التفاعل الرمزي في بطولة كأس العالم بقطر ونسق إثبات وإبطال القضايا والقيم

يحاول هذا التعليق فهم وتفسير تبادل التفاعل الرمزي والتعبيرات غير الكلامية خلال مراحل وأطوار بطولة كأس العالم لكرة القدم 2022 بقطر، وقد شكَّل ذلك النواةَ الصلبة لمختلف أشكال التواصل بين الجمهور. وتساعد بعض المتغيرات في تفسير السلوك الاتصالي المُنْتِج للرموز والتعبيرات غير الكلامية، مثل البيئة الاتصالية، والنظام الإدراكي والمعرفي، والإطار الدلالي. فما دور هذه المتغيرات في نشوء الحالة الرمزية بتعبيراتها المختلفة والمشبعة بفائض من المعاني الاجتماعية والثقافية والسياسية؟ وما خصوصية هذه الحالة الرمزية نفسها وأبعادها العابرة للثقافات؟ وكيف يشتغل نسق تبادل التفاعل الرمزي "إثباتًا" و"إبطالًا" للقضايا والقيم والمعاني خلال البطولة؟
15 December 2022
المكان/الموقع والبيئة الاتصالية يؤثران في تبادل التفاعل الرمزي للجمهور واللاعبين (شبكات التواصل الاجتماعي)

من العلامات التي وَسَمَت النسخة الثانية والعشرين لكأس العالم 2022 في قطر، وستظل وَسْمًا مميزًا لهذه البطولة، هو فيض الرموز والتعبيرات غير الكلامية وكثافة المعاني التي تُنْشِئُها، وسرعة تبادلها وتشاركها بين الأفراد والمجموعات (مشجعين ولاعبين وجمهورًا) في سياق التفاعل الرمزي مع مراحل وأطوار المونديال. وقد شكَّلت هذه الرموز البصرية النواةَ الصلبة لمختلف أشكال التواصل بين الجمهور في مدرجات الملاعب، بل وفي جنبات المستطيل الأخضر، والفضاءات والساحات العامة (كتارا، سوق واقف، درب الساعي، الكورنيش، حديقة البدع، درب لوسيل...) التي احتضنت الفعاليات والأنشطة الموازية للبطولة، فضلًا عن منصات التواصل الاجتماعي. وقد سمح "المجال الكروي/الثقافي" الذي أحدثته البطولة، والبيئة المحيطة بعملية الاتصال، بتغيير نمط ونطاق النشاط الاتصالي للأفراد والمجموعات؛ حيث أصبحت الرموز غير الكلامية (الأزياء الشعبية، الأعلام الوطنية، الحركات...) بديلًا من الرموز السمعية أو المكتوبة. فبرزت صور العلم الفلسطيني، الذي كان يتوشَّح به الجمهور العربي وغير العربي ويُلَوِّح به داخل الملاعب وخارجها. كما برزت صور ارتداء الجمهور للزي العربي الخليجي التقليدي بألوان الأعلام الوطنية للدول المشاركة في المونديال. وظهرت أيضًا صور نساء من دول مختلفة يلبسن العباية (العباءة) أو الجلابية. ولا يمكن إغفال حركات اللاعبين المغاربة التي مثَّلت سلوكًا مثيرًا للانتباه -وغير مألوف في النسخ السابقة لهذه البطولة- حيث يتوجَّه اللاعب المغربي بعد انتهاء المباراة إلى المدرجات لاحتضان والدته وتقبيل رأسها.

