باتت الأخبار الزائفة، وتصريحات السياسيين التي تكتنفها المغالطات، كابوسًا يؤرِّق الصحافة والصحفيين في العالم؛ إذ جعلت العمل الصحفي محورًا للتغير المهني، وأجبرت الصحفيين على الانتقال من عملية النقل للأحداث إلى عملية التحري في الوقائع والتثبُّت منها عبر أدوات ومنصات تختص بهذه العملية. وقد أدى هذا التغير المهني إلى ظهور أشكال جديدة من الصحافة، مثل صحافة التحري، وغيرها.
ويُعد اليمن ضمن الدول التي عانت -ولا تزال- من انتشار الأخبار الزائفة ومغالطات بعض السياسيين عبر تصريحاتهم، ومع تعدد مؤسسات الصحافة والميديا بشكل واسع، فإن ذلك النوع من الأخبار والتصريحات المغلوطة زاد في الانتشار بشكل أكبر، لاسيما في ظل ظروف الحرب الراهنة والأزمات الاقتصادية والوبائية وغيرها. ناهيك عن انتشار استخدام منصات التواصل الاجتماعي في البلد أيضًا، وهو ما يشير إلى ضعف أو عدم قيام تلك المؤسسات بالتحري في الوقائع أو التثبُّت من المعلومات الواردة في الأخبار أو التصريحات.
وتحاول الدراسة* رصد البيئة المهنية للصحافة اليمنية، وانتشار الأخبار الزائفة وتصريحات السياسيين منذ العام 2011 حتى العام 2022، وهي الفترة التي دخل فيها اليمن وصحافته مرحلة جديدة من مراحل الصراع السياسي والأيديولوجي، وبرز دور الصحفيين في مواجهة ذلك النوع من الأخبار والتصريحات عبر التحري في الوقائع والتثبُّت من المعلومات الواردة فيها.
1. الإطار المنهجي والنظري للدراسة
إشكالية الدراسة
مع تطور الصحافة ودخولها عهد التقنية الرقمية وارتباطها بمنصات التواصل الاجتماعي، ظهرت إشكالية جديدة تتمثَّل في انتشار الأخبار الزائفة والمعلومات المضلِّلة والتصريحات المغلوطة للمسؤولين السياسيين، وهو ما جعل الصحفيين في مواجهة مباشرة مع التدفق المعلوماتي الهائل المنشور في تلك المنصات ومؤسسات الصحافة والميديا. كما أن سرعة انتشار هذا النوع من التصريحات والأخبار يدفع المتلقي إلى الشك فيما يُنشر أو يُصرِّح به الفاعلون السياسيون، وما تنشره المنصات الاجتماعية الرقمية.
دفعت هذه الإشكالية الصحفيين ومؤسسات الصحافة والميديا إلى اعتماد شكل جديد من أشكال العمل الصحفي، وهو التحري في الوقائع والمعلومات من خلال تصريحات السياسيين والمضامين الإخبارية التي تنشرها الصحف أو مؤسسات الميديا المختلفة أو منصات التواصل الاجتماعي. وقد نشأ عبر هذا التحري مجال جديد في الصحافة سُمِّي بـ"صحافة التحري"، التي تتأسس على منهجية صحفية جديدة تُعلي من شأن بعض المبادئ الدائمة في المنهجية الصحفية، وفي هذا الإطار تأسست الشبكة الدولية لصحافة التحري، وتم إرساء يوم عالمي لهذا النوع من الصحافة(1).
وفي سياق المشهد الصحفي اليمني، خاصة بعد انتشار منصات التواصل الاجتماعي، أصبح عمل الصحفيين ومؤسسات الميديا مهددًا بانتهاء الصفة الصحفية المهنية؛ حيث يقوم أغلب مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي بدور المراسل والباثِّ للحدث؛ الأمر الذي يكاد يلغي الصفة الاعتبارية المهنية للصحفيين، التي تميزهم عن غيرهم من المستخدمين العاديين لتلك المنصات. وهنا يبرز السؤال الإشكالي للدراسة: هل كان لانتشار الأخبار الزائفة وتصريحات السياسيين على منصات التواصل الاجتماعي دور في لجوء الصحفيين والمؤسسات الصحفية في اليمن إلى عملية التحري في الوقائع؟ وهل كان لها كذلك دور في ظهور نماذج من صحافة التحري في العمل الصحفي المهني في اليمن؟
منهج الدراسة
اعتمد الباحث منهج البحث الوصفي، وهو أحد أنواع المنهج الكمي، لاسيما أن استقصاء إشكالية الدراسة يعتمد الاستبيان أداةً لجمع البيانات ومحاولة وصفها وتحليلها. ويساعد البحث الوصفي، باعتبار الموضوع ينتمي إلى البحوث الكمية، في دراسة أبعاد الإشكالية بالتركيز على الإحصائيات، والمقارنة بين المعطيات والنتائج التي قد تكون دراسات أخرى توصلت إليها.
مجتمع الدراسة وعيِّنتُه
اعتمدت الدراسة العينةَ الغرضية (القصدية)، وتتمثَّل في 120 صحفيًّا وصحفية ممن يمارسون عملهم في نطاق الجمهورية اليمنية بمختلف محافظاتها، ويشملهم تعريف الصحفي وفق القانون اليمني الذي ينص على أن الصحفي هو "من يمارس بصفة مستمرة مهنة الصحافة المقروءة، أو المسموعة، أو المرئية، أو في وكالة أنباء يمنية، أو أجنبية تعمل في اليمن، وذلك كمورد رئيسي للرزق، والذي تتوافر فيه الشروط الموضحة بذات القانون اليمني لعام 1990، بأن يكون يمني الجنسية، وأن لا تقلَّ سنه عن واحد وعشرين عامًا، وأن يكون كامل الأهلية، وأن لا يكون قد صدر ضده حكم قضائي في جريمة مُخِلَّة بالشرف أو الأمانة ما لم يكن قد رُدَّ إليه اعتباره وفقًا لأحكام القانون، وأن يكون حاصلًا على مؤهل دراسي من كلية، أو معهد، أو لديه خبرة في المساهمة في العمل الصحفي مدة لا تقل عن ثلاث سنوات، وأن يزاول العمل الصحفي مزاولة فعلية مستمرة"(2).
واختار الباحث عيِّنة الدراسة بناء على عدة اعتبارات، أهمها:
- أن الصحفيين في اليمن لا يمكن الوصول إليهم جميعًا؛ إذ لا تتوافر إحصائية دقيقة حاليًّا عنهم بسبب الأوضاع السياسية والأمنية التي تعيشها البلاد.
- توقُّف نقابة الصحفيين اليمنيين منذ أكثر من 6 سنوات، حيث لم يُقيَّد عشرات الصحفيين اليمنيين العاملين في المؤسسات الصحفية والإعلامية اليوم من خريجين مختصين في مجال الصحافة، أو عاملين من غير المختصين، ناهيك عن هجرة عدد كبير من الصحفيين خارج البلاد، وسجن وقتل واغتيال آخرين.
- ضعف الإنترنت أو انقطاعه عن مجتمع الدراسة (الصحفيين) في اليمن، وهي مشكلة عامة تشمل كافة المواطنين؛ إذ لم يكن من السهل الوصول إلى عيِّنة الدراسة بشكل أسرع وأوسع، باعتبار أن الاستبيان إلكتروني.
الحدود الزمنية للدراسة
يشمل الإطار الزمني للدراسة الفترة الممتدة من بداية العام 2011 حتى منتصف العام 2022، وهي الفترة التي شهد فيها اليمن أحداثًا متعددة أهمها الإطاحة بنظام الرئيس الأسبق، علي عبد الله صالح، ودخول الحكومة الشرعية اليمنية والتحالف العربي في حرب مع حركة أنصار الله (جماعة الحوثي)، وانتشار فيروس كورونا وغيرها.
صحيفة الاستبيان
أعدَّ الباحث استبانة عامة للدراسة تكونت من أربعة محاور رئيسية، وقد تناول المحور الأول "المعلومات الشخصية" للمبحوث؛ إذ تضمَّن أسئلة عن جنس المبحوث وعمره، والمحافظة اليمنية التي يعمل بها والمستوى التعليمي، وتخصصه الأكاديمي في الإعلام، وعدد سنوات العمل في المجال الصحفي، ونوع المؤسسة الصحفية التي يعمل فيها، ووظيفته الحالية في تلك المؤسسة، أو إن كان يعمل بصفته صحفيًّا حرًّا.
وتناولت أسئلة المحور الثاني (التمكُّن من المفاهيم) الجانب المعرفي للمبحوث بمفهوم التحري في الوقائع في الصحافة، وتعريفه لمفهوم التحري في الوقائع والأخبار الزائفة، واستطلاع رأيه بشأن دور منصات التواصل الاجتماعي وتأثيرها في انتشار الأخبار الزائفة وتصريحات السياسيين في اليمن.
