلف الناتو، يمكن لصواريخ الحلف أن تُنْصَب على مسافة لا تزيد عن 200 كيلومتر من سان بطرسبرغ. إضافة إلى ذلك، فقد كانت سيطرة روسيا القيصرية على شبه جزيرة القرم في 1773، الخطوة الأهم والأكبر التي حققتها في طريقها إلى البحار الدافئة. والمشكلة، التي لم تكن برزت حينها، أن خروتشوف، سكرتير الحزب الشيوعي السوفيتي، أوكراني الأصل، منح شبه جزيرة القرم لجمهورية أوكرانيا السوفيتية، لسبب غير واضح حتى الآن. بذلك، أصبحت أوكرانيا شريكًا رئيسًا لروسيا على ساحل البحر الأسود. وباستقلال أوكرانيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ذهب هذا القطاع الساحلي بموانئه العميقة، والقاعدة البحرية السوفيتية الرئيسة على البحر الأسود، إلى أوكرانيا.

بكلمة أخرى، إن لم تكن أوكرانيا آمنة، لا يمكن للدولة الروسية أن تشعر بالأمان مطلقًا.

خارج روسيا القريب

في نهاية 2003، وبينما أصبح واضحًا أن الولايات المتحدة بدأت الغرق في العراق، اندلعت ثورة شعبية في جورجيا، أطاحت بنظام إدوارد شيفرنادزه الموالي لروسيا. اتهمت موسكو الغرب، والولايات المتحدة على وجه الخصوص، بالوقوف خلف الثورة الجورجية، وأن الغرب يعمل على محاصرة روسيا. ولكن الأمر لم يقتصر على جورجيا؛ ففي 2004، اندلعت ثورة أخرى في أوكرانيا، أسقطت نظام فيكتور يانكوفيتش، الموالي هو الآخر لروسيا. ومرة أخرى، وجَّهت موسكو أصابع الاتهام للولايات المتحدة ومنظمات العمل المدني المموَّلة من واشنطن.

خلال السنوات العشرين التالية على انهيار الاتحاد السوفيتي، توسع حلف الناتو في كافة دول حلف وارسو ودول الاتحاد السوفيتي السابقة في أوروبا، بما في ذلك رومانيا وبلغاريا وبولندا ودول البلطيق الثلاث. ولم يعد هناك من فاصل بين روسيا ودول الناتو الأوروبية سوى أوكرانيا وبيلاروسيا.

عمل بوتين، منذ توليه رئاسة البلاد، في مايو/أيار 2000، على إيقاف التدهور المتفاقم في مقدَّرات روسيا العسكرية، وعلى إعادة بناء الجيش والأسطول. في 2008، وبالرغم من أنه تخلى عن تولي منصب الرئيس وتسلم رئاسة الحكومة، قاد بوتين عملية عسكرية خاطفة ضد جورجيا، بهدف الحفاظ على أمن المقاطعات الجورجية المنشقة في الشريط الحدودي بين جورجيا وروسيا الاتحادية. نجم عن العملية العسكرية ما يشبه التدمير الكامل لجيش جورجيا؛ ولكن هدف بوتين الحقيقي من الحرب كان إرسال رسالة إلى الغرب بأن روسيا تعود إلى الساحة الدولية، وأنها لن تتسامح مع أي تهديد يصدر من خارجها القريب.   

في أوكرانيا، لم تحسن المعارضة إدارة البلاد بعد ثورة 2004، وهو ما ساعد موسكو على إعادة بناء العلاقات مع الجارة ذات الأهمية الجيوستراتيجية القصوى، ومساعدة يانكوفيتش في 2010 على العودة إلى رئاسة البلاد. ولكن رفْض يانكوفيتش في نهاية 2013 للشروط التي وضعتها أوروبا لتوقيع اتفاقية تعاون بين أوكرانيا والاتحاد الأوروبي، أدى إلى اندلاع موجة ثورية شعبية أوكرانية جديدة، وإلى هروب يانكوفيتش في فبراير/شباط 2014. هذه المرة، بدا أن روسيا لن تستطيع استعادة أوكرانيا في المدى المنظور، وأن على روسيا العمل من أجل تقليل حجم الخسائر. وهذا ما عكف بوتين على تحقيقه بأقصى سرعة ممكنة.

مشكلة أوكرانيا، كما هي مشكلة عدد من دول الاتحاد السوفيتي السابقة، أن تكوينها السكاني ليس متجانسًا. يبلغ حجم الأوكرانيين من إثنية روسية 18 بالمئة من السكان؛ وبينما تعتبر المقاطعات الغربية مهد القومية الأوكرانية، يشكِّل الأوكرانيون الروس أغلبية في شبه جزيرة القرم وثماني مقاطعات شرقية. وهذا ما ساعد بوتين في تحركه لمواجهة خسارة أوكرانيا في 2014.