لن يكون بوسع هذا التعليق رصد جميع الرموز والتعبيرات غير الكلامية التي برزت في إطار تبادل التفاعل الرمزي/الاجتماعي، ونسيج العلاقات التواصلية التي خلقها المجال الكروي/الثقافي وأيضًا الموقع/المكان الجغرافي، لكن، سيناقش أبرزها وأكثرها تداولًا في هذا المجال الذي كانت له تأثيرات على لغة التواصل وحمولتها الدلالية. وهنا، تبدو أهمية الرجوع إلى بعض المفاهيم التي يمكن أن تساعد في تفسير السلوك الاتصالي المُنْتِج لهذه الرموز والتعبيرات غير الكلامية، مثل البيئة الاتصالية، والنظام الإدراكي والمعرفي، والإطار الدلالي. فما دور هذه المتغيرات في نشوء الحالة الرمزية بتعبيراتها المختلفة والمشبعة بفائض من المعاني الاجتماعية والثقافية والسياسية؟ وما خصوصية هذه الحالة الرمزية نفسها وأبعادها العابرة للثقافات؟ وكيف يشتغل نسق تبادل التفاعل الرمزي إثباتًا وإبطالًا للقضايا والقيم والمعاني خلال البطولة؟

رمزية القضية الفلسطينية ومكانتها في اهتمامات الجمهور

ليست الرموز والتعبيرات غير الكلامية فعلًا اتصاليًّا حصريًّا أو غير مسبوق في النسخة الثانية والعشرين لبطولة كأس العالم في قطر، بل كانت بعض الرموز حاضرة في النسخ السابقة من البطولة بحسب السياق الثقافي والبيئة المحيطة بها (المجال الكروي/الثقافي للمونديال). لذلك انتشرت في كل نسخة من كأس العالم ملابس مستوحاة من البلد المستضيف للبطولة، فقد ارتدى المشجعون الأجانب أزياء المحاربين الرومان في النسخة الرابعة عشرة بإيطاليا عام 1990، والقبعة المكسيكية في نسخة 1986، وملابس مصارعي الثيران في النسخة الثانية عشرة بإسبانيا عام 1982، في حين تميزت نسخة جنوب إفريقيا، عام 2010، بانتشار أبواق فوفوزيلا بين المشجعين. لكن النسخة الثانية والعشرين أخذت طابعًا استثنائيًّا ومتفردًا بكل المقاييس، خاصة فيما يتعلق بتبادل التفاعل الرمزي بين جمهور المونديال والبيئة المحيطة به. فكان للمكان/الموقع الجغرافي المحتضن للبطولة دور في بروز وإثبات بعض الرموز والتعبيرات غير الكلامية والحركات الاجتماعية، وأيضًا إبطال وإلغاء بعضها الآخر من المجال الكروي/الثقافي للبطولة. وقد شكَّل هذا المكان (قطر) بأبعاده الثقافية والحضارية والإنسانية والسياسية عاملًا مساعدًا على بلورة إطار اتصالي أو بيئة اتصالية جعلت سلوك الأفراد والمجموعات نتاجًا لتأثيرات القيم السائدة في المجتمع والتفاعل معها، وكذلك نتاجًا للمناخ والظروف المحيطة بعملية الاتصال. وهذا ما عزَّز إرادة الجمهور، واللاعبين أيضًا مثل عناصر المنتخب المغربي، في رفع العلم الفلسطيني في مدرجات الملاعب والساحات والفضاءات العامة، أو التعبير عن مواقف مؤيدة لتحرير فلسطين من الاحتلال الإسرائيلي أمام كاميرات وسائل الإعلام الأجنبية، خاصة الإسرائيلية منها، كما هي حال بعض المشجعين من أميركا والبرازيل وفرنسا وبريطانيا واليابان والإكوادور وغيرهم.

