القافلة: عبد الله عزام وصعود الجهاد العالمي

8 May 2022
(الجزيرة)

"يدور هذا الكتاب حول سؤال: لماذا أصبحت الجهادية عالمية؟"

يُصدِّر النرويجي توماس هيغهامر (Thomas Hegghammer) مقدمته بهذا السؤال ليختصر مضمون الكتاب "القافلة: عبد الله عزام وصعود الجهاد العالمي"، وليوضح أهمية البحث في سيرة عبد الله عزام، لأنه كان -ولا يزال- العنوان الأبرز الذي يمكن أن يُفسِّر "أول حشد عالمي للمقاتلين الأجانب في العالم"(1). ولكنه ليس السؤال الوحيد الذي يُوجِّه الكتاب، وإنما تتناسل منه عدة أسئلة أو حوله، منها ما يتعلق بالمعلومات الأساسية حول عزام: من هو؟ وما آراؤه؟ وكيف اتخذ القرارات الكبيرة في حياته؟ ومجموعة ثانية تدور حول مصادر تأثير عزام: ما سبب قوة تأثيره حتى استطاع تجنيد وجذب الكثيرين إلى الحرب الأفغانية؟ وثالثة حول آليات حشد العرب إلى أفغانستان ودور عزام في ذلك(2).

ورغم أن الكتاب يعالج بشكل أساسي سيرة عزام ودوره في صعود الجهاد الأفغاني وبالتوازي معه صعود الجهاد العالمي الذي قام على أكتاف "المجاهدين العرب"، إلا أنه يطرح أيضًا أسئلة أبعد من ذلك ومن تلك الحقبة، تتعلق بمسؤولية عزام عن مسار التيار الجهادي من بعده، من قبيل ما إذا كان عزام مسؤولًا عن التشدد الذي انتهى إليه التيار الجهادي من بعده، وعن خلق قوة جهادية خارجة عن أية مرجعية، لاسيما مرجعية الدولة.

توماس هيغهامر ليس جديدًا في مجال البحث حول الجماعات الجهادية، فهو كبير الباحثين في المعهد النرويجي في مؤسسة أبحاث الدفاع النرويجية، وكتابه عن عزام لم يكن العمل الأول له، فقد بدأ العمل على مشروعه في عام 2007، كما يقول، مباشرة بعد انتهائه من رسالة الدكتوراه، التي كانت حول "الجهادية في المملكة العربية السعودية"(3). صدر الكتاب باللغة الإنجليزية في العام 2020، أما تاريخ إصدار النسخة العربية منه، والتي ترجمها عبيدة عامر، فكانت في العام 2021.

وأثناء إعداد هيغهامر لمشروعه، شهد التيار الجهادي كما العالم العربي تحولات كبيرة، مثل الربيع العربي (2011)، وتصاعد عداء دول عدَّة للإخوان المسلمين، والحرب في سوريا، وصعود تنظيم الدولة الإسلامية، والتمدد الإيراني في المنطقة، وظهور ميليشيات "شيعية" موالية لها.

رجع هيغهامر إلى كل ما توافر له من مصادر، من كتب سابقة سواء عن الجهاد الأفغاني أو عن حياة عزام، أو إلى شخصيات كانت شاهدة على حياة عزام أو على أحداث ذات صلة به، وكذلك إلى إرث تلك الحقبة نفسها، لاسيما بعض المجلات والتسجيلات الجهادية وسواها. ووضع قائمة مفصلة بالمصادر والوثائق على موقع خاص بالكتاب على الإنترنت(4)، وهو ما يساعد على التحقق مما جاء في الكتاب أو البناء عليه.

وقد حاول هيغهامر أن يقدم أجوبة لجميع الأسئلة التي طرحها في الكتاب؛ وهي تمثِّل إضافة بالنظر إلى أهمية الموضوع وصعوبة البحث فيه، وهذا لا ينفي أن بعضها يبقى محلَّ جدل ويستحق المزيد من البحث، إلا أن هذه القراءة ستركز على الغاية الأهم من الكتاب، والتي تتجلَّى في العلاقة بين عزام والجهاد العالمي، ومسؤولية عزام عن المآل الذي انتهى إليه المسار الجهادي من بعده، كما تتناول أهم الملاحظات التي يمكن استدراكها على الكتاب. وستسلك القراءة خطى الكتاب نفسه ومنهجيته، أي الاعتماد على سيرة عزام، لاستخلاص أبرز محددات العلاقة المذكورة وأبعادها وتطورات المسار الجهادي عمومًا، وذلك في عدة عناوين: أولها: كيف يرى الكتاب مسار حياة عبد الله عزام من خلال سيرته، وثانيها: السياق الجيوسياسي الحاضن للسياق الجهادي، ويرصد العنوان الثالث دور عزام في نشأة الجهادية كما يطرحها الكتاب مع بعض الاستدراكات، أما العنوان الرابع فيبحث في تشكُّل البيئة الجهادية بشكل عام بوصفها سياقًا مهمًّا لفهم الحالة "الجهادية" كما هي عند عزام. أما العنوان الخامس والأخير فيتناول ملاحظات عامة على الكتاب.

1. السيرة والمسار

لا شك في أن أهم ما في هذا الكتاب، فضلًا عمَّا يكشفه من الحقائق المتصلة بالجهاد الأفغاني في حقبة الثمانينات ويعيد صياغتها، أن المُؤلِّف يُعِيد كتابة سيرة عبد الله عزام بعيدًا عن التبجيل والتحيز الدينييْن اللذين طبعا كثيرًا مما كُتِب حوله على قلِّته، وبالاعتماد على مصادر لا يخلو أكثرها منهما. وتتأتَّى أهمية تناول عبد الله عزام من كونه "الأب الروحي" للجهاديين العرب في أفغانستان على الأقل، الذي عمل على حشد "المجاهدين" من مختلف أقطار العالم لدفع الاحتلال السوفيتي عن أفغانستان، معتمدًا "خطاب الشريعة" ومؤداه أن الجهاد يمسي فرض عين على كل المسلمين وليس على أهل البلد محلَّ الاحتلال فقط، وذلك ما دام أهله عاجزين عن دفعه.

كما يُبرِز الكتاب جانبًا من حياة عزام الشخصية بما تسمح به هذه المصادر من زهده وتفانيه في خدمة قضيته "الجهادية"(5)، والتي كان "مكتب الخدمات" الأداة المركزية التي انصبَّ جهده فيها بالكامل أو دارت حوله كل سيرته لخدمة "المجاهدين"، والتي انطلق منها ليدعو إلى الجهاد الأفغاني وليتشكَّل معها نموذجه "الجهادي".