أما المحور الثالث (التثبُّت باعتباره مرحلة من مراحل العمل الصحفي) فركَّز على سؤال المبحوث عن تثبُّته من المعلومات من مصادر ثانوية، والأدوات والمنصات التي يستخدمها في عملية التثبُّت من المعلومات خلال عمله الصحفي، وما إذا كان المبحوث قد شغل منصب مدير تحرير، أو رئيس تحرير لمؤسسة صحفية، بهدف قياس تَمَثُّله لنظرية حارس البوابة.
وتضمَّن المحور الرابع (التثبت من الأخبار الزائفة وتصريحات السياسيين عبر أقسام خاصة بالتحري في الوقائع في مؤسسات الصحافة اليمنية) أسئلة حول القواعد الحاكمة أو مواثيق العمل المهنية التي تُلزِم الصحفي بالتثبُّت من المواد والأخبار الصحفية والتصريحات، وتوافر قسم مهني في مؤسسته يختص بالتحري في الوقائع والعمل على التثبُّت من الأخبار الزائفة وتصريحات السياسيين، وتأثير الأخبار الزائفة وتصريحات السياسيين على مصداقية العمل الصحفي في اليمن.
وحُكِّمت صحيفة الاستبيان قبل نشرها من قبل الأكاديمي، الدكتور الصادق الحمامي، كما عُرِضت على 5 صحفيين مهنيين يمنيين في محافظات مختلفة، هي صنعاء، وعدن، وحضرموت، وتعز، وشبوة، وواحد منهم لديه مركز دراسات يختص بالشأن الصحفي.
المفاهيم الإجرائية للدراسة
1. التحري في الوقائع
يُعد مفهوم التحري في الوقائع من المفاهيم الأساسية في البحث، وقد حَدَّد العديد من الدراسات مفهومه بحسب الحقل المعرفي الذي يؤطِّر عمله؛ فقد عرَّف معهد الصحافة الأميركي مفهوم التحري في الوقائع باعتباره مؤسسة فكرية تستند إلى ثلاثة مفاهيم أساسية، هي: الشفافية والتواضع والأصالة(3). وينطبق ذلك على ما تمر به الصحافة والميديا وممارساتها المهنية التي تتحرى في تصريحات السياسيين والمسؤولين، وفي المعلومات المتدفقة عبر الأخبار أو المواد الصحفية، ومصادرها وصحَّة معطياتها، وهو ما يجعلها تحظى بالصدق والمصداقية لدى الجمهور/المتلقي. ويمكن وصف خطوة التحري في الوقائع بأنها ركن أساسي لإعادة بناء الثقة بين المتلقي والصحفيين ومؤسسات الصحافة والميديا في كثير من الأحيان، والتي عزف عن أخبارها الناس.
ويشير التحري في الوقائع أيضًا إلى العملية التي يجري من خلالها تقييم مصداقية ادعاءات الشخصيات العامة، مثل السياسيين والنقاد وغيرهم، وعادة ما يقوم بها صحفيو المؤسسات الإخبارية أثناء كتابة تقاريرهم الإخبارية. وتستغرق عملية التحري وقتًا طويلًا، ويحتاج الصحفي خلالها للرجوع إلى مجموعة متنوعة من المصادر لكسب أكبر قدر من الوقت، وتقدِّم مواقع التدقيق في الحقائق بشكل عام التحليل التفصيلي الذي يتم إجراؤه لاستنتاج الحكم(4). وقد ظهرت في السنوات الأخيرة معاهد ومؤسسات ومواقع إلكترونية متخصصة لهذا الغرض، مثل: "فول فاكت" (Full Fact) و"بوليتي فاكت" (PolitiFact).
ويحيل مصطلح التحري في الوقائع، خاصة بعد ارتباطه بالصحافة والميديا، إلى الانتقال لمرحلة جديدة في تاريخ الصحافة بشكل عام، وهو ما يطلق عليه البعض "عصر ما بعد الحقيقة"، لما يترتب عليه من جودة في العمل والناتج الصحفي. وقد تميزت صحافة ما بعد الحقيقة بتنوع مصادرها والبحث عن المصداقية لتلك المصادر والمعلومات الواردة في تصريحات المسؤولين والسياسيين، وفي الأخبار المنتشرة عبر وسائل الميديا أو منصات التواصل الاجتماعي الحديثة. ويرتبط عصر ما بعد الحقيقة بتنامي الأخبار الكاذبة والتضليل، التي أصبحت تمثِّل انشغالًا أساسيًّا في المجتمعات الديمقراطية باعتبارها عاملًا مفسدًا للحياة السياسية، وآلية لحملات التضليل والتلاعب بآراء الناس وبقدرتهم على إدراك الواقع وفهمه. ويحيل المصطلح في سياقه الأوروبي والأميركي على قدرة بعض الفاعلين السياسيين أو الحركات الاجتماعية في مجالات بعينها على استدعاء "وقائع بديلة" عن الوقائع المتداولة في الميديا التقليدية عن الحياة السياسية أو التي أثبتها العلم(5).
وفي ظل تدفق الأخبار والمعلومات والتصريحات، لا يمكن اليوم تصنيف البيانات السياسية بدقة والحكم عليها ببساطة أنها "صحيحة" أو "خاطئة"؛ إذ أصبح فن المزج بين الحقيقة والأكاذيب متطورًا لدرجة أن المقياس الذي أصبحت تستخدمه حاليًّا مواقع التحري، مثل "بوليتي فاكت"، يتضمن ست فئات منفصلة من الخطاب السياسي، وهي: "صحيح"، "نصف صحيح"، "خاطئ"، "غالبيته خاطئ"، و"كاذب مستحيل تصديقه" وتُطلق على العبارات التي ليست خاطئة فحسب، بل أيضًا التي تحمل سخرية بشكل كامل وتُحسب على أنها حقيقة(6).
إذن، تؤكد هذه الأدوات والمقاييس الجديدة أهمية التحري في الوقائع في العمل الصحفي، وقد زادت هذه الأهمية بالتوازي مع انتشار الأخبار الزائفة والتصريحات المغلوطة، سواء السياسية أو غير السياسية، على منصات التواصل الاجتماعي، والتي تبرز بدورها خلال الأزمات التي تشهدها البلدان، ومساهمة الجمهور المستخدم لها في نشرها عبر تلك المنصات الاجتماعية دون التثبُّت والتحقق من مصداقيتها أو من مصادرها الصحيحة.
2. الأخبار الزائفة
تُعد الأخبار الزائفة من المشكلات الأساسية التي تؤرق مصداقية الصحافة والصحفيين ليس على النطاق المحلي فحسب، بل على النطاق العالمي. ووجد الصحفيون ومؤسسات الميديا وحتى الأكاديميون صعوبة في محاربتها أو الحد منها، وحاول الكثير من المؤسسات والمنظمات بناء شبكات متخصصة من أجل مجابهتها.
وتُعرَّف الأخبار الزائفة في بعض الأحيان بنشر البيانات الخاطئة عبر الإنترنت، ويُلاحظ أن خصوصيتها الأساسية انتشارها على نطاق واسع وتوزيعها عبر جميع المنصات الرقمية. من ناحية ثانية، فالعلاقة بين محتوى الأخبار الزائفة والجمهور عمومًا يسودها الشك في كافة الأحوال، لأنها تتكوَّن من قصص "تم اختراعها بالكامل من فراغ"، أي "ملفقة تمامًا" لنقل محتوى جديد ليس له أي أساس من الواقع. ثالثًا: يُنسب عنصر القصد إلى إنشاء الأخبار المزيفة وتداولها، والتي تُعتبر بدورها "مُضلِّلة عن عمد" وتنطوي على "بيانات واقعية خاطئة عن قصد أو عمد"، والنشر المتعمد للمعلومات المضلِّلة إلى جانب "النية بالخداع"(7).
ويُعرِّف قاموس "كولينز" الأخبار الزائفة بالمعلومات الخاطئة والعاطفية التي يتم نشرها تحت مظلة نشر الأخبار(8). وبشكل عام، فإن الأخبار الزائفة بطبيعتها وهيكلها العام تُعد نوعًا من الأخبار لتوافر عناصر وأركان صياغة الخبر فيها، بيد أن معلوماتها غير صادقة أو غير حقيقية، أو تكون مبنية على جزء من الحقيقة وليست الحقيقة كاملة. وهناك بعض الأخبار التي تُنشر باعتبارها واقعية لكنها في الأصل مزيفة، أي مجرد حقيقة مزعومة، وهذه الحقائق المزعومة أو الأخبار الزائفة إما معلومات كاذبة تمامًا تنشرها وسائل الميديا، أو بعض المنصات المؤثرة الأخرى، وليست حقائق على الإطلاق، أو تضم جزءًا من الحقائق فقط. فالحقيقة المزعومة تفتقر إلى السياق، أو جزء إضافي من المعلومات التي من خلال الكشف عنها يتم تقويض تلك الحقيقة المزعومة إما عبر قيمتها الحقيقية، أو أهميتها بالنسبة لبعض الادعاءات الأوسع(9).
