تعزيز قبضة العسكر على النظام السوداني

أجرى الرئيس السوداني عمر البشير تغييرا حكوميا عزز قبضة قادة الجيش على مقاليد السلطة، عشية موعد التنافس على منصب الرئاسة، الذي يعد موقعا هاما يحمي قادة النظام من ملاحقة محكمة الجنايات الدولية.
20131222113035533580_20.jpg
الرئيس السوداني عمر البشير (أسوشييتد برس)

ملخص
أدت التعديلات التي أجراها  الرئيس عمر البشير على حكومته إلى خروج السبعة الكبار في نظام الحكم، فأثارت تساؤلات حول حقيقة ما يجري وراء الكواليس؛ والملاحظ أن التعديلات اقتصرت على المدنيين من أركان الحكم في الوقت الذي تعزز فيه دور العسكريين، فألقى بقاؤهم على هرم السلطة بظلال من الشكوك حول المعايير المعلنة التي جرى بموجبها إعفاء المدنيين من أركان النظام.

والملاحظ أن الاستعجال في إجراء هذه التعديلات الجوهرية في تركيبة الحكم استباقًا لمؤتمر عام ينعقد خلال أشهر يشير إلى أن أمرًا ملحًا دعا الرئيس البشير لاتخاذ هذه الخطوة، وهو بلا شك يتعلق بالاستحقاق الانتخابي الرئاسي المقبل، والرهانات الهامة المرتبطة به، مثل حاجة القيادة السودانية الحالية لكسبه احتياطا من ملاحقة محكمة الجنايات الدولية.

مقدمة

أجرى الرئيس السوداني عمر البشير في الثامن من ديسمبر/كانون الأول الجاري 2013، تعديلات واسعة في هرم مؤسسات حكومته السياسية والتنفيذية والتشريعية، وهي ثالث أكبر تغييرات من نوعها يجريها خلال فترة حكمه التي تقترب من ربع قرن، من شأنها أن تحدث تحولات مهمة في بنية السلطة وتوازناتها الداخلية، كما تلقي بظلالها على مستقبل الأوضاع السياسية في البلاد.

وبموجب هذه التعديلات خرج النائب الأول للرئيس، ونائب رئيس حزب المؤتمر الوطني الحاكم للشؤون التنفيذية علي عثمان محمد طه من موقعه، وهو الرجل الثاني في النظام والذي يُعتبر على نطاق واسع بمثابة "العقل السياسي" للحكم، وفقد الرجل الثالث في هرم السلطة نافع علي نافع الذي يُوصف بـ"رجل النظام القوي" منصبه كمساعد لرئيس الجمهورية، وخسر كذلك موقعه القيادي في الحزب الحاكم الذي شغل فيه منصب نائب الرئيس للشؤون السياسية والتنظيمية، وفقد أحمد إبراهيم الطاهر رئيس المجلس الوطني "البرلمان" موقعه، وخرج كذلك الحاج آدم يوسف النائب الثاني لرئيس الجمهورية من التشكيلة الحكومية الجديدة.

وخرج كذلك، بموجب هذه التعديلات، معظم الوجوه التي شكّلت حضورًا دائمًا في التشكيلات الحكومية المتعددة التي شهدتها البلاد على مدار العقدين الماضيين، لاسيما الشخصيات التي كانت تشكل مراكز قوة مهمة في النظام من بينها وزير النفط عوض الجاز، ووزير الكهرباء والموارد المائية أسامة عبدالله، ووزير المعادن كمال عبداللطيف، ووزير الزراعة والري عبدالحليم المتعافي، ووزير المالية والاقتصاد الوطني علي محمود الذي شهد عهده أزمات مالية واقتصادية حادة وإجراءات حكومية قاسية أدت إلى انتفاضة شعبية في سبتمبر/أيلول 2013، قُتل فيها مئات المحتجين.

