الأسد: ربح الوقت (الجزيرة) |
ملخص مع اقتراب الأزمة السورية من دخول عامها الخامس، تغيرت الأولويات الإقليمية والدولية نتيجة صعود تنظيم الدولة، فتزايدت محاولات تحوير الصراع وتحويل جوهره إلى "مكافحة الإرهاب"، وتبلورت بناء عليه مبادرات لإعادة تأهيل النظام من بوابة أن الظروف التي أنتجت بيان جنيف1، الداعي إلى تشكيل هيئة حكم انتقالية بصلاحيات كاملة كخطوة أولى نحو تحول ديمقراطي في سوريا، قد تغيرت. مع ذلك تبدو احتمالات نجاح تأهيل نظام الأسد وجعله مقبولًا سوريًّا وإقليميًّا ودوليًّا أشبه ما تكون بالوهم لأن سياسة النظام القمعية خلال السنوات التي تلت بداية الثورة جعلته عامل استقطاب شديد، ومزقت كل رابط من روابط الثقة يمكن أن يجمع مختلف مكونات المجتمع السوري، وجعلت أجهزته أكثر طائفية، علاوة على بروز جماعات مسلحة من توجهات مختلفة، أثبتت التجارب في مختلف المناطق أنها ستكون بالضرورة جزءًا رئيسيًّا من أي ترتيبات مستقبلية، ولن يتحقق ذلك في سوريا إلا بإعادة تقاسم للسلطة يغيِّر بنية النظام القائم. |
مقدمة
تزايدت في الآونة الأخيرة محاولات النظام السوري إعطاء انطباع بوجود تنسيق من نوعٍ ما بينه وبين التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية، وكان آخرها التصريحات التي أدلى بها الرئيس بشار الأسد بهذا الخصوص في مقابلة أجرتها معه هيئة الإذاعة البريطانية؛ حيث قال: "إنَّ أطرافًا ثالثة، من بينها العراق، تنقل معلومات إلى دمشق بشأن الغارات الجوية التي تقودها الولايات المتحدة على تنظيم «الدولة الإسلامية» في سوريا". ورغم مسارعة الإدارة الأميركية إلى نفي مثل هذه المزاعم، وتأكيد الخارجية البريطانية أن الأسد واهم، إلا أنه وبغضِّ النظر عن صحة مزاعم التنسيق فقد بات واضحًا أن النظام السوري هو المستفيد الأكبر من الحملة التي تقودها واشنطن ضد تنظيم الدولة، وقد اتضح ذلك في العديد من المناطق، كان أبرزها في دير الزور؛ حيث بدا وكأن طيران التحالف يعمل كسلاح جوٍّ لقوات النظام السوري التي تمكنت من وقف تمدد التنظيم، لا، بل وقامت باستعادة مناطق كانت خاضعة لسيطرته.
فكيف سيؤثر تبدل أولويات القوى الدولية والإقليمية على دور وموقع النظام السوري؟
صعود تنظيم الدولة وتغير الأولويات
شكَّل صعود تنظيم "الدولة الإسلامية" وسيطرته على أجزاء واسعة من العراق وسوريا صيف العام 2014، نقطة تحول في الصراع الدائر على امتداد الإقليم، تأثرت بفعله مصالح اللاعبين الإقليميين والدوليين وتصوراتهم للتهديدات والمخاطر التي تواجههم، وبناء عليه تغيرت الاصطفافات بتغير الأولويات. وقد ظهر أوضح التأثيرات على السياسة الغربية عمومًا والأميركية خصوصًا اتجاه أزمات المنطقة. فلم يعد الملف النووي الإيراني، والخلاف مع إيران بشأنه، المحدد الرئيس الوحيد لسياسة إدارة الرئيس أوباما في عموم المشرق العربي منذ الانسحاب من العراق عام 2011. بدلًا من ذلك، تحوَّل تنظيم الدولة الذي أخذ يستأثر بالاهتمام الأميركي الأكبر في المنطقة إلى نقطة التقاء مصالح أميركية-إيرانية، شدَّد عليها الرئيس أوباما في رسالته السرية الأخيرة التي بعثها إلى المرشد الأعلى للثورة الإسلامية آية الله علي خامنئي في منتصف أكتوبر/تشرين الأول الماضي 2014، وأشار فيها إلى "المصلحة المشتركة" بين البلدين في محاربة تنظيم الدولة في كلٍّ من العراق وسوريا.
ورغم استبعاد طهران من مؤتمر باريس الذي أسَّس للتحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة في سبتمبر/أيلول 2014، نتيجة ضغط دول عربية أبرزها السعودية، إلا أن ذلك لم يمنع من حصول تنسيق أميركي-إيراني بلغ حدَّ تبادل المعلومات الاستخباراتية في العراق. أما في سوريا؛ فقد جرى تداول تقارير تتحدث عن توصل واشنطن وطهران إلى "تفاهم" يتضمن تعهد الولايات المتحدة بعدم استهداف طائرات التحالف قوات النظام السوري مقابل "ضمان" أمن الخبراء الأميركيين الذين أعادتهم إدارة الرئيس أوباما إلى العراق لتدريب وتقديم المشورة للقوات العراقية في إطار الاستراتيجية الأميركية لـ"هزيمة" تنظيم "الدولة الإسلامية".