وعرَّف هنت ألكوت (Hunt Allcott) وماثيو غينتزكاو (Matthew Gentzkow) الأخبار الزائفة بمقالات إخبارية خاطئة عن قصد يمكن التحقق منها، ويمكنها أن تُضلِّل القرَّاء(10). ويشير هذا التعريف إلى الخطأ الصحفي الذي ينشر معلومات خاطئة لم يبذل الباثُّ جهدًا في التأكد من مصدرها الحقيقي أو الصحيح.
والخبر الزائف أيضًا هو خبر صُمِّم لغاية معلومة وهي تضليل الجمهور والتلاعب به، ولهذا السبب يكتسي الخبر الزائف كل المقومات الشكلية للخبر الصحفي كأن يكون صادرًا عن موقع له بنية الموقع الإخباري على غرار المواقع الساخرة. وتُروَّج الأخبار الزائفة إما للحصول على عائد مادي بفضل زيادة جمهور الموقع، أو لغايات سياسية بتشويه المنافسين وتضليل الرأي العام، وأما النوع الآخر من الأخبار الزائفة فهو الأخبار الناتجة عن أخطاء صحفية بسبب عدم احترام المنهجية الصحفية والقواعد المهنية الخاصة بالتحري، والتي لا تصدر عن سوء نية(11).
ويرتبط انتشار الأخبار الزائفة كثيرًا بانتشار المنصات الاجتماعية، رغم أن الأخبار الزائفة ليست جديدة العهد كما هي المنصات الاجتماعية. ويُرجع أحد الأمثلة التاريخية قِدَم الأخبار الزائفة إلى خبر "خدعة القمر العظيم"، عام 1835؛ إذ نشرت صحيفة "نيويورك صن" سلسلة من المقالات حول اكتشاف حياة على القمر. أما المثال الأكثر حداثة فهو "خدعة الانفصال الفلمنكي" عام 2006؛ إذ ذكرت محطة تليفزيون بلجيكية عامة أن البرلمان الفلمنكي أعلن الاستقلال عن بلجيكا، وهو تقرير أساء عدد كبير من المشاهدين فهمه على أنه حقيقي(12).
أدبيات سابقة
- آليات التحقق من الأخبار المتدفقة عبر الإعلام الاجتماعي، دراسة حالة: تغطية قناة الجزيرة للمشهد اليمني(13): تناولت الدراسة تحديات قناة الجزيرة في التعامل مع تدفق الأخبار المرتبطة بالشأن اليمني عبر شبكات الإعلام الاجتماعي، خاصة بعد إغلاق مكتبها في اليمن ودخول جماعة الحوثي للعاصمة صنعاء، في سبتمبر/أيلول 2014. وبحثت الدراسة في الآليات المعتمدة من قِبَل غرفة أخبار الجزيرة وصحفييها للتأكد من الأخبار المتدفقة عبر الإعلام الاجتماعي، ومدى تطبيق هذه الآليات وقدرتها على تجنب الوقوع في أخطاء مهنية. واعتمدت الدراسة منهج المسح الوصفي وأداتي الملاحظة والمقابلة المتعمقة في جمع المعلومات والبيانات لتحليل المشكلة البحثية وأبعادها، وخلصت إلى أن تأثير سلطة الإعلام الاجتماعي بدا واضحًا في غرفة أخبار الجزيرة، وهو ما دفعها إلى إنشاء قسم خاص بذلك، كما أن الأخطاء التي وقعت فيها القناة دفعتها إلى اعتماد عمليات التحقق قبل نشر أي خبر وإن تأخر بثه.
- ما الأخبار الزائفة؟(14): ناقشت الدراسة انتشار مصطلح الأخبار الزائفة خلال فترات معينة في الخطاب السياسي ووسائل الميديا، خاصة في أوروبا والولايات المتحدة، وكيفية التعامل مع تلك الأخبار الزائفة، وقياس تأثيرها على السياسة والمجتمع للحد منها على الرغم من تكرارها في الخطاب. وركزت الدراسة على تحديد مفهوم الأخبار الزائفة وفهم سياقاتها، وبيان اختلافاتها عن الأخطاء الصحفية والشائعات والأخبار الساخرة. وتوصلت الدراسة إلى أن الأخبار الزائفة أصبحت واقعًا موجودًا، وتحمل العديد من التعريفات البديلة، وعليه فمن المنطقي ظهور قضايا تدخل ضمن نطاق نظريات المؤامرة، التي أصبحت اليوم تحمل صفة قانونية يتم الترويج لها بين الدول.
- فهم إمكانية وحدود آلية تدقيق الحقائق(15): تناولت الدراسة الاهتمام المتزايد بين الصحفيين وواضعي السياسات وشركات التكنولوجيا بمشكلة إيجاد استجابة فعالة وواسعة النطاق للمعلومات المضلِّلة عبر الإنترنت، والتي أدت إلى الغضب من الأخبار الزائفة التي تفاقمت المخاوف منها ومن الشائعات عبر الإنترنت في بيئة إعلامية مجزأة، مما زاد من الأصوات الداعية لإيجاد حلول تقنية لما يُنظر إليه غالبًا باعتباره مشكلة تكنولوجية. وتوصلت الدراسة إلى أنه من غير الواضح مدى فعالية الأساليب المختلفة غير المنظمة في الاستجابة لأنواع مختلفة من المعلومات الخاطئة، مثل الادعاءات الكاذبة للنخب السياسية، وقد تكون هذه الأساليب أيضًا عرضة للأخطاء من مصادر موثوقة، وتثير أسئلة صعبة حول حماية التعبير السياسي المفتوح والمتنوع عبر الإنترنت.
- آليات مستخدمي الشبكات الاجتماعية في التحقق من الأخبار الزائفة: دراسة في إطار مدخل التربية الرقمية ونموذج أدوار الجمهور في التحقق(16): ناقشت الدراسة دور مستخدمي الشبكات الاجتماعية في الكشف عن الأخبار الزائفة بهذه المنصات، والآليات التي يستخدمونها في مواجهتها، وربط ذلك بمدى توافر مهارات التربية الرقمية لدى المستخدمين بوصفها إحدى أدوات إنتاج المستخدم الواعي والناقد. واهتمت بالتعرف على كيفية تحقق المستخدم من الأخبار وذلك في ضوء نموذج أدوار الجمهور في التحقق. وخلصت الدراسة إلى أن مهارات التربية الرقمية لدى المبحوثين تزيد من قدرتهم على التحقق من الأخبار، خاصة أن هذه المهارات تساعد في وجود جمهور ناقد يمتلك الوعي والمعرفة اللازمين للتعامل مع المحتوى الإعلامي، وأن هناك تأثيرًا لمهارات إنتاج المحتوى على قدرة المبحوثين على التحقق من الأخبار الزائفة، بينما ظهر تأثير مهارات الوصول للمحتوى، ومهارات التحليل والتقييم، على قدرة المستخدمين على التحقق.
البيئة المهنية للصحافة اليمنية
تُعد بيئة العمل المحيطة بالصحفي داخل مؤسسته الإعلامية وخارجها أحد العوامل المؤثرة في مستوى أدائه الوظيفي على غرار باقي المهن الأخرى، كما أكد الكثير من الدراسات التي أُجريت لمعرفة العوامل المتحكِّمة في مستوى الأداء والإنتاج. ويتطلب العمل الصحفي الناجح لأي مؤسسة إعلامية العمل على جانبين مهمين، هما: مضمون الرسالة الصحفية، والعوامل المادية، أو ما يُعرف بالتخطيط المادي للمؤسسة الذي يضمن وجودها واستمرارها(17).
وتساعد هذه المعايير وغيرها إلى حدٍّ ما في التوصل إلى تعريف شامل لبيئة العمل الصحفي، والتي تحكم دائمًا وفق نظم التعديل (التنظيم) والتعديل الذاتي، سلوك المؤسسة الصحفية؛ حيث تُنظِّم العمل الصحفي، وتُحدِّد مساره المهني الذي يمكن للصحفيين اتباعه للوصول إلى تحقيق بيئة صحفية متوازنة بين العمل الصحفي الحر وجودة العمل الصحفي وموضوعيته، بهدف خدمة المجتمع وإيضاح الصورة للجمهور المتلقي، رغم تدخل العديد من العوامل التي تؤثر بشكل أو بآخر في سياسة المؤسسة الصحفية وخطها التحريري.
وفي بيئة العمل الصحفي، فإن هناك عددًا من التعريفات لهذا المفهوم، بناء على عوامل متنوعة من عوامل التأثير على العمل الصحفي بشكل عام. فالمؤسسة الصحفية تتداخل فيها جوانب مختلفة منها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، والتي ينعكس تأثيرها على العمل الصحفي لتلك المؤسسات وتتضح خطوطها التحريرية من خلال التغطيات الصحفية، أو الضيوف ونوعية البرامج، وانتقاء المصطلحات والمفاهيم المعبِّرة عن تلك السياسة التي تتبعها المؤسسة الصحفية. ويمكن تعريف بيئة العمل الصحفي بـ"المحيط الذي تتفاعل فيه مجموعة العناصر المتمثلة في النظم والمنظومات والعوامل والسلطات والمحددات والضوابط والمتغيرات التي تحكم سلوك القائم بالاتصال"، وتتشكَّل بيئة العمل الصحفي من عوامل سياسية واجتماعية واقتصادية ومهنية وقانونية، تحدد طبيعة المضامين الإعلامية(18).