أما على صعيد التشكيلة الجديدة فقد كان أهم ملامحها صعود نجم العسكريين في السلطة؛ حيث عيّن الرئيس البشير، الفريق أول بكري حسن صالح نائبًا أول للرئيس، وهو شخصية مقربة إليه وكان زميله في سلاح المظلات بالقوات المسلحة السودانية، وهو العضو الوحيد الذي لا يزال إلى جانبه من أعضاء "مجلس قيادة ثورة الإنقاذ الوطني" الذي تشكّل عقب الانقلاب العسكري الذي قاده إلى السلطة في 30 يونيو/حزيران 1989، وشغل قبل هذا المنصب الرفيع منصب وزير شؤون رئاسة الجمهورية الذي كان يشغله في الحكومة السابقة، كما شغل خلال السنوات الأربع والعشرين الماضية مناصب وزير الدفاع، والداخلية، وقيادة الأجهزة الأمنية.

كما كانت أهم سمات الحكومة الجديدة احتفاظ وزير الدفاع الوطني الفريق أول عبدالرحيم محمد حسين بمنصبه، وهو شخصية مثيرة للجدل حمته صداقته الوطيدة بالرئيس البشير في مواجهة انتقادات واسعة من بعض العسكريين والمدنيين المطالبين بإقالته احتجاجًا على أدائه.

وعلى الرغم من أنه كانت هناك إرهاصات على عزم الرئيس البشير إجراء تعديلات واسعة في حكومته تحت لافتة الاستجابة لمتطلبات التغيير والتجديد في الفريق الحاكم وإفساح المجال لجيل جديد من الشباب، إلا أن حجم التغييرات التي بدت كجراحة عميقة أطاحت بالرؤوس الكبيرة في الحزب الحاكم والحكومة أحدث مفاجأة واسعة في الأوساط السياسية السودانية، بما في ذلك داخل أروقة الحزب الحاكم وفي أوساط المعارضة، فلقد جاء التغيير عميقًا ومفاجئًا إلى درجة لم يكد يصدق الكثيرون حدوثها دفعة واحدة، وتميزت بانكفاء النظام على نواته الصلبة بدلاً من توسيع المشاركة السياسية، للإصلاحيين داخل حزبه، وللمعارضة السياسية في باقي الأحزاب.

وكان الرئيس البشير أعلن لأول مرة نيته إجراء تغييرات كبيرة في بنية النظام الحاكم قبل ثلاث سنوات في أعقاب نجاح الموجة الأولى من ثورات الربيع العربي في الإطاحة بالرئيس التونسي زين العابدين بن علي، والرئيس المصري حسني مبارك؛ ففي مارس/آذار من العام 2011 شهد الحزب الحاكم حراكًا شبابيًا واسعًا مطالبًا بالتغيير تأثرًا بالدور الشبابي في ثورتي تونس ومصر، خاض شباب الحزب حوارات ساخنة مع الرئيس البشير اتسمت بقدر كبير من الجرأة والانتقادات الحادة لاستمرار سيطرة الحرس القديم على مفاصل السلطة؛ فجرى فتح ملفات الفساد حتى وصلت إلى المساس بأفراد من أسرة الرئيس، فاضطر البشير تحت ضغط ذلك الحراك الشبابي الاحتجاجي داخل حزبه إلى الإعلان عن عدم ترشحه لدورة رئاسية جديدة في الانتخابات المقررة في العام 2015، كما أعلن عزمه اختيار خليفة له من الشباب، وتغيير الطاقم الحاكم لكل من تعدى الستين من العمر، أو مكث في مناصب حكومية لأكثر من عشر سنوات. غير أن الرئيس البشير لم يُقدِم على تنفيذ تعهداته تلك بصورة عملية طوال السنوات الثلاث الماضية، وإن كان يعيد التأكيد عليها في تصريحات صحافية.

لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يُقدِم فيها الرئيس السوداني على إجراء تعديلات هيكلية في بنية السلطة لمواجهة التحديات التي تواجهه ولتحسين فرص استمراره في الحكم، ويُعدُّ التعديل الأخير ثالث أوسع تعديلات مفصلية يجريها في تركيبة حكومته منذ وصوله إلى السلطة؛ حيث كان أولها في العام 1999 حين أطاح بالدكتور حسن الترابي زعيم الحركة الإسلامية السودانية ومهندس الانقلاب الذي قاد البشير إلى السلطة؛ فأبعده من منصب الأمين العام للحزب الحاكم، ومن رئاسة المجلس الوطني "البرلمان"، فحدث أكبر انشقاق شهده النظام، وانحاز للبشير عدد كبير من قيادات الحركة الإسلامية من المقربين للدكتور الترابي، على رأسهم نائبه علي عثمان محمد طه.

وجاء التحول الثاني في بنية الحكم الإنقاذي مع تنفيذ اتفاقية السلام الشامل التي وقّعتها الحكومة السودانية مع الحركة الشعبية لتحرير السودان في العام 2005 لإنهاء الحرب الأهلية في جنوب السودان؛ حيث تقاسم الطرفان السلطة في الحكومة المركزية؛ فتولى زعيم الحركة الراحل الدكتور جون قرنق منصب النائب الأول للرئيس، وخلفه الجنرال سلفا كير عقب مقتله في حادث طائرة بعد أسابيع قليلة من توليه المنصب، كما تولت الحركة الشعبية بالكامل حكم جنوب السودان، وانتهت تلك التسوية باختيار الجنوبيين الانفصال في دولة مستقلة في العام 2011.

تعزيز قبضة العسكر

ما الذي يجعل التعديلات الأخيرة التي أجراها البشير على حكومته تكتسب أهمية خاصة إلى درجة اعتبارها تمثل ثالث أهم محطة تحوُّل في مسار حُكمه، ويُتوقع أن تترتب عليها تبعات وتداعيات مهمة على مستقبل حكمه وعلى مستقبل الأوضاع السياسية في السودان؟

تقول الرواية الرسمية في تفسير مبررات هذا التغييرات الكبيرة: إنها تأتي استجابة لدواعي التجديد في مؤسسات الحكم وإعطاء دفعة جديدة له عن طريق إفساح المجال للشباب لتولي المسؤولية، وهو ما اقتضى تنحي الجيل الذي ظل يتصدَّر المشهد خلال ربع القرن الماضي، وتُشدد الرواية الرسمية على أن التنحي شبه الجماعي للطاقم الحاكم القديم تم عن طواعية وبمبادرة على وجه الخصوص من النائب الأول السابق علي عثمان طه الذي وصفه الرئيس البشير في لقاء جماهيري عشية تنحيه بأنه رأس الرمح فيها ومهندس هذه التغييرات وأنه تنازل عن منصبه من أجل تحقيق ذلك، وتنفي التصريحات الرسمية بشدة أن تكون هناك أية خلافات أو صراعات داخل الحزب الحاكم أدت إلى هذه التطورات.

بيد أن طبيعة التعديلات التي شملت خروج السبعة الكبار في نظام الحكم تثير تساؤلات حول حقيقة ما يجري وراء الكواليس؛ والملاحظة الأولى أن التعديلات اقتصرت على المدنيين من أركان الحكم في الوقت الذي تعزز فيه دور العسكريين، فألقى بقاؤهم على هرم السلطة بظلال من الشكوك حول المعايير المعلنة التي جرى بموجبها إعفاء المدنيين من أركان النظام، فكل من صالح وحسين ظلا في مواقع وزارية على مدى الأربع والعشرين عامًا الماضية، وكلاهما تعدى الخامسة والستين من العمر، فلماذا لم تطبق عليهما المعايير نفسها، بل تمت ترقية أحدهما إلى منصب النائب الأول؟ فبدا من الواضح أن ترويكا العسكريين في السلطة التي يمثلها البشير وصالح وحسين خارج حسابات التجديد، فتعززت فرضية الذين قرأوا التغييرات التي أجراها البشير على حكومته على أنها تأتي في سياق "عسكرة النظام" على حساب المدنيين.

