يطرح قرار رئيس الحكومة المكلَّف، فتحي باشاغا، بدخول العاصمة الليبية، طرابلس، يوم الاثنين 16 مايو/أيار الماضي، أكثر من سؤال، خصوصًا أنه وقع بعد أقل من أسبوع من مواجهات دامية شهدتها منطقة جنزور جنوب غربي طرابلس، وهي مواجهات مسلحة بين عناصر تابعة لكتيبة 55 ولجهاز دعم الاستقرار، وبين كتيبة فرسان جنزور، وهو ما يؤكد على أن الوضع الأمني في العاصمة غير مستقر.
وتشير العديد من التقارير الإعلامية إلى أن باشاغا لم يصل إلى طرابلس إلا بعد أن فتح قنوات اتصال مع جهات متعددة في العاصمة وخصوصا كتيبة النواصي. ويبدو أن تلك الاتصالات التمهيدية أقنعت باشاغا بأن دخول طرابلس حان وقته، وأن على حكومته ممارسة مهامها من عاصمة البلاد بدلًا من الإقامة بشرق البلاد.
لقد بات في تقدير رئيس الحكومة المكلف أن لديه مناصرين في داخل العاصمة، وأن باستطاعته أن يجد الحماية الكافية من لدن أولئك المناصرين. بل إن تفاهمات بين باشاغا وجهات في طرابلس جعلت تمركز حكومته في العاصمة بات ضروريًّا، وهو تمركز سيحرج حكومة الوحدة الوطنية ورئيسها، عبد الحميد الدبيبة.
ولا شك أن دخول باشاغا لطرابلس سيكون من أهم ثماره في حالة ما إذا مر بنجاح إحراج حكومة الدبيبة والسعي إلى سحب البساط من تحت أرجلها، وإضفاء شرعية جديدة على حكومته.
دخول مفاجئ وخروج سريع
لا يبدو أن رئيس الحكومة المكلفة، باشاغا، وأعضاء حكومته عندما حطُّوا رحالهم في طرابلس، ليلة الاثنين 16 مايو/أيار الماضية، كانوا يتوقعون أنهم سيكونون أمام مواجهة عسكرية سريعة ومتواصلة، أو على الأصح أن تكون كتيبة النواصي التي تؤويهم ستتعرض لهجوم بسبب احتماء الضيوف الجدد بها، خصوصًا أن وزير الداخلية في حكومته، عصام أبو زريبة، كان قد أكد أن وصول باشاغا بات محاطًا بعملية تأمين عامة تجري بشكل جيد وفق خطة مرسومة، معطيًا تطمينات بعدم الملاحقة لأسباب سياسية للشخصيات الاعتبارية في حكومة عبد الحميد الدبيبة، وأنه بات ملحًّا على الحكومة الليبية المكلفة أن تمارس مهامها من طرابلس.
في هذه الظروف، وقبيل وصول باشاغا، تحدثت بعض وسائل الإعلام المقربة من الطرف الثاني عن أن عبد الحميد الدبيبة أعطى الأوامر للطيران المسيَّر بأن يكون في حالة استنفار، وأن يظل على أهبة الاستعداد لأية طوارئ.
مع فجر يوم الثلاثاء، 17 مايو/أيار، هزت أصوات مدافع ناتجة عن مواجهات عنيفة منطقتي المنصورة وسوق الثلاثاء بالعاصمة طرابلس، كما تردد صدى أصوات الأسلحة الثقيلة في شوارع العاصمة الليبية مذكِّرًا ساكنتها بذكريات العنف والحرب الأهلية التي عانت منها البلاد طوال سنوات. وكان حصار المقر الذي يوجد به باشاغا سببًا في خروجه من طرابلس وعودته السريعة إلى سرت. لم يمكث باشاغا سوى ساعات في طرابلس.
كانت المواجهات بين مسلحي كتيبة النواصي الموالية لباشاغا وعناصر من ميليشيا 166 وجهاز دعم الاستقرار المحسوبين على حكومة الدبيبة. وكان باشاغا قد وصل إلى مقر كتيبة النواصي بدءًا، وخرج مع بعض أعضاء حكومته تحت حماية الكتيبة 444 التابعة لوزارة دفاع حكومة الدبيبة مقابل وقف القتال.
وقد تحدث الإعلام المحسوب على حكومة الوحدة الوطنية عن أن ما وقع على أنه تعامل حازم ومهني مع مجموعة مسلحة خارجة عن القانون، قامت يوم الثلاثاء، بمحاولة التسلل داخل العاصمة، طرابلس، لإثارة الفوضى باستخدام السلاح.
ويبدو أن فتحي باشاغا وأعضاء حكومته الذين دخلوا معه إلى طرابلس قد عادوا أدراجهم إلى مدينة سرت ومنها إلى الشرق الليبي حيث سيمارسون من هناك مهامهم بعد أن فشلوا في التمركز والاستقرار في العاصمة، طرابلس.