سيطرت قوات روسية على شبه جزيرة القرم بعد شهور قليلة فقط من انهيار نظام يانكوفيتش؛ وأُعلن عن استفتاء شعبي حول انضمام شبه الجزيرة إلى الاتحاد الروسي. في الوقت نفسه، عملت روسيا على دعم عسكريين أوكرانيين روس سابقين، في إقليم دونباس في شرق أوكرانيا، على الانشقاق عن كييف. خلال السنوات منذ اندلاع القتال في إقليم دونباس، أدى الصراع بين كييف والمنشقين الروس إلى وقوع ما لا يقل عن 13 ألف قتيل، وإلى دمار واسع النطاق في الشرق الأوكراني.

لم تستطع إدارة بوش الابن فعل الكثير لمواجهة روسيا في جورجيا، سوى مدِّ يد العون لحكومة تبليسي لإعادة بناء جيشها واقتصادها. كما لم تستطع إدارة أوباما فعل الكثير في شبه جزيرة القرم، سوى الإعلان عن رفض الاعتراف بانضمام شبه الجزيرة للاتحاد الروسي، وفرض عقوبات اقتصادية على روسيا. وكما الولايات المتحدة، رفضت دول الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء في الناتو، بما في ذلك تركيا، الاعتراف بضم شبه الجزيرة، وإن تفاوتت في مستوى العقوبات التي فرضتها على موسكو.

بيد أن تلك لم تكن النهاية. عندما أخذ الاتحاد السوفيتي في الانهيار، كانت اللغة السائدة في العواصم الغربية تجاه روسيا تنم عن سعي إلى مصالحة تاريخية، ووضع نهاية للعزلة والتفرد الروسي، واستقبال روسيا تحت المظلة الغربية. ولكن وعود المصالحة لم تتحقق مطلقًا؛ ولأن روسيا خرجت من الحرب الباردة بنصف هزيمة وحسب، سمحت لها بالاحتفاظ بثاني أكبر ترسانة نووية في العالم، لم تلبث الولايات المتحدة في عهدي، كلينتون وبوش الابن، الطويلين أن عملت على عزل موسكو عن القرار الدولي، والتعامل مع روسيا باعتبارها خطرًا محتملًا.

لمواجهة روسيا في جورجيا وأوكرانيا والبحر الأسود، تدفقت المساعدات الغربية على جورجيا وأوكرانيا، وشجعت القوى الغربية الأصوات الداعية في الدولتين إلى تقوية روابط بلدانها مع المعسكر الغربي. عززت الولايات المتحدة وجودها في البحر الأسود، بالرغم من محدودية الفترة الزمنية التي يُسمح بها بوجود عسكري في البحر للدول غير المطلَّة عليه. ومنذ نهاية عهد بوش الابن، وخلال سنوات إدارة أوباما، عملت الولايات المتحدة على نشر منظومة صواريخ مضادة للصواريخ في دول أوروبا الشرقية الأعضاء في الناتو، وإنشاء مراكز رادار متقدمة في عدد من هذه الدول، بما في ذلك في جنوب شرق تركيا.

حلقة تأزم جديدة

يقول الروس دائمًا: إن الغرب، والولايات المتحدة، على وجه الخصوص، قدَّم لروسيا، على لسان جيمس بيكر، وزير خارجية بوش الأب، وعدًا قاطعًا بعدم توسع الناتو في أوروبا الشرقية ودول الاتحاد السوفيتي السابقة. ويقول الروس: إن هذا الوعد كان الضمانة الرئيسة التي أدت إلى أن تسحب حكومة غورباتشوف معارضتها للوحدة الألمانية. لا ينكر الأميركيون أن جيمس بيكر تحدث بذلك مع غورباتشوف؛ ولكنهم يجادلون بأن ما قاله بيكر لم يكن سياسة ملزمة للحكومة الأميركية، لا لإدارة بوش الأب ولا الإدارات التالية.

بيد أن الخطر الذي يراه الروس في جملة التحركات الغربية منذ تسعينات القرن الماضي، بات يتجاوز توسع الناتو، ويطول توازن القوة في الساحة الأوروبية، ومحاولات محاصرة الوجود الروسي في البحر الأسود وإضعاف النفوذ الروسي في البلقان، واستمرار محاولات التمدد في دول آسيا الوسطى والقوقاز السوفيتية السابقة، ولم ينفذ الغرب وعوده في المساعدة على تحديث الصناعة الروسية.