وقد أظهرت الإحصائيات وتقارير المؤشرات العالمية(19) وضعًا سيئًا للبيئة الصحفية في اليمن، الذي احتلَّ المرتبة 169 من أصل 180 بلدًا وفق التصنيف العالمي لحرية الصحافة الذي نشرته منظمة "مراسلون بلا حدود" خلال عامي 2021 و2022، واتضحت الملامح السيئة أكثر بعد العام 2011 ودخول جماعة الحوثي إلى المناطق التي سيطرت عليها، ثم دخول البلد بأكمله في نفق الحرب والتجاذبات السياسية. وأصبحت مهنة الصحافة مجالًا مفتوحًا لـ"المختصين وغير المختصين"، وبات العمل الصحفي مع توقف نشاط النقابة وفروعها في اليمن أشبه ما يكون بالهواية وليس عملًا احترافيًّا، وهو الأمر الذي أفرز محطات إذاعية وتليفزيونية ومواقع إلكترونية وصحفًا لا تستجيب للشروط المطلوبة قانونيًّا في معظمها. وخلقت هذه العشوائية في البيئة الصحفية خلطًا في فهم العمل الصحفي المهني الحقيقي، والعمل الاتصالي الدعائي والإعلاني (علاقات عامة) لأطراف النزاع سواء الداخلية أو الخارجية.
وأوضح التقرير السنوي لحرية التعبير في اليمن أن عام 2020 لم يكن عامًا أقل سوءًا من سابقيه في الحريات الإعلامية في اليمن؛ إذ شهد الإعلام اليمني انتهاكات متعددة، كان أبرزها مقتل 3 صحفيين، وإصدار أحكام بإعدام 11 صحفيًّا في إطار محاكمات مسيَّسة تفتقر لأبسط القواعد والإجراءات القانونية. وبهذا السجل يُصنَّف اليمن واحدًا من أكثر البلدان قمعًا لحرية الصحافة في العالم؛ إذ يحتل المرتبة 167 في التصنيف العالمي لحرية الصحافة في 2020 من بين 180 دولة(20). وزادت الحرب البيئة الصحفية سوءًا، وفتحت المجال أمام أطراف الصراع في تقليص الحريات الإعلامية وزيادة الخطر على الصحفيين.
لا شك أن الأخبار الزائفة، وبحكم انتشارها السريع خاصة عبر منصات التواصل الاجتماعي، تُقلِّل من مصداقية الأخبار برمتها وحتى الصحيحة لدى المتلقي، ومن هذا المنطلق، يحاول الكثير من المؤسسات الصحفية ومؤسسات الميديا التحري والتثبُّت من كل ما يصلها من معلومات أو صور أو مقاطع مرئية من البيئات الصحفية غير المستقرة. وعُرِفت الأخبار الزائفة لسنوات عديدة كنوع من الأخبار غير المهنية وغير الحقيقية، وقد اتصفت هذه القصص الإخبارية الزائفة بعدم صدقها، ولكن لم يكن هذا التصنيف نابعًا من القارئ أو ناشر القصة، ومع ذلك أصبح مصطلح الأخبار الزائفة، منذ عام 2016، مرادفًا لرؤية القرَّاء الذين يعتبرون أية معالجة سلبية للمادة الخبرية أخبارًا مزيفة. ويتضمن العمل الإخباري نشر الحقائق حول الأحداث الجارية، وإتاحة الوسائل التي يشارك بها الجمهور في المناقشات السائدة، وقد يتم إنشاء الأخبار ونشرها من قبل أي شخص، ولكن تظل الأخبار الأكثر شهرة هي الأخبار الصادرة عن الصحفيين ووسائل الإعلام الرئيسية، وعادة ما يتم اعتبار الأخبار الزائفة قصصًا شبيهة بالأخبار لا ترمي إلى تحقيق الإعلام أو التثقيف، بل يتم إعدادها للتجاوب مع القصص التي يتصورها الجمهور حول كل ما يحيط به، والمتاجرة بأسماء المصادر الخبرية واستغلالها من أجل إضفاء صفة الشرعية على القصص المقدمة وتحقيق سهولة نشرها عبر الشبكات الاجتماعية، في حين تعد الأخبار الزائفة "مقالات مضلِّلة عمدًا، وغالبًا ما يتم نشرها من أجل تحقيق ربح أو منفعة أخرى"، وفي كثير من الأحيان، يكون من الخطأ اعتبارها "الأخبار التي تختلف معها"(21).
ويجب أن يُواجَه انتشار الأخبار والمعلومات الزائفة بصحافة جادة وذات جودة، ولن تتوافر صحافة ذات جودة إلا في ظل وجود بيئة عمل صحفية تتمتع بالإمكانيات المطلوبة للصحفيين، إلى جانب وجود الخبراء والمختصين والمعلومات الأرشيفية الدقيقة التي يمكن للصحفيين اللجوء إليها في حالة التحري والتثبت من تصريحات السياسيين أو المسؤولين، أو المعلومات والأخبار المشكوك في صحتها.
2. تحليل النتائج ومناقشتها
2.1. التوزيع النوعي والعمري للصحفيين في اليمن
أظهرت نتائج الاستبيان، الذي تم توزيعه إلكترونيًّا على عيِّنة الدراسة (120 صحفيًّا وصحفية)، أن 97 مبحوثًا بنسبة 81% كانوا من الذكور، و23 مبحوثًا بنسبة 19% من الإناث، كما هو مبيَّن في الشكل رقم (1). وتدل هذه النسب على أن المشهد الإعلامي اليمني تسود فيه شريحة الرجال العاملين في مهنة الصحافة أكثر من شريحة النساء. ويرى الباحث أن الأوضاع الأمنية والسياسية في البلاد كان لها دور في هذا التوزيع؛ إذ إن تغطية الحرب يكون فيها الرجل حاضرًا أكثر من المرأة، وهذا ما نلاحظه في اليمن، إضافة إلى أن التقاليد الاجتماعية ما زالت متأصلة في أغلب المحافظات اليمنية، حيث ينظر أهلها إلى عمل المرأة، خاصة في المجال الصحفي، باعتباره خرقًا للعادة والدعوة إلى التحرر من التقاليد التي ما زالت تسيطر على الجزء الأكبر من المجتمع اليمني.
وتتفق هذه النتيجة مع ما ورد في تقرير لمركز الدراسات والإعلام الاقتصادي بعنوان "واقع الإعلاميات اليمنيات: تحديات في السلم والحرب" (2017)؛ إذ لم تتجاوز نسبة المرأة العاملة في وسائل الإعلام 20%، في حين بلغت نسبة الرجال 80%. أما نسبة حضور المرأة مراسلة في الميدان فبلغت 4.4% مقارنة بالذكور الذين شكَّلوا نسبة كبيرة من عدد المراسلين 30.6%(22).
وتتلاءم هذه النتيجة مع الواقع العام للمرأة وحضورها في المجتمع اليمني الذي يقصي المرأة، وتعزو وكيلة وزارة الإعلام في الحكومة الشرعية، ليزا الحسني، هذا الإقصاء إلى أن هناك حواجز وُضعت من قِبَل القيادات الذكورية، وخاصة في الأحزاب السياسية، التي تتفق على تغييب المرأة وتهميشها ومشاركتها في صناعة واتخاذ القرار(23).
وقد تعالى العديد من الأصوات المطالبة بإعطاء مساحة أكبر للمرأة الإعلامية العربية بشكل عام ومنها اليمنية، ومن تلك المطالبات ما ناقشته الورشة الخامسة لمنتدى "المرأة والإعلام في ضوء المتغيرات الراهنة: نحو إعلام منصف للمرأة"، الذي نُظِّم في 18 و19 فبراير/شباط 2014 بالمغرب، لاسيما مقترح مشروع استحداث بوابة إعلامية إلكترونية للمرأة العربية التي تعتبر تجسيدًا لأهداف الإستراتيجية الإعلامية للمرأة العربية، والتي أصدرتها منظمة المرأة العربية في نوفمبر/تشرين الثاني 2008 استجابة لدعوات عربية رسمية(24).
إذن، فالمرأة يمكنها الحصول على مساحة أكبر في الميدان الصحفي باليمن، ولكن الوضع المهني العام وارتباطه في الفترة الحالية بالتوجهات السياسية والأيديولوجية المتصارعة، يجعل مشاركة المرأة في تغطية الكثير من الأحداث كما هي حال الرجل صعبة، نظرًا للقيود المجتمعية والعائلية والمؤسسية الصحفية التي لا تعطي مساحة أكبر لتغطية هذه الأحداث في اليمن من قِبَل المرأة.
