متحدثون في مؤتمر لمركز الجزيرة للدراسات:  الحرب الروسية على أوكرانيا تزعزع النظام الدولي وتُعجِّل بتحولاته

3 April 2022
المتحدثون في المؤتمر من اليمين: باسل الحاج، وسيم جلعقجية، بيترو بوركوفسكي، ألكسندر نيكيتين، يوجين تشاوسوفسكي، ماتيا نيليس، أوليفييه كيمبف، فاديم. كوزيولين، ألكسندر خارا، أحمد خليفة، محمود حداد، ناصر التميمي، تشين وونغ، براهما تشيلاني، كارينا كوريستيلينا، حسن نافعة، والمذيعة وعد زكريا.

نظَّم مركز الجزيرة للدراسات بالتعاون مع قناة الجزيرة مباشر مؤتمرًا بحثيًّا عن بُعد، يومي 28-29 مارس/آذار 2022، تحت عنوان "إعادة رسم مناطق النفوذ: ديناميات الحرب الروسية-الأوكرانية وتداعياتها"، شارك فيه نخبة من الأكاديميين والباحثين والخبراء، من روسيا وأوكرانيا والولايات المتحدة الأميركية، فضلًا عن بلدان أوروبية وعربية وآسيوية أخرى، وأدارته وعد زكريا، المذيعة بقناة الجزيرة مباشر.

ناقش المؤتمر على مدى يومين الخلفيات التاريخية وطبيعة العلاقات الاجتماعية والروابط العرقية والدينية التي تربط الجارتين، روسيا وأوكرانيا، وركَّز المتحدثون بشكل خاص على تطور العلاقات السياسية بينهما منذ الإعلان عن تفكك الاتحاد السوفيتي والاعتراف باستقلال جمهورياته، عام 1991، وما أعقبه من توجهات لدى أوكرانيا للانضمام إلى المنظومة الغربية فكريًّا وسياسيًّا ودفاعيًّا، ورد الفعل الروسي على تلك التوجهات، والمخاوف التي انتابتها جرَّاء ذلك، لاسيَّما مع توسع حلف شمال الأطلسي (الناتو) شرقًا وضمه عديد الدول التي كانت تابعة للاتحاد السوفيتي السابق.

وسلَّط المؤتمر الضوء كذلك على طبيعة العمليات العسكريات الدائرة في أوكرانيا حاليًّا، وبخاصة ما تعلق منها بأسباب وعوامل الصمود الأوكراني في وجه الآلة العسكرية الروسية، ودور المساعدات الغربية في هذا السياق، والمدى الذي يمكن أن تبلغه أوكرانيا في هذا الصمود وذلك التصدي.  

كما تناول المؤتمر ردود الأفعال الدولية على الاجتياح الروسي لأوكرانيا، وناقش العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الدول الغربية وحلفاؤها على روسيا، وأثر ذلك على الاقتصاد الروسي والغربي والعالمي، والبدائل المتاحة أمام عديد دول العالم للتعامل مع التداعيات الناجمة عن تلك العقوبات، خاصة فيما يتعلق بارتفاع أسعار الطاقة والحبوب وعديد السلع الاستراتيجية الأخرى على الآماد القريبة والمتوسطة والبعيدة.

وأخيرًا، استشرف المتحدثون في المؤتمر أثر تلك الحرب -سواء اقتصرت على الأراضي الأوكرانية أم امتدت إلى دول أخرى مجاورة- على موازين القوى بين روسيا والغرب، وما يمكن أن يتمخض عنها من تغيُّرٍ فيما إن خرج أحدهما (روسيا أو الغرب) ضعيفًا وترك خلفه فراغًا يشجع قوى أخرى طامحة على التمدد فيه.

وقد غلب على جلسات المؤتمر الخمس طابع التعدد والاختلاف والتباين في وجهات النظر، وذلك لتعدد الجنسيات وتنوع المشارب السياسية والفكرية للمشاركين، وقد أثْرَت هذه الاختلافات النقاش الذي دار بين المتحدثين وقدَّمت زوايا نظر متعددة انعكست على حيوية الجلسات وعمق ما توصلت إليه.