ورغم أن نظام الحكم الحالي في السودان الذي وصل إلى السلطة بانقلاب يستند إلى ساقين: عسكرية ومدنية، يجمع بينهما الانتماء للحركة الإسلامية السودانية التي دبرت الانقلاب، إلا أن الطبيعة العسكرية للنظام ظلت هي السائدة، فكان يستمد قوته الحقيقة من المؤسسة العسكرية من خلال حرص البشير على الاحتفاظ بمنصب القائد العام حتى انتخابات العام 2010، عندما تنازل عن المنصب لاعتبارات قانونية، ولكنه ظل محتفظًا بدوره العسكري باعتباره قائدًا أعلى بحكم المنصب الرئاسي، بينما ظل الجناح المدني الذي يمثله "الإسلاميون" متغيرًا على مستوى القيادة، فبعد الإطاحة بالترابي، واصل علي عثمان طه إضفاء رمزية دعم "الحركة الإسلامية" للنظام، وبالتالي فإن التعديلات الأخيرة لا تعني في الواقع خلق حالة عسكرة جديدة على النظام، ولكنها تعزز من قبضة العسكريين التي ظلت باستمرار تمثل مركز القوة الرئيسية فيه.

والملاحظة الثانية على هذه التعديلات هي أن القيادات المدنية للنظام التي غادرت مناصبها تشترك في كونها قيادات تاريخية معروفة في "الحركة الإسلامية"، فظل وجودها في السلطة يمثل رمزية استمرارية الحركة ضمن مكونات النظام، وهو ما اتخذ أهمية خاصة بعد انشقاق الدكتور الترابي، ولذلك فإن الخروج الجماعي لهذه القيادات الإسلامية المعروفة من مراكز القرار قُرئ على نطاق واسع بحسبانه توجهًا مقصودًا من الجناح العسكري للنظام لتصفية آخر جيوب رموز "الحركة الإسلامية" التاريخية من أركان النظام الإنقاذي.

وهي على أية حال قراءة ملتبسة في ظل تعقيدات وتطورات العلاقات الداخلية بين مكونات النظام. ويُشار في هذا الخصوص إلى أنه في آخر مؤتمر عام لجناح "الحركة الإسلامية" الموالي للنظام، الذي كان يقوده النائب الأول السابق علي عثمان طه، الذي عُقد  أواخر العام الماضي 2012، وفي ظل ضغوط من الرئيس البشير وبعض مؤيديه من "الإسلاميين" بحل الحركة ودمجها في الحزب الحاكم لمنع الازدواجية؛ لجأ طه الذي كان يعارض ذلك التوجه ويعتبر وجود الحركة ضروريًا للقيام بمهام "فكرية ودعوية" لا تمارسها الحكومة والحزب، إلى إجراء تعديل في دستور الحركة قلّل فيه من صلاحية وقوة دور الأمين العام الذي كان يشغله وتجنب الترشح له مجددًا، كما ابتدع قيادة عليا للحركة الإسلامية يترأسها البشير، وكان ذلك كافيًا لإغراء الرئيس الذي أصبح رسميًا "شيخًا" للحركة الإسلامية للإبقاء عليها؛ وفي سبيل فرض المزيد من سيطرة الجناح العسكري عليها تم اختيار شخصية مدنية مقربة من العسكريين أمينًا عامًا، كما تم في خطوة مفاجئة اختيار الفريق أول بكري حسن صالح نائبًا للأمين العام، وهي الخطوة التي اعتبرتها تقارير صحافية حينها تهيئة لتوليه منصبًا أعلى في الحكومة، وهو ما حدث بالفعل بعد ذلك بعام بتعيينه نائبًا أول للرئيس.

ولذلك، من الصعب تصنيف التغييرات التي أجراها البشير باعتبارها "انقلابًا" عسكريًا على "الحركة الإسلامية" الموالية لحكمه وقد أصبح فعليًا زعيمًا لها، ولكن يمكن القول: إنها قادت عمليًا إلى التخلص من شخصيات لها وزنها في تمثيلها الرمزي لـ"الإسلاميين"، لصالح بروز شخصيات جديدة ليس لها ذلك الثقل التاريخي، ولكنها أيضًا تنضوي تحت عباءة الإسلاميين. وبذلك جمع البشير بين يديه مناصب رئاسة الدولة، ورئاسة الحزب الحاكم، وقيادة الجيش، ورئاسة "الحركة الإسلامية".

