مستقبل التنافس الأميركي الصيني على القارة الإفريقية

تناقش هذه الورقة التموضع الصيني والأميركي ذا الطابع الإستراتيجي في القارة والموانئ الإفريقية، فضلًا عن إستراتيجية الصين "مبادرة الحزام" والموانئ الإفريقية مقابل إستراتيجية أميركا العسكرية، لتتناول التنافس الاقتصادي من خلال حجم الصادرات للدول الإفريقية، وتختم بمستقبل التنافس الأميركي-الصيني في إفريقيا.

تتميز إفريقيا بالعديد من المواقع الإستراتيجية سياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا، وتعد حلقة الوصل بين الشرق والغرب. تتمركز القوى الدولية في إفريقيا على المدن الساحلية بمنظورات مختلفة للموقع وفق سياساتها الدولية خاصة على الصعيد العسكري والاقتصادي؛ حيث تمثل القارة موضع قدم إستراتيجيًّا عالميًّا يعزز التحركات التكتيكية العسكرية في ظل ظهور العديد من الدول على الساحة الدولية كقوى دولية وحرص أميركا وجيشها على استمرار هيمنتها البحرية والعسكرية على العالم.

تشهد إفريقيا تنافسًا متزايدًا بين القوى الدولية وتسعى كل دولة لرفع تأثيرها السياسي والاقتصادي باستخدام كل الأدوات فنجد أميركا والصين وروسيا وفرنسا وبريطانيا تعمل على تنظيم مؤتمرات كبرى بشكل دوري لتعزز الحضور والتأثير، وبالرغم من التموضع القوي للعديد من قوى الاستعمار في القارة الإفريقية إلا أنه يمكن مشاهدة تنامي الحضور الصيني والروسي في إفريقيا على حساب أميركا والدول الاستعمارية السابقة في بعض المؤشرات. يتنافس العديد من الدول على التموضع الإستراتيجي داخل إفريقيا من أجل الحفاظ على مصالحه، وتمتلك 12 دولة أجنبية قواعد ومنشآت عسكرية (انظر الخريطة 1). ويمكن ملاحظة أن التمركز الأعلى للمنشآت العسكرية الأجنبية يقع في القرن الإفريقي وغرب إفريقيا، حيث تتفاوت المصالح الإستراتيجية وفقًا للمنطقة(1). تكمن أهم الدوافع في: أولًا: حماية المصالح الاقتصادية، ثانيًا: منافسة القوى الصاعدة وإبراز القوة، ثالثًا: الحفاظ على العلاقات التاريخية.

ليس شرطًا أن يكون التنافس بين الصين وأميركا حصرًا أو بين روسيا وأميركا، لكن يمكن أن نجد تنافسًا بين الصين واليابان وبين الهند والصين وغيرها من الدول الأخرى. فحماية الاستثمارات وتأمين طرق تجارتها والمصادر الرئيسية للمواد الخام التي تحصل عليها من إفريقيا هي النقاط التي تتنافس عليها القوى الأجنبية، ومع ذلك يمكن ملاحظة تراجع الاحتلال المباشر للدول الإفريقية بالمقارنة مع القرن الماضي فيما يتصاعد الحضور التكتيكي، لكن هذا التموضع أيضًا معرض للخطر في ظل تنامي وعي الشعوب الإفريقية وتصاعد الأصوات المطالبة بطرد القوات العسكرية. فيما تحرص بعض الأنظمة الحاكمة على جلب قواعد عسكرية على أراضيها من أجل تأمين نظام حكمها.

مؤخرًا ظهر تأثير الدول الإفريقية في الحرب الروسية الأوكرانية في اجتماعات مجلس الأمن والجمعية العمومية للأمم المتحدة، ففي فبراير/شباط 2022، كان لإفريقيا (54 دولة 27.97٪ من مجموع أصوات الجمعية العمومية) تأثير كبير على نتائج التصويت حول القرارات التي دفعت الدول الغربية لإصدارها، حيث ذهبت أميركا و94 دولة إلى الدعوة لاجتماع طارئ للجمعية العامة للأمم المتحدة بعد الفيتو الروسي في مجلس الأمن بتقديم اقتراح غير ملزم، وهو أول اجتماع طارئ للجمعية منذ 40 عامًا. انحازت غالبية البلدان الإفريقية إلى أوكرانيا -28 من أصل 54 (51.85٪)- فيما صوتت إريتريا فقط ضد القرار. لكن ما يقرب من الثلث امتنع عن الانحياز (17 من 54)؛ هذا إذا فُهم أن الامتناع عن التصويت يقع في منتصف الطريق بين نعم ولا بجانب غياب 8 دول(2). وهو ما يعطي مؤشرًا على تراجع التأثير والنفوذ السياسي للدول الغربية على القارة الإفريقية مع تنامي تأثيرها في السياسة الخارجية.

