التقليد والجمود في بحوث الاتصال والإعلام في المجتمع الأكاديمي العربي

ترى الورقة أن تأثير التكنولوجيات الحديثة تجاوز الأفراد وسلوكياتهم الاتصالية، وامتد أيضًا إلى البحث العلمي؛ حيث ظهرت إشكاليات معرفية جديدة تحتاج إلى طرق منهجية ملائمة لتحليلها ومحاولة الإجابة عنها. ولم يكن المجتمع الأكاديمي العربي بمنأى عن هذا الانشغال العلمي؛ حيث حاول الكثير من الباحثين العرب البحث أيضًا عن الطرق الملائمة لدراسة مخرجات تكنولوجيات الاتصال الحديثة، سواء في طبيعة تفاعل الأفراد فيما بينهم، أو انعكاساتها على المجتمع بمختلف فئاته. لكن الأمر لم يكن بالسهولة التي انتشرت بها تلك التكنولوجيات، فالأمر ما زال محلَّ نقاش حاد في الأوساط العلمية العربية حول اعتماد الطرق المنهجية وآليات التحليل التقليدية التي "نجحت" إلى حدِّ الآن في تفسير مختلف الظواهر الإعلامية الناتجة عن وسائل الإعلام التقليدية، أو التخلي عنها ومحاولة إيجاد بدائل منهجية جديدة تتماشى وتلك الوسائل التي تُعد جديدة أيضًا.
الإرث العلمي العربي جدير بأن يشكِّل القاعدة الأساسية لانطلاق التفكير في مقاربات أصيلة لدراسة الإعلام الجديد وفهمه (الأناضول)

الحديث عن وضع التكوين العلمي في مجال الاتصال والإعلام بالمنطقة العربية، وخاصة ما تعلق بالمقاربات المنهجية المعتمدة في دراسة الظواهر الإعلامية والبحث فيها، يجبرنا بوصفنا أساتذة وباحثين في ميدان الاتصال والإعلام أن نعرض الحقائق قصد محاولة تصحيحها، لاسيما أننا في عين العاصفة التكنولوجية التي أنتجت إعلامًا من نوع آخر من حيث حوامله وأبعادها وانعكاساته على أفراد مختلف المجتمعات التي مسَّها. فالإشكال هو في التناول العلمي لهذا الإعلام، فهل نبقى ننتظر ما تجود به علينا المدارس الفكرية من مقاربات منهجية وتقنيات بحث وأدوات تحليل لتطبيقها على مخرجات ما دُرج على تسميته بالإعلام الجديد؟*، أم نحاول نحن أيضًا المساهمة بما أوتينا من معارف أصيلة في علم الاجتماع وعلم النفس وغيرهما من المواد المساعدة على فهم قواعد منهجية في ميدان هذا الإعلام الجديد وإنتاجها، فنحن في حيرة من أمرنا بين الجمود والتقليد أو التحديث؟

لقد أضحى الإعلام الرقمي تحديًا بحثيًّا مهمًّا بالنسبة للباحثين والمهتمين بالظواهر الإعلامية، ولا يقف هذا التحدي عند حدود فهم الظاهرة والتنظير لها فقط، وإنما يمتد إلى كيفية مقاربتها منهجيًّا في سياق الإشكالية التالية: هل ينبغي لنا -نحن الباحثين في مجال علم الاتصال والإعلام- مراجعة الأدبيات المنهجية المتوافرة لدينا حتى الآن في معالجة قضايا الإعلام الجديد أم علينا الحفاظ عليها ومحاولة تكييفها مع واقعنا الثقافي والاجتماعي والحضاري؟

يشكِّل هذا الانشغال حجر الزاوية في النقاش داخل الأوساط الأكاديمية العربية حاليًّا، وكان هكذا كلما ظهرت وسيلة إعلامية؛ إذ ينادي عبرها الباحثون العرب إلى التفكير في المقاربات والمناهج التي يمكن الانطلاق منها في دراسة الإعلام الجديد، وما أتاحه من وسائط وخدمات ووسائل على بيئتنا العربية بخصائصها الحضارية والثقافية التي تميزها. لكن هذه المناقشات لم تتعد الندوات العلمية والملتقيات التي تنظمها كلياتنا ومعاهدنا من حين إلى آخر، أو في إطار أطروحات الدكتوراه عند مناقشتها، فأفضى هذا الوضع إلى بروز وضعين مختلفين لكل منهما مسوغاته وحججه، كما سنبين لاحقًا.

قبل عرض آراء كل فريق ومسوغاته من الاعتماد المنهجي على ما تمليه المدارس الفكرية الغربية، أو الاجتهاد في تأصيل أخرى في مقاربة الظواهر الإعلامية الاتصالية عندنا، ينبغي أن نرصد الوضعية العلمية في جامعاتنا ومخابر بحثنا وكلياتنا فيما يخص الإعلام الجديد، عسى أن نفهم أهمية الإشكالية السابقة وأهمية البحث فيها.

لعهود طويلة، اعتمدنا -نحن الباحثين العرب- في مقاربة الظواهر الإعلامية -حتى تلك التي تخص مجتمعاتنا العربية- على مدرستين فكريتين أساسيتين، هما: المدرسة الأميركية والمدرسة الأوروبية، إلى جانب بعض المدارس الأخرى من مختلف الروافد. ويقول الأكاديمي نصر الدين لعياضي في هذا الشأن: "إن الخطاب عن تكنولوجيات الاتصال في المنطقة العربية يتغذَّى من الكتابات النظرية التي أنضجتها السياقات الاجتماعية والثقافية المختلفة عن السياقات التي تميز المنطقة العربية، ويوظف الكثير من المفاهيم، مثل: "الفضاء العام"، و"المجتمع المدني"، و"الفجوة الرقمية"، وغيرها كمسلَّمات وليس كمفاهيم إشكالية"(1). إننا على وعي بأن الكثير مما تنشره هذه المدارس لا يتوافق في الكثير من الأحيان مع بعض الأوضاع الإعلامية في منطقتنا العربية، لكننا كنا دائمًا نحاول -قدر المستطاع- تكييف معارف هذه المدارس مع طبيعة ظواهر الإعلام الجديد، الذي صار يتغلغل في النسيج الاجتماعي والثقافي للأمة العربية. لكن هذا المسعى، لم يصل إلى درجة الحديث عن مدرسة عربية في ميدان الاتصال والإعلام، رغم وجود أصوات كثيرة تنادي بضرورة قيام مدرسة عربية في علم الاتصال والإعلام.

فإذا وضعنا جانبًا الأبعاد الفكرية المعتمدة في بحوثنا الإعلامية، فإن الحديث يخص بالذات المقاربات المنهجية الأكثر انتشارًا في الأوساط الأكاديمية، فكل المحاولات البحثية للإعلام الرقمي وما يدور في فلكه من أوضاع اتصالية، ما زالت تعتمد إما على مقاربة كمِّية على النمط الأمبريقي، وإما على المقاربة الكيفية على نمط البنائية الاجتماعية، مع ميول كبير للمقاربات الكمِّية عند الكثير من الباحثين العرب، لأننا -كما يقول نصر الدين لعياضي- تعوَّدنا على تجنب مساءلة الترسانة المنهجية التي نستخدمها في البحث، فيصعب علينا التشكيك في التيارات الفلسفية والمعرفية التي انبنت على أساسها هذه الترسانة، والتي أطَّرت تفكيرنا، وحدَّدت أطر مداركنا(2).

1. اعتبارات منهجية

اعتمدت الدراسة على مسح التراث العلمي المنهجي (المسح الوثائقي)، الذي توفره كليات الإعلام وأقسامها في المنطقة العربية من أطروحات الدكتوراه (جامعة القاهرة، جامعة الشرق الأوسط، الجامعة الافتراضية السورية، جامعة الجزائر 3..)، والمقالات العلمية التي تُصدِرها مختلف المجلات المتخصصة في موضوع الإعلام الجديد، مثل: مجلة جامعة دمشق (سوريا)، ومجلة الدراسات الإعلامية (ألمانيا)، ومجلة بحوث العلاقات العامة (مصر)، ومجلة علوم الإعلام والاتصال (الجزائر)... كما اعتمدت أيضًا على مسح مختلف مخرجات المؤتمرات واللقاءات العلمية التي انعقدت حوله، لاسيما تلك التي عالجت مشاكل المناهج والتقنيات التي من شأنها مقاربة موضوع الإعلام الجديد وآلياته (مؤتمر وسائل التواصل الاجتماعي (السعودية)...). فقد توافرت للباحث أكثر من 250 دراسة وبحثًا في هذا الموضوع، سمحت له بتكوين رؤية عن طبيعة الوضع العلمي الأكاديمي فيما يخص الإشكالية المطروحة سابقًا.