ولعل ما يؤكد أهمية المكان وتأثيره في تشكيل البيئة الاتصالية وتفاعل الجمهور مع المجال الثقافي للبطولة هو ظهور بعض السياسيين الغربيين، مثل رئيسة كرواتيا السابقة، كوليندا غرابار كيتاروفيتش، التي ظهرت تحمل وشاح فلسطين خلال حضورها مباراة منتخب بلادها ضد بلجيكا، تعبيرًا عن تأييدهم للقضية الفلسطينية التي ترزح تحت الاحتلال منذ أكثر من 75 عامًا. ويعني هذا الفعل/الحدث الاتصالي تحرُّر هؤلاء السياسيين من ضغوط المكان والموقع الجغرافي لدولهم وتأثيراته السياسية التي تجعلهم غير قادرين على التعبير عن مواقفهم تجاه القضية الفلسطينية في سياق ومجال كروي/ثقافي محلي. لذلك يكون هذا التفاعل الرمزي تعبيرًا عن "إثبات" حقوق الفلسطينيين في التحرر من الاحتلال الإسرائيلي وعدالة القضية الفلسطينية التي تجد تعاطفًا ومساندة ودعمًا من الجمهور والرأي العام الدولي. كما يُعد التفاعل "إبطالًا" (إلغاء) رمزيًّا لسياسات الاحتلال التي تحارب الحق الفلسطيني في الوجود، وإقامة الشعب الفلسطيني لدولته المستقلة. وهو ما يجعل القضية الفلسطينية في بطولة المونديال بقطر عابرة للحسابات السياسية والتصورات والرؤى الأيديولوجية للجمهور الأجنبي.

وفي السياق العربي، يمثِّل التفاعل الرمزي للجمهور مع القضية الفلسطينية "استفتاء شعبيًّا" ضد التطبيع -كما جاء في تعليق للباحثة في الشؤون الإيرانية، فاطمة الصمادي- ورفضًا صريحًا لرهاناته التي تُرسِّخ السلام بالمنظور الإسرائيلي عبر طمس هوية الوجود الفلسطيني واجتثاثه من أرضه. لذلك شكَّل هذا الاستفتاء إبطالًا و"إسقاطًا" رمزيًّا لسياسة التطبيع، التي تبدو مناقضةً ومعارضةً لتطلعات الجمهور. ويؤكد التفاعل الرمزي/الاستفتاء من جانب آخر، نصرة الجمهور العربي للشعب الفلسطيني ودعمه لقضيته وصموده وإرادته في التحرر من الاحتلال الإسرائيلي، كما يُبيِّن مركزية القضية في اهتمامات هذا الجمهور، الذي قد لا يبالي بعواقب اقتحام الملاعب مثلما فعل المشجع والمدون التونسي، أمين بالآغا، خلال مباراة بلاده مع فرنسا للتعبير عن دعمه لحق الفلسطيني في التحرر من الاحتلال الإسرائيلي، وإبراز مركزية القضية في اهتماماته. وقد انتبه الإعلام الغربي إلى هذه الحقيقة مثلما جاء في المجلة الأميركية "ذا إنترسبت"، التي أشارت إلى التأييد الواسع لاستمرار مقاطعة إسرائيل منذ انطلاق بطولة كأس العالم في قطر، حيث يرفض المشجعون الاعتراف بوجود إسرائيل... ولم يكن هناك أي دعم شعبي في العالم العربي لصنع السلام مع إسرائيل في الوقت الذي لا يزال الفلسطينيون يعيشون تحت ما تسميه "الحكم العسكري الإسرائيلي". وذكرت المجلة استنادًا إلى استطلاع للرأي، أُجري في العام 2020 بعد اتفاقية أبراهام بين المغرب وإسرائيل، أن 88% من المغاربة يرفضون ما تسميه بـ"الاعتراف الدبلوماسي بإسرائيل"، أي التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي. وبلغت نسبة التونسيين الذين يرفضون التطبيع أيضًا مع إسرائيل 89%، و88% في المجتمع القطري.

يشير ذلك إلى الهوة التي تفصل هذا الجمهور واللاعبين أيضًا (والجمهور العربي عمومًا) عن سياسة التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، وتسارع وتيرته في العامين الأخيرين (اتفاق أبراهام) مع بعض الدول العربية برعاية الولايات المتحدة الأميركية، مثل الإمارات والبحرين والمغرب والسودان. وهذا ما يفسر الانتقادات الصادرة عن بعض الأصوات الإسرائيلية التي هاجمت المنتخب المغربي بعد رفع اللاعبين للعلم الفلسطيني، بل طالب آخرون مثل الكاتب الصحفي، جورج مارك بنعمو، المغرب بالاعتذار عن هذا التفاعل الرمزي مع القضية الفلسطينية، حتى تتمكن إسرائيل من الوثوق بالصداقة الجديدة للمغرب.

