تدرك إسرائيل بالنظر إلى طبيعة الأزمة الأوكرانية وسياق تطورها، أن الولايات المتحدة في نهاية المطاف قد تزيد من ضغوطها على حلفائها لينتظموا إلى جانبها في مواجهة روسيا، خاصة أنها -أي واشنطن- إلى جانب أوروبا، تعتبر المواجهة مصيرية، وتحتاج إلى كل الأدوات والجهود لمواجهة التمدد الروسي الذي "يهدد" مجمل دول القارة الأوروبية، لا بل دول العالم. وبالمقابل، لا جدال في أن إسرائيل تسعى لأن تكون في منطقة أقرب للحياد في "الأزمة الأوكرانية"، خشية من تداعيات أزمة دولية قد تغيِّر من موازين القوى الدولية والإقليمية واتجاهها بما يتعارض مع مصالح إسرائيل، هذا من جهة، كما أنها من جهة أخرى تضع إسرائيل في موقف يصعب فيه التوفيق بين حلفها مع الولايات المتحدة الأميركية، عمقها الحيوي وداعمها الاستراتيجي، وتفاهمها مع روسيا التي أصبحت تجاورها في سوريا، وتحتاجها في عدد من ملفات المنطقة وسواها.
يركز هذا التعليق على فهم طبيعة الحياد الذي تنشده إسرائيل، والتداعيات التي بانتظار المنطقة في هذا السياق.
مخاوف إسرائيلية
صوَّتت إسرائيل، في 2 مارس/آذار 2022، في الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، لكنها كانت قد خفضت مستوى تمثيلها في الجلسة عينها إلى مستوى نائب السفير لتخفيف وقع المشاركة، وتحفظت على أية مساعدة عسكرية لأوكرانيا، وسارع رئيس الوزراء، نفتالي بينيت، إلى زيارة موسكو، في 5 مارس/آذار 2022، والتقى الرئيس الروسي، بوتين، ما يقرب من ثلاث ساعات، بموافقة من واشنطن -كما أُعلن- وليطرح إسرائيل وسيطًا بين أطراف الأزمة الأوكرانية، وبين روسيا والغرب. أما دوافع إسرائيل لهذا الدور، فهي نابعة من تقديرها للمخاطر التي تواجهها في جوارها، لاسيما أن هناك على الأقل تطورين كبيرين في المنطقة، تحتاج إلى علاقة منتظمة مع روسيا للتعامل معهما:
أولًا: المشروع النووي الإيراني، والذي بلغ مرحلة متقدمة بحسب التقدير الإسرائيلي، وتخشى إسرائيل أن تصبح إيران عند "العتبة النووية" وهو ما تسعى للحؤول دونه بمساعدة المجتمع الدولي، وروسيا من الدول الكبرى المؤثرة في هذا الشأن، وعضو دائم في مجلس الأمن، ومعنية بضبط انتشار الأسلحة النووية، ومنخرطة في أزمات المنطقة، كما لديها علاقات جيدة مع إيران.
ثانيًا: التمدد العسكري الإيراني في المنطقة، الذي يشمل لبنان وسوريا، خاصة في الأخيرة حيث مسرح المواجهة الأساسي بالنسبة لإسرائيل وتتشاركه مع روسيا، وهو التمدد الذي أعطى حزب الله دوره الإقليمي، وضاعف قدرة إيران على منافسة إسرائيل في الإقليم وتهديد نفوذها أو حتى "تهديدها". ورغم الوجود الروسي في سوريا، استطاعت إسرائيل أن تطور آلية في التواصل الأمني مع روسيا بما يمنع أي احتكاك أو مواجهة مع القوات الروسية، ولا تزال إسرائيل مستمرة في غاراتها على سوريا وتضعها تحت عنوان حماية أمنها واستهداف شحنات الأسلحة لاسيما الصواريخ الدقيقة منها، التي ترسلها إيران إلى حزب الله، وكذلك مخازن أسلحة وطائرات مسيَّرة، والتي قد تكسر ميزان القوى مع إسرائيل في أية مواجهة قادمة، كما أنها قد تستهدف أحيانًا مواقع إيرانية هناك.