واستعملت الدراسة أيضًا إلى جانب المنهج المسحي، تقنية المعاينة وخاصة العيِّنة المتاحة التي تُعد من العينات غير الاحتمالية، حيث تعامل الباحث مع ما توفره قواعد البيانات، خاصة العربية منها (المنصة الجزائرية للمجلات العلمية، موقع البيانات الرقمية الأكاديمية...) من دراسات ومقالات وأطروحات وكتب وملخصات المؤتمرات والندوات وأيام دراسية في مختلف ربوع المنطقة العربية.

ولتحديد متغيرات الإشكالية السابقة، اختار الباحث أهم الدراسات والأطروحات لتكون أمثلة فسَّر في ضوئها مختلف الآراء والمواقف والتوجهات المنهجية السائدة في الأوساط الأكاديمية العربية فيما يخص موضوع الإعلام الجديد، لذلك فإن الجداول المعتمدة في هذه الدراسات، ما هي إلا عينات فقط منها.

2. وضع الاعتماد أو التقليد   

يرى أصحاب هذا التوجه أن العلم له خاصية عالمية (Universel)، وبالتالي ليس هناك علم خاص بدولة أو منطقة بعينها. فما دام أن الإعلام الجديد يسع كل المعمورة فقد صار بذلك خاصية إنسانية لها مدخلات ومخرجات واحدة مقارنة بالإعلام التقليدي من حيث كونهما يلتقيان في المفهوم والمبادئ العامة والأهداف. فهو -أي الإعلام الجديد- امتداد وتطور طبيعي للإعلام التقليدي الذي صار في وقتنا الحالي يعتمد بدرجة كبيرة على الإعلام الإلكتروني(3)

أما من الناحية المعرفية، فإن الإعلام الجديد ما زال يحافظ على المفاهيم نفسها التي كانت تشغل بال الباحثين في الميدان، فما زال السلوك، والاستعمالات، والحاجيات المشبعة، وطبيعة التلقي، وطبيعة المحتويات المعروضة... من أهم المواضيع جلبًا لاهتمام الباحثين في مجال الإعلام الجديد. وعلى هذا، فإن المنهج المسحي وأداة تحليل المضمون وطريقة سبر الآراء عبر الاستمارة أو الدراسات الكيفية بالمنهج الإثنوغرافي والتحليل السيميولوجي على سبيل المثال، لا تزال صالحة لمقاربة الظواهر الناجمة عن ومن الإعلام الجديد، طبعًا مع تكييفها مع متطلبات كل بحث. ويرى الباحث الفرنسي، دومينيك فولتون (Dominique wolton)، أنه من المفيد إدراج التنظير لآثار شبكة الإنترنت ضمن مختلف النظريات التقليدية، لأنه لا يمكن بأية حال من الأحوال أن تنفصل الميديا الجديدة عن مسيرة تطور ظاهرة التواصل الإنساني في مختلف تجلياته(4). ويرى الباحث في مجال الثقافة الرقمية، محمد السيد ريان، في كتابه: "الإعلام الجديد"، أن "الإعلام الجديد هو بمنزلة تطور طبيعي للتقنيات الإعلامية التقليدية، والتي تفرض سنن الحياة والواقع والتكنولوجيا تطورها لتلاءم وتواكب مجريات الحياة المعاصرة والسريعة والجديدة"(5).  

إن التراث المعرفي الذي شكَّل المنبع الأساسي لتفسير الظواهر الإعلامية الاتصالية ولفترة طويلة لا يزال المحرك الأساسي لمختلف البحوث والدراسات الخاصة بوسائل الإعلام وعملها، سواء على مستوى الأفراد أو المجتمع. وقد تجلى هذا التراث المعرفي في مدرستين أساسيتين ومختلفتين شكَّلتا القاعدة الأساسية لمختلف النظريات التي تبلورت في شأن علم الإعلام، وهما: المدرسة الوظيفية والمدرسة النقدية. فالأولى تصب فيما اقترحه هارولد لاسويل (Harold Lasswell) حول وظائف وسائل الإعلام التي لخصها في مراقبة البيئة، وربط أجزاء المجتمع، ونقل التراث من جيل إلى آخر، إضافة إلى وظيفة الترفيه، والتي نجدها مجتمعة في وظائف الإعلام الجديد. وعليه، فالمدرسة الوظيفية لا تزال قادرة على تشكيل المرجع النظري لكل محاولة لتفسير عمل الإعلام أو وظيفته، بطريقة أمبريقية مستمدة من الواقع القابل للملاحظة والقياس.

على الضفة الأخرى من الاعتماد، نجد المدرسة النقدية بقيادة كل من تيودور أدورنو (Theodor Adorno) وماكس هوركهايمر (Max Horkheimer)، وهربرت ماركوس (Herbert Marcuse)، ثم بعد ذلك يورغن هابرماس (Jürgen Habermas) وميشال فوكو (Michel Foucault). وقد اقتربت هذه المدرسة من دراسة الإعلام الجديد بالتوجهات نفسها التي قاربت بها الإعلام التقليدي، أي البحث عن طبيعة الهيمنة، والعقلانية، وعدم المساواة. كل ذلك اعتمادًا على مقاربة كيفية (المنهج الإثنوغرافي على سبيل المثال، أو الملاحظة، أو المقابلة)، لأنها الأدوات الوحيدة التي يمكن من خلالها معرفة المفاهيم السابقة في سياقاتها المختلفة حسب هؤلاء، ومنه فهم مكونات الإعلام الجديد وعمله بأكثر موضوعية.

وإلى وقت قريب من هذه الأطروحات، لا يزال الاعتماد واضحًا على الأطر النظرية الكلاسيكية لمقاربة الإعلام الجديد، فقد توصلت دراسة قام بها الباحث حلمي محسب سنة 2007(6)، وباستعمالها أداة تحليل المستوى الثاني (الثانوي)، أن البحوث المصرية والأميركية على سبيل المثال، ما زالت تعتمد على النظريات الكلاسيكية الخاصة بالإعلام التقليدي في تفسيرها للموضوعات الإعلامية المرتبطة بالإنترنت. كما أشارت دراسات أخرى إلى أن الكثير من البحوث العلمية في المنطقة العربية، وفيما يخص الإعلام الجديد، ما زال يعتمد على نظرية الاستخدامات والإشباعات بوصفها نظرية مُفسِّرة لدوافع استعمال الأفراد للإعلام الجديد. كما نجد الاستمارة الاستبيانية أداة منهجية لقياس جمهور وسائل الإعلام التقليدية مستعملة بكثافة في دراسة مستخدمي الإنترنت وما يدور فيه من أنظمة، كما قام الكثير من الباحثين العرب باستعمال تحليل المضمون عندما يريدون استنطاق مضامين الإعلام الجديد (انظر عينة من تلك الدراسات في الجدول أسفله).

نفهم من هذا الطرح أن الإعلام الجديد لا يحتاج أكثر من المقاربات الكمِّية أو الكيفية لدراسة وظائفه الجديدة وتحليلها، مع مناداة البعض بمحاولة تكييفها لتكون أكثر مرونة مع مختلف أشكال الاتصال التي يفردها الإعلام الجديد. فالخريطة المنهجية الحالية -إن صحَّ التعبير- لمقاربة الإعلام الجديد، لا تزال قائمة على المنهج المسحي الذي يُعد من أكثر المناهج استعمالًا في بحوث الإعلام الجديد، سواء في مسح المضامين أو مسح الجمهور (المستخدمين)، أو مسح الوسيلة في حدِّ ذاتها.