تشهد القارة الإفريقية معدل نمو متسارعًا لسكان المدن والقرى حيث تراجعت نسبة سكان الريف مقابل سكان الحضر في إفريقيا من 84٪ سنة 1955 إلى 43.4٪ من إجمالي سكان إفريقيا في سنة 2019؛ ما يجعل من إفريقيا سوقًا استهلاكية مهمة للدول المنتجة الكبرى، وهو ما يدفع تلك الدول للتنافس فيما بينها للحصول على أكبر حصة من السوق والاستحواذ على الثروات الطبيعية والمواد الأولية.

أطلقت أميركا وبريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي مبادرة باسم "شراكة أمن المعادن" لتنسيق جهودها داخل إفريقيا مقابل الصين للعمل على استخراج المعادن النادرة، وقد اجتمعت على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة لمناقشة مشاريع استخراج المعادن للحد من تنامي سيطرة الصين على العناصر المهمة المستخدمة في صناعة السيارات الكهربائية، والهواتف المحمولة، والطائرات المقاتلة، وغيرها(3). وشهدت أسعار "المعدن الأخضر" زيادة بنسبة 500٪ تقريبًا سنة 2021(4)، وهو ما يعزز من تحول التنافس إلى صراعات من أجل الهيمنة على المناجم والضغط على الدول الإفريقية.

نناقش من خلال المحاور التالية أهم الملفات التي يتنافس عليها كل من أميركا والصين وبيان أوجه التفوق لكل طرف، ونختم بنظرة تحليلية حول مستقبل التنافس في القارة.

أولًا: التموضع الإستراتيجي في القارة والموانئ الإفريقية

تتقاطع إفريقيا مع أربع نقاط إستراتيجية من أصل ثمان حول العالم (قناة بنما - قناة السويس - مضيق ملقا - مضيق هرمز - مضيق باب المندب - رأس الرجاء الصالح - مضيق البوسفور التركي - مضيق جبل طارق). وهو ما يجعل إفريقيا موضع تنافس بين القوى الدولية للسيطرة على طرق التجارة وتعزيز تموضعها العسكري على المستوى الإستراتيجي والتكتيكي. وبمراجعة خريطة القواعد العسكرية سنجد أن القواعد العسكرية تقع بالقرب من المضائق البحرية وطرق الملاحة الإستراتيجية ما يضعها في موقع تفوق أمام القوى الأخرى ويعزز من هيمنتها ونفوذها.

قناة السويس لا تزال أسرع وصلة تجارية بحرية مباشرة بين آسيا وأوروبا. يمر ما يقرب من 12٪ من التجارة العالمية خلالها، وهو ما يمثل 30٪ من إجمالي حركة الحاويات العالمية، وما يزيد عن تريليون دولار أميركي من البضائع سنويًّا. في عام 2020، استخدمت ما يقرب من 19 ألف سفينة قناة السويس(5). كذلك يعد مضيق جبل طارق أحد النقاط الإستراتيجية في إفريقيا؛ حيث يلعب دورًا محوريًّا في حركة التجارة الدولية نظرًا لموقعه الحرج بين البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي، والذي يمر من خلاله أكثر من 100 ألف سفينة كل عام للأغراض التجارية، مع أكثر من 300 سفينة في اليوم لنقل البضائع الثقيلة(6). فيما يمر نحو 4.9 ملايين برميل من النفط يوميًّا من رأس الرجاء الصالح في أقصى جنوب إفريقيا، أي ما يقرب من 9٪ من إجمالي تجارة النفط البحرية في عام 2013 فيما يمر 3.2 ملايين برميل يوميًّا من قناة السويس في مصر، ويتجاوز 4 ملايين برميل في حال إضافة خط أنابيب سوميد الذي يصل بين البحر الأحمر والبحر المتوسط، أما مضيق باب المندب فيمر من خلاله نحو 3.8 ملايين برميل يوميًّا(7). يمكن ملاحظة تنامي القواعد العسكرية في منطقة القرن الإفريقي مع تزايد الاعتداءات على السفن التجارية في سواحل القرن الإفريقي وبالتحديد في الصومال، وهو ما وجده العديد من الدول فرصة لإنشاء قواعد عسكرية لها.