ويعكس الكتاب أيضًا الحياة التي سادت الوسط الجهادي العربي، وما يتصل بوجودهم و"جهادهم" وعلاقتهم مع الأفغان، وإن لم تكن هدفًا للكتاب بذاتها فقد كانت تبرز دور عزام إلى جانب دوره قائدًا؛ إذ كان مُوَجِّهًا لكيفية إدارة الحياة مع الأفغان والاختلاف معهم بالحسنى(6)، لأنهم يختلفون عن العرب في طريقة المعاش والتدين(7). وكان أغلب العرب في تلك البيئة المقاتلة يميلون للسلفية الوهابية حتى الإخوان منهم (وهما الفاعلان الدينيان الأساس في الجهاد الأفغاني)، في حين يلتزم الأفغان المذهب الحنفي والمسلك الديوبندي ولا تخلو حياتهم الدينية من الأضرحة والأولياء والتمائم وما يشبه ذلك مما هو مرفوض من السلفيين وعلمائهم بالمطلق.

استطاع الكتاب أن يجمع إلى حدٍّ كبير بين التحقيب الزمني، أي المسار الشخصي لعزام، وأهم الصفات التي تحلى بها والأحوال التي عرفها عزام، باعتبارها الحالة التي طغت عليه في كل مرحلة من مراحل حياته. ووضع الكاتب كلًّا منها في فصل لوحده، فبدأها في الفصل الأول بعنوان: "فلسطيني"، متمسك بقضيته؛ حيث وُلد عزام (1941) في قرية سيلة الحارثية بالضفة الغربية وترعرع هناك، لينتهي في الفصل السادس عشر والأخير، بعنوان "رمز"، كما انتهت به الحال بعد مقتله في بيشاور (عام 1989)، في ظروف غامضة ليصبح أسطورة. بهذا الاعتبار كان عزام "أخًا" من الإخوان المسلمين في جنين (انضم إليهم عام 1953)، و"مقاتلًا" انضم إلى الفدائيين في شمال الأردن (عام 1969)، و"عالمًا" تخرج في الأزهر (1973)، و"ابن سبيل" هاجر من أرضه قسرًا، و"كاتبًا" إسلاميًّا، و"رائدًا" و"دبلوماسيًّا" و"مديرًا" و"مجنِّدًا" و"منظِّرًا" و"مجاهدًا" كما تبدَّت جميع هذه الصفات في الميدان الأفغاني (معظم الثمانينات)، وهكذا دواليك في عدة فصول، ولم يشذ الكتاب عن هذه الوتيرة، إلا بإضافة مقدمة وافتتاحية في أوله، وخلاصة في نهايته.

هذه الطريقة بقدر ما حافظت على السرد في الكتاب وسمحت بتوالي ذكر المحطات التي شهدها عزام في حياته، فإنها أتاحت للكاتب مساحة جيدة للقراءة والتحليل والتفسير ليخرج بخلاصات، تؤكد أن هوية عزام الفكرية والأيديولوجية، واختياراته وخياراته، لم تكن بعيدة عن مسار حياته. من ذلك مثلًا، يمكن ملاحظة الربط بين المراحل التي عاشها عزام فلسطينيًّا وإخوانيًّا، والمآل الذي انتهى إليه جهاديًّا؛ حيث بحث الكتاب عميقًا في تاريخ عزام عن خيط إخواني مبكر بدءًا من قريته "سيلة الحارثية"(8)، وعن آخر يقود إلى حمله للسلاح في فلسطين، لينتهي إلى أن الحرب التي كان يخوضها من أجل كابل كانت وسيلة لهدف طويل الأمد، ألا وهو تحرير القدس. وتتبَّع خيطًا آخر أيضًا في حياة عزام عن النزعة العابرة للحدود فوجدها حاضرة لدى اليسار الفلسطيني حينئذ، والتي لابد أن عزام تأثر بها، لاسيما أن فلسطين بقيت في قلبه ولم يحل دون الجهاد فيها إلا ظروف وأسباب براغماتية، من أهمها أن "المقاومة (الفلسطينية) اختُطفت من (قبل) اليساريين وأيديولوجيتهم المستوردة"، ولأن الدول العربية خاصة الحدودية منها، تمنع الفلسطينيين من الوصول إلى فلسطين(9).

وبخلاصة مكثفة: الجهاد في أفغانستان -في نظر عزام- أفضل من عدم الجهاد، والحرب من أجل كابل وسيلة لهدف طويل الأمد وهو تحرير القدس، والجهاد في أفغانستان ما هو إلا طريق للجهاد في فلسطين(10)، ولم تكن أفغانستان تحولًا في حياته بقدر ما كانت تتويجًا لها، ونشأة الجهاد العالمي لا يمكن فصلها عن هذا المسار.

هذه الخلاصة في وصف عزام تقلب الهرم، فكأن جهاد عزام كان لأجل فلسطين، رغم أنه كان في الواقع في أفغانستان، ولم يكن لهيغهامر أن يتجاهل هذه السردية، لأنه يبحث عن دافع عزام ليجاهد في أفغانستان في حين أن بلده فلسطين تحت "الاحتلال". ولأن النشأة تؤثر على صاحبها، فلابد لهذه الشخصية الفلسطينية، التي عرفت الاحتلال والهجرة والانتظام في الإخوان وعايشت شخصيات "متشددة"، أن تنعكس هذه الظروف عليها بشيء ما. وهذا الدافع في الحقيقة منشؤه بعض كُتَّاب سيرة عزام وبعض الباحثين المعنيين بها، ويلبِّي رغبة كثير من محبي أو مؤيدي أو متفهمي الجهاد الأفغاني وعزام، خاصة الإخوان المسلمين منهم ومن يشبههم، وتعني في بعضها، أن "فضيلة جهاد" عزام في أفغانستان مستمدة في بعضها من فضيلة القضية الفلسطينية ومحوريتها للمسلمين.

أما عالمية الجهاد بهذا الاعتبار، والتي كان لعزام اليد الطولى في شيوعه، فصحيح أنه كان مرتبطًا بأفغانستان، إلا أن بعض مفاهيمه كما تبدو في الكتاب، كانت سابقة على الحدث الأفغاني، وبعضها الآخر -وهو الأهم- تكوَّن في تجربة عزام الأفغانية، وكلاهما امتد تأثيرهما إلى ما بعد عزام، قوة وشيوعًا وتطورًا، وهنا تكمن مسؤوليته. هكذا عزام "المسؤول" عمَّا بعده، رغم أنه كان في وسط حقبة زمنية وفعل جهادي له ظروفه وسياقه الجيوسياسي، إلا أن كل هذا تفصيل فيهما. فمسؤوليته أنه أطلق "مانيفست جهادي"، والزمن الحقيقي والأساس هو مسار حياته فحسب والأيديولوجيا التي يعتنقها، وهو المسؤول عمَّا نتج عن ذلك من مآلات.