2.2. التوزيع المؤسسي والمهني للصحفيين في اليمن
يوضح الشكل رقم (2) أن 49 مبحوثًا بنسبة 41% يعملون في مواقع إلكترونية، و22 مبحوثًا بنسبة 18% يعملون في قنوات تليفزيونية، و18 مبحوثًا بنسبة 15% يعملون في صحف، و17 مبحوثًا بنسبة 14% يعملون في محطات إذاعات، و8 مبحوثين بنسبة 7% يعملون في مركز أبحاث، فيما أجاب 6 مبحوثين بنسبة 5% بأنهم يعملون في وكالة أنباء.
تشير هذه الإحصائيات إلى أن المواقع الإلكترونية تُعد الأكثر انتشارًا حاليًّا في اليمن، وأن أكثر الصحفيين في اليمن يمارسون عملهم الصحفي في مواقع إلكترونية معظمها إخبارية. وقد ظهرت عشرات المواقع الإلكترونية الإخبارية اليمنية التي حاولت مواكبة تطور الوضع في البلاد منذ اندلاع الثورة الشعبية مطلع العام 2011، لكن أداء هذه المواقع أصبح موضع جدل في الوسط الصحفي باليمن. ويرى مراقبون أن هذا الأداء يمثِّل عبئًا على واقع الصحافة المحلية لافتقارها لأخلاقيات المهنة وخصائص الصحافة الإلكترونية، ومراوحتها بين الاحتراف والهواية(25).
وقد أسهمت اعتبارات مختلفة في انتشار المواقع الإلكترونية في اليمن، أولها: قلة التكلفة المالية مقارنة بغيرها من وسائل الإعلام؛ إذ لن تكلف تجهيزاتها مبالغ مالية كما هي الحال مع تكلفة إنشاء صحف ورقية أو محطات إذاعية أو تليفزيونية. فضلًا عن ذلك، أدت الأوضاع السياسية والأمنية والحرب في اليمن إلى إهمال دور الرقابة في متابعة طلب أي تصاريح لإنشاء المواقع الإلكترونية للممارسة العمل الصحفي؛ الأمر الذي سمح لعدد كبير من غير المختصين في الصحافة بالعمل في المهنة، بل إن بعضهم لا يمتلك خبرة كافية في الكتابة الصحفية ورغم ذلك وصل إلى هرم الموقع الإلكتروني وأصبح "رئيس التحرير" أو "مدير التحرير". ويتبيَّن من خلال المواد الصحفية التي ينشرها الموقع -وتكون في معظمها منقولة (النسخ واللصق) مع أخطائها الإملائية والنحوية- أن رأس الهرم التحريري لا يفقه أساسًا في العمل الصحفي المهني شيئًا، أو يعرف مهام رئيس أو مدير التحرير. وقد يتجاوز ذلك إلى الإخلال بمواثيق الشرف الصحفية في العمل الصحفي دون الاكتراث بالوقوع في محظورات تلك المواثيق.
وتشير نسبة الإجابة الثانية ممن يمارسون عملهم الإعلامي في التليفزيون (18%) إلى إنشاء العديد من القنوات التليفزيونية في اليمن، وخاصة في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة الشرعية، مثل قناة حضرموت الحكومية، وعدن المستقلة التابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي، والمهرة، وعدد آخر من مكاتب ومراسلي قنوات يمنية تبث من الخارج على غرار قنوات الغد المشرق، والمهرية، وبلقيس وغيرها. وقد استقطبت هذه القنوات العديد من الصحفيين من خريجي أقسام وكليات الصحافة والإعلام وغير المتخرجين. واتسع هذا الاستقطاب في الفترة الأخيرة بسبب أحداث الحرب والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والصحية التي تشهدها البلاد؛ الأمر الذي يتطلب في أحيان كثيرة طاقمًا مكونًا من عديد الأفراد للوصول إلى تغطية تلك الأحداث في محافظات اليمن كاملة.
أما النسبة الثالثة التي تخص الصحفيين العاملين في الصحف (15%) فتوضح أن الصحف الورقية لا تزال تستقطب الصحفيين رغم إغلاق عدد منها في ظل الأزمات الاقتصادية التي تعيشها، وتعثر بعضها الآخر بسبب أيضًا الأحداث الجارية في البلاد أو الجوانب المالية، مثل أخبار اليوم، والثوري، والوحدوي، وصحيفة 14 أكتوبر الرسمية التي احتجب صدورها تزامنًا مع انتشار كوفيد-19. وتخطى عدد الصحف في اليمن قبل العام 2011 مئة صحيفة، وفقًا للمعايير الصحفية دوليًّا(26)، لكن وبحسب تقرير لمنصة "خيوط" حول عدد الدوريات الأهلية التي توقفت، منذ بداية الصراع في سبتمبر/أيلول 2014 حتى نهاية أبريل/نيسان 2021، تبيَّن أن نحو 30 دورية أهلية توقفت عن العمل بشكل كامل، بينما توقفت 7 دوريات ورقيًّا واستمرت في العمل عبر موقعها الإلكتروني، كما استمرت صحيفتان في العمل ورقيًّا وإلكترونيًّا، ولكن في نطاق محدود، وهما صحيفتا "الهوية" التي تصدر من صنعاء، وصحيفة "الشارع" التي تصدر حاليًّا من عدن(27).
ولما كانت الصحافة الورقية في اليمن تعاني من التشتت والحجب، فإن مؤشرات الاستبيان أفادت أن الصحافة الورقية ما زالت تستقطب صحفيين للعمل بشكل مستمر، رغم أنها تُعد من أكثر وسائل الإعلام تشددًا في اختيار العاملين بها وانتقاء المواد الصحفية للنشر؛ إذ تحاول الحفاظ على المصداقية التي صاحبتها لسنوات أكثر من غيرها في ظل انتشار منصات التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية.
وأجاب 30 من أفراد عينة الدراسة بنسبة 25% بأنهم يعملون بصفة "صحفي حر"، و28 مبحوثًا بنسبة 23% يعملون بصفة "محرر صحفي داخلي"، و19 مبحوثًا بنسبة 16% يشغلون منصب "رئيس تحرير"، فيما أجاب 17 مبحوثًا بنسبة 14% بأنهم يعملون بصفة "مذيع"، و16 مبحوثًا بنسبة 13% يعملون بصفة "مراسلين ميدانيين".
ولاحظ الباحث أن صفة "صحفي حر"، التي حصلت على أعلى نسبة (25%) بين الصفات الأخرى للمبحوثين، تشير إلى أن العديد من الصحفيين في اليمن يعملون بعقود تعاقدية، سواء كانت مكتوبة أو شفهية مع مؤسساتهم الصحفية وليست عقود توظيف رسمية، وهذا يعني أن الوظائف التي يشغلونها حاليًّا ليست ثابتة ولا مؤسساتهم الصحفية أيضًا مستقرة. وقد تتغير نسبة الانتماء إلى المؤسسات الصحفية في الفترات المقبلة؛ إذ كشف الاستبيان أن معظم الصحفيين اليمنيين يعملون اليوم في المواقع الإلكترونية أكثر من غيرها. كما تُظهر نسبة الإجابتين الثانية، التي ترتبط بصفة "محرر صحفي داخلي" (23%)، والثالثة، التي تتعلق برئيس تحرير (16%)، أن المبحوثين لديهم القدرات والإمكانيات -من حيث مواقعهم التي يشغلونها- للعمل وفق منظومة مهنية وأخلاقية صحفية، وأن هذه المواقع تؤهلهم للقيام بدور حارس البوابة الذي يمكنه التحقق والتثبُّت من كافة المعلومات التي يُراد بثها ونشرها عبر الوسيلة الإعلامية التي يعمل فيها. ويتمثَّل دور حارس البوابة في المؤسسة الصحفية في التحكُّم بالمواد الصحفية التي تُنشر عبر الوسيلة التابعة لها، مراعيًا في ذلك الخط التحريري للمؤسسة والبيئة الاجتماعية؛ الأمر الذي يضطره إلى مواءمة الأعراف والتقاليد، حتى لا يدخل في متاهة العراقيل والصعوبات التي يصل بعضها إلى حدِّ الإغلاق أو الحجب عن بث الرسالة أو الصدور.
أما نسبة العاملين في الإذاعات (14%)، فتعود أسبابها إلى إنشاء العديد من الإذاعات المجتمعية في اليمن، والتي تُبث على موجة "إف إم" (FM)، رغم أوضاع الحرب، خاصة في المناطق التي تخضع لسيطرة الحكومة الشرعية، وهو ما دفع تلك الإذاعات لاستقطاب المزيد من الصحفيين، لاسيما الخريجون الشباب من أقسام وكليات الصحافة والإعلام بجامعات اليمن المختلفة. ويؤكد الكثير من العاملين في الإذاعات المجتمعية أن الأوضاع الأمنية والسياسية والاقتصادية تشكِّل عائقًا كبيرًا أمام هذه التجربة. ولئن كانت الظروف الاقتصادية الصعبة قد شكَّلت عائقًا كبيرًا للإذاعات المجتمعية، فإنها وظفت إمكانياتها البسيطة من أجل الاستمرار وخدمة المجتمع مستثمرة الإنترنت للوصول إلى أبعد مدى لنقل صوت المواطن(28).