لا شك في أن إسرائيل تتعامل مع الوجود الروسي في سوريا على أنه سيكون طويل الأجل، وذلك بالنظر إلى طبيعته حيث لموسكو قاعدتان عسكريتان أساسيتان، بحرية في طرطوس وجوية في حميميم. وكذلك بالنظر إلى حاجة إسرائيل لها؛ حيث تتشارك روسيا مع إيران دعم الرئيس الأسد ومؤازرة نظامه، كما يتشارك البلدان هيمنة ونفوذًا يكادان يكونان مطلقيْن في دمشق. وهو ما يجعل روسيا -بالرؤية الإسرائيلية- منافسًا قويًّا محتملًا لإيران على الأسد وعلى سوريا نفسها، رغم أنها في سوريا حتى اللحظة حليفة لإيران في مواجهة المعارضة السورية ومؤيديها.
واعتمدت إسرائيل روسيا بالفعل كأحد الفاعلين الأساسيين لموازنة النفوذ الإيراني في سوريا والحد منه، كما أنها تمثل قناة تواصل أساسية وفاعلة مع الرئيس الأسد بعيدًا عن النفوذ الإيراني -إلى جانب الدور الإماراتي إلا أنه محكوم بالتحفظ الأميركي- وكذلك كانت روسيا من حين إلى آخر قناة تواصل مع الإيرانيين أنفسهم، من ذلك مثلًا الاتفاق على إعادة تموضع الميليشيات المدعومة من إيران بحيث تكون بعيدة نسبيًّا عن الحدود مع الجولان وحدود إسرائيل، أو لخفض احتمالات المواجهة بين إسرائيل وإيران (خاصة أن البلدين انخرطا في حروب ظلٍّ ربما لم تنته)، وحتى بين حزب الله وإسرائيل في لبنان وعموم المنطقة وأسباب الحرب قائمة على الدوام، فضلًا عن أدوار أخرى على هذا الصعيد.
والجدير بالذكر أن إسرائيل بقيادة نتنياهو كانت قد أيدت خروج واشنطن -في ظل إدارة الرئيس، دونالد ترامب- من الاتفاق النووي، ومن ثم تحفظت على المفاوضات النووية في فيينا التي انخرطت فيها إدارة الرئيس، جوزيف بايدن، خشية من أن يؤدي الاتفاق الجديد فيما يؤدي إليه، إلى إطلاق يد إيران في المنطقة بمقابل تقييد يدها، فضلًا عن مخاوف أخرى تتعلق بأمنها، فأعلنت أنها ستكون مستقلة في موقفها إزاء إيران عن الولايات المتحدة الأميركية، بما يحفظ أمنها ومصالحها، وذلك رغم تأكيد واشنطن مرارًا وتكرارًا وفي أكثر من مناسبة التزامها بأمن إسرائيل.
تداعيات
وضعت الأزمة الأوكرانية مفاوضات فيينا من حيث الأهمية في مرحلة تالية، وأصبحت تفصيلًا لكن مهمًّا في ظل المواجهة مع روسيا والسعي إلى عزلها؛ حيث قال الرئيس الأميركي، بايدن، بخصوص الأخيرة: "عندما يُكتب تاريخ هذه الفترة، ستكون حرب بوتين على أوكرانيا قد جعلت روسيا أضعف وبقية العالم أقوى"، وكلامه يشي أن واشنطن ليست عازمة على إجبار روسيا على التراجع عن "غزو أوكرانيا" ولا الإتيان بها إلى طاولة المفاوضات فحسب، بل أيضًا تهدف لإضعاف روسيا وهو أحد السيناريوهات التي قد تتحقق نسبيًّا أو يتحقق بعضها.
بالنسبة لإسرائيل، فإن أي ضعف روسي يؤدي أو يقترن بضعف إيران في المنطقة لن يقلقها وقد ترحب به، ولكن لا يمكن الجزم بهذه النتيجة، بل قد تكون معاكسة، لأن العقوبات الغربية الشديدة على روسيا قد تدفع أميركا والغرب نحو تسهيل عقد اتفاق نووي يرفع العقوبات عن إيران حتى تزيد من إنتاج النفط بما يخفف من الاعتماد على الإنتاج الروسي، ويسهم في لجم صعود أسعار النفط ومشتقاته عالميًّا، وهذا بالنتيجة يصب لصالح تقوية الجانب الإيراني.