فالكتاب يرى أن عبد الله عزام هو الذي أطلق فكرة "عولمة الجهاد" كما نعرفه الآن وليس كما كان في حياته فحسب، وما القاعدة و"تنظيم الدولة" إلا نتائج لتلك الفكرة أو الحالة الجهادية. وقبل الخوض في الحديث عن عزام ونشأة الجهادية من المهم الوقوف على السياق الجيوسياسي للجهاد الأفغاني.

2. السياق الجيوسياسي

رغم أن حياة عزام تبدو على الأغلب، بحسب الكتاب، أشبه بمقطورات كل منها تقود إلى الأخرى، إلا أنه لم يغفل ذكر وتحليل سياقات أخرى كان لها أثرها في صناعة عزام "الأفغاني" -إذا جاز الوصف وجريًا على صنيع الكتاب- ولكن لم تعط وزنًا كبيرًا لتوجيه السرد أو في تقديم بعض الاستنتاجات لاسيما الكبرى منها.

وصل عزام إلى أفغانستان عام 1981، وكان الصراع الأفغاني قد مضى عليه عامان، وكان هناك "استبسال" أميركي لمواجهة تمدد الاتحاد السوفيتي في المنطقة، أو في الأصل استدرج الأميركان السوفيت ونصبوا لهم فخًّا لاستنزافهم(11)، ولعبت أميركا دورًا رئيسيًّا في دعم هذا الجهاد والترويج له، وهو ما حدث تصاعديًّا. بالطبع يؤكد الكاتب على هذا السياق "الجيوسياسي" بقوله: إن أطرافًا ثلاثة قامت بالجهد الأكبر في "لعبة دعم المجاهدين"، وهي: الولايات المتحدة، والسعودية، وباكستان. وبخصوص المجاهدين العرب، كانت الأخيرة تغض البصر عن تدفقهم إليها على الأقل، وكانت توفر لهم حرية الحركة، بينما كانت الرياض تقدم كل الدعم لهم بوصفه واجبًا أخلاقيًّا إنسانيًّا ودينيًّا. وسهَّلت تنقل المتطوعين منها إلى باكستان، في حين دعمتهم واشنطن بطرق مختلفة قد لا تبدو جميعها واضحة، منها: حرية الحركة في أميركا وجمع تبرعات وفتح حسابات ونقل أموال(12).

وعلى صعيد العلاقة السياسية المباشرة مع هذه الأطراف، يميز الكاتب بين عزام وأسامة بن لادن؛ حيث كان هناك "القليل من الإشارات" بالنسبة للأول -كما يقول- حول وجود تعاون ممنهج مع المسؤولين السعوديين، وأقل من ذلك بكثير حول تعاونه مع المخابرات السعودية، في حين كان ابن لادن يعمل بشكل "أقرب مع المخابرات السعودية"، ولكن "هذا لا يعني أن كل نشاطات ابن لادن في السعودية كانت موجَّهة من المخابرات السعودية". ولم يعمل عزام مع أي جهاز مخابرات غربي، رغم لقائه بمسؤولين غربيين ومن بينهم مخابرات(13). ولا يوجد عمومًا دليل على التعاون بين المخابرات المركزية الأميركية والعرب الأفغان، وهي الفكرة التي دأب المجاهدون العرب على نفيها(14).

وحاول الكاتب أن يعكس هذه العلاقة المثيرة للجدل؛ حيث لا يحظى الأميركيون والغربيون بالترحاب من المجاهدين العرب، وقد يحرضون ضدهم حتى أو يظهرون الكراهية لهم وحتى للعاملين في المجال الإنساني منهم(15)، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، هم معهم في خندق واحد ضد السوفيت والروس. وفي نفس السياق الجيوسياسي، يؤكد الكاتب أن دولًا أخرى أسهمت في التسليح مثل مصر والصين، وأخرى شاركت بالمعلومات الاستخبارية، مثل بريطانيا وفرنسا، وحتى إيران وإسرائيل ذُكِرتا في سياق المساهمين في هذه الحرب، وإن تحفظ الكاتب بشأن إسرائيل(16).

هذا السياق الجيوسياسي الذي أورده هيغهامر ضمنًا في سرد حياة عزام وبشكل أوضح ومحدود في فصل "دبلوماسي"، وربما تعرض له في محطات أخرى بشكل محدود جدًّا أيضًا، لم يؤثر بشكل كبير على خلاصات الكتاب واستنتاجاته، رغم أنه في الحقيقة كان مؤثرًا كبيرًا بحدِّ ذاته في "الجهاد الأفغاني" بل يفوق دور عزام نفسه في صناعة "النموذج الجهادي" بمعناه الواسع في أفغانستان، لاسيما إذا ما اعتبرنا السياق بما فيه من فاعلين ومبادرات. وهذا السياق كما كان حاضنًا لعزام فيما صنعه، فإنه جاء حاضنًا أيضًا لسواه من الجهاديين الذي كانوا على خصومة أو خلاف مع عزام ممن قد يوصفون بالتشدد حتى من الإسلاميين أنفسهم؛ حيث لم تكن هناك قواعد صارمة في هذه اللعبة الجيوسياسية الكبرى لضبط الجهاد في سياقه الأفغاني، خاصة من الناحية الفكرية والأيديولوجية، وكان التقدير على ما يبدو أن التداعيات المحتملة من "الجهادية" لم تكن شيئًا كبيرًا إلى جانب الهدف الأكبر، أي مواجهة الاتحاد السوفيتي ومن ثم روسيا من بعده(17).

إذن، هناك "بحر جهادي" كان يتشكَّل في هذا "البحر الجيوسياسي" الواسع في أفغانستان، وهو أوسع وأكبر من أن يكون عزام مسؤولًا عنه، وكان لعزام نسخته أو رؤيته من هذا الجهاد.

3. سيرة عزام في الكتاب ونشأة الجهادية

يحاول الكتاب أن يقدم تصورًا حول نشأة الجهادية، وحتى حول نشأة القاعدة من ثناياها، وذلك في سياق سيرة عبد الله عزام، بالتركيز على دور رئيسي لعزام في هذا الخصوص، منشؤه الأول هو سمة التشدد في عزام. والثاني هو ما أضافه عزام إلى الحركة الجهادية.

بخصوص التشدد القطبي، يقدِّم الكاتب سمة التشدد في عزام صفة أساسية تفتح نافذة ما بين عالم عزام الجهادي وعالم القاعدة ما بعده على الأقل. كان عزام "محافظًا صارمًا معاديًا شرسًا للعلمانية، وداعمًا متحمسًا للجهاد ضد إسرائيل"(18)، وكان جزءًا من قيادة شبابية إخوانية من أساتذة الجامعات في الأردن متأثرة "بأفكار سيد قطب". وكان عزام من صقور تنظيم الإخوان المسلمين الأردنيين في مقابل حمائمه، تمامًا مثل القسمة في مصر بين "البناويين" (نسبة إلى حسن البنا) والقطبيين. ولا يقدِّم الكتاب في هذا السياق تعريفًا واضحًا للقطبية، ولكن من الواضح أن هذا الوصف (القطبية) لعزام في السياق الأردني يساعده على تأكيد ميل عزام إلى التشدد؛ حيث كان ذلك السبب وراء ميله للجهادية في أفغانستان حتى ولو كلَّفت عزام الخروج على جماعة الإخوان وفتح الآفاق على لون آخر أكثر طموحًا، لاسيما أنه كان من الصقور فيها.