3. التجديد في المناهج والتقنيات المنهجية لدراسة الإعلام الرقمي

على نقيض الرأي السابق، يرى بعض الأكاديميين، مثل: عبد الله الزين الحيدري ومي العبد الله والسيد بخيت وغيرهم، أن نظريات الإعلام الكلاسيكية بصفة عامة، والمقاربات المنهجية التي تقترحها، لم تعد صالحة نظرًا لاختلاف البيئة الإعلامية الجديدة عن البيئة الإعلامية التقليدية وعلى أكثر من مستوى. فالبيئة النظرية التي تتشكَّل من خلالها المعاني والبنى المعرفية للجمهور تختلف اختلافًا جذريًّا مع البيئة التقليدية، فالجمهور والمضمون والشكل... عناصر تتسم بالتفاعلية على العكس من البيئة التقليدية التي تُنعت بالأحادية. من جهته، ذكر الأكاديمي عبد الله بن صالح الحقيل أن الإعلام الجديد ليس تطورًا أو امتدادًا للإعلام التقليدي، وإنما هو وسيلة جديدة لها ظروفها ومتطلباتها وعملياتها المختلفة. كما أن للإعلام التقليدي ظروفه وعملياته المختلفة أيضًا، بينما الخطأ يكمن في محاولة الإعلام التقليدي تبنِّي أو تقليد الإعلام الجديد، وهذا غير ممكن لأنهما صيغتان مختلفتان. وبيَّن الحقيل أن الإعلام الجديد أخذ من التقليدي كثيرًا من المهام والوظائف لعدم قدرة الإعلام التقليدي تقنيًّا القيام بها، كما أن الاعلام الجديد هو إعلام تفاعل اجتماعي، وعلاقة الإعلام التقليدي مع جمهوره تخلو من التفاعل الاجتماعي ولا يستطيع الوصول إلى هذا المستوى، لكنه يستطيع بل يجب عليه التأثر بالإعلام الجديد(7).

وقد أشار معهد السلام الأميركي، عام 2010، إلى أن الأطر النظرية والمنهجية المتوافرة حاليًّا تبدو غير كافية لتفسير أثر الوسائط الجديدة في حياتنا رغم أنها تبدو واضحة(8)، ذلك لأنها حديثة النشأة من جهة، وشديدة التعقيد والتطور من جهة أخرى، حتى صار من الصعب مواكبة هذا التطور؛ إذ يظهر في كل يوم العديد من البرامج والتطبيقات ناهيك عن العديد من الابتكارات الاتصالية التي يخلقها المستخدمون، والتي تُحدِث تأثيرات من الصعب أيضًا تفسيرها ودراستها عن قرب. لهذا تقف أمام الباحثين إشكالات نظرية وأخرى منهجية استلزمت منهم إيجاد بدائل نظرية ومنهجية لها تتوافق مع بنية هذه الوسائط وطبيعتها، وكذا طبيعة التطورات التي تعرفها(9). ومن جهته، يرى دينيس ماكويل (Denis McQuail) أن ثمة تطورات هائلة في ممارسة الاتصال من خلال الإعلام الجديد، والتي تستدعي الانتقال إلى مرحلة جديدة في التنظير، تُقَدَّم فيها أفكار أكثر عمقًا لفهمه، لأن النظريات الحالية المتمحورة حول الوسيط غير كافية(10). وقد قادت هذه التغيرات إلى ظهور دعوات عديدة لإعادة النظر في مناهج البحث المستخدمة التي تناسب الإعلام التقليدي، وتقديم نماذج ومناهج جديدة تتسق مع الفرضيات والمفاهيم المستجدة التي ظهرت مع الإعلام الجديد، وفي مقدمتها "التفاعلية" التي أولاها هؤلاء الخبراء اهتمامًا كبيرًا تمثَّل في محاولة بعضهم تطوير مقاييس علمية لقياس "التفاعلية" في العملية الإعلامية، ومن هؤلاء كاري هيتر (Carrie Heeter) (1989)، وشيزاف رفايلي (Sheizaf Rafaeli) وفاي سودويكس (Fay Sudweeks) (1997)، وعبد الله بن صالح الحقيل (2011).

ولئن كانت القطيعة مع التراث النظري التقليدي غير واضحة المعالم، فإنها تبدو واقعًا ملموسًا من خلال مجهودات تنظير جديدة سعى أصحابها لإيجاد منطق نظري ومنهجي آخر أكثر عقلانية في فهم مكونات الإعلام الجديد ووظائفه المختلفة وتحليلها؛ فأنتجت تلك المجهودات الكثير من النظريات، مثل: نظرية الشبكة (Network Theory)، ونظرية الشبكة الفاعلة (Actor–Network Theory)، ونظرية الألعاب على الشبكة (Gaming or Ludology Theory)، وغيرها كثير.

ويقود هذا الحديث إلى موضوع المقاربات المنهجية الواجب الاستعانة بها في دراسة الإعلام الجديد، فإلى وقت قريب استعانت دراسات وأبحاث كثيرة في هذا الميدان (انظر الجدول رقم 1) بالمناهج والأدوات والتقنيات الكلاسيكية التي كانت معتمدة في دراسات الإعلام التقليدي لمقاربة ودراسة الإعلام الجديد. لكن نتائجها كانت دائمًا محلَّ شك مع صعوبة تطبيقها بشكل مماثل على الوسائط المختلفة وتفسير مختلف ظواهرها، التي تتسم بكثرة التطور والتعقيد، علاوة على الأوضاع الاتصالية التي تظهر عند استعمال الفرد تقنياتها، وكذلك مقدرة الباحثين على الإحاطة بمستعملي الإعلام الجديد من حيث طبيعتهم الاجتماعية ومستواهم العلمي وجنسهم ومختلف تصرفاتهم الاتصالية عند التعرض له. ففي كثير من الدراسات وجد الباحث أن هذه المسائل ما زالت تخضع إلى تقنيات إحصائية (العينة القصدية مثلًا) ومعادلات رياضية قد تُظهِر الكثير عن المستخدمين، لكنها لا تعرف عنهم إلا ما تُظهِره تلك الإحصائيات والأرقام. 

وفي ضوء ما سبق ذكره من نقائص في استخدام المقاربات المنهجية التقليدية عن موضوع الإعلام الجديد، فإن الاعتماد عليها ما زال حاضرًا في الكثير من الدراسات العلمية، خاصة في الأطروحات العلمية التي تَستخدم لحد الآن، في معظمها، الأدوات المنهجية نفسها المستعملة في دراسة الإعلام التقليدي.     

4. موقع العرب من إشكالية التقليد والتجديد في مناهج البحث

رغم التراث العلمي الذي تزخر به الأمة العربية وفي ميادين مختلفة، إلا أنه لم يشكِّل قاعدة معرفية لبروز نظرية أو أنظمة منهجية لمقاربة الإعلام الجديد. فلا نكاد نجد نظرية عربية تُطرح بديلًا للنظريات الفكرية الغربية فيما يخص موضوع الإعلام الجديد والتكنولوجيا الحديثة للاتصال، فجلُّ التراث النظري والمنهجي المتحكم في البحوث العلمية الخاصة بهذا النوع من الإعلام عندنا، ينطلق من مفاهيم ومقاربات منهجية أُنتجت هناك، أي في نطاق النظرية الوظيفية والنظرية البنيوية والنظرية النقدية وغيرها من النظريات التي أُسست على إثرها الكثير من الدراسات لمختلف وسائل الإعلام. وهو ما نتج عنه بالضرورة اعتماد الباحثين العرب على ما تقترحه هذه النظريات من مناهج وتقنيات في دراسة الإعلام الجديد كما رأينا ذلك سابقًا، حتى إنها لم تخرج عن ازدواجية الطرح بين البحوث الكمِّية والبحوث الكيفية: الأولى: نجد تحت مظلتها المنهج المسحي بمختلف أنواعه، مثل تقنية تحليل المضمون، والثانية: الدراسات النقدية والمنهج الإثنوغرافي والتحليل السيميولوجي على سبيل المثال.

