الانتخابات المحلية التركية: الخلفية والنتائج والدلالات

حقق حزب العدالة والتنمية التركي فوزا كبيرا في الانتخابات البلدية، فكان بمثابة استفتاء على سياسات زعيمه رجب طيب أردوغان، ورصيدا يعيد صياغة توازنات جديدة تمس النظام السياسي ومكانة تركيا الدولية.
201441113117938734_20.jpg
(الجزيرة)

ملخص
عُقدت الانتخابات البلدية التركية يوم الأحد 30 مارس/آذار 2014  في ظل أجواء سياسية عاصفة. هذه هي الانتخابات المحلية الثالثة التي يخوضها حزب العدالة والتنمية منذ توليه الحكم في نهاية 2002، وهي الانتخابات المحلية الأهم والأكثر دلالة. وربما يمكن القول: إنها الانتخابات المحلية الأهم في تاريخ تركيا منذ بدأت التعددية السياسية في 1945، ليس فقط للفوز الكبير الذي حققه حزب العدالة والتنمية، بل أيضًا لأن عددًا كبيرًا من الأطراف التركية والإقليمية والدولية اعتبرها استفتاء على جدارة حزب العدالة والتنمية وبقاء رئيسه.

وبما أن احتمالات ترشح أردوغان لرئاسة الجمهورية باتت هي الأرجح، فليس من المستبعد أن تستمر حالة القلق التي تعيشها البلاد، وإن بحدة أقل عما كانت عليه في الشهور القليلة الماضية، إلى أغسطس/آب المقبل واتضاح هوية رئيس الجمهورية الجديد. مهما كان الأمر، فإن هناك تحديات، بغض النظر عن الخطوات التي ستتخذها الحكومة، ستواجه أردوغان مثل مناخ الاستقطاب السياسي الحاد، سيما أن منصب رئيس الجمهورية الذي سيسعى إليه يمثل في التقاليد التركية موقعًا قوميًا جامعًا، يعلو على التدافعات الحزبية.

مقدمة

عُقدت الانتخابات البلدية التركية يوم الأحد 30 مارس/آذار 2014  في ظل أجواء سياسية عاصفة. هذه هي الانتخابات المحلية الثالثة التي يخوضها حزب العدالة والتنمية منذ توليه الحكم في نهاية 2002، وهي الانتخابات المحلية الأهم والأكثر دلالة. وربما يمكن القول: إنها الانتخابات المحلية الأهم في تاريخ تركيا منذ بدأت التعددية السياسية في 1945، ليس فقط للفوز الكبير الذي حققه حزب العدالة والتنمية، بل أيضًا لأن عددًا كبيرًا من الأطراف التركية والإقليمية والدولية اعتبرها استفتاء على جدارة حزب العدالة والتنمية وبقاء رئيسه.

هذه قراءة للخلفية السياسية التي ألقت بظلالها على هذه الانتخابات، لنتائجها، ولدلالاتها الأبعد.

تفاقم الصراع السياسي

في صورة مشابهة لشهور عدنان مندريس الأخيرة في رئاسة الحكومة (حكم: 1950-1960)، عندما انتاب خصومه اليأس من إمكانية الإطاحة به عبر صندوق الاقتراع، ساد شعور في تركيا السياسية خلال 2013 بأن رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان غير قابل للهزيمة الانتخابية. وبالنظر إلى أن معظم التوقعات أشارت إلى أن رئيس الحكومة لما يقارب 12 عامًا سيخوض الانتخابات على رئاسة الجمهورية في أغسطس/آب المقبل، تحركت القوى المتخوفة من إمكانية تولي أردوغان رئاسة الجمهورية عشر سنوات إضافية، للإطاحة به بأية وسيلة ممكنة، بما في ذلك استخدام أشرطة تنصت واتهامات من كافة الأصناف. ومنذ 17 ديسمبر/كانون الأول الماضي، وحتى يوم الاقتراع، عاشت تركيا مناخًا غير مسبوق من الاستقطاب السياسي، بحيث تحولت الانتخابات المحلية، التي كان يجب أن تدور حول مسائل التنمية والتنظيم المحلية البحتة، إلى اقتراع حول مستقبل الدولة والبلاد ونظام الحكم.