ولكن صفة "القطبي"، تبقى نسبية جدًّا وجدلية وتحتاج إلى تدقيق في ماهيتها وطريقة استعمالها في السياق الأردني وسواه ما دامت تُستعمل خارج سياقها المصري، فليس كل متحمس لسيد قطب أو خرج على الإخوان أو تحول إلى جهادي أو خرج على النظام، هو من الصقور. على سبيل المثال، إنَّ فتحي يكن، أحد قادة الإخوان التاريخيين في لبنان، كتبه مفعمة بتأثير سيد قطب واستعمل حتى بعض مصطلحاته فيها، لكنه لم يأخذ اتجاهًا سلفيًّا ولا جهاديًّا وأصبح عضوًا في البرلمان اللبناني، وانحاز قبيل وفاته إلى جانب سوريا ومحور إيران. بعبارة أخرى، لا يمكن نفي تأثير فكر سيد قطب على عموم الحالة الجهادية كما كان تأثيره على الحالة الإخوانية نفسها وعلى عموم الحالة الإسلامية حتى السلفية منها، بل يمكن رصد تأثيراته في ولاية الفقيه الشيعية نفسها أيضًا(19). كل من هذه الاتجاهات استقبل الإرث "القطبي" على طريقته وأعطاه منزلة وحجمًا تتلاءم معه، لكنه لم يكن الأساس فيها. نعم، حالة القاعدة وعلاقتها بالإرث القطبي تحتاج إلى تدقيق أكثر(20)، وأعطته حجمًا أكبر بسبب الجناح المصري فيها (أيمن الظواهري)، كما هو واضح.

وعلى العموم، فقد استدرك الكاتب بالقول: إن عزامًا "لم يكن على الطرف الراديكالي" من تيار الصقور؛ "فعزام يقبل العيش تحت نظام غير إسلامي بهدف العمل الدعوي"، ووصف موقفه بموقف "التعايش المتحدي"(21). وهذا الموقف يشبه عموم حالة الإخوان المسلمين في مرحلة الثمانينات، التي كانت على علاقة جيدة مع الدول العربية، خاصة الخليجية منها، ومع الأردن أيضًا، وكانت تراكم موقفًا سياسيًّا وعقائديًّا ضد الاتحاد السوفيتي ومن بعده الروس، وضد سوريا التي ارتكب نظامها "مجزرة حماه"، عام 1982، في سياق استئصاله للإخوان، وضد اليمن الجنوبي (سقطت في مايو/أيار 2009) الموالي للروس، لاسيما أن الإخوان كانوا في الضفة الأخرى. لم يكن عزام خارج هذا الاصطفاف وإلا فكيف يزور دول الخليج ويستنصرها، ويكون على علاقة جيدة مع بعض أمرائها، ويزور الولايات المتحدة نفسها ليدعو للجهاد، ويفتح فروعًا لمكتب الخدمات هناك؟!

ومن المهم لفت النظر إلى أن تراث سيد قطب كان يعتبر الجامع الأساس لكل الأفكار التي طُرحت في تلك الفترة، رغم الفهم المتباين والمتناقض أحيانًا لفكر الرجل، وسبب الإجماع عليه ربما لعدم وجود تجارب بارزة وسابقة عليه، خاصة أن تجربته تدعو للقطع مع "الأنظمة السياسية القائمة" وعلى مستوى كوني. ولكن من المؤكد أن ذلك بسبب الرغبة في الحشد وعدم الاختلاف، لاسيما أن عبد الله عزام، إخواني الجذور والثقافة، كانت له يد طولى في الحشد، وكان بمقابله التيار الوهابي الشريك الثاني له في الجهاد الأفغاني، إضافة إلى فكر الجماعة الإسلامية المصرية الصاعد في الساحة حينها، وكان يجمع الأخيرين النقد المتواصل للفكر الإخواني، فكان سيد قطب المنتمي تنظيميًّا للإخوان المسلمين بتراثه المرن القابل للتأويل، يُرضي الجميع ويؤكد على الغاية التي تجمع، أي: الجهاد، ولو إلى حين(22).

على العموم، ينفي هيغهامر بوضوح انتماء عزام للقاعدة بأي شكل(23) وإن كان يبحث في احتمال تأسيسها في حياته في منتصف الثمانينات، ويربطها بالاختلاف بين أسامة بن لادن وعزام حول طريقة العمل في أفغانستان، وتتمركز حول تأسيس معسكر المأسدة (1986) من قِبَل ابن لادن(24). ويرجَّح أنها كانت تتكون في نهاية الثمانينات (1988) وكانت تهدف لإيجاد نخبة مقاتلة، وأنها "حتى منتصف التسعينات لم تكن قد حددت استراتيجية واضحة لشكل الحرب ضد أميركا"(25).

ويمكن هنا الملاحظة والافتراض أن الظروف تدخلت لتعطي الجهادية وجهة ومعنى آخر، أقلها ما هو واضح عند إعلان القاعدة عن نفسها أول مرة في صيف عام 1998، وبعد تحالفها مع طالبان، أنها جبهة عالمية لمواجهة "الصليبيين والصهاينة"؛ حيث أصبح للجهادية وجهة محددة، لاسيما أن الإسلاميين عمومًا كانوا يرون في عملية السلام برعاية واشنطن عملية تسليم فلسطين لإسرائيل، وكانت مقاومة حماس العسكرية في تصاعد، إلى أن كانت الانتفاضة الفلسطينية في 28 سبتمبر/أيلول عام 2000، وهو سياق لا يمكن إغفاله أو عدم اعتباره. أي إن الجهادية التي جاءت بعد عزام، القاعدة، أسهمت بها الظروف أيضًا، تمامًا كما الشأن مع الجهادية السابقة إبان الغزو السوفيتي.