والملاحظة الثالثة، أن هذه التعديلات على الرغم من أن مهندسها الفعلي هو الرئيس البشير إلا أنها جرت وفق قواعد اللعبة السارية ولم يعمد إلى فرضها بقرار فوقي أحادي من قبله، بل حرص على تمريرها من داخل اجتماع المكتب القيادي للحزب الحاكم. كما أنها جرت ظاهريًا على الأقل تحت غطاء من الرضا، فانبرت للدفاع عنها الشخصيات الرئيسية المغادرة نفسها، إلا أن ذلك لم يمنع طرح السؤال الأكثر إثارة للجدل، وهو: هل تم هذا التغيير فعلاً طوعًا بإرادة الشخصيات المغادرة كما ظلت تؤكد ذلك التصريحات الرسمية، أم أن هناك أسبابًا قاهرة نجح الفريق الحاكم في إخفائها عن الرأي العام قادت إلى هذه التغييرات المهمة؟

كان أكثر الأطراف حرصًا على نفي وجود خلاف مع الرئيس، نائبه الأول المنصرف طه، الذي أكد في حوارات صحافية أن خروجه ليس "إقالة ولا استقالة" على حد تعبيره ووصفه بأنه ترتيب متفق عليه مع البشير من أجل التجديد، وأنه بادر إلى ذلك لرفع الحرج عنه ولتوسيع دائرة التغيير، ولكنه أشار أيضًا إلى أنها تأتي استجابة لـ"قرار الرئيس والحزب".

غير أن توقيت وحجم التغيير والملابسات المحيطة بالوضع السياسي تشير إلى أن هذه التفسيرات الرسمية غير كافية لنفي أن هناك حسابات أخرى تتجاوز مسألة تجديد القيادات، وهي التي فرضت هذه التعديلات الكبيرة في هذا التوقيت بالذات وبقدر من العجلة؛ فحسب روزنامة الحزب الحاكم، من المفترض أن يعقد مؤتمره العام قبل نهاية العام المقبل 2014، بعدما جرى تأجيله من توقيته الأصلي حسب دستور الحزب والذي كان يفترض عقده الشهر الماضي؛ وتأتي أهمية المؤتمر العام القادم من أنه سيتم فيه اختيار قيادة الحزب الجديدة بمن فيه رئيسه الذي سيكون مرشحه في الانتخابات الرئاسية المقررة في العام 2015.

فلماذا لم ينتظر الحزب الحاكم بضعة أشهر ليتم هذا التغيير بصورة طبيعية مع بروز القيادات الجديدة في المؤتمر العام المقبل؟ ولماذا تم تغيير هذا العدد الكبير من القيادات المهمة دفعة واحدة، وكان من الممكن أن يتم تدريجيًا لتجنب الفراغ مع قلة تجربة الذين حلّوا مكانهم في وقت تواجه الحكم تحديات كبيرة كانت تفترض الاستفادة من خبرة وتجربة الطاقم المنصرف؟

الاحتياط من محكمة الجنايات

من الواضح من سياق هذه الملابسات أن الاستعجال لإجراء هذه التعديلات الجوهرية في تركيبة الحكم استباقًا لمؤتمر عام ينعقد خلال أشهر يشير إلى أن أمرًا ملحًا دعا الرئيس البشير لاتخاذ هذه الخطوة، وهو بلا شك يتعلق بالاستحقاق الانتخابي الرئاسي المقبل؛ فالبشير على الرغم من إعلانه أنه لن يترشح لدورة رئاسية جديدة إلا أنه اكتفى بترديد ذلك لأجهزة الأعلام دون اتخاذ أية خطوة رسمية في هذا الاتجاه، مثل تأكيد نيته هذه على الأقل داخل مؤسسات الحزب الحاكم، وهو ما لم يفعله تاركًا الباب مفتوحًا أمام الاحتمالات كافة بما في ذلك إعادة ترشحه، واكتفى بإرجاء الأمر إلى المؤتمر العام للحزب.