ولأن جماعة فتح الله غولن، الإسلامية المحافظة، التي كانت حتى سنوات قليلة حليفًا بارزًا لحزب العدالة والتنمية، لعبت الدور الرئيس في محاولة الإطاحة بأردوغان، مستخدمة نفوذها الواسع في أجهزة النيابة والقضاء والبوليس وأجهزة الدولة الأخرى؛ فقد شهدت الشهور القليلة السابقة على هذه الانتخابات تحالفات سياسية تكتيكية جديدة، لم تكن في الحسبان من قبل. وجهت جماعة غولن في كافة المقاطعات التركية الواحدة والثمانين أنصارها للتصويت للمنافس الرئيس لمرشح العدالة والتنمية، بغضّ النظر عن الحزب الذي ينتمي إليه، وتبنى حزب الشعب الجمهوري، حارس القيم والمواريث العلمانية في البلاد خطابًا تصالحيًا مع جماعة غولن، الذي اعتاد الجمهوريون توجيه أشد الانتقادات لنفوذها المتزايد. في الوقت نفسه، لم يتردد رجب طيب أردوغان، رئيس الحكومة ورئيس حزب العدالة والتنمية، خلال الحملة الانتخابية، في اتهام جماعة غولن بتشكيل دولة موازية داخل الدولة، وتهديد أمن البلاد وسلامة الدولة التركية.

بيد أن أحدًا قبل يوم الاقتراع لم يستطع أن يقدر على وجه اليقين ما إن كان لحالة التدافع بين العدالة والتنمية وجماعة غولن، أو للاتهامات التي وُجّهت لرجال أعمال قريبين من الحزب الحاكم، أو حتى لوزراء سابقين وأبنائهم، أن تترك أثرًا على نمط التصويت في مختلف مقاطعات البلاد. ما كان واضحًا أن أحزاب المعارضة خاضت الانتخابات باعتبارها تصويتًا على حق العدالة والتنمية في الاستمرار في الحكم، وحق أردوغان في الترشح للانتخابات الرئاسية في الصيف المقبل؛ بينما خاض العدالة والتنمية الانتخابات مستندًا إلى سجله الاقتصادي وإنجازاته، وباعتبارها تصويتًا على استقرار البلاد وسلامة الدولة. وما كان واضحًا أيضًا، أن الأنظار لم تعد موجهة إلى نمط انقسام الأصوات بين الأحزاب الأربعة الرئيسية، بل بصورة أساسية إلى ما إن كان حزب العدالة والتنمية سيحقق نسبة أصوات أقل أو أكثر من النسبة التي حققها في المحلية الماضية، وبأي حجم من الانخفاض أو الزيادة. 

فوز استثنائي وتغلغل واسع

تنقسم تركيا إلى 81 مقاطعة، وبالتالي إلى 81 بلدية، بينها 30 مدينة تُوسم بالمتروبول، أي المدينة الكبيرة. لم تكن هذه الأخيرة سوى 16 متروبول في الانتخابات المحلية السابقة في مارس/آذار 2009، ولكن تشريعًا برلمانيًا رفع عددها إلى ثلاثين. ويصل عدد من يحق لهم التصويت 52 مليونًا. في الانتخابات المحلية الماضية، حصل العدالة والتنمية على 38.8 بالمائة من الأصوات، وحقق الفوز في 47 بلدية، بما في ذلك بلدية إسطنبول الكبرى والعاصمة أنقرة، أكبر مدينتين في البلاد. ولكن العدالة والتنمية، بالرغم من جهود انتخابية كبيرة، لم يستطع الفوز ببلدية إزمير، قلعة حزب الشعب الجمهوري، وثالث أكبر مدن البلاد، وخسر يومها بلدية أنطاليا لصالح مرشح الشعب الجمهوري. ويمكن القول: إن الصورة التي تبلورت في 2009 أوضحت أن حزب الشعب الجمهوري لم يزل يسيطر على بلديات مدن الساحل، وأن حزب الحركة القومية يتمتع بنفوذ في مناطق متفرقة من الشرق والشمال والساحل، وأن حزب السلم والديمقراطية، قريب الصلة بحزب العمال الكردستاني، أصبح المنافس الرئيس للعدالة والتنمية في مدن الأغلبية الكردية، التي سيطر فيها على مدينتي ديار بكر وفان، ولكن العدالة والتنمية ظل الحزب الوحيد القادر على الفوز في مختلف مناطق البلاد.