أما ما أضافه عزام إلى الجهادية، ففي خلاصة الكتاب، يؤكد هيغهامر أن عزام لم يكن من أطلق مشاركة العرب في أفغانستان، لكنه ضاعفها خاصة في الفترة ما بين عامي 1983 و1987، ولعب دورًا أساسيًّا في التجنيد لاسيما عبر مكتب خدمات المجاهدين، كما أنضج "رسالة تجنيد جديدة" كانت سببًا في جذب المتطوعين إلى الميدان الأفغاني. وهذا كله يستطيع أن يجد أدلته، ولكن يحتاج إلى حفر أكثر خاصة إذا ما علمنا، وهو ما اعتمده الكتاب، أن أكثر المتطوعين في الجهاد الأفغاني من السعودية ومصر والجزائر(26)، فهل هذه الأكثرية جاءت عن طريق عزام؟ لكن ما يلفت النظر أكثر قوله: إن عزامًا كان مسؤولًا عن "تجديديْن بارزيْن" فيما يخص "عقيدة قتال الأجنبي"، "ساعدا على تغيير مسار الحركة الجهادية: الأول: كان نقل التركيز في التفكير الجهادي من الثورة (على الأنظمة وتغييرها) نحو "دفاع أمة"، مما أسَّس ليس فقط لحشد المقاتلين الأجانب في التسعينات وما بعدها، بل لظهور "إرهاب القاعدة المعادي للغرب". وكان تبرير ابن لادن لحربه ضد أميركا مجرد امتداد لفكرة عزام عن دفاع الأمة. أما تجديد عزام الثاني فتمثَّل في تجريد الحكومات من سلطة منع سكانها من المشاركة في الجهاد. وقوَّض عزام -بمحاججته أنه في ظروف سياسية معينة على المسلمين النفير للحرب مهما كانت حكوماتهم تقول- السلطة الدينية التقليدية وفتح بابًا لاستضافة مجموعات فرعية راديكالية(27). وهو ما عبَّر عنه هيغهامر بـ"خصخصة" الجهاد، لأنها تحرر الجهاد من السلطة كل سلطة، سلطة الدولة التي جاء المجاهد منها ومن ثم سلطة أميره المحلي، ويرى أن عزام لم يتوقع ذلك ولم يدرك تبعات فكرته، التي انتهت بولادة فصائل راديكالية(28).

ويبدو هذا الاستنتاج لهيغهامر غير واضح، لأنه لم يخلق له مسارًا واضحًا في الكتاب ليأتي ثمرة له، لاسيما أن اتجاه السرد في الكتاب يركز على أن غاية عبد الله عزام بأحسن الأحوال أن تكون أفغانستان قاعدة صلبة تنطلق منها الدعوة، وحصنًا يؤوي إليه الدعاة "من جحيم الجاهلية"(29)، وحتى تصورات عزام لما يجب أن تكون عليه الخلافة ليست واضحة على المدى الطويل، وكان "ضبابيًّا"(30) في هذا الشأن، بحسب وصف الكاتب نفسه.  

وبطبيعة الحال هذه الوجهة في السرد والتحليل تُفضي بالكاتب إلى الربط الوثيق بين مسار حياة عزام ومنظومة أفكاره الجهادية، بما انتهى إليه الفكر الجهادي من بعده. ورغم نفيه صلة عزام بالقاعدة يعود مرة أخرى لوصله بها، وهي ظاهرة تتكرر في الكتاب. ففي فصل عزام الرمز، يبحث عن فرضية: ماذا كان سيفعل عزام لو بقي حيًّا: هل سيكون راديكاليًّا جهاديًّا مثل ابن لادن، أم يلتحق بحماس كما ترجح زوجته (زوجة عزام)، أم كان سيدافع عن المسلمين حيث احتاجوا النصرة، مثل فلسطين والبوسنة والعراق، على رأي ابنه حذيفة، وكذا دواليك؟ يجزم هيغهامر بأن عزام لم يكن ليدعم تفجيرات سبتمبر/أيلول (2001)(31)، لكنه يراه "أحد أقوى أنصار النزعة عبر الحدودية في زمانه"، ويرجح أيضًا أن عزام لو خُيِّر بين القاعدة المختصة بالهجمات الإرهابية، وتنظيم الدولة الإسلامية ذي الخطط المحددة لإنشاء خلافة، لم يكن ليختار أيًّا منهما. لكن تأسيس دولة إسلامية كان سيُعَدُّ أولوية عاجلة لعزام(32).

إن جمع الكتاب بين السياق الزمني ومحاولة التحليل على هامشه، لم تخدم الأخير فجاءت الاستنتاجات مرتبكة، وكثر تكرار نفس الأسئلة رغم السياقات المختلفة أحيانًا، فضلًا عن القفز في الاستنتاج وبلغة جازمة حتى إنه صدَّر خلاصة الكتاب بقوله: "أصبحت النزعة الجهادية عالمية بسبب القمع المحلي"(33). كيف يمكن لدراسة مسيرة عبد الله عزام وتحديدًا في هذا الكتاب أن تفضي إلى هذه النتيجة، لماذا لا يكون السياق الجيوسياسي مثلًا؟ لماذا لا يكون الاستعداد الثقافي في الدول الإسلامية بغضِّ النظر عن كيفية الاستفادة منه أو استغلاله؟ لاسيما أن "المتطوعين المجاهدين" لم يأتوا من دول فيها قمع فقط، بل جاء بعضهم من دول أخرى ثرية كدول الخليج، والمجاهدون العرب لم يأتوا من الدول العربية فقط بل بعضهم حملة جنسيات أجنبية وجاؤوا من دول غربية.

ليس غاية النقاش هنا نفي فكرة أن القمع له دور في بعض أنواع الجهادية أو إثبات ذلك، بل هناك أسباب كثيرة أسهمت في تكوين الجهادية، ومحله ليس هنا لأنه لم تُناقَش هذه الفكرة في الكتاب بجدية كافية بوصفها مطلبًا رئيسيًّا له، وجاءت في سياق هامشي جدًّا بهذا الاعتبار رغم أنها احتلت صدر خلاصته. وباعتقادي، إذا ما كان الكاتب معنيًّا جدًّا بمثل هذه الأجوبة كما بدا من مقدمة الكتاب وما حاول إثباته في استنتاجاته وخلاصاته، كان عليه أن يسلك مسلكًا مختلفًا تمامًا، لأن قافلة عبد الله عزام لا تكفي للإجابة عليه.

4. جهادية عزام وسياقاتها من منظور آخر

إن فكرة الجهادية بصورتها الواسعة كانت تتشكَّل أثناء الحالة الأفغانية وعبر مراحل فهي لم تولد مرة واحدة ولم تكن حالة جاهزة، وكان لها مصادر عربية عدة. في الساحة الأفغانية استُؤنِف النقاش حول تجربة الجماعات الإسلامية التي انخرطت في مواجهات مع السلطة، منها: الجماعة الإسلامية وحركة الجهاد المصريتان، (الأولى كان قد هرب بعض أعضائها إلى أفغانستان بعد اغتيال بعض أفرادها من الجيش الرئيسَ المصريَّ أنور السادات، عام 1981، والثانية تأسست عام 1978) وما نشأ على أطرافهما أو انشق عنهما من جماعات صغيرة وكذلك تجربة جماعة المسلمين أو ما سُميت بالتكفير والهجرة، وتجربة "الجهاد" في سوريا، وتجربة جماعة مصطفى أبو يعلي في الجزائر (1981-1987)، إضافة إلى أفكار أخرى كثيرة. وترافق ذلك كله مع إعادة هيكلة للفكر الوهابي؛ حيث وُضع في سياق سياسي لأول مرة وخارج بيئته في المملكة العربية السعودية، وبوظيفة عسكرية في أفغانستان لم تُعهَد من قبل إلا في ظروف التأسيس للمملكة العربية السعودية. في هذه الأجواء ربما لا توجد فكرة متطرفة أو معتدلة تنتمي "للجهاد" أو لها رأي فيه إلا طُرحت... وبعضها تسبَّب أحيانًا بنزاعات مسلحة بين المجاهدين العرب أنفسهم أو الأفغان أنفسهم، أو بين بعضهم بعضًا من الطرفين(34).