العلاقات الأكرانية-الروسية: تمزقات متتالية في وشائج القربى

استعرض المتحدثون في الجلسة الأولى الخلفيات التاريخية للعلاقات الروسية-الأوكرانية؛ وقدَّموا سرديات تاريخية مختلفة؛ كلٌّ من زاويته ووجهة نظره والكيفية التي ينظر بها إلى التاريخ، وخلص النقاش إلى أن أوكرانيا، ورغم بعض القواسم المشتركة بينها وبين روسيا فيما يتعلق بالدين والعِرق وتداخل اللغة، فإنها تمتعت بهوية وشخصية قانونية مميزيْن، وحسٍّ قوميٍّ مستقل، وكان ذلك ديدنها حتى في ظل خضوعها للنفوذ والهيمنة الروسية، سواء في فترة حكم روسيا القيصرية، أو خلال حكم البلاشفة ومنظومة الاتحاد السوفيتي إلى تفككه رسميًّا عام 1991.

وأوضحت النقاشات التي دارت في الجلسة أن في الفترات التي خضعت فيها أوكرانيا للهيمنة الروسية ظلت القومية الأوكرانية حاضرة، وإن كان حضورًا كامنًا ينتظر الفرصة للبروز، وأن ما نراه من توتر وتأزم في العلاقات الراهنة بين الاتحاد الروسي وأوكرانيا هو في جزء منه نتاج لتلك الحقب التاريخية وأثرٌ من تداعياتها.

الحسابات الروسية والغربية

سلَّطت الجلسة الثانية من المؤتمر الضوء على الحسابات الروسية والغربية في الحرب التي أعلنتها روسيا على أوكرانيا في الرابع والعشرين من فبراير/شباط الماضي، وكانت الأسئلة الأساسية التي حاول المتداخلون الإجابة عليها ذات منحى استراتيجي، من قبيل: ما الرؤية الاستراتيجية التي أطرَّت قرار روسيا بشنِّ هجومها على أوكرانيا؟ وما حساباتها الجيوسياسية والجيوستراتيجية في ذلك؟ وكيف فهم الغرب، وبالأخص حلف الناتو والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، تلك الحرب؟ وما الحسابات التي أخذها بعين الاعتبار وهو يقدم دعمه العسكري والاقتصادي والدبلوماسي لأوكرانيا ولدول شرق أوروبا؟

وكما سبقت الإشارة، فيما يتعلق باختلاف زوايا النظر وتعدد الآراء، فإن الجانب الروسي المشارك في هذه الجلسة، والذي مثَّله ألكسندر نيكيتين، مدير مركز الأمن الأورو-أطلسي في موسكو، ذهب إلى أن روسيا استشعرت الخطر والتهديد الاستراتيجييْن من تمدد حلف الناتو وضمه البلدان المحاذية لحدود الاتحاد الروسي ولاسيما بولندا وهنغاريا ورومانيا، وأنها (روسيا) باتت على قناعة بأن الناتو يطوِّقها ويهدد مصالحها، بل إن الحضور العسكري الأميركي -والكلام لنيكيتين- قد وصل إلى قرابة مئة ألف جندي في عموم أوروبا، وأن الموازنة الدفاعية الجماعية لحلف الناتو زادت حتى بلغت حوالي تريليون دولار أميركي، أي أكثر من 25 ضعف الموازنة العسكرية الروسية، لهذا -يضيف نيكيتين- فإن موسكو قررت شنَّ "عمليتها العسكرية" على أوكرانيا لمنع تمدد هذا الحلف، ولحماية المواطنين الناطقين بالروسية خاصة في المناطق الشرقية، ولنزع سلاح أوكرانيا حتى لا يمثل تهديدًا مستقبليًّا لروسيا، كما هدفت روسيا من حربها في أوكرانيا إلى "اجتثاث النازية" خاصة مجموعات آزوف، و"تطهير" المؤسسة العسكرية الأوكرانية من القيادات التي تحمل الفكر النازي (القومي)، وأن موسكو عازمة -يختم نيكيتين- على تغيير المناهج الدراسية الأوكرانية في إطار مسعاها لإتمام "اجتثاث النازية" والعمل على تحويل أوكرانيا إلى دولة محايدة.