2.3. المستوى المعرفي لمفهوم التحري في الوقائع
يقصد الباحث بالمستوى المعرفي لمفهوم التحري في الوقائع سماع الصحفي المبحوث عن مفهوم التحري في الوقائع في الصحافة بشكل عام، والاطلاع عليه عبر شبكة الإنترنت. وقد أجاب 89 مبحوثًا بنسبة 74% بـ"نعم"؛ حيث أفادوا بسماعهم عن المفهوم، ونفي 31 مبحوثًا بنسبة 26% أن يكونوا سمعوا عن المفهوم؛ إذ كانت إجابتهم بـ"لا".
ويعزو الباحث نسب الإجابات بالإيجاب إلى انتشار ممارسة التحري في الوقائع في العديد من المؤسسات الأجنبية والعربية واطلاع المبحوثين عليها. كما أن عددًا من المؤسسات العاملة في مجال تدريب وتطوير مهارات الصحفيين في اليمن بدأت بتنظيم دورات وورش عمل في آليات التحري والتحقق والتثبُّت من المعلومات قبل نشرها. وقد يكون لذلك دور في سماع الصحفيين اليمنيين بهذا المصطلح والاطلاع عليه عبر الإنترنت.
واختار 94 مبحوثًا بنسبة 78% التعريف الصحيح لمفهوم التحري في الوقائع من بين الاختيارات وهو: "عملية التأكد والتثبُّت من المعلومات الواردة في الأخبار وتصريحات السياسيين"، فيما اختار 25 مبحوثًا بنسبة 21% الإجابة الخطأ من التعريفات وهي: "عملية الكشف عن الوثائق المخفية من قبل مسؤولين أو جهات معينة"، ويرتبط هذا التعريف أساسًا بمفهوم الصحافة الاستقصائية، فيما اختار 1% التعريف الثالث.
وتشير هذه النسب أيضًا إلى أن الصحفيين في اليمن يحاولون رغم ظروفهم الصعبة مواكبة العمل الصحفي المهني، تماشيًا مع تيار الصحافة الحديث الذي يقوم على التحقيق والتثبُّت من المعلومات الواردة في الأخبار أو تصريحات السياسيين. وفي هذا الإطار، ظهر في الفترة بين أغسطس/آب 2019 و30 يونيو/حزيران 2021 عدد من الصفحات الإلكترونية على منصة فيسبوك تهتم بالتحري والتحقق من الأخبار والصور والفيديوهات، وكذلك تصريحات السياسيين، وهو ما يشكِّل نماذج أولية لظهور صحافة التحري في الوقائع في اليمن عامة، ومن أهم تلك الصفحات منصة "صدق اليمنية" و"حقيقة"، وكلتاهما على شبكة فيسبوك.
واجهة منصة صدق اليمنية على فيسبوك
واجهة منصة حقيقة على فيسبوك
من جانب آخر، يرى الباحث أن مؤسسات الصحافة والميديا التقليدية والرقمية في اليمن لا تتفاعل بشكل مطلوب مع آليات التحري في الوقائع؛ إذ يندرج جل عملها ضمن صحافة النقل للأحداث والبيانات والتصريحات دون التحري أو التدقيق فيها، وكذلك دون التفسير أو التحليل الناتج عن التحري.
إن بوادر ظهور صفحات تهتم بالتحري في الوقائع، يعني في نظر الباحث أن الصحافة في اليمن، ورغم ما تشهده اليوم من سوء، يمكنها المرور إلى مرحلة التحسن والوصول إلى أطراف العمل الصحفي الحقيقي، أي "صحافة الجودة" بدلًا عن "صحافة النقل". وهذا لن يتأتى إلا إذا آمن القائمون على الصحف بأن آليات العمل الصحفي الاعتيادية لا بد أن تتغير نحو آليات العمل الصحفي "الجاد" التدقيقي والاستقصائي والتفسيري، مع مراعاة متطلباته من الناحية الزمنية والإمكانيات اللازمة لتهيئة بيئة مناخية صحفية مناسبة؛ إذ يتطلب التحري في الوقائع في الصحافة زمنًا أطول وإمكانيات وأدوات أكثر لمعرفة صحة المعلومات أو الصور أو الفيديوهات المنشورة سواء في الأخبار أو التصريحات السياسية من أجل الوصول إلى صحافة الجودة.
وهنا، تبدو أهمية "صحافة الجودة"، التي يجب دعمها باعتبارها نمطًا جادًّا، لإيصال الرسالة الإعلامية إلى الجمهور/المتلقي، خاصة أن اليمن يعيش أزمات مختلفة ابتداء بغلاء المعيشة وصعوبة الحياة الاجتماعية، مرورًا بالحرب وتبعاتها، ووصولًا إلى الأزمات الوبائية التي كان آخرها كوفيد-19، حيث عاش المواطن اليمني أزمة خانقة في نقص المعلومات وفراغًا حادًّا في التحري والتثبُّت من صحة الإحصائيات والتصريحات والمعلومات لتملأ ذلك الفراغ الأخبار الزائفة والشائعات، مستغلة غياب المنتج الصحفي الجاد (صحافة الجودة) في البلاد بشكل شبه كامل في تلك الفترة. ويربط الفيلسوف الألماني، يورغان هابرماس (Jürgen Habermas)، بشكل تلازمي بين ثلاثية "الديمقراطية التشاورية" في بعدها التفاعلي والجدلي، و"صحافة الجودة" في بعديها المتمثلين في الرأي القويم والمعلومة الدقيقة، والجمهور الذي يجد دائمًا في الإعلام الجاد والجيد ملاذه المرجعي للإحاطة بالمعلومات الآنية وصناعة الرأي المسؤول. ومن خلال الجدلية الترابطية بين هذه الأبعاد الثلاثة، ينشأ ما يسمِّيه هابرماس بـ"الوسيط المسؤول"، أي الوسيط الإعلامي المحترف والأمين والأخلاقي في مستوى النقل والنقد(29).
2.4. المستوى المعرفي لمفهوم الأخبار الزائفة
اختار 49 مبحوثًا بنسبة 41% التعريف الصحيح من بين التعريفات الثلاثة للأخبار الزائفة، وهو: "الأخبار التي صُمِّمت لغاية معلومة وهي تضليل الجمهور والتلاعب به"، واختار 38 مبحوثًا بنسبة 32% الإجابة الأولى التي تمثِّل في الأصل تعريفًا للخطأ الصحفي وليس الأخبار الزائفة، وهو "الأخبار التي تستخدم المعلومات بطريقة مُضلِّلة ومتسرعة في النشر ودون التأكد من مصادر إضافية أكثر ثقة"، فيما اختار 33 مبحوثًا بنسبة 27% الإجابة الثالثة الخطأ أيضًا، والتعريف كان في الأصل عن الشائعات وليس الأخبار الزائفة، وهو: "المعلومات أو الأفكار التي يتناقلها الناس، دون أن تكون مستندة إلى مصدر موثوق به يشهد بصحتها".
ويتبيَّن من خلال النسب المذكورة أن جزءًا كبيرًا من الصحفيين في اليمن لا يميزون بشكل جيد بين الأخبار الزائفة وغيرها من الأنواع الأخرى، مثل الخطأ الصحفي، والشائعات، والأخبار الملوَّنة، وغير ذلك. وهو ما يشير إلى قصور معرفي لدى الصحفي للعمل بشكل احترافي في مجال التحري في الوقائع والتثبُّت من المعلومات والصور والفيديوهات التي تصل إليه أو إلى مؤسسته الصحفية، لأن الأخبار الزائفة أساسًا تقوم على هدف واضح، وهو القصد في تضليل المتلقي عبر نشر معلومات خاطئة أو مغلوطة، أو إطلاق تصريحات تحمل الكثير من الأكاذيب بغرض تضليل الرأي العام.
وفي ظل الصراعات والأزمات والحروب التي يعيشها اليمن، وجدت الأخبار الزائفة بيئة خصبة للانتشار بشكل واسع من قِبَل مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي، وصحفيين أحيانًا، خاصة مع تصاعد حدة الاستقطابات السياسية؛ إذ أسهمت الأطراف المتصارعة من خلال صحفييها ومؤيديها في صناعة الأخبار الزائفة ونشرها على نطاق واسع عبر منصاتها الصحفية والاجتماعية. وهو الأمر الذي انعكس على المتلقي، حيث فقدت تلك المنصات مصداقيتها، كما هي حال صحيفة "الثورة" الرسمية التابعة حاليًّا للحوثيين، والتي نشرت في 17 يوليو/تموز 2022 خبرًا عن لقاء الرئيس اليمني، رشاد العليمي، بمسؤولين إسرائيليين في القاهرة، وقبل ذلك الإشاعة التي راجت في منصات التواصل الاجتماعي بنقلها تصريحًا للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، يشير فيه إلى أن بلاده لن تسمح لأميركا وأوروبا بتقسيم الشرق الأوسط والوصاية على اليمن الجنوبي، وغيرها من الأمثلة.