في أكتوبر/تشرين الأول الماضي 2021، عندما استخدمت أوكرانيا الطائرات بيرقدار المسيرة، التي سبق أن اشترتها من تركيا، في قصف مواقع مدفعية ثقيلة للمنشقين في إقليم دونباس، وجد بوتين فرصة لاتخاذ خطوة أخرى لتحقيق هدف الحفاظ على أمن روسيا في الخارج القريب. قالت موسكو: إن القصف الأوكراني لمواقع المنشقين الأوكرانيين الروس هو انتهاك صريح لاتفاقية مينسك لوقف إطلاق النار في دونباس، ويمثل تصعيدًا خطيرًا للصراع. دافعت كييف عن موقفها بأنها لم تكن تتخذ خطوات هجومية بأية صورة من الصور، ولكنها ردَّت وحسب على مواقع مدفعية استهدفت جنودها وأوقعت خسائر بينهم. ولكن تبيُّن حقيقة ودلالات تبادل القصف على الخط الفاصل بين كييف ومنشقي دونباس بات ثانويًّا بعد أن أحدث أزمة جديدة في الساحة الأوروبية.

خلال الأسابيع القليلة التالية، أخذت روسيا في حشد عشرات الآلاف من الجنود في ثلاثة محاور حدودية مع أوكرانيا. وفي يناير/كانون الثاني 2022، نُقلت قوة روسية معتبرة الحجم، مدعومة بأحدث الطائرات المقاتلة، إلى بيلاروسيا، المحاذية لأوكرانيا في الغرب، بحجة إجراء مناورات مشتركة.  

طوال ما يقارب ثلاثة شهور من الحشد، لم تخترق القوات الروسية الحدود الأوكرانية، ولا أطلقت طلقة واحدة باتجاه الجيش الأوكراني ولكن العواصم الغربية تصر على أن الحشد العسكري الروسي ليس سوى مقدمة لغزو أوكرانيا، بصورة محدودة أو واسعة النطاق، ومحاولة تغيير نظام الحكم الأوكراني بقوة السلاح. ولذا، ولاحتواء احتمالات التهديد الروسي لأوكرانيا، سارعت الولايات المتحدة ومعظم حليفاتها الغربيات إلى اتخاذ سلسلة من الإجراءات.

تحدث الرئيس الأميركي مع نظيره الروسي، في مطلع ديسمبر/كانون الأول 2021، والتقى وزيرا خارجية الدولتين مرتين: في الثاني من ديسمبر/كانون الأول 2021 والعاشر من يناير/كانون الثاني 2022. يفيد ما رشح من هذه الاتصالات أن الأميركيين أبلغوا الروس بأن غزو أوكرانيا سيواجَه بعقوبات اقتصادية مباشرة وبالغة القسوة على روسيا، وأن الولايات المتحدة على توافق كامل مع حليفاتها الأوروبيات بهذا الخصوص. إضافة إلى ذلك، قامت الولايات المتحدة وقوى أوروبية أخرى، سيما بريطانيا، بإمداد أوكرانيا بأسلحة دفاعية نوعية، وأسلحة للاستخدام في مقاومة القوى المحتلة؛ وبنشر عدة آلاف من الجنود في عدد من دول الناتو القريبة من أوكرانيا وبيلاروسيا.

عقب لقائه الثاني مع نظيره الأميركي، أشار وزير الخارجية الروسي، لافروف، إلى أن بلاده لم تعد تثق بوعود وتطمينات الغرب، وأنها طالبت إدارة بايدن بتقديم ردٍّ مكتوب على المطالب الأمنية الروسية؛ الرد الذي سُلِّم بالفعل للجانب الروسي، في 26 يناير/كانون الثاني. خلال الأيام القليلة التالية على تسلم الرد الأميركي، لم يُخْفِ الروس خيبة أملهم من الموقف الأميركي، بدون أن يعلنوا صراحة عن توقف المسار التفاوضي. أما في الجانب الأميركي، فقد أكد مسؤولو إدارة بايدن على أن الرد على المطالب الروسية لم يشمل تعهدًا بامتناع الناتو عن ضمِّ أوكرانيا في المستقبل؛ وهو الموقف الذي تكرر على لسان سكرتير عام حلف الناتو.

مع نهاية يناير/كانون الثاني 2022، وبينما تحولت الأنظار إلى جلسة مجلس الأمن الدولي التي عُقدت لمناقشة الأزمة الأوكرانية، أكدت مصادر استخباراتية غربية أن روسيا دفعت بمعدات وقوات إلى محاور الحشد العسكري المحيطة بأوكرانيا. بمعنى، أن روسيا، وبالرغم من توكيد مندوبها بمجلس الأمن على أنها لا تخطط لغزو أوكرانيا، لم تزل مستمرة في التجهيزات العسكرية الضرورية لعملية غزو عسكري.

