إن قوة الزلزال الطبيعي الذي أصاب سوريا، في 6 فبراير/شباط 2023، والتي وصلت حدًّا مدمرًا -قوة الأول 7.7 درجات أعقبه آخر 7.6، فضلًا عن الهزات الارتدادية- لم تستطع أن تحرك بنفس القوة حالة الجمود والركود السياسي الذي تشهده البلاد منذ عام 2014 على الأقل، ولأسباب عدة من أبرزها وصول الأطراف المتقابلة وكذلك المعنية بالأزمة إلى طريق مسدود، سواء على صعيد الحلول السلمية أو العسكرية، والأهم خاصة مؤخرًا، أن هناك أولويات عدة دولية وإقليمية تأتي قبل هذه الأزمة الممتدة منذ عام 2011 إلى اليوم.
هناك مجموعة من الحقائق والقضايا المتصلة بالأزمة السورية والتي كشف عنها الزلزال أو أكدها ولا يمكن القفز فوقها، ويمكن استحضار بعضها لتجلية السياق فحسب.
أولها: أن الاستجابة الدولية لهذه الكارثة التي حلَّت بسوريا، كانت بطيئة ومتواضعة، وأسهمت في ذلك بلا جدال الوضعية التي انتهت إليها البلاد؛ حيث هناك في مناطق سيطرة النظام ومن المنظار الدولي على الأقل، سيادة مشكوكة بها للنظام السوري على أراضيه بسبب وجود ميليشيات وقوى أجنبية. هذا فضلًا عن التشكيك بنواياه إزاء ما قد يحصل عليه من مساعدات وأنه لن يوصلها لمستحقيها. وهناك بالمقابل تشظ لقوى المعارضة ولا توجد لديها آلية سياسية واحدة لتسيير المناطق التي تسيطر عليها، ولا آلية ورؤية دولية أو عربية واحدة لتنظيم العلاقة السياسية بها؛ فأقصى ما هو موجود آلية أممية -بموافقة روسية- لإيصال المساعدات فحسب إلى النازحين هناك ويجب التجديد لها دوريًا، وكانت أصلًا قاصرة قبل وقوع الزلزال فكيف بعده! مع العلم بأن مناطق المعارضة هي الأكثر تضررًا وهي الأقل تلقيًا للمعونات.
ثانيًا: أن سياسة الجمع بين الإغاثة للشعب السوري وتعزيز قدرته على البقاء والصمود من جهة، وتعزيز حالة الجمود السياسي التي تخيم على الأزمة من جهة أخرى سبيلًا لإدارة الأزمة، باتت أمرًا أكثر صعوبة. مع العلم بأن هذه السياسة أثبتت قصورها أصلًا بسبب تراجع المساعدات المقدمة للشعب السوري، وتراجع الدعم اللوجستي والسياسي لقوى المعارضة، وستبقى مناطقها بلا أفق واضح من حيث تحقيق حدٍّ مقبول من الاستقرار الاجتماعي والإنساني فضلًا عن السياسي في المستقبل القريب.
ثالثًا: من المؤكد أن تركيا التي كانت تعد نفسها للانتخابات المقررة في 14 مايو/أيار 2023 وتعد نفسها لتكون أقوى سياسيًّا، لن تكون هي نفسها بعد هذا الزلزال، وستنشغل بنفسها في محاولة للخروج من آثاره الإنسانية والاقتصادية وما سيخلِّفه من تداعيات سياسية. وهذا سينعكس على طريقة إدارتها للملف السوري خاصة إذا ما استمرت سياسة أميركا وأوروبا تجاه تركيا والأزمة السورية على ما هي عليه دون تغيير كبير باتجاه دعمها، وهي السياسة التي دفعتها لاعتماد دينامية جديدة في التعامل مع النظام السوري لمواجهة الاستحقاق الانتخابي، وبالتالي ستكون أنقرة بعد هذه الكارثة أكثر انفتاحًا على الحوار مع النظام وأكثر تحفظًا وحذرًا من السابق في إدارة الأزمة السورية تفاديًا لأي انعكاسات ومخاطر يمكن أن تتأتى من أي تصعيد لهذه الأزمة التي تنطوي أصلًا على مخاطر تهدد أمنها القومي، ومن أبرزها خطر قيام كيان كردي سوري انفصالي بجوارها، واستمرار تدفق اللاجئين على أراضيها.
رابعًا: تشهد المنطقة حالة مفرطة من السيولة وعدم اليقين وقد عزز من ذلك اندلاع الحرب الأوكرانية واستمرار أزمة الملف النووي الإيراني، فضلًا عن عدم اكتمال تعافي النظام العربي نسبيًّا من تداعيات الربيع العربي (2011) وما أعقبه من انقسامات إلا مؤخرًا. ولا يمكن حتى اللحظة الجزم حول وجود سياسية أميركية -أو أوروبية- واضحة حول سوريا، فهي تقتصر على العقوبات السياسية والاقتصادية على النظام والمحافظة على الوضع القائم، كما لا يزال العرب يفتقرون لرؤية جامعة حول كيفية التعامل مع الأزمة السورية؛ حيث تقف دول مع النظام بقدر استطاعتها وما تتيحه لها الظروف الدولية، في حين ترفضه أخرى مستصحبة هول "الجرائم المرتكبة" وصعوبة الخروج منها مع استمرار الرئيس، بشار الأسد، في الحكم. وبالتالي، واجهت عدة دول عربية الزلزال في سوريا بمساعدات، بعضها كان لعموم المناطق السورية أي لمناطق المعارضة والنظام، وبعضها اقتصر على إحدى المنطقتين.
أهم ما أقدمت عليه الإدارة الأميركية سياسيًّا للتعامل مع الزلزال في سوريا، هو إصدارها (9 فبراير/شباط 2023) عبر مكتب مراقبة الأصول الخارجية في وزارة الخزانة، ترخيصًا يسمح لمدة 180 يومًا بجميع المعاملات المحظورة بموجب قانون العقوبات على سوريا، وذلك لتعزيز جهود الإغاثة في مواجهة تداعيات الزلزال. وجاء هذا الإجراء لمواجهة مطالبات النظام برفع العقوبات الأميركية عنه، في حين كان مسؤولون أميركيون يؤكدون أن العقوبات لا تشمل الأعمال الإنسانية، ويبدو أن هذا الإجراء قد جاء لحسم هذه الإشكالية وللتأكيد على استمرار السياسة الأميركية على ما عليه بهذا الخصوص. لذلك يبدو النظام السوري مستفيدًا من النافذة السياسية التي فتحتها تداعيات الزلزال وسمحت له بالتفاعل عربيًّا ودوليًّا ولو في السياق الإنساني، لكنها ستبقى نافذة لا أكثر. أما قوى المعارضة فستبدو حتمًا أضعف؛ حيث حاضنتها أغلبها من النازحين، وستعاني مناطقها من تداعيات الزلزال لفترة ليست بالقصيرة، كما هو الشأن مع حاضنها التركي.
إن الكلفة الإنسانية نتيجة لهذا الزلزال في تركيا وسوريا، والتي ستتعاظم مع مرور الوقت وكلما تقدمت جهود الإغاثة وإزالة الركام، ستضيف أسبابًا جديدة لإيلاء الأزمة السورية أهمية أكثر من ذي قبل، خاصة من دول الإقليم والدول العربية، ولكن سيبقى الموقف الأميركي محددًا رئيسيًّا لها.