ويشار في هذا الخصوص إلى أنه رافق إعلان البشير لأول مرة عدم ترشحه بروز عدة تيارات داخل النظام، فكان فريق على رأسه نائبه الأول السابق طه يقول: إن الرئيس جاد في قراره هذا وسيلتزم به، وفريق يطالب الرئيس بالاستمرار في موقعه يقوده مساعده السابق نافع، بينما اعتبر غازي صلاح الدين، الذي تم طرده من الحزب أخيرًا على خلفية مطالب إصلاحية، أن البشير لا يمكنه الترشح مجددًا لأن في ذلك خرقًا للدستور الذي يحدد ولاية الرئيس بفترتين استنفدهما، ثم ظهر صراع مكشوف على خلافة الرئيس طرفاه طه ونافع غداة تعرض البشير العام الماضي لعارض صحي تبين لاحقًا أنه ورم حميد.

وعدم حسم البشير لموقفه من الترشح الذي أجج صراع الأجنحة داخل الحزب الحاكم، يعود إلى عامل خارج السيطرة وهو أمر القبض الصادر بحقه من المحكمة الجنائية الدولية منذ مارس/آذار 2009 على خلفية اتهامه بالمسؤولية عن ارتكاب جرائم حرب، وانتهاكات لحقوق الإنسان في الحرب الأهلية بدارفور، وصدر لاحقًا قرار توقيف دولي أيضًا بحق وزير الدفاع الفريق عبدالرحيم حسين، وحسب التجربة العملية فإن الضمانة الوحيدة للبشير في مواجهة أمر القبض هي بقاؤه في سدة السلطة الذي حال دون اعتقاله حتى الآن.

وزاد من تعقيد حسابات البشير أن الاتحاد الإفريقي الذي دعَّمه رسميًا في مواجهة أمر التوقيف، اتخذ أخيرًا موقفًا مقلقًا له في شأن أزمة كينيا مع المحكمة الجنائية التي أخضعت الرئيس أوهورو كنياتا ونائبه وليم روتو للمحاكمة على خلفية اتهامهما بالتورط في الانتهاكات التي أعقبت انتخابات العام 2007؛ فقد طالب الاتحاد الإفريقي بعدم خضوع الرؤساء الأفارقة للمحاكمة أثناء فترة ولاياتهم الدستورية على أن يمثلوا أمامها بعد خروجهم من السلطة، وعلى الرغم من أن كينيا خلافًا للسودان لم ترفض مبدأ التعاون مع المحكمة الدولية واحتجت فقط على خضوع الرئيس ونائبه للمحاكمة في الوقت نفسه، إلا أن مجلس الأمن قبل قرار الاتحاد الإفريقي، فأصبح السبيل الوحيد لوقف تنفيذ أوامر التوقيف الدولية هو استخدام المادة 116 من ميثاق روما التي تعطي مجلس الأمن الحق في تأجيل المحاكمات لعام واحد قابلة للتجديد، وحسب هذه التطورات فإن وضع الرئيس البشير الذي يرفض ابتداءً التعاون مع المحكمة أصبح أكثر صعوبة إذا غادر الحكم، مع عدم وجود بوادر في الأفق لإمكانية تجاوز مأزق الخضوع للمحكمة الدولية.