إستراتيجية الصين "مبادرة الحزام" والموانئ الإفريقية مقابل إستراتيجية أميركا العسكرية

تواجه الصين تحديًا كبيرًا في ظل توسع مصالحها الاقتصادية في السوق العالمية من الناحية الأمنية؛ فهي لا تمتلك القدرة المناسبة لحماية مصالحها العالمية خارج نطاق إقليمها وخاصة في إفريقيا. حيث تعد الممرات البحرية أهم طرق التجارة التي تربط الصين بالعالم حيث تعتمد التجارة الصينية بنسبة 90٪ على الممرات البحرية. وبالتالي، فإن افتقاد الصين لقوة بحرية قوية يعد نقطة ضعف وتهديدًا لمصالحها. تمر واردات النفط التي تستهلكها الصين من إفريقيا والشرق الأوسط وآسيا الوسطى بشكل أساسي عبر الممرات البحرية، وهو ما يعد نقطة قد تستغلها القوى الدولية لإضعاف تنامي القوة الاقتصادية الصينية(8).

يمكن فهم تحركات الصين الإستراتيجية وفق مبادرة "الحزام الواحد"، وهو عبارة عن اندماج لمخططَيْ تنمية، الأول: هو طريق الحرير البري، والثاني: طريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين، كما هو ظاهر في الخريطة رقم 2 التي توضح تقاطع "الحزام الواحد" مع القارة الإفريقية عبر الممرات البحرية والطرق البرية التي تستثمر بها(9). يمر الطريقان على 65 دولة بها 62٪ من سكان العالم، وأكثر من 35٪ من تجارة البضائع عالميًّا، ونحو 30٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. وقد خصصت الصين استثمارات بقيمة 150 مليار دولار، وتستثمر بشكل كبير في مجال الطاقة الكهرومائية والسكك الحديدية والموانئ، وبدرجة أقل في قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات(10).

في المقابل، تعتمد أميركا على قواتها البحرية وأساطيلها الحربية المنتشرة حول العالم لاستمرار هيمنتها، حيث أشار ألفريد ماهان الذي عمل في القوات البحرية الأميركية، والمطور النظري والمنهجي لمفهوم القوة البحرية الأميركية(11)، إلى النقاط الرئيسية التالية التي بنت عليها أميركا قوتها البحرية، وهي:

أولًا: قيادة البحر هي العامل الأساسي للسيطرة على العالم من خلال السيطرة على المحيطات، وخاصة على طرق التجارة الرئيسية، لأنها العامل الأساسي الذي يسهم في قوة وازدهار أي بلد.

ثانيًا: تتكون القوة البحرية من موقع جغرافي ملائم مع إمكانية الوصول إلى المحيطات الرئيسية، وقواعد اللوجستيات البحرية المنشأة في موانئها الساحلية الخاصة، وأسطول تجاري حديث، وقوة بحرية قوية، فمع هذه القوة يمكن لأي بلد أن يزدهر ويحافظ على مكانته المهيمنة على الساحة الدولية.

ثالثًا: الهدف الإستراتيجي للبحرية هو هزيمة أسطول العدو في معركة حاسمة للسيطرة على البحر، والقضاء على سفن العدو وأساطيله، بغض النظر عن الوقت، الذي يعتمد على تحقيق هزيمة للأسطول القتالي للعدو. ومن أجل تحقيق هذه الغاية، أشار ألفريد إلى وجوب بناء أسطول قوي لتدمير أسطول العدو.

رابعًا: أشار ألفريد إلى أن البحرية الأميركية هي أساس هيمنة أميركا، وقال: إن عليها إنشاء قوة بحرية قوية يمكنها تنفيذ المعارك في المحيط الأطلسي والمحيط الهادئ على التوالي في نفس الوقت من أجل تحقيق الهيمنة على العالم والحفاظ عليها.

لذلك، تعمل أميركا بشكل مستمر على تطوير قدراتها العسكرية لأساطيلها البحرية لمواكبة التهديدات التي يمكن أن تشكِّلها الصين وروسيا مستقبلًا، وهو ما تؤكد عليه دائمًا وزارة الدفاع الأميركية في تقاريرها التي تصدرها فيما يتعلق بالأمن القومي الأميركي، والتي ترى أن المحيطات تربط الأسواق العالمية وتوفر الموارد الأساسية وتربط المجتمعات معًا. كما يُنقل نحو 90٪ من التجارة العالمية عن طريق البحر، ما يسهم في 5.4 تريليونات دولار من أميركا من حجم التجارة السنوية والتي تدعم نحو 31 مليون وظيفة أميركية، كما يمر نحو 95٪ من الكابلات البحرية للاتصالات الدولية وحوالي 10 تريليونات دولار في المعاملات المالية يوميًّا(12).