لقد سار الوضع العلمي في المنطقة العربية على المسار السابق عقودًا طويلة، أي منذ ظهور الحركة الإعلامية في المنطقة العربية في ثلاثينات القرن الماضي، وامتدت حتى وقتنا الحالي؛ إذ ما زالت الدراسات الإعلامية تعتمد على المقاربات السابقة نفسها في دراسة الميديا الجديدة وتحليلها، وحتى وإن كان بعضها رائدًا في محاولته تفسير عمل الميديا الجديدة وكيفية تعامل الأفراد معها، وآثارها على سلوكياتهم ومواقفهم، لكنها في حقيقة الأمر لا تشير ولا تفصح عن الوضع الاجتماعي والثقافي الذي يتطلب تطبيق مناهج تحليلية نابعة من الثقافة العربية وحقيقتها الحضارية. وفي هذا الاتجاه، يقول الأكاديمي جمال زرن: "وهنا يكمن الفرق التاريخي بين الغرب والمنطقة العربية في تعريف الإعلام الجديد وهو ما يدفعنا إلى الإفصاح أنه لا وجود لإعلام كوني جديد أو إنساني بل إن البيئة الثقافية والاجتماعية لهذا المجتمع أو ذاك هي التي تحدد طبيعة الإعلام الجديد وخصوصياته"(11).

جدول (1): عيِّنة من الدراسات العربية التي اعتمدت الأدوات المنهجية "الكلاسيكية" في مقاربة موضوع الإعلام الجديد

اسم الباحث

الجامعة/المؤسسة

البلد

سنة إجراء الدراسة

طبيعة الدراسة

عنوان الدراسة

نوع الدراسة

المنهج

الأداة المستخدمة

أحمد بودادة

جامعة بسكرة

الجزائر

2020

أطروحة دكتوراه

دور الإعلام الرقمي في صناعة الرأي العام

كمية

المسح الاجتماعي

تحليل المضمون+ الاستبيان + المقابلة

عادل عبد الرزاق مصطاف، زينة سعد نوشي

جامعة بغداد

العراق

2018

دراسة منشورة

استخدامات وسائل الإعلام الرقمي وتأثيرها على بناء المنظومة القيمية للمجتمع العراقي

كمية

المسح الاجتماعي

الاستمارة الاستبيانية

أمينة بصافة

المركز الجامعي لحاج بوشعيب عين تموشنت

الجزائر

2018

دراسة منشورة

آليات قراءة الصورة الإشهارية في مواقع شبكات التواصل الاجتماعية

كيفية

المنهج الوصفي

التحليل السيميولوجي

حسني محمد ناصر

جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

السعودية

2015

بحث منشور

اتجاهات البحث والتنظير في وسائل الإعلام الجديدة: دراسة تحليلية للإنتاج العلمي المنشور في دوريات محكمة

كيفية

منهج البحث الكيفي

التحليل من المستوى الثاني

نصر الدين لعياضي

جامعة الجزائر

الجزائر

2015

دراسة منشورة

أزمة، نهاية، فوضى أو "نشأة مستأنفة": محاولة فهم التحولات التي تعيشها الصحافة وتأويلها

كمية+

كيفية

 

محرك "أليكسا" + الملاحظة العلمية

فاطمة عبد الهادي علاء الدين  

الجامعة الأردنية

الأردن

2014

دراسة منشورة

تأثير وسائل التواصل الاجتماعي في القيم الاجتماعية لدى طلبة الجامعات الأردنية: دراسة اجتماعية

كمية

المسح الاجتماعي

الاستمارة الاستبيانية

فهد بن علي بن عبد العزيز الطيار

جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية

السعودية

2014

بحث منشور

شبكات التواصل الاجتماعي  وأثرها على القيم لدى طلاب الجامعة: تويتر نموذجًا

كمية

المنهج الوصفي التحليلي

الاستمارة الاستبيانية

محمد خليل الرفاعي

جامعة دمشق

سوريا

2011

دراسة منشورة

دور الإعلام في العصر الرقمي

في تشكيل قيم الأسرة العربية: دراسة تحليلية

كيفية

المسح التحليلي

الملاحظة العامة

إبراهيم بعزيز

جامعة الجزائر

الجزائر

2008

رسالة ماجستير

منتديات المحادثة والدردشة الإلكترونية

كمية

الوصفي المسحي

الملاحظة + الاستمارة الاستبيانية

محمد حسن سليمان قيزان

أم درمان

السودان

2008

دكتوراه

شبكة الإنترنت والإسلام: دراسة وصحيفة تحليلية لإمكانية توظيف شبكة الإنترنت لخدمة الإسلام

كمية

المنهج المسحي

الاستمارة الاستبيانية

صحيح أن العلم لا وطن له، وصحيح أيضًا أن المقاربات المنهجية حتى بين الدول الغربية تطرح إشكالية التأقلم مع واقعها الاجتماعي والثقافي، خاصة بين المجتمع الأميركي منبع أغلبية تلك المقاربات ومناهجها، والدول الأوروبية، لكن استطاع الأوروبيون على سبيل المثال تكييف تلك النظريات ومقارباتها المنهجية مع طبيعة السياق الاجتماعي والثقافي والحضاري فيما يخص الإعلام الجديد، ومنه إنتاج مقاربات جديدة ومناهج نابعة من دراسات أوروبية محضة(12)، الشيء الذي لم نقم به نحن العرب؛ فقد بقينا في مستوى التطبيق الحرفي لنظريات الاتصال والإعلام في مقاربة الإعلام الجديد بكل متغيراته، وحتى في أوساط الباحثين الغربيين، هناك من ينادي بضرورة الالتزام بدراسة السياقات الثقافية والاجتماعية عند استعمال المقاربات والمناهج الضرورية لمقاربة الإعلام الجديد. فهذا الباحث جيفراي باردزيل (Jeffrey Bardzell)، يشير إلى ضرورة اختبار تلك النظريات لوظائف الإعلام التقني وأدواته في سياقها الثقافي، موضحًا أن التفكير بصورة تكنولوجية بوصفها عملية تتم بصورة مطلقة، بعيدًا عن السياق التاريخي والسياسي والاقتصادي والثقافي والديني، يعني عدم فهم إمكانيات وحدود التكنولوجيا الجديدة(13).

إن الإشكال في هذه الوضعية يحمل بُعْدين لدى الباحثين العرب في ميدان الاتصال والإعلام، هناك بُعْد يتجلى في مسألة التقليدي والحديث من مستوى الأدوات المنهجية الصالحة لمقاربة الإعلام الجديد، فلم يسأل الكثير من الباحثين عن صلاحية الأدوات المنهجية التي تعودنا على استخدامها لدراسة الإعلام التقليدي في مقاربة الإعلام الجديد. و"تواجه الباحثين إشكالية كبرى تتعلق بمدى ملاءمة النظريات والمداخل النظرية والنماذج العلمية التي ظهرت في ظل وسائل الإعلام التقليدية والمستقاة أساسًا من علوم اجتماعية أخرى والتي جرى استخدامها لدراسة عناصر العملية الاتصالية في بيئة الإعلام الجديد"(14)، ثم لم يسأل الكثير من الباحثين أيضًا عن إمكانية استحداث وسائل منهجية تتوافق ومميزات الظاهرة الإعلامية الجديدة إلا ما ندر (انظر الجدول رقم 2)، وكأننا في انتظار ما تجود به علينا المدراس الفكرية الغربية من وسائل جديدة لمقاربة الإعلام الجديد لتطبيقها على الظاهرة نفسها عندنا.