خاض العدالة والتنمية ثلاث انتخابات برلمانية منذ جاء إلى الحكم في نهاية 2002، وجولتي انتخابات محلية، فاز فيها جميعًا، ولكن نصيبه من الأصوات في المحليات كان دائمًا أقل مما حققه في البرلمانيات، نظرًا للطبيعة المحلية لاختيارات الناخبين والدور الذي تلعبه العوامل الجهوية وشخصيات المرشحين في المحليات. في تصريحاتهم الإعلامية، أكد قادة الحزب دائمًا على أن فوز الحزب بأية نسبة من الأصوات تفوق 38.8 بالمائة التي حققها في المحليات السابقة سيعتبر نصرًا، ولكن الحقيقة أن العدالة والتنمية كان يأمل بتحقيق ما هو أكثر من 42 بالمائة من الأصوات، ليستطيع أن يقول بصورة قاطعة وواضحة إن الحملة التي استهدفت الحزب وقادته ورئيسه من ديسمبر/كانون الأول 2013 قد فشلت، وإن الشعب التركي جدّد الثقة بالفعل في الحزب ورئيسه. واستهدف العدالة والتنمية، من جهة أخرى، الفوز بأكثر من نصف بلديات المتروبول الثلاثين، وأن يرفع بالتالي عدد البلديات التي يسيطر عليها، بين الـ 81 التي تمثل مجموع البلديات في البلاد، إلى ما هو أعلى من 47 بلدية التي حازها في 2009. وبالرغم من أن فوز العدالة والتنمية ببلدية إزمير لم يزل بعيد المنال؛ فقد عملت آلة الحزب الانتخابية على كسر سيطرة حزب الشعب الجمهوري على مدن الساحل، سواء بالفوز في مدينة مانسيا، أو استرداد أنطاليا.

مع فجر 31 مارس/آذار، وبعد فرز 98% من صناديق الاقتراع، وبالرغم من عدم توفر إعلان رسمي نهائي بعد، جاءت النتائج كالتالي:
فاز العدالة والتنمية بزهاء 46 بالمائة، والشعب الجمهوري بـ 28 بالمائة، وحزب الحركة القومية بـ 15 بالمائة، وحزب السلم والديمقراطية الكردي بـ 6 بالمائة من الأصوات. تشير هذه النتيجة إلى أن العدالة والتنمية قفز بما يقارب عشر نقاط بالمائة عن نصيبه من الأصوات في انتخابات 2009، كما ارتفع نصيب حزب الشعب بحوالي أربع نقاط، بينما تراجع نصيب كل من حزب الحركة القومية وحزب السلم والديمقراطية قليلاً. لم يحدث، منذ بداية التعددية الحزبية في 1950 أن حقّق حزب تركي 46 بالمائة من الأصوات إلا مرة واحدة في ستينات القرن الماضي؛ ولكن الفارق أن نسبة من أدلوا بأصواتهم في ذلك الوقت لم تتجاوز 40% ممن يحق لهم التصويت، بينما أدلى أكثر من 80% من الأتراك بأصواتهم هذه المرة. المسألة المهمة الأخرى أن حزب السلم والديمقراطية، الذي كان يسعى لتقليص نفوذ العدالة والتنمية بين الأكراد، فشل فشلاً ملموسًا في تحقيق هدفه.

منحت الانتخابات العدالة والتنمية السيطرة على 49 بلدية من بلديات البلاد الواحدة والثمانين، وأكثر من نصف المتروبول الثلاثين، بما في ذلك إسطنبول وأنقرة؛ بينما سيطر الشعب الجمهوري على 13 بلدية، والحركة القومية على 8، والسلم والديمقراطية على 9، وذهبت بلدية ماردين لمرشح قومي كردي مستقل؛ حيث خسر مرشح العدالة والتنمية لصالح الشخصية الكردية المحبوبة شعبيًا، أحمد ترك. ولكن العدالة والتنمية حقق النصر في عدد ملموس من محافظات الأغلبية الكردية، وبات مسيطرًا على بلدية موش للمرة الأولى. من ناحية أخرى، حافظ الشعب الجمهوري على معقله الرئيس في إزمير، ولكن العدالة والتنمية استعاد منه أنطاليا، ليكسر بذلك سيطرة الشعب الجمهوري على بلديات ساحل المتوسط وإيجه؛ كما حقق الفوز في أوردو الشمالية للمرة الأولى. ويمكن القول: إن الشعب الجمهوري سقط نهائيًا من خارطة البلديات التركية في الشرق والجنوب الشرقي. وكان مدهشًا أن يخسر الشعب الجمهوري تونجلي، مسقط رأس زعيم الحزب، لصالح السلم والديمقراطية. وبالرغم من رواج توقعات بأن تذهب أغلبية أصوات أرضروم، مدينة فتح الله غولن، لمرشح الشعب الجمهوري، فقد حقق العدالة والتنمية فوزًا كبيرًا ومريحًا في المدينة الأناضولية المحافظة.