تعد الموانئ إحدى ساحات التنافس بين الصين وأميركا في إفريقيا، فهي تشكِّل البنية التحتية واللوجستية عسكريًّا واقتصاديًّا وفق نظرية القوة المهيمنة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. تستثمر الصين بشكل واسع وكبير في الموانئ في إفريقيا من خلال شركاتها بالتمويل أو البناء والتأهيل أو بالإدارة. استثمرت الصين فيما لا يقل عن 46 ميناء على طول الخط الساحلي الشرقي والغربي لإفريقيا، والتي بُنيت وأعيد تأهيلها وفقًا لمواصفات البحرية لجيش التحرير الشعبي (PLA) ، وهذه الموانئ تمركزات تتيح الوصول إلى مياه المحيط الأطلسي والمحيط الهادئ(13). أحد الأمثلة على التوتر الأميركي-الصيني هو ما يحدث في ميناء باتا في دولة غينيا الاستوائية حيث تعمل الصين على إعادة تأهيل وتوسيع ميناء باتا الإستراتيجي، وهو ما قيَّمته تقارير استخبارية أميركية بأنه قاعدة بحرية عسكرية صينية تهدد الأمن القومي الأميركي لقربه من السواحل الأميركية(14).

ثانيًا: الحضور العسكري والأمني

تتفوق أميركا على الصين في حجم الصادرات العسكرية لإفريقيا؛ فبحسب الدراسة التي نشرها معهد سيبري المتخصص في رصد الصفقات العسكرية في العالم، بلغ حجم الصادرات الأميركية في الفترة الممتدة من عام 2000 وحتى 2018 نحو 10.34 مليارات دولار فيما بلغ حجم صادرات الصين في نفس الفترة نحو 4.13 مليارات دولار(15). تعد المعدات العسكرية عاملًا رئيسيًّا في تطور العلاقة بين الدول الإفريقية مع القوى الدولية. في الفترة الأخيرة الممتدة من 2017 وحتى 2021، بلغ حجم الواردات العسكرية الروسية نحو 44٪ من إجمالي واردات الأسلحة الرئيسية وهي تصل إلى قرابة النصف (49٪) إذا أضيفت الأسلحة الصغيرة (المسدسات والبنادق الهجومية، مثل بندقية كلاشينكوف و (AK-200 ، تليها أميركا بنسبة (17٪) ثم الصين (10٪) وفرنسا (6.1٪). وهو يجعل أميركا متقدمة على الصين بالرغم من سرعة تنامي الحضور الصين العسكري.

بالرغم من التفوق العسكري الأميركي على الصين إلا أنه يمكن ملاحظة تزايد تعداد الشركات الأمنية الصينية الخاصة في إفريقيا لحماية مصالحها وهو توجه صيني جديد يمثل سياسة جديدة تجاه استثماراتها وتحركاتها في إفريقيا؛ الأمر الذي يمكن أن يمثل ورقة ضغط على الأنظمة والحكومات الإفريقية في ظل تنامي الدين الصيني للدول الإفريقية وهو ما يغنيها عن الوجود العسكري الرسمي المكلف سياسيًّا وماليًّا(16).

ثالثًا: التنافس الاقتصادي: حجم الصادرات للدول الإفريقية

يمكن ملاحظة تفوق الصين على أميركا اقتصاديًّا بشكل مطرد في معظم المؤشرات الاقتصادية، ففي عام 2000، كانت الصين المصدر الرئيسي للواردات لعدد قليل من البلدان الإفريقية، وهي: السودان، وغامبيا، وبنين، وجيبوتي. ولكن بعد 20 عامًا، أصبحت أكبر مورد للسلع لأكثر من 30 دولة في القارة. وذلك بعد تنامي العلاقات الصينية-الإفريقية بشكل مكثف خلال العقدين الماضيين. حيث قفزت قيمة الصادرات الصينية إلى الدول الإفريقية من 5 مليارات دولار إلى 110 مليارات. كما ارتفعت كذلك الصادرات الإفريقية إلى الصين لكن بوتيرة أبطأ. ففي عام 2019، بلغ إجمالي قيمة الصادرات الإفريقية إلى الصين نحو 80 مليار دولار وذلك بعد ارتفاع الطلب الصيني على المواد الخام التي بلغت نحو 17.5 مليار دولار أميركي في عام 2019(17). وفي خلال عام 2021، ارتفعت قيمة التجارة بين إفريقيا والصين بنسبة 35٪ لتصل إلى 254 مليار دولار، ويرجع ذلك أساسًا إلى زيادة الصادرات الصينية إلى القارة(18).