هذه المعادلة ستكون الأسوأ على إسرائيل، لاسيما إذا ما امتد أجل الأزمة في أوكرانيا وتفاقمت أكثر، بالموازاة مع استمرار تراجع اهتمام أميركا بالمنطقة لتراجع أهميتها بالنسبة لها، فحينها أي ضعف روسي سيصبُّ في مصلحة القوى الإقليمية الأخرى، وعلى رأسها إيران. وبذا، ستجد إسرائيل نفسها في مواجهة ظروف مواتية أكثر لإيران ومعاكسة لها، سواء كانت إسرائيل في تربص أو مواجهة معها، أو في تفاوض ومساومة.
وعلى صعيد آخر، فإن انضمام إسرائيل إلى تحالف إقليمي برعاية من الناتو أو أميركا، يضمها مع بعض دول المنطقة لاسيما العربية منها في مواجهة إيران، أحد الخيارات التي طالما كانت مطروحة إسرائيليًّا على الطاولة ومن أطراف أخرى، بات الآن أصعب من ذي قبل مع اندلاع الأزمة في أوكرانيا، لأن خشية روسيا من تشكُّل محور مناهض لها في المنطقة قد تضاعف.
ومن الممكن أيضًا أن تذهب الأمور في اتجاه أسوأ من ذلك جميعًا: أن تزداد متانة التفاهم الروسي/الإيراني ليكون تحالفًا بمعايير أعلى من ذي قبل، وهو أحد السيناريوهات التي قد تنتج عن تداعيات الأزمة الأوكرانية.
هذه جميعًا تحتم على إسرائيل أن تكون في وسط الأزمة الأوكرانية وأن تتابع تفاصيلها، وأن تصوغ حيادها بما يلائم مصالحها.
حياد ولكن!
إن الحياد الذي تسعى إليه إسرائيل بخصوص الأزمة الأوكرانية هو ذاك الذي يعفيها من واجب الانحياز، إلى أميركا والمعسكر الغربي في مواجهة روسيا، وهو ما يؤمِّنه لها قيامها بدور الوساطة وتعزيز قدرتها على الوصول إلى كل أطراف النزاع، ولعلها استطاعت حتى اللحظة تحقيق ذلك إلى حدٍّ بعيد وبموافقة أميركية. ولكن الشق الآخر الذي تسعى إليه أيضًا يكمن في سوريا، وهو المحافظة على التواصل الأمني مع روسيا بخصوص غاراتها ونشاطاتها العسكرية والأمنية هناك، وهو ما يمكن قراءته في زيارة بينيت لموسكو ولقائه مع بوتين، والذي جاء في يوم راحة يهودي "ديني" أي يوم "السبت"، وأعقبه بيومين فقط غارات إسرائيلية على سوريا أعلنت إيران مقتل اثنين من عناصرها من جرَّائها. وحتى هذا المستوى من الاستثناء قد لا يكفي إسرائيل إذا ما لم تقدم أميركا بدائل للدور الروسي والذي سيصبح أكثر إلحاحًا في حال التوصل إلى اتفاق نووي في فيينا، وما قد يعنيه ذلك من انتعاش قدرات إيران في المنطقة مرة أخرى، واحتمال غلبة الدور الإيراني على الدور الروسي في المنطقة.
وفضلًا عن كل ما سبق، إن ردَّ الفعل الدولي على الاجتياح الروسي لأوكرانيا من حيث الإدانة والعزل، ليس من مصلحة إسرائيل أن يتحول لنموذج في العلاقات الدولية ويستقر فيها -ولو إلى جانب ازدواجية المعايير المهيمنة أصلًا- وهي مارست ولا تزال هذا الاجتياح في فلسطين والجوار العربي.
إن الحياد بحقيقته يعني أن تستمر إسرائيل في استقلالها عن السياسة الغربية والأميركية في مواقفها من روسيا أو إيران وتحديدًا في منطقة الشرق الأوسط، بما يسمح لها بعقد تفاهمات وإطلاق مبادرات وحتى لو تطلب الأمر دفع أثمانها بمزيد من الاستثناءات على صعيد مواجهة روسيا وبموافقة أميركية تحميها من بقية الحلفاء، أي هو حياد يضع مصلحة إسرائيل في هذا الشأن بالذات أولًا بذريعة أنه ضرورة لوجودها، وعلى الحلفاء أن يتكيفوا معه وخاصة الحليف الأميركي الذي تعهد بالتزام أمن إسرائيل وأن الاتفاق النووي لن يؤثِّر على ذلك.