دلالات المديين القصير والمتوسط

كان خطأ أحزاب المعارضة وجماعة غولن الرئيس أنها حولت هذه المناسبة من انتخابات محلية روتينية إلى معركة حول هوية البلاد ومستقبل الدولة. بذلك، استفز الناخب التركي العادي للدفاع عن الدولة والاستقرار، ومنح أردوغان نصرًا غير مسبوق في أية انتخابات محلية. ولم يكن خافيًا أن أردوغان وقادة حزبه رأوا في النتيجة تجديد ثقة بالحزب وسياسات الحكومة، وليست محصورة في مباركة الحصيلة أو الوعود في البلديات التي فازوا فيها. وهذا ما سيجعل لهذه الانتخابات أثرًا بالغًا على الوضع السياسي التركي في الأسابيع والشهور المقبلة.

الأرجح أن حكومة أردوغان ستسرع من وتيرة تخليص الدولة مما أطلق عليه وصف "الدولة الموازية"، مشيرًا بذلك إلى نفوذ  جماعة غولن الواسع في أجهزة الدولة.  كما ستتخذ الحكومة مزيدًا من الخطوات التشريعية باتجاه إعادة بناء أجهزة الدولة، وإلغاء بعضها، وإعادة تحديد العلاقة بين مؤسساتها وأذرعها المختلفة. طوال سنوات، تصورت حكومة العدالة والتنمية أن مشكلتها تتعلق بإخضاع النخبة البيروقراطية والعسكرية الأتاتوركية، التي اعتقدت دائمًا أنها تملك الدولة والبلاد معًا. ولكن أزمة الشهور القليلة الماضية على الانتخابات، أوضحت المدى الذي يمكن أن تصل إليه جماعة منظمة في التحكم ببعض من أقوى أذرع الدولة، واستخدامها في إعاقة عمل الحكومة. وهذا بالتأكيد هو التحدي الذي تواجهه الحكومة خلال الأشهر القليلة المقبلة، التي تفصل البلاد عن الانتخابات الرئاسية.

من جهة أخرى، بات من المؤكد الآن أن رجب طيب أردوغان سيخوض معركة الانتخابات الرئاسية في أغسطس/آب المقبل. كان معظم المقربين من رئيس الحكومة يرى أن خسارة الانتخابات البلدية هي فقط من سيوقف ذهاب أردوغان إلى الرئاسيات (وهذا ما راهنت عليه جماعة غولن وأحزاب المعارضة، بالطبع). والمرجح أن يُعقد قريبًا لقاء بين أردوغان وعبد الله غول، يتم خلاله التفاهم على مستقبل كليهما، وعلى من سيتولى رئاسة الحكومة بصورة مؤقتة خلال الفترة التي تبدأ باستقالة أردوغان من البرلمان والحكومة، وعقد الانتخابات البرلمانية المقبلة، التي ستأتي برئيس حكومة منتخب جديد.

وبما أن احتمالات ترشح أردوغان لرئاسة الجمهورية باتت هي الأرجح، فليس من المستبعد أن تستمر حالة القلق التي تعيشها البلاد، وإن بحدة أقل عما كانت عليه في الشهور القليلة الماضية، إلى أغسطس/آب المقبل واتضاح هوية رئيس الجمهورية الجديد. مهما كان الأمر، فإن هناك تحديات، بغض النظر عن الخطوات التي ستتخذها الحكومة، ستواجه أردوغان مثل مناخ الاستقطاب السياسي الحاد، سيما أن منصب رئيس الجمهورية الذي سيسعى إليه يمثل في التقاليد التركية موقعًا قوميًا جامعًا، يعلو على التدافعات الحزبية.

أخيرًا، وكما أن المراهنات الداخلية على نتيجة هذه الانتخابات كانت كبيرة، كذلك كانت المراهنات الإقليمية والدولية. فوز أردوغان الحاسم والواضح يعني لدول مثل السعودية والإمارات وإسرائيل وإيران، ولقوى دولية مثل أميركا وروسيا وألمانيا، أن تعيد الحسابات التي وضعتها على أساس أن تصبح تركيا بلا أردوغان.