حجم الاستثمارات المباشرة

عند الرجوع لمؤشر "الاستثمار الأجنبي المباشر في الخارج" في إفريقيا منذ عام 2003 سنجد أن الصين تسير بوتيرة مرتفعة ثابتة بالمقارنة مع أميركا، فقد تجاوزت تدفقات الاستثمار الصيني المباشر إلى إفريقيا التدفقات الأميركية منذ عام 2013، حيث انخفضت تدفقات الاستثمار الأميركي المباشر منذ عام 2010 بالرغم من تنامي حجم الاستثمارات الصينية وتراجع الاستثمارات الأميركية خلال العقد الأخير إلا أن إجمالي حجم الاستثمارات الأميركية خلال الفترة الممتدة من 2003 وحتى 2020 بلغت نحو 46.3 مليار دولار فيما بلغ حجم الاستثمارات الصينية خلال نفس الفترة 46 مليار دولار(19)، كما هو ظاهر في الجدول والإحصائية التالية، وهو ما يعني أن الكفة شبه متساوية بين الدولتين في إجمالي حجم الاستثمارات ما يعني أن الفرصة لا تزال متاحة لأميركا للعودة إلى إفريقيا من جديد.

أميركا الصين

السنة

2.7 0.1

2003

1.6 0.3

2004

2.6 0.4

2005

5.2 0.5

2006

4.5 1.6

2007

3.8 5.5

2008

10.4 1.4

2009

7.4 2.1

2010

5.3 3.2

2011

2.6 2.5

2012

1.5 3.4

2013

2.4 3.2

2014

0.8 3.0

2015

-2.7 2.4

2016

0.5 4.1

2017

-1.2 5.4

2018

-3.4 2.7

2019

2.1 4.2

2020

46.3 46

إجمالي حجم الاستثمارات

2

حجم الديون وأثرها على الدول الإفريقية

تتبع الصين إستراتيجيتين شاملتين تجاه إفريقيا فيما يخص الديون؛ الأولى: الاستثمار مقابل البنية التحتية. الثانية: القروض مقابل المواد الخام؛ وتعتبر الصين الدائن الرئيسي للعديد من الدول الإفريقية، حيث تمثل الديون الصينية نحو 12٪ من إجمالي الدين الخارجي الخاص والعام لإفريقيا، والذي بلغ 696 مليار دولار عام 2020(20).

تختلف إستراتيجية الديون التي تتبناها الصين تبعًا للوضع الاقتصادي والسياسي للدولة التي تقرضها؛ فإستراتيجيتها تجاه إثيوبيا تختلف اختلافًا جوهريًّا عنها تجاه الكاميرون. فقد أثَّرت كورونا والصراعات الداخلية على الوضع الاقتصادي والاجتماعي للعديد من البلدان؛ مما أدى إلى احتياج هذه البلدان إلى مساعدات مالية. أقرضت الصين إثيوبيا ما يقرب من 13.7 مليار دولار منذ عام 2000 بينما ألغت 78 مليون دولار من ديون الكاميرون؛ مما أسهم في تخفيف العبء عنها. في المقابل، اتخذت الصين خطوة من أجل الحصول على الموارد الطبيعية في المنطقة. تثار التساؤلات حول ما إذا كان استثمار الصين آمنًا في إثيوبيا، خاصة بعد حرب تيغراي. يعد نموذج سريلانكا مؤشرًا مهمًّا لفهم مآلات الديون الصينية الكبيرة لدى الدول الإفريقية؛ ففي عام 2017، أُجبرت سريلانكا على تسليم ميناء هامبانتوتا إلى الصين بموجب عقد إيجار لمدة 99 عامًا عندما كافحت الحكومة السريلانكية لسداد ديونها(21).

تظهر الإحصائية التالية حجم الديون الصينية الأعلى على الدول الإفريقية:

3

حجم المساعدات الأميركية والصينية في إفريقيا

بلغ إجمالي المساعدات التي قدمتها أميركا للدول الإفريقية نحو 95.8 مليار دولار في الفترة الممتدة من 2012 وحتى 2020 فيما بلغ حجم المساعدات الصينية في نفس الفترة نحو 24.9 مليار دولار، وفي عام 2021، قدمت أميركا مساعدات كبيرة وصلت إلى 13.35 مليار دولار، وتعد أكبر مساعدات(22).