جدول (2): عينة من الدراسات العربية التي استخدمت  آليات منهجية "جديدة" في مقاربة موضوع الإعلام الجديد

اسم الباحث

الجامعة/المؤسسة

البلد

سنة إجراء الدراسة

طبيعة الدراسة

عنوان الدراسة

نوع الدراسة

المنهج

الأداة المستخدمة

حبيب بن بلقاسم

مجلة علوم الإعلام والاتصال/جامعة الملك سعود

السعودية

 

2018

 

بحث منشور

تحليل الشبكات الاجتماعية: المنهج المهمش في البحوث العربية

كيفية

تحليل الشبكات الاجتماعية

تحليل الشبكات الاجتماعية

عبد الله الزين الحيدري

مركز الجزيرة للدراسات

قطر

2017

دراسة منشورة

الميديا الاجتماعية: المصانع الجديدة للرأي العام

تحليلية

دراسة حالة

نظرية الشبكة الفاعلة

 

الصادق الحمامي

المجلة العربية للإعلام والاتصال

السعودية

2009

دراسة منشورة

تجديد الإعلام: مناقشة هوية الصحافة الإلكترونية

نظرية

المقاربة التواصلية

 

حلمي محمود محمد

جامعة جنوب الوادي

مصر

2008

دراسة منشورة

قياس تفاعلية المواقع التليفزيونية الإخبارية على الإنترنت

وصفية كمية

المنهج المسحي

خريطة الموقع +

مقياس كاري هيتر

نجوى عبد السلام فهمي

المجلة المصرية لبحوث الرأي العام/جامعة القاهرة

مصر

2001

دراسة منشورة

التفاعلية في المواقع الإخبارية العربية على شبكة الإنترنت: دراسة تحليلية

نظرية

المقاربة التواصلية

 

 

 

 

وبما أن الإعلام مرتبط بطريقة لا يمكن فصلها عن المجتمع، فإن دراسة أحدهما تقتضي دراسة الآخر بهدف تقديم فهم أعمق للمعرفة، لأن نتائج البحوث التواصلية التي تجرى على المجتمع الأميركي على سبيل المثال، قد لا تصلح في المجتمع العربي ما دام التواصل هو الوجه الآخر للحياة بكل ما تحمله من تفرد وخصوصية وتأثر بالتاريخ والجغرافيا والثقافة، الشيء الذي لا نجده في الكثير من الأبحاث العلمية الخاصة بالإعلام الرقمي عندنا. فقد اعتدنا على تطبيق المناهج والتقنيات التالية(15): المنهج التاريخي، والمنهج المقارن، والمنهج المسحي، ودراسة الحالة، ومنهج تحليل النظم، ومنهج التحليل العاملي، والملاحظة بأنواعها المختلفة، والمقابلة، وتقنية تحليل المضمون، والاستمارة الاستبيانية، والتحليل السيميولوجي على نهج رولان بارث (Roland Barthes) بوجه خاص، والتحليل الكيفي في بعض المحاولات الإثنوغرافية، وبدرجة أقل التحليل البلاغي (Rhetorical Analysis)، وتحليل الخطاب، والتحليل الدلالي، وتحليل التراث العلمي كيفيًّا، وتحليل المحادثات الإلكترونية، والتحليل البنيوي للشبكات... كل هذه المناهج والتقنيات لا تستند إلى خلفية نظرية نابعة من التراث العلمي العربي، بل هي ناتجة عمَّا تصدقت به علينا النظريات الغربية على شاكلة النظرية الوظيفية، والنظرية النقدية، والنظرية الأمبريقية، والنظرية البنيوية ونظرية الاستخدامات والإشباعات ونظرية لولب الصمت وأخرى كثيرة.

تنطلق المناهج سابقة الذكر والتقنيات المنهجية المرافقة لها من مسلَّمات لا علاقة لها بمنطقتنا العربية؛ مما يعيق فهمنا لطبيعة الإعلام الجديد إلا من خلال مظاهره الخارجية في الاستعمال وعدد المشاهدين (المستخدمين) والرواد.. أو على أكثر تقدير من جانبه التقني والوسائل التكنولوجية المُستعملة فيه.

إن البحث الذي قامت به عالمة الاجتماع شيري توركل (Sherry Turkle)(16)، من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في أميركا، على سبيل المثال، حول الكيفية التي يتفاعل بها الناس مع التكنولوجيا، وتأثير ذلك على العلاقات الإنسانية، استعملت فيه مقابلات شخصية مع مئات الأشخاص من مختلف الأعمار، وسألتهم عن استخداماتهم للهواتف الذكية والأجهزة اللوحية ومواقع التواصل الاجتماعي والشخصيات الافتراضية (الأفاتار) والروبوتات. وكان البحث ينطلق من مسلَّمات اكتساب وسائل الاتصال الحديثة واستعمالها من طرف كل مواطن أميركي؛ إذ تقول: "إنك على الأرجح تمتلك هاتفًا ذكيًّا، وحسابات على مواقع تويتر وإنستغرام وفيسبوك". وهكذا شكَّلت هذه الخلفية منطلقات منهجية لبناء تصورات وآراء العيِّنة المدروسة، وبهذه الخلفية أيضًا تنطلق كل الدراسات الغربية من مكانة الإعلام الجديد في المجتمع، لكن هذه المسلَّمة ليست متوافرة على ذلك النطاق وتلك المكانة في الكثير من المجتمعات العربية. وبالتالي، فإن النتائج التي قد تصل إليها تلك الدراسات لا تساعدنا في فهم الظواهر نفسها في المجتمع العربي.

ولعل نظرة خاطفة لهذه المسلَّمات وواقعها في المنطقة العربية، قد تعطينا الحقائق التالية**:

- انتشار التعليم والتعليم الإلكتروني في الدول الغربية، في حين ما زال في منطقتنا العربية يتأرجح بين كونه من الكماليات الاتصالية إن صحَّ التعبير، وكونه ضرورة اتصالية حضارية، علاوة على أن دخول هذه الوسائل إلى المنطقة العربية فرضته عوامل خارجية بعيدًا عن متطلبات تطور البنى الاتصالية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية في المجتمع العربي عامة؛ الأمر الذي يصبغ واقع الإعلام الجديد بالضبابية لمكانته في النسيج الاجتماعي العربي.  

- إذا كان الإعلام الجديد لدى المواطن الغربي مصدرًا أساسيًّا من مصادر معلوماته اليومية، فهو ليس كذلك في المنطقة العربية؛ إذ إنه لا يشكِّل مصدرًا رئيسيًّا للمعلومات لدى الكثير من مواطني الدول العربية مقارنة بالوسائل الاتصالية التقليدية (القيل والقال، التجمعات في الفضاءات العمومية، المناسبات...). لا نقول هذا من باب النقد أو الانتقاص من هذه الطبيعة الاتصالية، لأن لكل أمة طابعها الاجتماعي والثقافي والحضاري يُحدِّد طبيعة تواصل أفرادها فيما بينهم، ما يجعل من الصعب الاقتداء بالمسلَّمات المنهجية التي تطرحها المدارس الفكرية فيما يخص الإعلام الجديد من حيث مستعمليه وتصرفاتهم إزاء مضامينه.

- التباين في اكتساب التكنولوجيا بين مختلف الطبقات الاجتماعية في البيئة العربية، بل وبين الدول العربية نفسها، فما عدا ما يتعلق ببعض الطبقات الميسورة وبعض سكان المدن الكبرى، فلا يمكن أن نعتمد على مسلَّمة اقتناء الوسائل التكنولوجية الحديثة بكل يسر لدى أغلبية سكان المنطقة العربية. "إن مفهوم الاستخدام يقتضي أولًا إمكانية الوصول إلى تكنولوجيا ما، بمعنى أن تكون متوافرة فيزيائيًّا (ماديًّا) حتى نستطيع الحديث عن الاستخدام ثم ضرورة أن يتم تبني هذه التكنولوجيا"(17)؛ ما يجعل في اعتقادنا نتائج الدراسات الخاصة بالإعلام الجديد وفق المسلَّمات المنهجية السابقة نسبية جدًّا ولا تساعدنا في الحكم على استعمال الإعلام الجديد لدى كل أفراد المنطقة العربية.

- مكانة وسائل الاتصال الجديد، بوصفها وسائل تواصلية بين أفراد الوطن العربي، الذين ما زالوا يعتمدون في تواصلهم اليومي على أشكال تعبيرية شفهية في الكثير من مناطقه، وقد تكون الشفاهية هي التي تصوغ الذات الاتصالية والإعلامية عند العرب حتى وإن دخلوا تقنيًّا ومستهلكين منظومة الإعلام عبر الوسيلة(18).