وبعض هذه التيارات أو كثير منها كان في خصومة مع الإخوان، واستحضرت كل أدواتها ضد الإخوان بسبب تحفظ هؤلاء على "الجهاد" أي "العنف" لتغيير الأنظمة التي "لا تحكم بما أنزل الله"، وكان عزام في نظر هذه التيارات إخوانيَّ الفكر.

هذه البيئة وهذه النقاشات على أهميتها القصوى ودورها الحاسم في تشكيل الجهادية بصفة عامة، والجهادية كما هي عند عزام بصفة خاصة، تغيب عن الكتاب وهو أمر مفهوم بالنظر إلى قلَّة المصادر البحثية الأصلية -لاسيما الشهود- في هذا الشأن، فتسارُع الأحداث المتصلة بالجهادية، بدءًا من تشكُّلها برعاية أو تسامح من الدول ذات الشأن، انتهاء بمحاربتها بقصد استئصالها، شتَّت هذه المصادر أو غيَّبها. ولكن آثار وبصمات "الجهادية" أصبحت واضحة بعد اكتمال تشكُّل القاعدة ومن بعدها تشكُّل تنظيم الدولة، وقد تجدد استدعاء الإرث الجهادي الأفغاني بما يوضح الاختلافات بين هذه التيارات، ومنها: القاعدة (قتالها يتركز ضد العدو البعيد "أميركا صانعة الاستبداد وحامية أنظمة الكفر في العالم العربي"، بحسب رؤيتها)، والتيار الحشدي (جهادية إخوانية كما كرَّسها عزام)، وتنظيم الدولة الذي ارتكز على إقامة الخلافة بشكلها التاريخي المتشدد(35).

وحتى على صعيد صياغة النموذج الجهادي كما اعتمده عبد الله عزام والتأسيس لفرضية الجهاد عينًا كإطار لتضامن المسلمين أو حشدهم وراء هذا النموذج، فقد سبقه آخرون إليه من المعاصرين أو عضَّدوه على الصعيد النظري وربما لم يختلف معه أحد على هذا المستوى بل ربما نافسوه فيه، لأن هذا النموذج موجود أساسًا في المدونات الفقهية الإسلامية ومتداول في المعاهد الدينية والجامعات الإسلامية. وحتى المتحفظون على الجهادية الأفغانية فإن تحفظهم هو حول مدى تحقق شروط هذا "الفرض الديني" في أفغانستان، أو أولويته على سواه فحسب، وقد يرونه في فلسطين مثلًا. وحتى على صعيد الفتوى للجهاد التي هي أساس المانيفست "الجهادي الحشدي"، لم يكن عزام "العالم" الوحيد الذي أفتى بوجوب دعم الجهاد الأفغاني وأنه فرض عين، ولو اقتصر الأمر عليه حينها لما تركت الفتوى الأثر الذي تركته. والأكيد أيضًا أن عزام هو من كرس هذا المعنى الخاص في الجهادية لتصبح من المسلَّمات التي لا نقاش حولها، باستصداره فتواها من أهم علماء المسلمين حينها، ولم يكن توقيعه الأبرز بل كان للشيخ ابن باز باعتبار أهمية السياق الخليجي في المسألة الأفغانية.

بعبارة أخرى: كان عزام مستفتيًا أكثر مما كان مفتيًا وكان يحمل معه هذه الفتيا باعتبارها تمثِّل أهم علماء الأمة المعاصرين. وما يجب استحضاره أن عزام لم يُشتَهر عنه أنه كان "مفتيًا" للمجاهدين، أي صنعة له، وذلك في غالب أمره على الأقل، بقدر ما كان يرجع لفتاوى العلماء أو يستحضرها من مصادرها، وذلك حتى نهاية حياته. ويبدو عزام من لغته وطريقة حياته "داعية" للجهاد لا مفتيًا له، ويبدو أنه كان يفضِّل هذا المسار بغضِّ النظر إن كان الأمر تواضعًا منه كما قد يمكن أن يفسَّر، وإن أصبحت توجيهاته وترجيحاته الفقهية لاحقًا، خاصة بعد مقتله، بمنزلة "فتاوى"، وذلك نظرًا لواقع الحال، لاسيما أنه جمع بين العلم الأكاديمي والكاريزما الدينية والجهاد العملي(36).

وعلى صعيد الدعوة للنموذج "الجهادي الحشدي"، لم يكن عزام وحده أو منفصلًا عن السياق السياسي للأزمة الأفغانية ولم يكن المعنيَّ الوحيد بالشأن الأفغاني في الوسط الإسلامي، وأسهمت المملكة العربية السعودية وعلماؤها بالدور الديني الأبرز فيه وليس عزام فقط، هذا فضلًا عن دول خليجية أخرى. والكاتب نفسه -الذي يقدِّر عدد المجاهدين العرب بين 1979 و1992 بحوالي 7000- يقول: "من غير الدقيق اعتبار أن كل المقاتلين الأجانب في أفغانستان جاؤوا بسبب عزام ومكتب الخدمات"؛ حيث لعبت الدعاية الإعلامية الإخوانية بشكل عام دورًا في قدوم بعضهم، وخطباء المساجد في عدة أقطار إسلامية حيث أتيح لهم، وهناك جماعات كان لديها خطوط تجنيد مستقلة مثل "جماعة الجهاد الإسلامي" وكذلك لاحقًا "الجماعة الإسلامية" المصرية، كما كان لـ"جماعة الدعوة" الأفغانية السلفية بنية تحتية خاصة لنقل الشباب من السعودية، وتحظى بمباركة شبه رسمية من المؤسسة العلمائية السلفية في المملكة(37). وكان التنافس السلفي مع عزام أحيانًا يعكس تنافسًا من قِبَلهم مع الإخوان، وأحيانًا كان يعكس مخاوف سعودية، من تشكُّل حالة جهادية بعيدة عنهم(38).