وقد تطور موقف الإدارة الأميركية من قضية الإطاحة بنظام الأسد، رغم تكرارها لمقولة: إنه "فقد الشرعية"، وذلك بسبب حرص الرئيس أوباما الشخصي على تحقيق إنجاز في السياسة الخارجية من مدخل التوصل إلى اتفاق مع الإيرانيين حول برنامجهم النووي، ثم أصبح استمرار النظام وبقاؤه مصلحة أميركية بعد صعود تنظيم الدولة؛ حيث تعتقد واشنطن أن البديل لنظام الأسد لم يعد، في ظل ضعف المعارضة المسلحة المعتدلة على الأرض وتشتتها في الخارج، إلا التنظيمات الإسلامية المقاتلة.
بالمثل تبدلت مواقف دول غربية وعربية أخرى تُعتبر جزءًا من النواة الصلبة في مجموعة أصدقاء الشعب السوري، خاصة بعد الهجمات التي تعرضت لها صحيفة شارلي إيبدو بباريس، في شهر يناير/كانون الثاني الماضي 2015 وأسفرت عن مصرع نحو 17 شخصًا وأدت إلى موجة من الإسلاموفوبيا اجتاحت دولًا أوروبية عديدة. وكانت مواقف بعض البلدان الأوروبية بدأت تتحول أصلًا إلى تقديم أولوية محاربة "الإرهاب" في سوريا والعراق على ما عداها منذ سيطرة تنظيم الدولة على الموصل في يونيو/حزيران 2014؛ إذ قررت الحكومة النرويجية تشغيل سفارتها في دمشق برتبة قائم بالأعمال، وقامت ألمانيا وإسبانيا بتفعيل التعاون الاستخباراتي مع النظام السوري لمواجهة "تهديدات" على أمنها الداخلي مع تمسكها بضرورة "إطلاق مرحلة انتقالية" لحل الأزمة السورية.
عربيًّا أيضًا، تقدم الاهتمام بمواجهة تنظيم الدولة على ما عداه، فكانت دول عربية عديدة على رأسها السعودية تداعت إلى عقد مؤتمر لمكافحة الإرهاب في جدة، في سبتمبر/أيلول 2014، وقد شكَّل هذا الاجتماع الأرضية التي انعقد على أساسها مؤتمر باريس الذي أطلق التحالف الدولي لمواجهة تنظيم الدولة بعد ذلك بأيام، وتعزز هذا التوجه بعد إعدام الطيار الأردني الأسير، معاذ الكساسبة حرقًا ثم إعدام أقباط مصريين ذبحًا. ورغم أن الموقف الخليجي ظل متمسكًا برؤيته بأن سياسات النظام هي التي أدت إلى تنامي "الإرهاب"، إلا أنه وافق على إعطاء الأولوية لقتال تنظيم الدولة حتى على السعي لإسقاط النظام، بل إن التقديرات ترجِّح أن قتال تنظيم الدولة يفيد النظام ويعزِّز حظوظ بقائه. أما مصر فقد بدأت منذ الانقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس محمد مرسي صيف العام 2014، تبتعد تدريجيًّا عن مواقفها المؤيدة للثورة السورية، وتقترب أكثر من الموقف الروسي تحت عناوين، مثل: الحرص على وحدة سوريا أرضًا وشعبًا، ورفض التدخل الخارجي، ومنع مؤسسات الدولة بما فيها الأمن والجيش من الانهيار.
وداعا جنيف
انطلاقًا من ذلك شهدت الشهور القليلة الماضية ظهور مبادرات ومواقف سياسية تعبِّر عن التغير الذي طرأ على الأولويات والاهتمامات الإقليمية والدولية، بدءًا بمبادرة ستيفان دي مستورا الذي دعا، منذ اليوم الأول لاستلام مهامه مبعوثًا أمميًّا لحل الأزمة السورية خلفًا للأخضر الإبراهيمي، إلى التوصل إلى هدنة أو "تجميد" الصراع، حتى يتسنَّى "التركيز على مواجهة الإرهاب" في سوريا.
كما ظهرت أيضًا أفكار روسية ومصريَّة وإيرانية، يصب جميعها في إطار إعادة إنتاج النظام الحالي، وإن كانت مختلفة حول أنجع السبل لبلوغ ذلك؛ ففي حين سعت مصر، تمهيدًا لحوار مع النظام السوري، إلى توحيد المعارضة السورية (الائتلاف الوطني وهيئة التنسيق خصوصًا)، مع استبعاد المكون الإسلامي منها، حاولت روسيا إنتاج معارضة بديلة، عبر تفتيت الائتلاف وتعويم الجزء من المعارضة الأقرب إليها. أما إيران، فقد كانت أجندتها أكثر تعقيدًا وطموحًا؛ إذ كانت مهتمة بخلق معارضة بديلة علاوة على خلق كيان موازٍ لسلطة النظام في سوريا عبر إنشاء تنظيمات وميليشيات مسلحة تخضع لسلطتها وحدها، مثل حزب الله السوري.