- لا تزال السلطة السياسية في الكثير من الدول العربية صاحبة الشأن في إدارة شبكة الإنترنت وتوزيعها، أو على الأقل لها عين على المتعاملين الخواص حولها. لذلك فإن الرقابة حاضرة في استعمال مواد الإعلام الجديد واستهلاكها، وهو ما ينتج عنه سلوك خاص لبعض مستعملي هذا النوع من الإعلام يتوجه أكثر إلى نمط الاستهلاك الترفيهي والتسلية وما كان بعيدًا عن السياسة ومخرجات النظام السياسي. أضف إلى ذلك أن السلطة السياسية في الكثير من الدول العربية هي صاحبة المعلومات الرسمية والمخطوطات ومختلف البيانات التي يود أي باحث الحصول عليها. وعلى هذا الأساس وفي الكثير من الأحيان، تقابل السلطة الباحثين برفض طلبهم الحصول على المعلومات الكافية لأبحاثهم؛ الأمر الذي يجعل نتائجهم أقل دقة وأكثر افتراضية.

إن هذه المسلَّمات، وغيرها كثير، تدفعنا، على الأقل، إلى إعادة النظر والتفكير فيما نستعمله من نظريات وأدوات منهجية عندما نريد الاقتراب بالبحث في موضوع الإعلام الجديد، فضلًا عن وقوفها عند هذا الحد وعدم طرحها رؤى بديلة للتصورات الموضوعية التي ينبغي أن تخضع للدراسة انطلاقًا من خصوصيات أهل المنطقة وتاريخها. وقد يخرجنا هذا من ثنائية الكمِّي والكيفي التي طالما حصرنا تفكيرنا في إطارها، ومن التوجه الأمبريقي إلى نمط آخر من المقاربات، وهو أمر ممكن، ويبقى تأطيره في التوجهات والمناقشات العلمية التي ينبغي أن تبادر إليها كليات الإعلام ومخابر البحث في منطقتنا.   

5. الكفاية المنهجية الكلاسيكية لمقاربة الإعلام الجديد

إن المتمعن في طبيعة ووظائف الإعلام الجديد، قد يلاحظ أنه يؤدي الأدوار نفسها التي يؤديها الإعلام التقليدي، مثل الإخبار، والبحث عن المعلومة، والترفيه، والتسلية، وتمضية الوقت... وعلى هذا الأساس فهو امتداد له وليس بديلًا عنه.

إن القول بموت المنظومة النظرية والمنهجية الكلاسيكية لدراسة وتحليل الإعلام الجديد قول مبالغ فيه، في وقت لا يزال فيه الكثير من الدراسات الخاصة بهذا النوع من الإعلام يستند إلى التراث المتعارف عليه في دراسة وسائل الإعلام التقليدية، مع الاعتراف بوجود خصوصيات وصعوبات تفرضها مكونات العملية الاتصالية للإعلام الجديد. فهذا أمر منطقي؛ إذ من غير المجدي محاولة تطبيق المناهج وأدوات التحليل التقليدية بحذافيرها على الإعلام الجديد، خاصة إذا تعلق الأمر بدراسة المجتمعات الافتراضية، فوجوب تكييفها مطلب ضروري لفهم تلك الخصوصيات ومنه تكييف تلك المناهج والأدوات معها، وعلى حدِّ تعبير الأكاديمية، لبنى رحموني، فإننا بحاجة إلى تكييف الأبعاد النظرية والمنهجية حسب متطلبات الجدة في الظاهرة، وهو ما عمل عليه العديد من الباحثين الذين أسهموا في تطوير النظريات المستخدمة في دراسة ظواهر الإعلام التقليدي وتطويعها لتتناسب مع طبيعة الإعلام الجديد، من بينها: نظرية المجال العام، ومدخل الاعتماد على وسائل الإعلام، ونموذج التلقي، ونموذج الاستخدامات والإشباعات. وتضيف الباحثة: "إن البعض يرى أن استخدام فيسبوك لا ينفصل عن الاستخدامات المألوفة، مثل تمضية الوقت، والترفيه، والتقليل من الضغط اليومي والبحث عن المعلومة، وهو ما يجعل استخدامه يشبه استخدام الوسائط التقليدية، وخاصة التليفزيون"(19).

ويقول المثل الجزائري: "الجديد تمسَّك به، والقديم لا تفرِّط فيه". لذلك، فإن العجز لا يكمن في استحداث آليات ومناهج وأدوات جديدة لدراسة ظاهرة الإعلام الجديد، فسوف يأتي ذلك عاجلًا أم آجلًا، وسوف تُطرح براديغمات متنوعة تحاول مقاربة وتفسير مختلف أركان الإعلام الجديد، لكن الإشكالية في الوقت الراهن هي مواصلة حضور المناهج والأدوات المنهجية "الكلاسيكية" في محاولات مقاربة الإعلام الجديد. وللتدليل على ذلك، نشير باختصار إلى بعض ما حدث من تطورات على مستوى بعض المناهج والتقنيات المنهجية الأكثر استعمالًا في بحوث الإعلام والاتصال، بالتوازي مع ما تعرضه الإنترنت من إمكانيات.

- المنهج التاريخي: نجح المنهج التاريخي منذ ظهوره أداة بحثية في التكيُّف مع مختلف أنواع الظواهر ومستجدات المعارف العلمية، بما فيها الظواهر الإعلامية الاتصالية، التي تحتاج إشكاليتها العودة إلى ماضي الظاهرة وتحليلها. فقد وفرت الإنترنت لهذا المنهج الكثير من التسهيلات عبر مميزاتها الكثيرة، مثل: تخزين البيانات، وسرعة العودة إليها في أي وقت، وضخامة المعلومات المعروضة عبر البوابات الرسمية المعروفة، علاوة على ثبوت الوقائع التاريخية عبر أشكال ونماذج كثيرة، منها الصور والتسجيلات الفيلمية والصوتية والكثير من الأشياء الأخرى التي تصلح لأن تكون محلَّ بحث باستعمال المنهج التاريخي الذي ما زال قادرًا على التكيُّف مع مستجدات الفضاءات الافتراضية التي توفرها الإنترنت حتى أصبح المنهج التاريخي يُعرف عبر استعانته بهذه المميزات بـ"التاريخ الإلكتروني" (E-History).

- المنهج المسحي: لعل المنهج المسحي وبمختلف أنواعه من أكثر المناهج استفادة من تسهيلات الإنترنت، لذلك فهو يُعد من أكثر المناهج استعمالًا في مقاربة ظاهرة الإعلام الجديد؛ إذ إن أكثر من 82% من البحوث التي شملتها الدراسة استُعمل فيها المنهج المسحي وبمختلف أوجهه؛ حيث إن دراسة مستخدمي الإعلام الجديد، وتحليل مختلف أشكال المضامين وطبيعة التفاعلات فيه... كلها ظواهر تحتاج وبدرجة أو بأخرى إلى المنهج المسحي. وقد استُخدم هذا المنهج بهذه الكثافة، ذلك لأنه وجد تسهيلات تقنية، تسمح للباحث بأن يجمع ويصنِّف ويرتب المعلومات بكميات كبيرة وبأقصى سرعة، كما سمحت له أيضًا بتحليل دقيق للبيانات يصعب القيام به عن طريق الأساليب والطرق البحثية القديمة.

- المنهج الإثنوغرافي: نظرًا لما أصبحت تشكِّله الإنترنت في حياة الأفراد، فإن مقاربة أفكارهم ومواقفهم وسلوكياتهم -وفي بيئات مختلفة مقاربة كيفية- يمر عبر "النت-نوغرافيا"، وهو المصطلح الذي أُطلق على الدراسات التي تستعمل المنهج الإثنوغرافي في دراسة سياقات الإعلام الجديد عن طريق مجموعة واسعة من الأدوات، مثل المشاركة الكامنة أو النشطة، أو المشاركة في المحادثات الإلكترونية... فالمشاركة في النشاط الاتصالي عبر مجموعة على فيسبوك تمثِّل السبيل لفهم المصالح الاجتماعية والثقافية والأهداف ووجهات النظر والقيم والمعاني التي ينطوي عليها هذا النشاط الاتصالي.

لقد تعاظم استعمال المنهج الإثنوغرافي في مقاربة الإعلام الجديد بشكل ملحوظ في عصرنا الحالي؛ حيث خلقت الإنترنت مجتمعات أخرى غير واقعية، أي مجتمعات افتراضية، وهي بحسب وصف سيرج برولكس (Serge Proulx) عبارة عن مجموعة من الأفراد يستخدمون منتديات المحادثة وحلقات النقاش أو مجموعات الحوار، حيث تنشأ بينهم علاقات انتماء إلى جماعة واحدة ويتقاسمون نفس الأذواق والقيم والاهتمامات ولهم أهداف مشتركة، الأمر الذي يساعد الباحث الكيفي على اعتبارها مجتمعات قابلة للملاحظة والمقابلة والتفاعلية خلال أي محاولة للبحث فيها(20).