إذن، لا يمكن النظر إلى تفاعل الجمهور مع القضية الفلسطينية بمعزل عن دور المكان والموقع بأبعاده المختلفة، وأيضًا البيئة الاتصالية، إذ يبدو تأثيرهما واضحًا في تبادل التفاعل الرمزي بين الجمهور. وليس خافيًّا الدعم الذي تحظى به القضية الفلسطينية من قبل الدولة القطرية دبلوماسيًّا وسياسيًّا وشعبيًّا. ولذلك اجتمعت ظروف البيئة المحلية وسياقاتها السياسية والاجتماعية التي جعلت مدركات ومعارف الجمهور التي تشكَّلت لديه خلال أيام البطولة تتماثل مع دلالات ومعاني الرموز والتعبير غير الكلامية للمجال الكروي/الثقافي. ويصعب أن نتوقع هذا التفاعل في مكان وموقع آخر يدعم الاحتلال الإسرائيلي وسياسته العنصرية ضد الحقوق الفلسطينية. فمن هذا المنظور، لن تسمح البيئة المعادية للقضية الفلسطينية والداعمة للاحتلال ببروز الرموز والتعبيرات المؤيدة للقضية الفلسطينية والمطالِبة بتحرير الأراضي المحتلة.

التواصل والتعايش الحضاري

لم يكن العلم الفلسطيني وحده مركزًا لتبادل التفاعل الرمزي بين جمهور المونديال ومحيطه الثقافي والاجتماعي، بل ظهر أيضًا اهتمام هذا الجمهور، خصوصًا الجمهور غير العربي، باللباس الخليجي العربي التقليدي (الثَّوْب والشماغ والعقال)، فكان يرتدي الثَّوْب بألوان أعلامه الوطنية في الملاعب والساحات والفضاءات العامة. كما برزت صور النساء الأجنبيات اللائي يرتدين العباءة العربية التقليدية مثل مشجعات المنتخب الأرجنتيني. ويشير هذا السلوك إلى تفاعل الجمهور الأجنبي مع المجال الكروي/الثقافي، الذي يُثبِت (إثبات) التلاقي والتواصل والتعارف الحضاري بين الشعوب في بيئة اتصالية يتشارك أفرادها ومجموعاتها مدركات ومعارف متماثلة عن بعضها البعض بشأن قدرتها على التعايش والاندماج ونبذ الصراع الهوياتي والثقافي. لذلك تحوَّل هذا اللباس العربي التقليدي إلى رمز حضاري لتقارب الجمهور ووحدته في مجال مخصوص، وهو ما يُبْطِل (إبطال) الصورة النمطية عن الثَّوْب والشماغ والعقال، ويُلْغِي الدلالات السلبية التي تربط هذه الرموز بالبداوة والتخلف والإرهاب كما تُروِّج لذلك بعض الإنتاجات الفكرية والأدبية والسينمائية وأيضًا المناهج الدراسية الغربية.

ويُظهر هذا التفاعل الرمزي بين الجمهور (رجالًا ونساءً) من خلال اللباس العربي التقليدي قدرة الأفراد والمجموعات على الانتساب إلى بعضها البعض، كما لاحظ عالم الاجتماعي تشارلز كولي (Charles Cooley)، من خلال الانطباعات التي يخلقها كل منهم لدى الآخر في سياق عملية التفاعل فيما بينهم. وهو ما يعني أن الصفات الموضوعية كما توجد في الواقع لها دور كبير في ذلك، خلافًا لما ذهب إليه كولي الذي لا يرى لها تأثيرًا في هذا الانتساب. فقد سمح المجال الكروي/الثقافي، من خلال تبادل التفاعل الرمزي والاجتماعي، بتكوين "أفكار شخصية" عن البيئة المحيطة وظروف البطولة والأفراد في قطاعات مختلفة (حكومية، صحية، مصرفية، أمنية...)، وأن تصبح هذه الأفكار الشخصية بناء للمعنى وتفسيرًا للواقع. ويُعبِّر التلاقي بين الجمهور في المجال الكروي/الثقافي عن التقارب بين الأفكار الشخصية التي شكَّلها الأفراد والمجموعات عن بعضهم البعض.      