يوضح الجدول التالي والإحصائية حجم المساعدات لكل سنة في الفترة الممتدة من 2012 وحتى 2020 والتي تظهر تفوق أميركا على الصين، بل على كل الدول المانحة، وهو ما يجعل المساعدات أداة قوة فعالة تستخدمها في سياساتها الخارجية.

المساعدات الصينية لإفريقيا بالمليار دولار

المساعدات الأميركية لإفريقيا بالمليار دولار

 

2.52

10.19

2012

2.68

10.80

2013

2.82

10.24

2014

2.97

10.12

2015

3.01

10.58

2016

2.26

11.80

2017

2.60

11.02

2018

2.97

9.69

2019

3.09

11.42

2020

24.9

95.8

إجمالي

7

الصراع على المعادن النادرة

في جمهورية الكونغو الديمقراطية، تخوض شركة التعدين الصينية العملاقة Zijin معركة قانونية مع معادنAVZ  الأسترالية للسيطرة على منجم Manono الذي يُحتمل أن يكون أكبر منجم لرواسب الليثيوم في العالم في شرق البلد الغني بالموارد. في زيمبابوي أيضًا، موطن الرواسب الكبيرة غير المستغلة تشتري الصين المناجم. ففي صفقة كبرى، تستثمر شركة (Zhejiang Huayou Cobalt)  422  مليون دولار في منجم أركاديا الليثيوم، فيما ستُستخدم الأموال لبناء مصنع بطاقة معالجة 400 ألف طن متري من الليثيوم المركز في السنة(23). فيما دفعت شركة 76.5 (Chengxin)  مليون دولار في 2021 مقابل 51٪ من شركة تمتلك كتلًا معدنية من الليثيوم والأتربة النادرة في زيمبابوي(24).

تسيطر شركة صينية واحدة، هي "CATL" على نحو 30٪ من سوق بطاريات السيارات الكهربائية في العالم. وقد تضخمت قيمة CATL إلى 179 مليار دولار، أكثر من جنرال موتورز وفورد مجتمعتين(25). في عام 2019، صدَّرت الصين نحو 80٪ من واردات أميركا من العناصر الأرضية النادرة(26).

معادن الأرض النادرة هي في الواقع أكثر وفرة مما يوحي اسمها، ولكن الاستخراج والمعالجة والتكرير صعبة لعدد لا يحصى من الأسباب التقنية والبيئية. فغالبًا ما يكون من الصعب الحصول على العناصر الأرضية النادرة الثقيلة. وهي تشمل معادن مثل الديسبروسيوم والتيربيوم، والتي تلعب دورًا مهمًّا في الدفاع والتكنولوجيا والمركبات الكهربائية. ومع ذلك، تجادل دراسة حديثة بأن شركة (أنجلو أميركان) تأتي في المرتبة الأولى بحصة تصل لنحو 15٪ فيما تأتي الشركات الصينية بنسبة تصل لنحو 6.7٪ من إنتاج المعادن في إفريقيا. ومع ذلك، تدخل تلك النسبة ضمن المعادن المهمة في الصناعة كما أشرنا في معدن الليثيوم، وفي مثال آخر يظهر التقدم الصيني في استخراج معدن النحاس في بعض الدول الإفريقية والتي تأتي في المرتبة الأولى بنسبة 28٪ من إجمالي إنتاج إفريقيا. وفي عام 2020، كانت الصين أكبر منتج ومستهلك للألمنيوم وكذلك في استخراج معدن البوكسيت من غينيا التي تتحكم الصين في عملية التعدين هناك؛ حيث أنتجت غينيا 82 مليون طن ما يعادل 22٪ من إمدادات العالم(27).

خاتمة: مستقبل التنافس الأميركي-الصيني في إفريقيا

بالرغم من الخطوات الكبيرة التي اتخذتها الصين خلال العقدين الماضيين في إفريقيا في جميع القطاعات والمجلات إلا أن الحضور الأميركي ومعه الدول الأوروبية لا يزال فاعلًا وقادرًا على مجاراة الصين واللحاق بها خاصة فيما يتعلق بالاستثمارات وبناء الشركات لكن سيتطلب بلا شك رؤية سياسية مغايرة عن التي كانت تنتهجها في سياساتها الخارجية مع الدول الإفريقية. استطاعت الصين أن تتموضع إستراتيجيًّا في إفريقيا وتحقق مكاسب إستراتيجية عبر استثماراتها في البنية التحتية والتعدين وفق رؤيتها التي أعلنت عنها وهي مبادرة "حزام واحد"، لذلك تمتلك الصين عنصر تفوق يتمثل في امتلاكها لرؤية تنموية، بالمقارنة مع السياسات الأميركية التي تفتقر لرؤية تنموية تشاركية.