وينتهي نيكيتين إلى تصور لمستقبل أوكرانيا يتحدث فيه عن احتمالية تقسيمها خلال الأعوام الخمسة القادمة إلى ثلاثة أجزاء، اثنان منها ينضمان إلى دول الجوار والثالث يبقى مستقلًّا محايدًا: الجزء الأول -بحسب نيكيتين- يشمل المناطق الشرقية بما فيها شبه جزيرة القرم وإقليم الدونباس؛ ينضم إلى روسيا، والجزء الآخر، خاصة الواقع في حدود أوكرانيا الغربية، ينضم إلى بولندا وهنغاريا ورومانيا، أما الجزء الثالث؛ الوسط، فيبقى دولة محايدة تحظى بتعاون سياسي طبيعي مع روسيا.

ويختم ألكسندر نيكيتين حديثه بالقول -ردًا على سؤال عن طبيعة الحسابات الروسية من شنِّها الحرب على أوكرانيا-: إنَّ تلك الحسابات تتمثل في "رغبة موسكو في إعادة رسم علاقاتها مع الغرب من خلال إرسال رسالة عبر عمليتها العسكرية في أوكرانيا مفادها أننا نود العودة إلى أسرة القوى العالمية".

وعن الحسابات الغربية في تلك الحرب، فقد أوضحها يوجين تشاوسوفسكي، الزميل غير المقيم في معهد "نيو لاينز" بالولايات المتحدة الأميركية، وماتيا نيليس، خبير الشؤون الأوكرانية والروسية في مركز الحداثة الليبرالية بألمانيا، وأشارا إلى أن "مزاعم" روسيا فيما يتعلق بتهديد أوكرانيا لها إن انضمت لحلف الناتو هي مزاعم "واهنة"، والدليل على ذلك أن الدول الغربية، مثل ألمانيا وفرنسا على سبيل المثال، ومنذ العام 2008، كانت واضحة بأنها لن تقبل عضوية أوكرانيا وجورجيا في الناتو، لأن ذلك مخالف لبنود الانضمام؛ إذ لديهما حدود دولية متنازع عليها.

ويذهبان إلى أن إقدام روسيا على ضم شبه جزيرة القرم، عام 2014، دفع أوكرانيا إلى بذل مزيد من الجهد المصحوب بالعزيمة والإصرار للانضمام إلى الناتو والاتحاد الأوروبي، رغبةً في حماية نفسها من التهديد الروسي المستمر.

ويخلصان إلى أن دول شرق أوروبا التي انضمت إلى الناتو إنما فعلت ذلك لأن "الناتو كان ولا يزال الضمانة الوحيدة أمامها لتستشعر الأمن"، وعليه -يختمان مداخلاتهما- فإن الغرب ينظر إلى روسيا على أنها "عامل مزعزع للأمن"، وأنه ضمَّ الدول التي كانت في حلف وارسو إليه "ليدعم سياسته الدفاعية"، وهو، وإن كان لا يمانع من حيث المبدأ في ضم أوكرانيا وجورجيا، لكنه في "المرحلة الحالية على الأقل" لن يفعل، نظرًا للمشاكل الحدودية في كل منهما كما سبق القول.

وينتهيان إلى أن الموقف الغربي الداعم لأوكرانيا عسكريًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا إنما مرجعه "الرغبة في إضعاف روسيا" حتى يفشل هجومها على أوكرانيا من جهة ولكي لا تهاجم دولًا أخرى إذا خرجت من هذه الحرب منتصرة من جهة ثانية.

المنظور العسكري والاستراتيجي

تحدث الخبراء المشاركون في هذه الجلسة عن مسار ومآل العمليات العسكرية الجارية حاليًّا، وخلص أوليفييه كيمبف، العميد المتقاعد؛ والخبير في شؤون حلف الناتو وقضايا التحول الرقمي والسيبراني، إلى أن الروس لم يتمكنوا من تحقيق الأهداف التي أرادوها تحقيقًا كاملًا؛ وأن عملياتهم تعثرت، ولذلك فهم بصدد "إعادة تقييم لموقفهم العسكري"، آخذين بعين الاعتبار رفض غالبية الشعب الأوكراني لهم، وفشلهم في السيطرة على العاصمة كييف والمدن الرئيسة الأخرى مثل خاركيف وأوديسا وليفيف..، وأشار إلى أن الجيش الأوكراني أظهر كفاءةً قتاليةً عاليةً وقدرة على الصمود واستيعابًا للأسلحة الحديثة التي زودته بها الدول الغربية، وأنهم فاجؤوا المراقبين والخبراء العسكريين بهذا الأداء العالي، وتوقع كيمبف أن يطول أمد هذه الحرب حال فشلت المفاوضات الجارية بين الطرفين حاليًّا.