إبطال المثلية في البطولة

في المقابل، تُظهر البيئة الاتصالية مرة أخرى قدرتها على إبطال بعض الرموز التي تتنافر مع المحيط الثقافي والاجتماعي للبطولة، وأيضًا المكان/الموقع، كما هو شأن الشارة متعددة الألوان التي أُرِيد لها دعم المثليين، وأن تكون "ضد أي نوع من التمييز". وعلى الرغم من المساعي التي بذلتها بعض الاتحادات الأوروبية (ألمانيا وإنجلترا وبلجيكا وسويسرا وهولندا والدنمارك...) لدعم المثليين خلال مباريات بطولة كأس العالم لكرة القدم، فإن خصوصية المكان بمرجعياته وموروثه الثقافي والحضاري أبطلت تبادل التفاعل الرمزي مع رغبة البعض في "التطبيع" مع المثلية ليصبح "مجتمع الميم" جزءًا من النسيج المجتمعي والهوياتي في الثقافات المختلفة. لذلك تفاعل الجمهور في البطولة مع حركة لاعبي المنتخب الألماني الذين وضعوا أيديهم على أفواههم قبل انطلاق مباراتهم الأولى مع اليابان احتجاجًا على رفض الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) السماح لهم بحمل شارة دعم المثليين. فقد رفع المشجعون صور اللاعب الألماني السابق، مسعود أوزيل، واضعين أيديهم على أفواههم تذكيرًا لألمانيا بـ"العنصرية" التي تعرَّض لها أوزيل ذو الأصول التركية، كما يرى البعض، و"البروباغندا اليمينية المتطرفة" في الإعلام الألماني ضده بعد ظهوره في صورة مع الرئيس أردوغان. وحين كشفت وزيرة الداخلية الألمانية عن شارة دعم المثليين، ردَّ عليها بعض المشجعين بارتداء شارة مناصرة فلسطين. أما لاعبو المنتخب الياباني، فقد وضعوا أيديهم على أفواههم بعد نهاية المباراة التي جمعتهم مع المنتخب الألماني، في حركة بدت ساخرة مستهجِنةً ما أقدم عليه اللاعبون الألمان.

يشير هذا التفاعل الرمزي الرافض لسلوك لاعبي المنتخب الألماني إلى أهمية دور المكان/الموقع والبيئة الاتصالية في تعزيز معان مشتركة حول موضوع المثلية الذي لا يشكِّل أولوية في اهتمامات الجمهور، بل يُعد من المسائل غير المُفَكَّر فيها داخل المجال الكروي/الثقافي للبطولة لاعتبارات مختلفة دينية وثقافية. وقد استطاع الجمهور باختلاف هوياته وانتماءاته أن يُحدِّد القضايا المشتركة التي تشغل اهتمامه إثباتًا وإبطالًا. لذلك أسهم المكان/الموقع وتبادل التفاعل الرمزي في خلق حقل أو إطار دلالي موحَّد حول تلك القضايا بعد الخبرة المعرفية التي اكتسبها الجمهور المتنوع من خلال التواصل والاحتكاك والتعارف والتلاقي والتعايش. 