قد يُنظر إلى تحركات الصين في إفريقيا فيما يتعلق بالديون والاستثمارات على أنها نموذج استثمار كبير الحجم وعالي المخاطر من قبل أوروبا وأميركا، لكن في الحقيقة تستخدم الصين هذه الديون أدوات قوة لتعظيم حجم تأثيرها ونفوذها في الدول الإفريقية، فالصين تستفيد من المشاريع التي تنفذها بتلك القروض في تحقيق أهدافها طويلة الأجل المتمثلة في مبادرة "حزام واحد" الذي يهدف لربط وسط إفريقيا بطريق الحرير، وفي نفس الوقت يفتح المجال للصين لوضع يدها على الأصول الإستراتيجية كالمطارات والموانئ والسكك الحديد في حال تعثر الدول الإفريقية في سداد ديونها. وكانت الدول الغربية تتوقع أن تتعثر المشاريع الاستثمارية الصينية بإفريقيا فوجئت بنتائج غير مرجوة وسريعة.

في المقابل، تتفوق أميركا والدول الأوروبية في التموضع الإستراتيجي العسكري في القارة أو حولها ما يجعلها تمتلك عنصر المبادرة عند وجود تهديدات لمصالحها. ومع ذلك، يمكن ملاحظة تراجع عدد القواعد العسكرية مؤخرًا لعدد من الدول الأوروبية وعلى وجه الخصوص فرنسا، ومع ذلك تنظر وزارة الدفاع الأميركية للاستثمارات الصينية في الموانئ على أنها تهديد عسكري محتمل يهدد الأمن القومي الأميركي كاستثمار الصين في ميناء باتا في غينيا الاستوائية. ومع ذلك، فإن دخول الصين في مجال الشركات العسكرية والأمنية الخاصة في إفريقيا لحماية استثماراتها سيُكسبها قوة ونفوذًا كبيرين داخل الدول الإفريقية، بالرغم من أن الصين لا تتدخل في الشؤون الداخلية للدول الإفريقية عكس أميركا إلا أن امتلاك الأدوات قد يجعل الصين تستخدمها مستقبلًا كما تستخدم الديون المتعثر سدادها للسيطرة والتحكم في الأصول الإستراتيجية. في النهاية، يمكن القول: إن التقدم الصيني قد يواجه تحديات أمنية في حال حاولت أميركا وقوى الاستعمار القديم استعادة تأثيرها وكبح التقدم الصيني لكن بلا شك سيظل تاريخها الأسود عقبة وعنصر مقارنة مع الصين.

خريطة 1 القواعد العسكرية الأجنبية داخل القارة الإفريقية
خريطة 1 القواعد العسكرية الأجنبية داخل القارة الإفريقية
خريطة 2 تقاطع مبادرة الحزام الواحد الصينية مع القارة الإفريقية
خريطة 2 تقاطع مبادرة الحزام الواحد الصينية مع القارة الإفريقية

 

ABOUT THE AUTHOR

References

1- Karolina Gasinska (ed.), Samuel Bergenwall, Carina Gunnarson, Eva Hagström Frisell, Jakob Hedenskog, Jerker Hellström, Madelene Lindström, Emma Sjökvist and Anna Sundberg, Foreign military bases and installations in Africa, FOI, Aug 2019,

2- Abraham White, Leo Holtz, Figure of the week: African countries’ votes on the UN resolution condemning Russia’s invasion of Ukraine, Brookings, March 2022, https://www.brookings.edu/blog/africa-in-focus/2022/03/09/figure-of-the…

3- Charlie Mitchell, Nairobi, China’s rare earth metal mining in Africa is challenged by the West, The Times, Sep 2022, https://www.thetimes.co.uk/article/chinas-rare-earth-metal-mining-in-af…

4- Kate Bartlett, China Looks to Africa in Race for Lithium, East Asia, June 2022, https://www.voanews.com/a/china-looks-to-africa-in-race-for-lithium/660…

5- The Importance of the Suez Canal to Global Trade - 18 April 2021، New Zeland foreign affairs & trade, https://www.mfat.govt.nz/assets/Trade/MFAT-Market-reports/The-Importanc…

6-  The evolving role of maritime straits, Sep 2016, Global Risk Insights, https://globalriskinsights.com/2016/12/the-evolving-role-of-maritime-st…

7- Jeremy Bender, These 8 narrow chokepoints are critical to the world's oil trade, Insider, Apr 2015, https://www.businessinsider.com/worlds-eight-oil-chokepoints-2015-4

8- Wenmu, Zhang. "Sea power and China's strategic choices." (2006), P22.