- الاستبيان: أداة تعمل تحت عُرف المنهج المسحي، ويُعد الاستبيان من أكثر أدوات البحث استفادة من مميزات الإنترنت وما توفره من قدرة على جمع ومعالجة واستخراج النتائج بأقل تكلفة أولًا وبأقصى سرعة ثانيًا، وبأقل نسبة خطأ ثالثًا، علاوة على أنها وفرت الكثير من البرمجيات والمواقع والمدونات تساعد الباحث على إنجاز وعرض أدوات الاستبيان على مجموعة كبيرة من الأفراد، واسترجاعها بطريقة سريعة ودون عناء كبير.

- تحليل المضمون: إلى جانب أداة الاستبيان، يُعد تحليل المضمون أيضًا من أكثر الأدوات استعمالًا في مقاربة مضامين الإعلام الجديد. فقد تكيَّفت خطواته بطبيعة مضمون هذا الإعلام، لكنها ما زالت قائمة على مبدأ تحليل الفئات والعمل بالوحدات وبناء استمارة تحليل المضمون... ولأن محتويات الإعلام الجديد مختلفة من حيث الحوامل التي تحملها الرسائل، نجد الكثير من أشكال استعمال تحليل المضمون في دراسة تلك المضامين، من تحليل الصورة، واللغة، والخطاب...فكانت استفادة تقنية تحليل المضمون من خصائص الإعلام الجديد كبيرة، خاصة في ظل وجود برمجيات تساعد الباحث في تصنيف البينات وتحليلها. وفي هذا الصدد نذكر برنامج محلل سجل الواب (Web Analyser)، وهو عبارة عن تطبيق ذكي يقدم خلاصة إحصائية حول المحتويات الغرافيكية للمواقع التي تستخدم ملفات من نوع (HTML).

- التحليل السيميولوجي: حتى ولو كان قليل الاستعمال، فإن التحليل السيميولوجي ما زال حاضرًا في دراسة الإعلام الجديد. فقد وجد الباحثون أن التحليل السيميولوجي أكثر أنواع المقاربات قابلية للاستعمال في مضامين الإعلام الجديد، ذلك أنه لا يولي أهمية كبيرة للفاعلين بقدر ما يركز على الرسالة في حدِّ ذاتها، من حيث بنيتها والعلاقات الدلالية الترابطية الكامنة داخلها... كما يعمل التحليل السيميولوجي على فهم أنساقها الدلالية المختلفة واللسانية السيميائية (الأيقونة البصرية) وتحليلها وتأويلها بعد ذلك. وباعتبار أن هذه الأخيرة قد تأخذ الكثير من أشكال التعبير كما قلنا سابقًا، فقد نجد هذا التحليل في دراسة الصورة، واللغة، والأفلام، وأشكال التعبير الصوتية... ويقول الباحث نبيل شايب: "تُعد المقاربة السيميولوجية من أهم المقاربات وأنسبها لتحليل الإعلام الرقمي إلى جانب المقاربة التداولية، لأنها تجمع بين تحليل الصوت والصورة والموسيقى والحركة والأداة واللون والإشارة والدلائل وأنظمة عمل العلامات والأيقونة واللغة والديكور والرموز"(21).

ما يمكن أن نلاحظه على الدراسات التي استعانت بأدوات منهجية جديدة في مقاربة الإعلام الجديد أنها مقاربات تقنية نابعة من علم الإعلام الآلي والبرمجيات أو كما يسميها الأكاديمي، نصر الدين لعياضي، المناهج الحاسوبية أو الكبرى (Big methods) ليس كتقنيات مساعدة كما عهدناها عندما كان علم الاتصال والإعلام يبحث عن بناء منهجي يتلاءم وطبيعة الظواهر التي تخصه، بل كأدوات منهجية أساسية في دراسة الإعلام الجديد. وهذا ما يُفقدها الطابع الإنساني والاجتماعي في تفاعل عناصرها الاتصالية في الكثير من نتائجها، مثل برنامج (Node XL) الذي يسمح باستقراء البيانات من منصات مواقع التواصل الاجتماعي بطريقة برمجية آلية، أو برنامج (Storify) الذي يسمح هو الآخر بالتعرف على كيفية انتشار رسائل معينة حول قصة جرى نشرها... ومن وراء "نظرية النقرة" التي يستعين بها الكثير، هناك إنسان بمختلف توجهاته النفسية من جهة، والاجتماعية من جهة أخرى. ومن وراء "جماعات المحادثة"، هناك شبكة من العلاقات من الصعب تحديدها فقط من خلال عدد الزوار، أو من خلال عدد المشاركين والحديث فيما بينهم. فالتَّكْمِيم في بعض الحالات لا يفي بالغرض، مثل تَكْمِيم "الإيموجيات" (Emoji) التي تتسم بشدة التصاقها بثقافة المجتمع، أضف إلى ذلك أن هذه التقنيات لا تدرس العلاقات السببية بين المتغيرات، بل إن العلاقات بين المتغيرات تُحدِّدها قوانين رياضية وإحصائية بلغة الأرقام والنسب كمعامل ارتباط بيرسون، ومعامل التصنيف الداخلي، ومعامل ارتباط سبيرمان للرتب، ومعامل ارتباط كندال تاو للرتب، ومعامل ارتباط فاي وغيرها.

ورغم كل ما سبق ذكره، يعتقد الباحث أن التقارب بين المناهج الحاسوبية والتقنيات والمناهج "الكلاسيكية" ممكن، بل ومفيد أيضًا، فلطالما كانت العلوم الإنسانية والاجتماعية، تبحث عن صيغ منهجية جديدة تضفي الطابع الموضوع لأبحاثها. فقد نجد في مثل هذه التقنيات ما يجعل علوم الاتصال والإعلام على سبيل المثال علومًا أكثر صلابة من طابعها التأويلي التفسيري الذي تتصف به.  

وعلى هذا الأساس، نعتقد أن التزاوج بين التقنيات الجديدة لمقاربة الإعلام الجديد، ونظيرتها الكلاسيكية، مفيد جدًّا في دراسة هذه الظاهرة، فالتكامل قد يوصل بحوث الاتصال والإعلام إلى تدارك النقص المنهجي الذي سادها لعقود طويلة.

خاتمة

إن الإرث العلمي العربي جدير بأن يشكِّل القاعدة الأساسية لانطلاق التفكير في مقاربات أصيلة لدراسة الإعلام الجديد وفهمه، سواء أكان هذا الإرث في علم الاجتماع (عبد الرحمن بن خلدون)، أم في علم النفس (ابن إسحاق الكندي وابن الصائغ بن باجة)، أو علم السياسة (عبد القادر بن عمر البغدادي، والمرتضى الزبيدي)، أو حتى في أنثروبولوجيا المنطقة العربية (أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، وأحمد بن مسكويه) وغيرهم كثير جدًّا سواء من القدماء أم المحدثين، وسواء في هذه العلوم أم في العلوم التي يمكن أن ننهل منها مبادئ نظرية ومنهجية لدراسة الإعلام الجديد.

إن وعي الباحثين والإعلاميين العرب، بالوضع السابق قائم بدليل أن الكثير منهم يصرِّحون به في الكثير من مداخلاتهم، فهذا يوسف محمد السماسيري يقول في هذا الشأن: "إن البحث العلمي في حقل علوم الإعلام والاتصال في البلدان العربية سيظل قاصرًا، ما لم يتمكن من إنتاج نظرية خاصة به، ولم يحقق استقلاليته عن النظريات الغربية، وسيتطور هذا البحث إذا وظَّف الباحثون العرب نظريات الإعلام والاتصال عندما يتمكنون من تحقيق الاستقلالية"(22). وإذا بقيت البحوث العربية في منزلة بين المنزلتين، فلا هي تملَّكت النظريات لعلوم الإعلام والاتصال بشكل خلَّاق من خلال تجريبها وتعديلها وإثرائها وتجديدها، ولا هي بادرت إلى استنباط مرجعيات جديدة وأصيلة نابعة من واقع رحم الواقع العربي، فإن هذا الوضع يؤدي إلى نتائج خطيرة منها غلبة المقاربة الوصفية (وهو المستوى الأول من البحث)، وهيمنة الأسلوب الإنشائي الخطابي والانسياق وراء التعميمات واختزال البحث في الإعلام في الدراسة الكمِّية التي لم تفض التراكمات المتواصلة إلى معارف نظرية تؤسس لشرعية العلم.