مراهنة محفوفة بالمخاطر

النهاية الأفضل للأزمة الأوكرانية، من وجهة نظر بوتين، أن يؤدي نشر القوة العسكرية إلى إقناع واشنطن وحلفائها الأوروبيين بأن روسيا جادة وقادرة على غزو أوكرانيا، وأن تتحرك بالتالي نحو الاستجابة للمطالب الروسية، ولو في حدها الأدنى على الأقل. بمعنى، أن موسكو التي تطالب بالحفاظ على حياد أوكرانيا وعدم ضمها لحلف الناتو، وسحب وجود الحلف العسكري في بلغاريا ورومانيا، يمكن أن تقبل في هذه المرحلة باتفاق على وضع أوكرانيا، وحسب.

ولكن طريقة التعامل الأميركي مع الأزمة لا توحي بأن إدارة بايدن ستقدم لموسكو أي تعهدات بخصوص علاقة أوكرانيا المستقبلية مع الناتو. ولأن بوتين، الذي يعتقد -كما يبدو- أن هذه فرصة لا يمكن تفويتها، يصعب عليه التراجع بدون تحقيق أهداف روسيا الأمنية في أوكرانيا، يقول قطاع من صانعي القرار الغربي: لم يعد ثمة مفر من الحرب. عدد من المراقبين يعتقد أن الولايات المتحدة، وليس أوروبا أو تركيا، ربما تريد رؤية بوتين يقوم فعلًا بغزو أوكرانيا. إنْ تجرَّأ بوتين على اتخاذ هذه الخطوة، فلن يواجه مقاومة صلبة من الأوكرانيين وحسب، بل وستُفرض عليه، وعلى نظامه، وعلى الدولة الروسية، حزمة عقوبات غير مسبوقة، تعيد روسيا عدة عقود إلى الوراء.

الاحتمال الآخر، بالطبع، أن توجه روسيا ضربة قاصمة للمقدرات العسكرية الأوكرانية، مستخدمة هذا المسوِّغ أو ذاك، بدون أن تقدم على غزو فعلي، بهدف صناعة مناخ من عدم الاستقرار، يفضي إلى إطاحة نظام الرئيس، فلاديمير زينسكي، في كييف، ويفتح المجال لمفاوضات روسية-أوكرانية، وروسية-غربية، حول وضع أوكرانيا وعلاقتها المستقبلية مع روسيا.

المشكلة التي قد تواجه بوتين في هذه الحالة، بالطبع، أن تقوم الولايات المتحدة وحليفاتها الغربيات بفرض عقوبات على روسيا، حتى إن لم تتجاوز القوات الروسية خط الحدود مع أوكرانيا. أما الأكثر مدعاة لقلق موسكو فهو أن تسارع أوكرانيا، إن اعتُدي عليها بهذه الصورة أو تلك، إلى طلب عضوية الناتو، وأن يوافق الحلف في النهاية على ضمها.

الخيار الثالث، والأكثر أمنًا لروسيا، في المدى المنظور، على الأقل، يتلخص في تجنب غزو أوكرانيا أو الاعتداء عليها، والمحافظة على مناخ التوتر المحيط بها، في الوقت نفسه، لأطول فترة ممكنة. باعتماد سياسة الصبر والنفس الطويل، تأمل موسكو بأن تفضي الضغوط على أوكرانيا إلى تغيير نظام الحكم في كييف لصالح التفاهم مع روسيا. ولكن هذا الخيار، غير مضمون النتائج، وباهظ التكاليف، سيواجَه هو الآخر بردود فعل غربية، يصعب مقدمًا تقديرها أو كيفية تعامل روسيا معها.    

في النهاية، ومهما كان المسار الذي ستتخذه الأزمة في الأسابيع والشهور المقبلة، فإن من الصعب تصور انسحاب بوتين بدون تنازلاتٍ غربيةٍ ما تنقذ ماء وجه روسيا. في تاريخ روسيا الطويل والمرهق، لم تبرز ثمة علاقة وثيقة بين بقاء الحاكم والأعباء الاقتصادية التي يمكن أن يعاني منها الشعب الروسي. وليس ثمة شك في أن عقوبات غربية على روسيا ستواجَه بإيقاف إمدادات الطاقة الروسية إلى أوروبا، بكل ما يعنيه مثل هذا التطور للاقتصاد الأوروبي، والاقتصاد العالمي ككل.