ويختتم كيمبف مداخلته بالقول: إن الجيش الروسي لا يستطيع الدخول في "حرب شوارع" إن قرر اجتياح المدن الأوكرانية الكبيرة، وبرر ذلك بقوله: "لأنهم لا يمتلكون أدوات النصر في مثل هذا النوع من الحروب".

أما الخبير الروسي، فاديم. ب. كوزيولين، رئيس مركز الدراسات العالمية والعلاقات الدولية بمعهد الدراسات الدولية المعاصرة في روسيا، فقد أوضح في مداخلته أن ثمَّة سوء فهم لدى الجانب الغربي -يشير إلى أوليفييه كيمبف- للخطط العسكرية الروسية في هذه الحرب، وأنهم كانوا يعتقدون أن القيادة الروسية قد خططت لعملية عسكرية خاطفة تنتهي في أسبوع أو ما شابه؛ فهذا الفهم "ليس صحيحًا"، لأن العملية العسكرية الروسية هدفها "نزع سلاح أوكرانيا"؛ ما يعني أن تصبح القوات المسلحة الأوكرانية من دون سلاح يهدد روسيا، وقد التزم الجيش الروسي في عملياته بخفض عدد الضحايا من المدنيين قدر المستطاع، وذلك في إطار القانون الدولي الإنساني ولهذا طال أمد الحرب.

وأضاف كوزيزلين قائلًا: إنه لمَّا كان الجيش الأوكراني أكبر جيش في أوروبا من حيث عدد الجنود والمدرعات، فإن المرحلة الأولى من "العملية العسكرية" الروسية استهدفت خفض القدرات العسكرية لهذا الجيش من خلال تدمير مدرعاته ومركباته وطائراته الحربية ومروحياته ومخزونه من الذخيرة.. وحسب التقديرات الروسية -يقول كوزيلين- فإنَّ الجيش الأوكراني قد خسر ما بين 60% إلى 70% من أصوله ومقدراته وقدراته العسكرية والقتالية حتى اليوم، ولهذا ووفقًا لتقديرات القوات الروسية فإن "المرحلة الأولى من العملية العسكرية في أوكرانيا تمت بنجاح".

أما ألكسندر خارا، نائب رئيس معهد البحر الأسود للدراسات الاستراتيجية بأوكرانيا، فيرى عكس ذلك تمامًا، ويقول: إنَّ استهداف المدنيين والأطفال والنساء هو الهدف الأساسي للجيش الروسي، ويضيف أن الروس فشلوا في السيطرة على العاصمة، كييف، كما أرادوا، وأن الجيش الأوكراني تمكن من طردهم بعيدًا عنها واستطاع تحرير البلدات والقرى التي سيطروا عليها من قبل، وكذلك الحال في عديد المدن الأخرى، وأكد أن القوات الأوكرانية استطاعت كذلك إيقاف تقدم الروس في المناطق الجنوبية حتى صعب عليهم حتى الآن السيطرة على المدن والبلدات المطلة على البحر الأسود والتي كانوا يريدون من خلال السيطرة عليها قطع الطريق على أوكرانيا والحيلولة دون اتصال أراضيها بالبحر الأسود، وهو جزء من التحرك الروسي الذي بدؤوه عام 2014 حينما ضموا شبه جزيرة القرم "وقد أفشلناهم في ذلك".

ويضيف خارا أن الروس يحاولون استخدام أسلوب "الأرض المحروقة" كما فعلوا في الشيشان وسوريا، بغرض نشر الرعب بين المدنيين، وأنهم لهذا السبب "يستهدفون البنى التحتية المدنية استهدافًا عشوائيًا"، ومع كل ذلك فإنهم لم يحققوا أهدافهم.

وبسؤاله عن السبب في إحجام الجيش الأوكراني عن تحرير الدونباس، قال خارا: إنَّ ذلك يتطلب سحب قوات من خاركيف، وهو ما لا تريده القوات الأوكرانية لأنه خطأ استراتيجي إن حدث، وذلك لأن سحب القوات من خاركيف يفتح الطريق إلى العاصمة، كييف، ومن ثمَّ إلى البحر الأسود، لذلك فمن "الحكمة أن نُبقي دفاعنا صلدًا عن كييف، ولدينا من القوات ما يكفي للقيام بذلك".