ABOUT THE AUTHOR

References

* ليس من مقاصد هذه الورقة تحديد مفهوم دقيق للإعلام الجديد، لكننا كلما استعملناه فإننا نقصد به البريد الإلكتروني، والمدونات الإلكترونية، وفيسبوك، ويوتيوب، وتويتر، والهاتف الخلوي الذكي، وآي بود.

(1) نصر الدين لعياضي، "الرهانات الإبستمولوجية والفلسفية للبحث الكيفي: نحو آفاق جديدة لبحوث الإعلام والاتصال في المنطقة العربية"، 2 يونيو/حزيران 2011، أنفاس، (تاريخ الدخول: 1 مارس/آذار 2022)، https://bit.ly/3JqQWOy

(2) المرجع السابق.

(3) أسماء لقيقط، سلامي اسعيداني، "وسائل الإعلام التقليدية في ظل زمن المكاشفة: مقاربة وصفية نقدية"، مجلة المجتمع والرياضة (جامعة الوادي، الجزائر، العدد 2، يونيو/حزيران 2021)، ص 329.

(4) Dominique Wolton, Internet et après? Une théorie critique des nouveaux médias (Paris: Flammarion, 1999), 31.

(5) محمد السيد ريان، الإعلام الجديد، (القاهرة، مركز الأهرام للترجمة والنشر، 2012)، ص 5.

(6) عبد العزيز السيد عبد العزيز، "التوجهات والمقاربات النظرية في بحوث الإعلام الجديد دراسة تحليلية"، مجلة كلية الآداب بقنا (كلية الآداب، مصر، العدد 39، 2012)، ص 469.

(7) "إيسيسكو تتوج "الحقيل" بجائزة أفضل باحث في الإعلام الجديد، المدينة، 23 ديسمبر/كانون الأول 2014، (تاريخ الدخول: 23 فبراير/شباط 2022)، https://bit.ly/3vhvdUb.

(8) Sean Aday et al., “Faire avancer la recherche sur les nouveaux médias,” United States Institute of Peace, September 14, 2010, “accessed December 10, 2021”. https://bit.ly/3JqRTGC.

(9) حميدة خامت، كمال رزوق، "المقاربات النظرية والأساليب المنهجية في دراسة وسائط الاتصال الجديدة: محاولة بحث في الإشكالات واقتراح للبدائل"، المجلة الجزائرية لبحوث الإعلام والرأي العام (جامعة الأغواط، الجزائر، العدد 2، 2020)، ص 34.

(10) Denis McQuail, McQuail’s Mass Communication Theory (Sage Publications, 2010), 467.

(11) جمال زرن، "الإعلام الجديد والإعلام العربي: أي علاقة؟" المجلة الدولية للاتصال الاجتماعي (جامعة مستغانم، الجزائر، العدد 19، 2014)، ص 146.

(12) Emmanuel Ufuophu-Biri, Nkemdilim Patrick Ijeh, “Television and Digital Resources of Communication and Entertainment as Correlates of Perceived Decline in Folktale Practice in Delta State, Nigeria,” researchgate.net, (May 2021), “accessed March 2, 2022”. https://bit.ly/3uDu5uT.

(13) انظر على سبيل المثال: أصول المدرسة البنيوية، والمدرسة السيميولوجية التي أسس معارفها رولان بارث، ومدرسة تحليل المضمون، والنصوص المنطوقة.

(14) سوسن لونانسة، ليلى بن لطرش، "الإشكاليات النظرية والمنهجية لبحوث الإعلام الجديد: قراءة تحليلية"، مجلة المعيار (جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية قسنطينة، الجزائر، العدد 47، 2019)، ص 224.

(15) انظر الدراسة القيمة التي أعدها حلمي محمود محمد أحمد محسب حول التوجهات الموضوعية والنظرية والمنهجية لدراسات الإنترنت، حيث قام بمسح المناهج والأدوات المُستعملة في المجلات المصرية ومقارنتها بالمجلات الأميركية. نتائج الدراسة جديرة بالتأمل واستخلاص الوضع المنهجي للدراسات الإعلامية في العالم العربي.  

حلمي محمود محسب، "التوجهات الموضوعية والنظرية والمنهجية لدراسات الإنترنت بالتطبيق على عينة من المجلات المصرية والأميركية"، الجامعة الإسلامية بغزة، iugaza.edu.ps، (ب.ت)، (تاريخ الدخول: 2 مارس/آذار 2022)،          https://bit.ly/35sVQMC.

(16) Sherry Turkle, Alone Together: Why We Expect More from Technology and Less from Each Other (Basic Books, 2012).

** يشير التقرير الصادر عن الاتحاد الدولي للاتصالات، عام 2015، إلى أن عدد أجهزة الهاتف الثابت في الدول العربية وصل إلى 35 مليونًا، وهذا العدد ضعيف إذا ما قورن بعدده في الدول المتقدمة، وحتى الهواتف النقالة التي شهدت تطورًا كبيرًا في بعض الدولة العربية، فإنها غير كافية مقارنة بعدد سكان الدول العربية ونطاقها الجغرافي. أما فيما يخص اقتناء الدول العربية أجهزة الحاسوب، والذي يُعد أداة أساسية لاستخدام الإنترنت، فهي متأخرة في هذا الشأن وذلك إما لارتفاع ثمنه بالنسبة للفئات المتوسطة والفقيرة، أو لتعقيد عمليات استخدامه بالنسبة إلى بعض فئات المجتمع العربي. وفي مؤشر دال في حديثنا على واقع الإعلام الرقمي في المنطقة العربية، فإن هذه الأخيرة، تبقى غير متقدمة جدًّا في مسألة توافر أحدث التكنولوجيات عالية الجودة، فكل ما لدى الدول العربية من هذه التكنولوجيات، يأتيها من الدول المتقدمة، فهي ليست مصنِّعة ولا مصدِّرة لها.

انظر تفاصيل كل هذه الإحصائيات في: عماد بن يحيى، "تقرير: مشهد تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وشبكات التواصل الاجتماعي في العالم العربي، عالم التقنية"، 22 ديسمبر/كانون الأول 2012، (تاريخ الدخول: 2 مارس/آذار 2022)، https://bit.ly/35WQ1HM.

(17) قيدوم فلة، أثر استخدام الإنترنت لدى الشباب الجامعي على وسائل الإعلام التقليدية، (أطروحة دكتوراه، جامعة الجزائر، كلية العلوم السياسية والإعلام، قسم علوم الإعلام والاتصال، 2009)، ص 12.

(18) زرن، "الإعلام الجديد والإعلام العربي: أي علاقة؟"، مرجع سابق، ص 146.

(19) الصادق الحمامي، "كيف نفكر في مواقع التواصل الاجتماعي؟ إحدى عشرة مسألة أساسية"، المجلة الأكاديمية الشهرية (جامعة منوبة، تونس، 2012)، ص 2.

(20) Serge Proulx, Francis Jauréguiberry, Usages et enjeux des technologies de communication, (Toulouse: éditions érès, 2011), 35.

(21) نبيل شايب، "آليات التحليل السيميولوجي للخطاب الإشهاري التليفزيوني: من التمثيل إلى التأويل"، مجلة الباحث في العلوم الإنسانية والاجتماعية (جامعة قاصدي مرباح، الجزائر، العدد 30، سبتمبر/أيلول 2017)، ص 102.

(22) محمد يوسف السماسيري، فلسفات الإعلام المعاصر في ضوء المنظور الإسلامي، فرجينيا، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 2008، (تاريخ الدخول: 11 ديسمبر/كانون الأول 2021)، https://bit.ly/3rP9yAS.