وقد أوضح 117 مبحوثًا بنسبة 97% أن منصات التواصل الاجتماعي، مثل فيسبوك، واتساب، تويتر، وغيرها من المنصات، كان لها دور في انتشار الأخبار الزائفة في اليمن، وتمثِّل هذه النسبة مؤشرًا واضحًا بأن منصات التواصل الاجتماعي في اليمن كانت سببًا قويًّا في انتشار الأخبار الزائفة.
ويُعتبر فيسبوك عمومًا أكثر المنصات التي تتهم بالترويج للأخبار الزائفة ليس في اليمن فحسب، بل حتى عالميًّا. فقد نشرت شركة التحليلات "جمب شوت" (Jump Shot)، في ديسمبر/كانون الأول 2017، تقريرًا حول المواقع التي تنشر الأخبار الوهمية والمضلِّلة، والتي تعتمد بشكل كامل على موقع فيسبوك، للحصول على أعلى معدل زيارات لها. وذكر التقرير أن المواقع الوهمية تحصل على أكثر من 70% من حركة المرور الخاصة بها من خلال زيارات مستخدمي فيسبوك، وعلى النقيض من ذلك تحصل المواقع الإخبارية المهمة على أقل من 30% من عدد الزيارات الخاصة بها(30).
دفع هذا الوضع العديدَ من الشركات الكبرى -من بينها شركات مالكة لمنصات تواصل اجتماعي- لاتخاذ قرارات للحد من انتشار الأخبار الزائفة ومحاربتها عبر سبُل وأدوات مختلفة. كما أن الأمر لم يقتصر على الشركات التقنية؛ إذ خاضت غماره بعض المنظمات العالمية أيضًا، مثل منظمة العفو الدولية التي أطلقت في 2014 منصة "يوتيوب داتا فيور" (Youtube DataViewer)، وتختص في التحري عن مقاطع الفيديو، ثم مبادرة منظمة الأمم المتحدة لتحسين الوصول إلى معلومات دقيقة "فيريفايد" (Verified)، والتي أطلقتها بالتعاون مع وكالة "بيوربوس" (Purpose) للتحقق من المعلومات.
وعمل عدد من المؤسسات الصحفية الأجنبية والعربية على التحري والتثبُّت من المعلومات، وبعضها أحدث أقسامًا خاصة بالتحري في الوقائع، وانتقلت من ممارسة التثبُّت الاعتيادي إلى مرحلة التحري المؤسسي الذي يُعنى بمسألة التحقق والتثبُّت من الأخبار الزائفة وتصريحات السياسيين، والوسائط المتنوعة (صور وفيديوهات وصوتيات)، لأن انتشارها اليوم أصبح طاغيًا على الأخبار الصحيحة، مما أفقد الصحافة جودة محتواها المقروء أو السمعي أو المرئي. وفي هذا السياق، ابتكر العديد من المؤسسات المالكة لمنصات التواصل الاجتماعي أدوات ومنصات خاصة بالتحري في المعلومات الزائفة، والتحقق من الصور والفيديوهات التي تنتشر على منصاتها، وأهمها "غوغل إيماج" (Google Image) و"تويت ديك" (TweetDeck) وغيرها. ورغم الفضائح التي ارتبطت بفيسبوك وبعض شركات الاستشارات السياسية (نموذج كامبريدج أناليتيكا)، فإن إدارة فيسبوك وإنستغرام تعلق أهمية كبرى على مكافحة انتشار المعلومات الخاطئة، وتتعاون في بعض البلدان مع منصات التحقق المعتمدة من قِبَل الشبكة الدولية لصحافة التحري لتحديد الأخبار الزائفة والتحقيق فيها، وتستخدم وسائط وتطبيقات التكنولوجيا، وأيضًا التحكُّم البشري لإزالة الحسابات الزائفة وتعزيز التعريف بوسائل الإعلام الإخبارية(31).
ولا شك أن هذه المبادرات التي تهدف إلى محاربة الأخبار الزائفة والمضلِّلة والمعلومات والتصريحات المغلوطة تنبع من الشعور بالمسؤولية تجاه الجمهور/المتلقي من ناحية، ومحاولة الحفاظ على السمعة التي تحظى بها تلك الشركات لدى المستخدمين من ناحية ثانية، لأن أي ضرر يلحق سمعتها تترتب عليه مخاطر وخسائر مادية. وهو الأمر الذي واجهته فيسبوك قبل تحول اسمها إلى "ميتا" فيما يتعلق بمسألة الأمان وخصوصية المستخدمين وغيرها، التي جعلت العديد من الأفراد وحتى الشركات المستخدمة يحذرون من الاندفاع في إعطاء المزيد من المعلومات عبر منصة فيسبوك أو المنصات الأخرى التابعة للشركة، فيما عزف البعض الآخر عنها وانتقل إلى منصة أخرى يراها أكثر أمانًا وحرية.
2.5. التثبت في العمل الصحفي اليومي
تشير نتائج الاستبيان إلى أن 91 مبحوثًا بنسبة 76% يقومون بالتثبُّت من المعلومات من مصادر ثانوية في عملهم الصحفي اليومي، و22 مبحوثًا بنسبة 18% يقومون "أحيانًا" بالتثبُّت من المعلومات من مصادر ثانوية، فيما نفى 7 مبحوثين فقط من أصل 120 بنسبة 6% قيامهم بالتثبُّت من المعلومات عبر مصادر ثانوية أخرى.
وتشير هذه النتائج إلى أن أغلبية الصحفيين في اليمن يقومون بالتثبُّت من المعلومات من مصادر ثانوية قبل نشرها، ولا يكتفي الصحفي بالمصدر الواحد الذي استمد منه المعلومات، وهو ما يعطي انطباعًا أوليًّا بوجود وعي بأهمية التحقق والتثبُّت من المعلومة قبل نشرها في الممارسة والبيئة الصحفية اليمنية. كما يعطي انطباعًا أوليًّا بأن انتشار الأخبار الزائفة وتصريحات السياسيين المتزايدة دفعت الصحفيين إلى عملية التثبُّت من المعلومات الواردة فيها قبل نشرها.
ويُعد التثبُّت مرحلة من مراحل العمل الصحفي منذ القدم وهو ليس وليد اللحظة الراهنة، ويعمل الصحفي خلاله على التأكد من المعلومات والبيانات والإحصائيات الواردة في الخبر، وهو دور مهم يميز الصحفي وبالأخص المسؤول الأول عن التحرير في المؤسسة الصحفية أو مؤسسة الميديا؛ إذ يحتكم في ذلك التثبُّت إلى عدة معايير، أولها أخلاقيات المهنة الصحفية، وثانيها الخط التحريري الذي تنتهجه المؤسسة الصحفية، ويمكن لمرحلة التثبُّت أن تتجه بالعمل الصحفي نحو المهنية التي تمثِّل أساس العمل الصحفي. وعلى الرغم من وجود تنوع في تعريفات مفهوم المهنية، فإن هناك اتفاقًا على اعتبارها العملية التي تحدد الوظيفة كمهنة، وتتضمن تحديدًا هيكليًّا معرفيًّا أو نظرية تحدد مجال الخبرة، ويضاف إلى ذلك نشوء الروابط المهنية، وزيادة الشعور بالهوية الجماعية وصياغة رموز تلائم السلوك المهني، وتطور معنى الالتزام تجاه أفراد المجتمع(32).
وتبيِّن النسبة الثانية (18%) من إجابات المبحوثين، الذين لا يتثبَّتون دومًا من المعلومات من مصادر ثانوية أخرى، بل يقومون بنشرها أحيانًا مباشرة دون تثبُّت، أن هذا الأمر يجعل الأخطاء تتكرر باستمرار، وهو ما يُعد في أحيان كثيرة سببًا لانتشار الأخبار الزائفة بين الجمهور، خاصة أثناء الأزمات التي يعيشها اليمن حاليًّا. أما نسبة 6% من المبحوثين الذين لا يقومون بالتثبُّت من المعلومات فتُعد إشكالية في حدِّ ذاتها؛ خاصة في المواقع الإلكترونية؛ إذ وجد الباحث أن الأخبار المنشورة في عدد منها لا يعدو تكرارًا لخبر واحد أُرسِل إلى عدد من المواقع أو نسخته كما هو دون التثبُّت من المعلومات أو حتى تدقيق الأخطاء الإملائية.
إن إهمال عملية التثبُّت من قبل الصحفي يُدخله أحيانًا في جملة من المساءلات الاجتماعية وربما القانونية؛ إذ تحمل الأخبار في بعض الأحيان معلومات مغلوطة أو مُضلِّلة عن مجتمع أو قضية معينة، وهنا يأتي دور الرقابة الذاتية للمؤسسة الصحفية وأهمية التعديل (التنظيم) الذاتي في العمل الصحفي المهني.