اللافت في هذه المبادرات والأفكار، التي تسعى إلى دفن بيان جنيف الأول والتركيز بدلًا من ذلك على تشكيل حكومة وحدة وطنية وتوجيه الجهد العسكري لكل من النظام والمعارضة نحو مواجهة "تنظيم الدولة" وجبهة النصرة، هو الموقف الأميركي منها. فبعد فترة صمت طويلة، أصدرت الولايات المتحدة بيانًا رحَّبت فيه بالمساعي الروسية لعقد مؤتمر يجمع الأطراف السورية في موسكو على طاولة حوار تمهيدًا لتسوية. وقد بلغ التطور في الموقف الأميركي من المسألة السورية حدَّ التأكيد على ضروة أن يكون الأسد حاضرًا في أية تسوية؛ ففي معرض ردِّها على ما يحضَّر له في القاهرة وموسكو من مؤتمرات تجمع أطراف الصراع السوريين، اعتبرت وزارة الخارجية الأميركية أنَّ "الرئيس بشار الأسد يجب أن يكون حاضرًا على طاولة المفاوضات، على الرغم من فقدانه الشرعية، مثمِّنة مبادرة مصر". كما أكدت أن الولايات المتحدة تدعم كل جهد يهدف إلى تسوية الأزمة في سوريا، وذلك في تعليق رسمي على مبادرة روسيا بهذا الشأن. كما توصل الأميركيون إلى اتفاق مع قيادات المعارضة السورية على أن تعود فصائل المعارضة بعد تدريبها إلى الداخل لمواجهة تنظيم الدولة وليس النظام السوري. وفيما رحَّب وزير الخارجية الأميركي جون كيري بكل من مبادرة دي مستورا لتجميد الصراع، والمبادرة الروسية لجمع أطرافه تمهيدًا لتسوية، لم يعد كيري كما في السابق يائسًا من بشار الأسد ونظامه بل اعتبر أنه "حان الوقت للرئيس الأسد، لنظام الأسد، للبدء في التفكير بشعبهم أولًا والتفكير بنتائج سياساتهم ثانيًا، والتي تستقطب المزيد من الإرهابيين إلى سوريا".
خاتمة
مع اقتراب الأزمة السورية من دخول عامها الخامس، تغيرت الأولويات الإقليمية والدولية نتيجة صعود تنظيم الدولة، فتزايدت محاولات تحوير الصراع وتحويل جوهره إلى "مكافحة الإرهاب"، وتبلورت بناء عليه مبادرات لإعادة تأهيل النظام من بوابة أن الظروف التي أنتجت بيان جنيف الأول، الداعي إلى تشكيل هيئة حكم انتقالية بصلاحيات كاملة كخطوة أولى نحو تحول ديمقراطي في سوريا، قد تغيرت. مع ذلك تبدو احتمالات نجاح تأهيل نظام الأسد وجعله مقبولًا سوريًّا وإقليميًّا ودوليًّا أشبه ما تكون "بالوهم" كما عبَّرت عن ذلك وزارة الخارجية البريطانية في بيان أخير لها؛ حيث إن معظم الدراسات الجدِّية التي تتناول سيناريوهات تطور الأزمة السورية لا تتضمن إعادة تأهيل النظام وبقاءه دون تغيير جوهري يطرأ على بنيته وتكوينه، بل يجري الحديث عن أربعة سيناريوهات رئيسة، هي:
• استمرار الصراع بالمستوى الحالي من العنف وضمن خطوط التماس الراهنة في ظل عجز أي من أطراف الصراع عن الحسم.
• تمكُّن النظام من استعادة السيطرة على مناطق كبيرة من البلاد بالاستفادة من التدخل العسكري لقوات التحالف ضد تنظيم الدولة، مع الاستمرار ضعيفًا ومنهكًا ومعتمِدًا في بقائه بالمطلق على مساعدات اقتصادية خارجية من حلفائه.
• انهيار النظام وتحلله تدريجيًّا ودخول البلاد في حالة من الفوضى مع رجحان انقسامها.
• التوصل إلى تسوية تؤدي إلى خروج معظم رموز النظام المسؤولة عن الكارثة التي حلَّت بالبلاد، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
في كل هذه السيناريوهات لا يَردُ احتمال عودة النظام بشكله وتركيبته الحالية إلى الوضع الذي كان يحكم فيه البلد قبل الأزمة وكأن شيئًا لم يكن، لأن سياسة النظام القمعية خلال السنوات التي تلت بداية الثورة جعلته عامل استقطاب شديد، ومزقت كل رابط من روابط الثقة يمكن أن يجمع مختلف مكونات المجتمع السوري، وجعلت أجهزته أكثر طائفية، علاوة على بروز جماعات مسلحة من توجهات مختلفة، أثبتت التجارب في مختلف المناطق أنها ستكون بالضرورة جزءًا رئيسيًّا من أي ترتيبات مستقبلية، ولن يتحقق ذلك في سوريا إلا بإعادة تقاسم للسلطة يغيِّر بنية النظام القائم.