ولكن يمكن الجزم بأن عزام كان من أبرز هؤلاء الدعاة على الإطلاق، لأنه هو من نقل الفكرة إلى الواقع عبر "مكتب الخدمات" وأسس لنموذج المجتمع الجهادي عمليًّا قبل سواه وأفضل من سواه متكيفًا مع الهواجس الجيوسياسية للدول المعنية، واستطاع إدارة هذا المجتمع المهاجر -المختلف والمنقسم والمتصارع أحيانًا- مستخلصًا من النصوص الدينية ركائزه ولتصبح جزءًا من المانيفست الجهادي نفسه. عزام قدَّم خطابًا جهاديًّا معاصرًا يعتمد على النصوص مباشرة وعلى تعليلات العلماء المعاصرين لمواجهة أي غزو يستهدف أوطان المسلمين، أو يستهدف دينهم، وتحديدًا حيث يضطهد المسلمون لأسباب دينية: كما يبدو جليًّا في مواجهة "الشيوعيين" أو الأنظمة الحاكمة المتعاونة معهم، أو حيث تحكم أكثريات أو أقليات "ضد المسلمين لأنهم مسلمون". واستطاع بهذا أن يصبح الوجه شبه الرسمي العربي والعالمي للجهادية "الحشدية" في أفغانستان، حتى للأفغان أنفسهم، وكذلك الأمر لبقية الفاعلين، وإن كان كل له أسبابه أو مصالحه. وبدور عزام هذا حظيت هذه "الجهادية" المجمع عليها، بشرعية الوجود من رأس النظام الدولي، واشنطن، ومن أهم الدول العربية والإسلامية، مثل السعودية وباكستان، وأخذت شرعيتها من أهم حركة إسلامية حينها، حركة الإخوان المسلمين، ومن أهم تيار فقهي علمي، التيار السلفي الوهابي.

هذه الصورة لجهادية عزام موجودة في الكتاب وأدلتها حاضرة فيه، إلا أنها لم تكتمل في استنتاجاته أو مخرجاته. وهي حتمًا لا تشبه تلك التي أنتجتها القاعدة ولا تنظيم الدولة ولا الحالة الجهادية كما استقرت وما انتهت إليه، وتسير بالتوازي معها.

وهذا لا يمنع أن عزام أضاف ملفًّا قلقًا آخر إلى المجال التداولي الإخواني، لأنه بقي يُحسب عليه فكريًّا، وهو ملف "الجهادية الحشدية" وما لديها من سمات، وقد نجد بعضًا من صورتها لدى جمهور إسلامي في فلسطين وأفغانستان والدول التي تعاني الاحتلال، أو لدى جمهور يعتقد أنه مضطهد لسبب ديني من "أنظمة الأقليات" التي يعتقد أنها تستهدف السُّنَّة. لكنه ليس حاسمًا في جهادية عالمية ضد "أنظمة الكفر" (بمصطلح الإسلاميين) الناتجة عن سايكس-بيكو ولا حسم التغيير الداخلي بالجهاد.

وخلاصة الأمر في هذا الشأن، فإن الإرث الجهادي لعزام، جاء في سياق نقاش دائم مع أطراف جهادية ناشئة ومختلفة، وكان يبحث عن تسوية للحفاظ على مكتسبات الجهاد الأفغاني وما يعنيه من "نصرة المسلمين والدفاع عنهم" وتحديدًا في أفغانستان، أولويته تعبوية للتجنيد، واستيعابية لمواجهة أسئلة الجهاديين المتشددين المناوئين له أو أسئلة الإسلاميين المناوئين للحالة الجهادية بشكل عام. وهذا ما جعل الجهاد بعد عزام فصلًا آخر سواء بخصوص تعريف الجهاد أو من هو المستهدف، أو على صعيد تعريف العلاقة مع الأنظمة العربية والإسلامية ومع علمائها ومؤسساتها.

5. ملاحظات عامة على الكتاب

يقول هيغهامر في حوار له حول كتابه القافلة: "في البداية لم يكن لدي شيء محدد أريد قوله؛ أردت فقط التثبُّت من الحقائق. ينبغي أن نضع في اعتبارنا أن سيرة عبد الله عزام لم تكن معروفة، وكانت المعلومات المتوافرة عنه متناقضة"(39).

هذه العبارة تعكس أهم ما في هذا الكتاب الضخم، (815 صفحة في ترجمته العربية)، ولو اقتصر عليه لكان أفضل، حيث يقدم سيرة لعبد الله عزام تقوم على التثبت، لأنه نجح في هذا الشرط إلى حدٍّ كبير، واستطاع أن يقدم سردية وحكاية متماسكة عن عزام، رواها مقربون منه ومن مصادر عدة. ولكن عندما يأتي الكتاب إلى التحليل تظهر فجوات كبيرة، ومنها محاولة الربط الوثيق بين جهادية عزام وما بعدها من جهاديات، كعلاقة السبب والنتيجة، وهي قفزة في الكتاب كانت على حساب محاولة فهم "جهادية عزام" نفسها. وهذه الأخيرة كانت ستكشف خيوطًا حول تطورات محتملة في المستقبل للحالة الجهادية وحتى الإسلامية عمومًا، خاصة بعد الربيع العربي وما حمله من صدمات لعموم الإسلاميين وتياراتهم، وما يمكن أن ينشأ من حالات إسلامية في سياقه. إن محاولة الإجابة عن مسؤولية عزام عن الجهادية بعده، كانت على الأقل تتطلب قراءة سياق وظروف نشأة الحالة الجهادية، وهذا الأمر كان ليتجاوز سيرة عزام، وحينها سيكون هو أحد الفصول في الكتاب وليس الكتاب نفسه.

لقد أسقط الكاتب، إلى حدٍّ بعيد، مرحلة ما بعد مقتل عزام، بعد أن أصبح "رمزًا"، على ما قبلها رغم نجاحه في السرد، وكانت الشخصية فيه تنمو ولها زمنها، ولكن ربما لأن التحليل بطبيعته يغري بتجاوز الزمن جاءت الاستنتاجات متأثرة بعزام "الرمز".

وبخصوص المصادر، من الأمور التي كان يتعيَّن على الكتاب أن يأخذها بالاعتبار أثناء تحليل خطاب عزام، وعدم تحميله كل معاني الإرث الجهادي، أن ما جُمع من إرث عزام استُلَّ من سياقه؛ فهو في الحقيقة خطابات وكتب وتسجيلات من مناسبات مختلفة وأحيانًا هناك تدخل في تفسيرها أو إعادة حكايتها من النَّقَلة أنفسهم، لكن القدر المتيقن أنها جاءت في أغلبها في سياق الحثِّ على الجهاد وتنزيهه عن السياق الجيوسياسي والغرض السياسي بهدف استمرار تدفق الدعم والمتطوعين. وهذا ليس بسيطًا في تأثيره على كيفية فهم جهادية عزام وما كان مراده منها.