9- Securing China’s energy supplies in Africa & the Belt and Road Initiative, Enerdata intelligence and consulting, January 2020,  https://d1owejb4br3l12.cloudfront.net/publications/executive-briefing/c…

10- Copinschi, Philippe, Catherine Locatelli, Manfred Hafner, Raphaël Danino-Perraud, and Samuel Carcanague. La Belt and Road Initiative et la stratégie de sécurisation des approvisionnements énergétiques chinois en Afrique. No. hal-02445961. 2019

11-  Xiaodong, Xie, and Zhao Qinghai. "America's Rethinking of Sea Power and Its Policy Impact." China Int'l Stud. 65 (2017): 112. https://www.ciis.org.cn/english/ESEARCHPROJECTS/Articles/202007/t202007…

12- Jonathan Masters, Sea Power: The U.S. Navy and Foreign Policy, CFR, 2019, https://www.cfr.org/backgrounder/sea-power-us-navy-and-foreign-policy

13- Munene, Jim, Courtney Mulhern, Nicholas Kempenich Jr, Giancarlo Newsome, Bradford Hughes, Tyson Voelkel, Hayden Bassett, Kate Harrell, Marco A. Bongioanni, and Christopher Holshek. "Building a Global Civil-Military Network.", https://www.ausa.org/sites/default/files/publications/CAIP-Vol8-Buildin…

14- Michael M. Phillips, China Seeks First Military Base on Africa’s Atlantic Coast, U.S. Intelligence Finds, The Wall Street Journal, Dec 2021, https://www.wsj.com/articles/china-seeks-first-military-base-on-africas…

15- Cullen S. Hendrix, Arms and influence? Chinese arms transfers to Africa in context, Peterson Institute for International Economics (PIIE), Julay 2020, https://www.piie.com/blogs/realtime-economic-issues-watch/arms-and-infl…

16- César Pintado, CHINESE MERCENARIES IN AFRICA, Small Wars Journal, May 2021, https://smallwarsjournal.com/jrnl/art/chinese-mercenaries-africa

17- Martin Armstrong, China's African Trade Takeover, Statista, Jan 2022, https://www.statista.com/chart/26668/main-import-countries-sources-afri…

18- Total value table of import and export commodities by country (region) in December 2021 (US dollar value), General Administration of Customs, 2022, http://www.customs.gov.cn/customs/302249/zfxxgk/2799825/302274/302277/3…

19- China Africa Research Initiative, CHINESE INVESTMENT IN AFRICA, http://www.sais-cari.org/chinese-investment-in-africa

20- Alex Vines, Creon Butler, Yu Jie, The response to debt distress in Africa and the role of China, Chatham House, Dec 2022,

21- Ankit Panda, Sri Lanka Formally Hands Over Hambantota Port to Chinese Firms on 99-Year Lease, The Diplomant, Dec 2017, https://thediplomat.com/2017/12/sri-lanka-formally-hands-over-hambantot…

22- Aid (ODA) disbursements to countries and regions [DAC2a], Organisation For Economic Co.Operation And Development (OECD.Stat), https://stats.oecd.org/Index.aspx?DataSetCode=TABLE2A

23- Kate Bartlett, China Looks to Africa in Race for Lithium, East Asia, June 2022, https://www.voanews.com/a/china-looks-to-africa-in-race-for-lithium/660…

24- China's Sinomine invests $200 mln in Zimbabwe lithium project, Reuters, 2022, https://www.reuters.com/article/sinomine-zimbabwe-lithium-idAFL8N2Y43HA

25- Pete Pattisson and Febriana Firdaus, ‘Battery arms race’: how China has monopolised the electric vehicle industry, The Guardian, Nov 2021, https://www.theguardian.com/global-development/2021/nov/25/battery-arms…

26- Samantha Subin, The new U.S. plan to rival China and end cornering of market in rare earth metals, CNBC, Apr 2021, https://www.cnbc.com/2021/04/17/the-new-us-plan-to-rival-chinas-dominan…

27- Ericsson, Magnus, Olof Löf, and Anton Löf. "Chinese control over African and global mining—past, present and future." Mineral Economics 33, no. 1 (2020): 153-181.