إثبات وتعزيز القيم الأسرية

من الرموز والتعبيرات غير الكلامية التي ستظل وسمًا مميزًا لبطولة كأس العالم في قطر هو الحركات (السلوكات) التي صدرت عن لاعبي المنتخب المغربي بعد انتهاء كل مباراة يخوضها خلال مراحل البطولة. فقد كان اللاعبون يتوجهون، مصحوبين بمدرب المنتخب، وليد الركراكي، إلى المدرجات لتقبيل رؤوس أمهاتهم. وهو مشهد احتفالي غير مألوف في ملاعب كرة القدم أراد له اللاعبون أن يكون تعبيرًا رمزيًّا عن التقدير والامتنان لمصدر العطاء غير المتناهي، الأم، والاعتراف بتضحياتها خلال مسيرتهم الرياضية، التي جعلتهم اليوم نجومًا يتألقون فوق المستطيل الأخضر ويسهمون في صنع تاريخ جديد للمشاركة المغربية خلال هذه البطولة.

لقد أثارت صور اللاعب أشرف حكيمي وهو يُقبِّل رأس والدته، وكذلك صور سفيان بوفال، الذي احتفل بفوز المنتخب المغربي على البرتغال مع والدته على أرضية الملعب، ردود أفعال كثيرة توقفت عند معان مختلفة لهذا السلوك الرمزي الذي يُذكِّر بالقيم الأخلاقية والثقافية والحضارية التي ينتمي إليها هؤلاء اللاعبون، ويُبيِّن المكانة التي تحظى بها الأم في حياتهم. وقد تداولت وسائل الإعلام العالمية تلك المشاهد على نطاق واسع، وأرفقتها بتعليقات وقراءات قارنت فيها تلك القيم مع قيم الفردانية السائدة في المجتمعات الغربية خاصة. ولا شك أن المكان/الموقع والبيئة الاتصالية أسهمتا في خلق هذا الإطار الدلالي القيمي حول مكانة الأم بل وعزَّزته في سياق تبادل التفاعل الرمزي مع الجمهور الذي أبدى الإعجاب والترحيب بهذا السلوك. وهو ما جعل البطولة تأخذ طابعًا عائليًّا يمثِّل مصدرًا لإلهام اللاعبين.

تُشير هذه التعبيرات الرمزية للاعبي المنتخب المغربي، الذي سمَّاه البعض بـ"منتخب الأمهات" و"منتخب المرضيين"، إلى مسألة مهمة، في سياق الإطار الدلالي القيمي الذي خلقته البطولة حول مكانة الأم، ترتبط بـ"إثبات" نموذج العلاقة المثلى بين الأبناء والوالدين، ولاسيما الأم، وهو نموذج يقوم على الإحسان والتقدير والاحترام والوفاء، وإبطال ما سواه، خاصة "النماذج التافهة" في المجال الفني، والتي تُجاهِر بكل الموبقات ولا تُقيم وزنًا لمنظومة القيم والأخلاق، بل يُفسَح لها في المجال؛ حيث تستغل كل الفضاءات لتكون مثالًا للشباب في بعض المجتمعات العربية. لكن يبدو أن البيئة الاتصالية للبطولة والإطار الدلالي القيمي الذي خلقته جعل هذه النماذج التافهة تتوارى في الخلف. 

خلاصة

أظهرت بطولة كأس العالم لكرة القدم 2022 في قطر خصوصية تبادل التفاعل الرمزي للجمهور، الذي أبرز مركزية بعض القضايا التي تشغل اهتماماته وتمس حياته اليومية (التعايش مع الآخر، التضامن مع فلسطين، رفض التطبيع، إعلاء القيم الأسرية...) وقد لا تكون ذات القضايا التي تثير اهتمام الساسة في الغرب والشرق. وكان هذا التفاعل الرمزي في كل مرة يُثبِت بعض القضايا التي تتصدر أولوياته ويُبطل أخرى ويعمل على إلغائها، وهو ما يؤكد دور المكان/الموقع في تشكُّل الإطار الدلالي القيمي للبطولة، وتأثير البيئة الاتصالية في نطاق النشاط الاتصالي للأفراد والمجموعات.   

ABOUT THE AUTHOR