ومن الواضح أن أمر التوقيف الدولي بحق البشير يشكل العنصر الأساسي، ضمن عوامل أخرى، في قراءة المبررات الحقيقية للتعديلات التي أجراها على حكومته، فمع اقتراب انتخابات العام 2015، وفي ظل عدم حسمه لموقفه من الترشح أو عدمه انتظارًا لأية تطورات تتعلق بملف لاهاي، يبدو أنه قرر المبادرة لأخذ الاحتياطات الواجبة بإعادة ترتيب البيت الداخلي للحزب الحاكم وإعادة تركيب توازنات القوى داخله؛ حيث إن أحد الافتراضات التي تفسر التغييرات هو أن البشير لا يثق بدرجة كافية لا في نائبه الأول السابق طه، ولا مساعده السابق نافع، اللذين يبديان طموحًا واضحًا وسباقًا لخلافته والجلوس على كرسي السلطة، ولا يأمن أن أيًا منهما قد لا يتردد في إبرام صفقة مع جهات خارجية لتسليمه إلى لاهاي لمحاكمته مقابل تسهيل وصوله إلى الرئاسة؛ وهو ما يُحتمل أن يكون الدافع الحقيقي وراء إخراجهما ومراكز القوة المحيطة بهما من دائرة الحكم الضيقة.

ومن الواضح بعد هذه التغييرات أن الرئيس البشير لا يثق حقًا إلا في رفاقه العسكريين بأنهم لن يقدموا على تسليمه إذا قرر التنحي، لذلك قرر إسناد منصب نائبه الأول للفريق بكري حسن صالح، كبديل احتياطي إذا اضطر لعدم الترشح لأي سبب من الأسباب، وهو ما يتطلب بالضرورة إخلاء طه للمنصب، وإخراج جميع المنافسين المدنيين المحتملين، وتعبيد الطريق لترشيح الفريق صالح للرئاسة.

وتماشيًا مع طبيعة طه الشخصية التي تتجنب المواجهة والصدام فقد آثر الانسحاب بهدوء مع غطاء يوفره رحيل كل رجال المرحلة بمن في ذلك منافسه نافع، تحت لافتة التجديد، وهو إخراج يلائم تمامًا الرئيس البشير الذي يريد أن يتيح لخليفته المحتمل الفريق بكري بداية مع فريق جديد خال من مراكز القوة التي يمثلها الحرس القديم في النظام.

وعليه، يمكن القول: إن هذه التطورات تندرج في إطار ترتيب أوضاع البيت الداخلي للحزب الحاكم حسب أجندة الرئيس البشير؛ إذ إن هذا التغيير في التشكيلة الحكومية اقتصر على المؤتمر الوطني ولم يمتد إلى حلفائه في الحكومة من الأحزاب الأخرى التي احتفظت بوزرائها أنفسهم.

الأمر الآخر أنه لم يرافق التغيير الإعلان عن أية سياسات أو برامج حكومية جديدة، حيث اقتصر الأمر على استبدال الوجوه؛ وهو ما يعني استمرار السياسات الحكومية السابقة على الرغم من كل الانتقادات الموجهة لتسببها في أزمات البلاد الحالية. فالتغيير لم يخاطب جذور الأزمة الوطنية المتمثلة في استمرار الحرب في دارفور وفي منطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان، والأوضاع الاقتصادية المتردية، والاستقطاب السياسي الحاد، والحاجة إلى تحقيق المصالحة الوطنية وتحقيق السلام والاستقرار والأمن.

وفي غياب خطاب سياسي جديد لم يجد هذا التغيير الكبير في أروقة النخبة الحاكم ترحيبًا من المعارضة التي اعتبرته تصفية حسابات داخلية؛ وفي ما التزم الترابي، شيخ النظام السابق، الصمت إزاء هذه التطورات، اعتبر الصادق المهدي زعيم حزب الأمة القومي المعارض أن السبيل الوحيد للخروج من أزمة البلاد هو تشكيل حكومية انتقالية برئيس وفاقي يقود ترتيب إجراء انتخابات عامة نزيهة.