وقبل ختام هذه الجلسة، علَّق الخبير العسكري، أوليفييه كيمبف، على مداخلة الخبير الروسي، أليكسندر كوزيلين، خاصة فيما قاله بخصوص تدمير القوات الروسية من 60% إلى 70% من القوات العسكرية الأوكرانية قائلًا: "إن كان هذا صحيحًا فلماذا لم تنتصر القوات الروسية حتى الآن على جيش لم يعد يمتلك سوى 30% إلى 40% من قواته؟".

وانتهت الجلسة كما بدأت بالتباين الشديد في وجهات النظر بشأن أسباب ومسوغات شن الحرب، وقراءة نتائج العمليات العسكرية بعد شهر من اندلاعها، غير أنه يمكن القول: إن المتحدثين اتفقوا على صعوبة حسم المعركة عسكريًّا ما دام صمود الجيش الأكراني والدعم الغربي له مستمرَّيْن.

التداعيات الاقتصادية: الآماد القريبة والبعيدة

عالجت هذه الجلسة الآثار الاقتصادية للحرب الروسية على أوكرانيا سواء على البلدين المتحاربين أو على أوروبا وبلدان وأقاليم أخرى في العالم يرتبط اقتصادها بالاقتصادين، الروسي والأوكراني، بشكل أو بآخر، وركزت بشكل أساس على تأثيرها على السلع الأساسية كالنفط والغاز والقمح وزيت الطعام.

في بداية الجلسة قال الدكتور أحمد خليفة، أستاذ الاقتصاد المشارك بجامعة قطر، في مداخلته: إن أضرار تلك الحرب متفاوتة من دولة لأخرى، لكنها في العموم تسببت في ارتفاع أسعار بعض السلع الأساسية على المستوى العالمي، ومنها النفط والغاز اللذان ارتفع سعرهما لأكثر من 60% خلال شهر واحد، مما ترتب على ذلك ارتفاع أسعار الكهرباء وتكاليف النقل والشحن بين دول العالم.

وأضاف أن الحرب تسبَّبت في أضرار لحقت بقطاع الصناعة الذي يعتمد على الطاقة خاصة في أوروبا وبعض دول العالم الأخرى، فضلًا عن آثار سلبية مشابهة لحقت بقطاعات السياحة والزراعة والتجارة.

وأشار إلى أن ثمة دولًا كان تأثير الحرب على اقتصادها مدمرًا مثل أوكرانيا التي تعرضت للغزو، ومثل روسيا ذاتها التي فُرِضت عليها عقوبات واسعة، وثمة دول أخرى -يضيف خليفة- كان التأثير السلبي على اقتصادها كبيرًا وسيتعاظم أكثر في المستقبل إن استمرت الحرب، خاصة تلك التي تعتمد في غذائها على ما تستورده من روسيا وأوكرانيا، وتقع أغلب هذه الدول في إفريقيا. وفي المقابل، ثمة دول سوف تستفيد من تلك الحرب مثل إيران وفنزويلا باعتبارهما من مصدِّري النفط والغاز، ومن المحتمل أن يخف الضغط الأميركي عليهما للاستفادة من إنتاجهما من هاتين السلعتين الحيويتين. أما الصين، فقد أشار المتحدث إلى أنها قد تكسب من تلك الحرب في الأجل القصير لعلاقتها الاقتصادية مع روسيا لكنها عُرضة على المديين، المتوسط والبعيد، للضرر البالغ إن فرضت عليها الولايات المتحدة وأوروبا عقوبات بسبب تلك المساعدة.