الحكومتان الليبيَّتان: الربح والخسارة
من الملاحظ أن دخول باشاغا للعاصمة، طرابلس، وما صاحبه من مواجهات عنيفة أرغمته على العودة إلى مدينة سرت تزامنت مع محادثات في القاهرة بين ممثلين عن الحكومتين المتنافستين لإجراء جولة ثانية من المحادثات. ومن المستبعد في هذا السياق أن تكون مصر أعطت الضوء الأخضر لباشاغا للتوجه إلى طرابلس لما في ذك من تأزيم للوضع قد تكون القاهرة في غنى عنه وهي ترعى هذه المفاوضات حتى ولو ذهب بعض المراقبين إلى أن باشاغا أقرب إلى القاهرة من خصمه، الدبيبة. فمصر حريصة على طمأنة مختلف الأطراف وتريد للجنة المشتركة الليبية أن تتوج لقاءاتها بالقاهرة بالنجاح المطلوب. وهذا يعني أن دخول باشاغا لطرابلس ليس متناغمًا مع ما يريده حليفه المصري من إيجاد جوِّ تفاهم وانسجام، وسيكون له تأثير سلبي على مستقبل هذه المحادثات التي يرعاها الوسيط المصري وتقودها الأمم المتحدة.
مع أن باشاغا والدبيبة ينحدران من مصراتة إلا أن أزمة طرابلس الجديدة طرحت مرة أخرى مخاوف حول دخول البلاد من جديد في صراع مفتوح بين منطقتي الشرق والغرب، وتكريس الانقسام القائم أصلًا، وتضيف مأزقًا جديدًا أمام بعثة الأمم المتحدة التي لم تستطع إنجاز خريطة الطريق المتفق عليها سابقًا والقاضية بإجراء الانتخابات التي كانت مقررة نهاية 2021، وهي انتخابات كان الجميع يراهن على أنها قد تعيد البلاد إلى وضع دستوري يضمن اتفاقًا بين الأطراف المتنافسة.
وقد تزامنت أزمة طرابلس مع إغلاق قوات اللواء المتقاعد، خليفة حفتر، الذي يدعم باشاغا، للمنشآت النفطية بشرق البلاد، وهو ما يعني مزيدًا من الخسارة للدولة الليبية، خصوصًا أن هذا الإغلاق قد أسفر عن تخفيض المصدر الرئيسي للإيرادات الأجنبية إلى النصف.
وعلى العموم، فما حدث في طرابلس قد دفع بالمشهد السياسي بليبيا إلى ورطة جديدة، وهو ما سيؤثر على المحادثات التي تقودها الأمم المتحدة في القاهرة لشق طريق للخروج من حالة الجمود الليبية.
ومع أن الظاهر أن الدبيبة وحكومته والميليشيات المتحالفة معه قد خرجوا منتصرين من أزمة طرابلس، بينما مُنيت كتيبة النواصي المقربة من باشاغا بخسارة ربما تفقد معها جزءًا من مجال سيطرتها على بعض أجزاء العاصمة، طرابلس.
البحث عن موقع في المشهد الليبي المستقبلي
تأتي حوادث طرابلس والجهات الداعمة للتسوية السياسية في ليبيا، وخصوصا الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي تسعى إلى أن تنظيم انتخابات عامة في البلاد مه نهاية يونيو/ حزيران 2022، وليس اختيار باشاغا لهذا الظرف بالمجاني. فترتيبات إجراء الانتخابات قطعت أشواطا هامة، والجهات الداعمة لمسار التسوية تراهن عليها. وتذهب بعض التقارير الإعلامية إلى أن أغلب الأوجه السياسية الليبية، ومن بينهما باشاغا والدبيبة وأعضاء الحكومتين المتصارعتين، قد تكون حظوظهم منعدمة في التقدم للاستحقاقات الانتخابية الوشيكة نظرا لملل الشارع الليبي من الصراع والانقسام الذي تعرفه الطبقة السياسية والعسكرية الليبية وضرورة ظهور وجوه جديدة غير مرتبطة بالاصطفافات القائمة. لذلك لا يمكن فصل ما قام به بشاغا عن أجواء وسياقات هذه الانتخابات الوشيكة، بل ربما كان في محاولة باشاغا دخول طرابلس سعي إلى التحكم في مسار الانتخابات القادمة، وأن يكون في موقع يسمح له بتصدر المشهد الذي سيرافق ويشرف على جانب من ترتيبات ذلك الاستحقاق.
حوادث طرابلس وتبعاتها
في ظل التوتر الجديد، ربما أسفرت المبادرة المصرية التي تسعى إلى حمل الأطراف المختلفة على اتفاق عام عن الدعوة إلى التخلي عن الحكومتين والسعي إلى تفعيل الآليات التي من شأنها تعيين حكومة جديدة، ففي ظل عجز حكومة باشاغا عن فرض نفسها والسيطرة على مقاليد الحكم، وفي ظل انتهاء عهدة حكومة الدبيبة وتمسكه هو بشرعية يرى أنها تقضي بألا يسلِّم الأمر إلا لحكومة منتخبة وصل الأمر في ليبيا إلى طريق مسدود، بات من الضروري معه التخلص من الحكومتين اللتين أصبحتا جزءًا من المشكل وليستا أساسًا للحل.
وتبقى محاولة باشاغا دخول طرابلس نوعا من إرباك المشهد السياسي الليبي، وإطالة الأزمة الليبية خصوصا وأن الانتخابات المزمع تنظيمها بعد أقل من شهرين قد تخرجه من المشهد. هذا فضلا عن أن الحرب في أوكرانيا قد ألهت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عن الملف الليبي مؤقتا، وربما يكون باشاغا قد حاول الاستفادة من هذا الوضع لكسب نقاط صالحه في العاصمة طرابلس.