رهان استمرار الأوضاع

قراءة التداعيات المحتملة لهذا التغيير على التحديات التي تواجه السودان، تشير إلى السيناريوهات التالية:

  • الأول: استمرار البشير في فرض سيطرته على مقاليد السلطة وتعزيز وضعه في المؤتمر العام الحزب الحاكم بما يؤدي إلى إعادة ترشيح نفسه في الانتخابات المقبلة، أو ضمان ترشيح نائبه الأول الفريق بكري صالح، وهو سيناريو يفترض بقاء العوامل الأخرى ثابتة، مع نجاح حكومته الجديدة في معالجة ولو جزئية للأزمات التي تواجه البلاد لاسيما على الصعيد الاقتصادي. ويبدو أن استلام نائبه للرئاسة ليس راجحا، لأنه خطوة تعد تنازلا من البشير دون حصوله على مقابل سياسي داخلي أو خارجي، ثم إنها محفوفة بالمخاطر لأن نائبه لا يحظى بسند شعبي يجعله قادرا على الإمساك بمقاليد الحكم، ولعل العامل الوحيد الذي قد يجعل نائبه يتولى الرئاسة هو عجز البشير عن إكمال مهامه لأسباب صحية فقط.
  • الثاني: ألا يلتزم أركان النظام المبعدون بالبقاء خارج اللعبة، وأن يحاولوا العودة إلى لعب دور من خلال فعاليات إعادة البناء القاعدي للحزب الحاكم التي ستبدأ خلال شهرين وصولاً إلى المؤتمر العام في نهاية السنة، وهذا يقود بالضرورة إلى احتدام التنافس والصراع بين الشخصيات المبعدة، وبينها وبين ترتيبات البشير للسيطرة على الحزب، مما قد يقود إلى مواجهة بين الطرفين تزيد من حدة الاحتقان السياسي وعدم الاستقرار. وقد يضطر البشير في هذه الحالة إلى تقديم تنازلات جزئية للمنافسين على حساب العسكريين لاحتوائهم داخل النظام. وهذا سيناريو غير راجح لأن الشخصيات التي غادرت السلطة بدت موافقة على التغيير.
  • الثالث: أن يحاول البشير تحت ضغوط الأزمات السياسية والاقتصادية والعسكرية إلى بناء تحالفات جديدة مع بعض القوى السياسية المعارضة، ويبرز في هذا الإطار بشكل خاص حزب الأمة بزعامة المهدي، أو المؤتمر الشعبي بزعامة الترابي؛ وهو سيناريو تزداد فرص تحققه كلما عجز نظام البشير عن مواجهة الأزمات بمفرده، فاحتاج إلى شركاء يتحملون معه جزءًا من الأعباء مقابل شراكة سياسية، يتحدد مداه بعدة عوامل يأتي على رأسها عدم تسليم البشير لمحكمة الجنايات الدولية. وهو سيناريو غير راجح لأن المعارضة السياسية متصدعة ولم تستطع بناء جسور الثقة،ثم إن استمرار مداخيل البترول يعطي النظام مرونة على امتصاص السخط الشعبي ومنعه من التحول إلى أزمة تضطر النظام إلى تقديم تنازلات جدِّية للمعارضة.
  • الرابع: ألا يجد البشير مفرًا من الدخول في تسوية سياسية شاملة مع المعارضة المدنية والحركات المسلحة في الأطراف تؤسس لنظام انتقالي يوفر له الضمانات اللازمة في مسألة المحكمة الجنائية الدولية. ويشار في هذا الخصوص إلى اقتراح المبعوث الرئاسي الأميركي السابق للسودان بريستون ليمان تأجيل الانتخابات لعامين ودخول الفرقاء السودانيين في حوار داخلي وعملية إصلاح حقيقي بمساعدة المجتمع الدولي تفضي إلى قيام حكومة ديمقراطية عريضة. لكن حظوظ هذا السيناريو في التحقق ضعيفة؛ لأنه يفترض قبول حلفاء البشير من العسكريين بفقدان مراكزهم وقبول ملاحقتهم جنائيًا مقابل نجاة البشير من ملاحقة المحكمة الجنائية الدولية، وهذا أمر مستبعد، خاصة أن القيادة العسكرية تكاد تنفرد حاليًا بصياغة موازين القوى في النظام السوداني للمرحلة القادمة.

والحاصل، أن السيناريو الراجح هو استمرار الوضع الحالي، لأن البدائل الأخرى تفترض تقديم تنازلات لا يرى النظام أسبابا ملحة للقيام بها، مع خشيته أن تؤدي إلى تصدع نواته الصلبة في الجيش.