من جانبه، أوضح الدكتور محمود حداد، أستاذ المالية في كلية الأعمال والشؤون العامة بجامعة تنيسي بالولايات المتحدة الأميركية، أن تأثير إخراج روسيا من نظام التحويلات البنكية العالمي "سويفت" سيكون له تأثير سلبي على المستورد والمورِّد في الآن معًا، وأوضح أن ثمة بدائل أمام روسيا يمكنها أن تتجاوز بها نظام سويفت، وهي البدائل التي كان معمولًا بها قبل عام 1973 وتتمثل في التحويلات البنكية عبر التيلكس، رغم أنها ليست سريعة وليست آمنة فضلًا عن كونها أكثر كُلْفةً، لكنه أكد أن ذلك ليس سهلًا في المدى المنظور (يقصد إحداث العقوبات الاقتصادية الغربية تأثيرًا سريعًا على الاقتصاد الروسي)، وضرب مثلًا بإيران التي خرجت من نظام سويفت ومع ذلك صمدت.

أما الباحث ناصر التميمي، المتخصص في اقتصاديات دول الخليج، فأوضح أن استبدال واردات الطاقة في المدى القصير بالنسبة إلى دول أوروبا مستبعد لأنه سيكبِّدها تكلفة اقتصادية عالية. وأشار إلى أن المشكلة الأساسية بالنسبة لأوروبا تتمثل في الغاز ثم النفط يليهما الفحم، على الترتيب، وقال: إن الاتحاد الأوروبي بحاجة إلى عقد من الزمان ليستغني تمامًا عن الغاز الروسي، أما النفط الروسي فمن المستبعد استبداله في المدى القصير، والذي يتراوح بين عام إلى ثلاثة أعوام، لتعقيدات كثيرة متعلقة بالمصافي وأنابيب النفط الواصلة من روسيا إلى الاتحاد الأوروبي، فضلًا عن نوعية الخام بالسوق، بالإضافة إلى عدم وجود بدائل ذات جدوى إلا عند الدول الأعضاء في منظمة أوبك، والتي لا توجد دلائل حتى الآن على أنها تتجه نحو زيادة الإنتاج لتعويض النقص بالسوق، أما الفحم -يختم التميمي- فعلى الرغم من أن واردات أوروبا من الفحم الروسي تصل إلى النصف، وهي نسبة عالية، إلا أن الاتحاد الأوروبي أوضح أن بإمكانه الاستغناء عن استيراده من روسيا خلال هذا العام لوجود بدائل في استراليا وإندونيسيا وجنوب إفريقيا.

الخلاصة التي انتهى ناصر التميمي إليها أن الواردات الأوروبية من الغاز الروسي ستبقى إلى فترة طويلة ما لم يحدث تصعيد في الحرب بأوكرانيا غير محتمل، أما النفط فيمكن استبداله خلال المدى القصير، بينما بالإمكان استبدال الفحم هذا العام.

تداعيات بنيوية: إعادة ضبط موازين القوى الدولية

خصص المؤتمر جلسته الخامسة والأخيرة لمناقشة تداعيات الحرب على موازين القوى وتأثيرها في النظام العالمي. في بداية الجلسة، تحدث الدكتور تشين هوات وونغ، أستاذ العلوم السياسية بمركز جيفري ساكس للتنمية المستدامة في ماليزيا، وبعد أن أشار إلى ازدواجية المعايير الغربية في التعامل مع الأزمات الدولية، ارتأى أن الحرب في أوكرانيا من شأنها أن تدفع قدمًا الدعوات المطالبة بتغيير طبيعة مجلس الأمن الدولي وتوسعته حتى لا تبقى خمس دول فقط متحكمة بالقرار الدولي.

من جانبه، أوضح الدكتور براهما تشيلاني، أستاذ الاستراتيجية بمركز أبحاث السياسات في الهند، أن الحرب الجارية في أوكرانيا سوف تعمل على زيادة التسلح في العالم وسعي عديد الدول لامتلاك سلاح الردع النووي حمايةً لأنفسها من القوى الكبرى. وأوضح تشيلاني أن من دلائل سباق التسلح الناجم عن تلك الأزمة ما أعلن عنه الاتحاد الأوروبي من رفع نسبة الميزانية المخصصة للتسلح، وهو ما يعني دخول العالم في موجة جديدة من سباق التسلح ومن الحرب الباردة.

وأشار تشيلاني إلى أن العقوبات التي فُرضت على روسيا ستؤثر على عديد دول العالم، وأن من المحتمل أن ينقسم الاقتصاد العالمي إلى كتلتين عوضًا عن نظام العولمة المعمول به حاليًّا، خاصة فيما يتعلق بالسعي نحو إيجاد نظام مالي بديل عن نظام الـ"سويفت".