والسياق الآخر الذي لم يؤخذ بعين الاعتبار في الاستنتاج أن هذا الإرث جاء في سياق تشكُّل الجهادية والنزاع على مضمونها وأولوياتها ووجهتها، وهو أحد أسباب إسهام المراجعة هنا في فهم جهادية عزام ووضعها في السياقات التي جاءت وفقها، لأن ثمراتها وتداعياتها مختلفة.

وأهم ثمرة في التفريق بين جهادية عزام "الحشدية" والجهاديات الأخرى من بعده أن "الجهادية الحشدية" رغم طبيعتها الأمنية، فإنها على الأغلب قد تكون جزءًا من الحروب الأهلية وقد تحصل على شرعية ما أو توظيف معلن من فاعلين رسميين ويمكن لقضيتها أن تكسب عدالة ما وفقًا للظروف، كما حصل مع عزام أو كما حصل بعضه في سوريا وسواها من قبل. أما الجهادية العالمية من نموذج القاعدة، فإنها حالة أمنية على الأغلب وخارجة بالكامل على النظام الدولي ولا يمكن أن تحظى بأية شرعية أو أي توظيف دون ظروف ملتبسة، أما تنظيم الدولة فالأمر معه أشد.

لقد ركزت هذه القراءة على الاستدراك على الكاتب، ولم تسهب في ذكر محاسن الكتاب، الذي يُعد أهم مرجع عن حياة عبد الله عزام، موثق بشكل جيد، نظرًا لطابعه الأكاديمي مع الأخذ بالاعتبار صعوبة إيجاد مصادر كثيرة خصوصًا غير المقربة منه، ولاسيما أن البحث في حقل "الجهادية" الذي اندرس أو غاب كثير من مصادره، بعد "الحرب العالمية على الإرهاب".

معلومات عن الكتاب

عنوان الكتاب: القافلة: عبد الله عزام وصعود الجهاد العالمي

تأليف: توماس هيغهامر (Thomas Hegghammer)

ترجمة: عبيدة عامر

دار النشر: الشبكة العربية للأبحاث والنشر

تاريخ النشر: 2021

اللغة: العربية

الطبعة: الأولى

عدد الصفحات: 815

 

ABOUT THE AUTHOR

References

(1) توماس هيغهامر، القافلة: عبد الله عزام وصعود الجهاد العالمي، ترجمة عبيدة عامر، ط 1 (بيروت، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2021)، ص 29.

(2) المرجع السابق، ص 35.

(3) محمد تركي الربيعو، "حوار مع الباحث النرويجي توماس هيغهامر، سيرة "إمام الجهاد" عبد الله عزام.. مدخل لفهم الجهادية العابرة للقوميات"، قنطرة، 13 مايو/أيار 2020، (تاريخ الدخول: 17 أبريل/نسان 2022)، https://bit.ly/3Jt9kGx.

(4) هيغهامر، القافلة، مرجع سابق، ص 36.

(5) المرجع السابق، ص 574.

(6) المرجع السابق، ص 591 وما بعدها.

(7) المرجع السابق، ص 597.

(8) المرجع السابق، ص 80.

(9) المرجع السابق، ص 67.

(10) المرجع السابق، ص 68-69.

(11) انظر الحوار الذي أجرته مجلة "نوفيل أوبسرفاتور" الفرنسية مع زبيغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي الأميركي للرئيس جيمي كارتر، حول زيادة المخابرات المركزية الأميركية الدعم لأفغانستان مع علم واشنطن السابق أن هذه الخطوة ستعزز من احتمال تدخل عسكري سوفيتي هناك، لتكون أفغانستان فيتنام ثانية ولكن لاستنزاف السوفيت. نقلًا عن فولتير نت، 15 يناير/كانون الثاني 1998: (تاريخ الدخول: 17 أبريل/نيسان 2022)، https://bit.ly/3McYl5L.

ويمكن الاطلاع على النص الإنجليزي على موقع جامعة أريزونا: https://bit.ly/3JLOX7u.

(12) هيغهامر، القافلة، مرجع سابق، ص 304.

(13) المرجع السابق، ص 295-296.

(14) المرجع السابق، 299.

(15) المرجع السابق، ص 308 وما بعدها، ص 492 وما بعدها.

(16) المرجع السابق، ص 291.

(17) يمكن تلمس هذه الحقيقة في حوار زبيغنيو بريجنسكي الذي ذكر سابقًا، حيث أجاب محاوره عندما سأله ما إذا كانوا نادمين على دعم الأصولية الإسلامية في أفغانستان، ليجيب: "ما الأهم في تاريخ العالم: طالبان أم انهيار الإمبراطورية السوفيتية؟".

(18) هيغهامر، القافلة، مرجع سابق، 161

(19)a للتوسع، انظر مراجعة شفيق شقير لكتاب: "نقد الذات: آية الله حسين علي منتظري في حوار نقد ومكاشفة للتجربة الإيرانية"، 1 يونيو/حزيران 2021، (تاريخ الدخول: 17 أبريل/نيسان 2022)، https://bit.ly/3jMgriC.

(20) انظر شفيق شقير، "الجذور الأيديولوجية لتنظيم الدولة الإسلامية"، 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2014، (تاريخ الدخول: 17 أبريل/نيسان 2022)، https://bit.ly/3vhH6Jt.

(21) هيغهامر، القافلة، مرجع سابق، ص 165.

(22) شقير، "الجذور الأيديولوجية لتنظيم الدولة الإسلامية"، مرجع سابق.

(23) هيغهامر، القافلة، ص 542-543.

(24) المرجع السابق، ص 536 وما بعدها.

(25) المرجع السابق، ص 545.

(26) المرجع السابق، ص 428.

(27) المرجع السابق، ص 501.

(28) المرجع السابق، ص 473-474.

(29) المرجع السابق، ص 484.

(30) المرجع السابق، ص 486.

(31) المرجع السابق، ص 743 وما بعدها.

(32) المرجع السابق، ص 747.

(33) المرجع السابق، ص 751.

(34) شفيق شقير، الجذور الأيديولوجية لتنظيم الدولة الإسلامية، مرجع سابق.

(35) يمكن الاطلاع على الفروقات بينها في ورقة "الجذور الأيديولوجية لتنظيم الدولة الإسلامية"، مرجع سابق. وانظر أيضًا: شفيق شقير، "علماء التيار الجهادي"، 9 مارس/آذار 2019، (تاريخ الدخول: 17 أبريل/نيسان 2022)، https://bit.ly/3EqyuEw.

(36) هيغهامر، القافلة، مرجع سابق، 464 وما بعدها.

(37) المرجع السابق، ص 420 وما بعدها.

(38) المرجع السابق، ص 630 وما بعدها

(39) الربيعو، "حوار مع الباحث النرويجي توماس هيغهامر"، مرجع سابق.