أما الدكتورة كارينا كوريستيلينا، مديرة مختبر السلام وتسوية النزاعات والانقسامات المجتمعية في جامعة جورج ميسون الأميركية، فقد ذهبت في مداخلتها إلى أن الحرب زادت من تنامي الشعور القومي لدى الأوكرانيين، وأن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، حقَّق عكس ما كان يسعى إليه؛ إذ تسبَّب في تنامي الهوية الأوكرانية، وهو ما لم يكن يريده. وأضافت أن تلك الهوية كانت أحد أسباب قوة أوكرانيا وعاملًا من عوامل ضعف العمليات العسكرية الروسية.

كما أوضحت كوريستيلينا أنه إذا ما طال أمد الحرب فإنَّ قضية اللاجئين الأوكرانيين، الذين تدفقوا على دول أوروبا ولاقوا حتى الآن ترحيبًا وتعاطفًا، سوف تتحول إلى "أزمة"، وسوف يعانون في المجتمعات والبلدان التي لجؤوا إليها بسبب ضغطهم على الخدمات والمرافق والموارد.

وأخيرًا، أشار الدكتور حسن نافعة، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، ردًّا على سؤال بشأن تداعيات حرب أوكرانيا على "الربيع العربي"، إلى أن هزيمة بوتين أو انتصاره في حربه على أوكرانيا لن يؤثر على الشعوب العربية الراغبة في التخلص من الاستبداد والأنظمة الشمولية، مرجعًا السبب في ذلك إلى تجذر تلك الأنظمة وصعوبة اقتلاعها في الفترة الحالية.

وقلَّل نافعة من قدرة الدول العربية، التي أبدت ترددًا في إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، على إحداث تأثير في المواقف الدولية، وذلك، كما قال، لقلَّة عدد هذه الدول من جهة ولهامشيتها في المنظومة الدولية من جهة ثانية.

خلاصة

في ختام المؤتمر، وبعد استعراض أبرز ما دار من نقاشات، يمكن القول: إن الحسابات الروسية في تلك الحرب، سواء من الناحية العسكرية أو الاستراتيجية، لم تكن دقيقة، وإن روسيا تفاجأت بقدرات الجيش الأوكراني، وبصمود النظام السياسي، كما تفاجأت بحجم الدعم والتأييد والمساندة الغربية، وبوحدة دول الناتو والاتحاد الأوروبي، ولم تكن تتوقع هذا الكمَّ الكبير وغير المسبوق من العقوبات التي فُرِضت عليها. وعليه، فإن هذه العوامل مجتمعة قد تضافرت في إقناعها بضرورة إعادة حساباتها في هذه الحرب، ومراجعة أهدافها، والبدء في مفاوضات مبنية على أسس جديدة أكثر واقعية.

كما خلص المؤتمر إلى أن تلك الحرب أظهرت أن النظام الدولي الحالي، والذي تتزعمه الولايات المتحدة الأميركية، بدأ مرحلة التغيير بوتيرة أسرع مما كانت عليه من قبل، خاصة بعد أن أظهرت روسيا والصين والهند وغيرها من الدول المهمة مواقف تنمُ عن عدم الرضا بطبيعة هذا النظام وآلياته السياسية والاقتصادية.

وانتهى المؤتمر إلى أن العالم سوف يشهد سباقًا للتسلح يعيد إلى الأذهان ما كان سائدًا إبَّان الحرب الباردة، وأن الإقبال على السلاح النووي سيكون نصب أعين عديد الدول حول العالم التي ترغب في امتلاك سلاح ردع يدعم موقفها في الحروب والصراعات والأزمات الدولية الخطيرة.

ولمزيد من التفاصيل، يمكن مشاهدة جلسات المؤتمر عبر (الروابط التالية).

الجلسة الأولى  -   العلاقات الأوكرانية-الروسية: تمزقات متتالية في وشائج القربى

الجلسة الثانية  -   الحياد الملتبس: الحسابات الروسية والغربية في أوكرانيا
    
الجلسة الثالثة  -   الحرب الأوكرانية: المنظور العسكري والاستراتيجي 
        
الجلسة الرابعة  -  التداعيات الاقتصادية: الآماد القريبة والبعيدة 
    
الجلسة الخامسة  -  تداعيات بنيوية: إعادة ضبط موازين القوى الدولية