2.6. المنصات والأدوات المستخدمة في عملية التحري والتثبت
بيَّنت إجابات المبحوثين عن الأدوات التي يستخدمونها في عملية التحري والتثبُّت من المعلومات خلال عملهم الصحفي قصورًا معرفيًّا لدى الأغلبية بشأن هذه الأدوات؛ إذ أجاب 98 مبحوثًا بنسبة 81.66% بأنهم يستخدمون المواقع الإلكترونية والبريد الإلكتروني والواتساب وفيسبوك ووكالات الأنباء في التحري، وكذلك الاتصال المباشر مع المصدر والعمل الميداني، والتواصل مع الجهات المسؤولة، واستخدام مواقع التواصل الاجتماعي، والمواقع الإخبارية، وإدارات الأمن والمكاتب الحكومية، والمراسلين والحصول على وثيقة أو تصريح.
لا تشير تلك الإجابات إلى أدوات التحري في الوقائع أو التثبُّت من المعلومات، وإنما هي وسائط وسُبل يمكن للصحفي استخدامها أحيانًا إلى جانب الأدوات الخاصة بالتثبُّت والتحري. أما الأدوات أو المنصات الخاصة بعملية التحري أو التثبُّت فهي أدوات حديثة أسستها شركات، مثل غوغل وتويتر وغيرها. وأجاب 17 مبحوثًا بنسبة 14.16% بإجابات صحيحة، وأفادوا بأن الأدوات التي يتم استخدامها خلال عملهم الصحفي اليومي تتمثَّل في "غوغل إيماج"، وأداة "فاكت تشيك إكسبلورر" (Fact Check Explorer) عبر منصة غوغل، و"تينآي دوت كوم" (tineye.com)، ومنصة "يوتيوب داتا فيور"، وموقع "جيفريز إيماج ميتا داتا فيور" (Jeffrey's Image Metadata Viewer)، فيما أجاب عدد أقل لا يزيد عن 5 مبحوثين بنسبة 4.16% بأنهم لا يستخدمون أي منصات أو أدوات للتثبُّت من المعلومات في عملهم الصحفي اليومي. ويتبيَّن من إجابات هذا السؤال، ومقارنتها بإجابات السؤال السابق بشأن معرفة وتمكُّن الصحفيين من مفهوم التحري في الوقائع، أن الصحفيين في اليمن لديهم معرفة بمفهوم التحري في الوقائع ويمكنهم تمييزه عن غيره من الممارسات الصحفية، لكن تنقصهم المعرفة بالأدوات والمنصات الخاصة بعملية التحري في الوقائع والتثبُّت من المعلومة أو من صحة وسائط الميديا المتعددة.
ويمكن تفسير هذه الثنائية المتعلقة بمعرفة الصحفيين بمفهوم التحري في الوقائع، مقابل النقص في معرفتهم بأدوات وآليات التحقق، بأن المعرفة الأولى جاءت من سماع المصطلح وتكراره في الفترة الأخيرة من قبل وسائل الميديا بشكل عام، خاصة المؤسسات الصحفية العربية الدولية والعالمية، وهو ما يعني أن الصحفي اليمني على اطلاع بتلك الوسائل ومحتواها، غير أن النقص المعرفي بالأدوات يعزى أساسًا إلى كون عملية التحري تطبيقية أكثر منها نظرية، وهذا ما يحتاج إلى بيئة صحفية تطبيقية لعملية التحري في الوقائع ليكون الصحفي اليمني على معرفة بها، وهي بيئة ما زال يفتقدها الصحفي في اليمن كما سنتناولها في المحاور التالية من الدراسة.
2.7. مواثيق أخلاقية ومهنية بمؤسسات الصحافة اليمنية
بيَّنت نتائج الاستبيان أن 82 مبحوثًا بنسبة 68% لديهم قواعد حاكمة أو مواثيق عمل مهنية تلزمهم بالتحري والتثبُّت من محتوى المواد الصحفية، خاصة الأخبار وتصريحات السياسيين، فيما أجاب 38 مبحوثًا بنسبة 32% بـ"لا"؛ إذ لا توجد لديهم قواعد أو مواثيق عمل مهنية تلزمهم بالتثبُّت من محتوى تلك المواد.
ولئن كانت نسبة الإجابات الأعلى ممن لديهم قواعد أو مواثيق عمل مهنية تلزمهم بالتحري والتثبُّت من محتوى المواد الصحفية، فإن نسبة الإجابات بالنفي تعتبر عالية أيضًا، وهو ما يشكِّل تهديدًا لمهنية العمل الصحفي ومصداقيته في المستقبل إذا بقي على هذه الحال. وتعني هذه النسبة أن أولئك الصحفيين المبحوثين يعملون في مؤسسات صحفية يمنية ليس لديها التزامات مع العاملين بها تختص بالمواثيق الأخلاقية للعمل الصحفي، وهو ما يُشير إلى أن التعديل الذاتي وأخلاقيات المهنة الصحفية ربما تكون غائبة عن تلك المؤسسات، وهذا ما يجعل العمل الصحفي بعيدًا عن المهنية، لا تحكمه قوانين داخلية ولا تحده حدود للنشر وأدبياته ضمن إطار المؤسسة الواحدة.
ويُعرِّف جون هوهنبرغ (John Hohenberg) الأخلاق المهنية للإعلامي أو الصحفي بالالتزامات الأساسية التي يجب أن يتحلى بها كل صحفي، والمتمثلة في ضرورة العمل من أجل الوصول إلى تغطية صحفية منصفة وشاملة ودقيقة، صادقة وواضحة مع مراعاة حماية المصادر وتحقيق الصالح العام، عبر احترام القانون وحقوق الحياة الخاصة وحرمتها وتصويب الأخطاء المتعلقة بالنشر الصحفي(33).
كما تُعرَّف الأخلاقيات المهنية الصحفية بالقواعد الواضحة للسلوك المهني في مؤسسات وسائل الإعلام، وكذلك الاتجاهات الفعالة بكل ما هو ملائم في أسلوب العمل والإنجاز، ومن الأمثلة على قيم الممارسة المهنية الفكرة النموذجية التي تتمثَّل في الالتزام بالموضوعية في إعداد الأنباء، والقواعد المتصلة بأكثر الصور التكنولوجية ملاءمة لتحقيق مهمات اتصالية ذات نوعية خاصة، والقواعد الخاصة بتحديد مقاييس المسلسلات التليفزيونية(34).
وفي ضوء ذلك، فإن انكفاء المؤسسة الصحفية عن إلزام الصحفي بمواثيق عمل مهنية للتثبُّت من المواد الصحفية أو التحري يُنشِئ حالة من الإهمال المهني لدى الصحفي، وهو ما تؤكده النسبة المذكورة (18%) لإجابات المبحوثين الذين يقومون "أحيانًا" بالتثبت من مصادر ثانوية بعد حصولهم على معلومات من فيسبوك مثلًا. كما أن غياب الالتزام بالتحري والتثبُّت من المعلومات يجعل أخطاء الصحفي ومؤسسته الصحفية تتكرر وفي مواقف متعددة، وهو ما يحد من مصداقية الصحفي والمؤسسة معًا لدى الجمهور، على سبيل المثال ما حصل مع صحفيين يمنيين نشروا ورقة امتحان مفبرك لمادة التربية الإسلامية في المعهد التقني الصناعي بمنطقة ذهبان اليمنية. وقد يؤدي تكرار هذه الممارسة إلى خلق فجوة بين الصحفيين وجمهورهم، والتي تُفضي أحيانًا إلى إغلاق أو حجب الصحيفة أو محاكمة الصحفي نظرًا لإخلاله بالمواثيق والأخلاقيات المهنية وعدم التثبُّت من الأخبار والمعلومات، وهو ما حصل مع بعض الصحفيين في صنعاء وحضرموت.
وتُعتبر اللوائح التنظيمية الداخلية للمؤسسة مهمة للصحفي؛ إذ تحدد واجباته ومسؤولياته للعمل بمهنية وبما لا يخل بسياسة المؤسسة الصحفية التي يعمل لديها، وأيضًا حدود المجتمع الذي يعيش فيه ويغطي أحداثه، كما تُسهِّل عليه خلق العلاقة المتبادلة والقائمة على المصداقية في عملية التحري والتثبُّت من المعلومات بينه والجمهور/المتلقي الذي أصبح اليوم متفاعلًا مع الرسالة، وقد يُغيِّر من سياسات المؤسسة أحيانًا حينما يتعلق الأمر بالوصول إلى الرأي العام حول قضية أو حدث ما.
2.8. أقسام التحري والتثبت بمؤسسات الصحافة اليمنية
نفى 76 مبحوثًا بنسبة 63% أن تكون هناك أقسام للتحري والتثبُّت من المعلومات في المؤسسة التي يعملون بها، فيما أجاب 44 مبحوثًا بنسبة 37% بـ"نعم"، وأكدوا وجود قسم خاص في مؤسساتهم الإعلامية يهتم بالتحري في الوقائع ويعمل على التثبُّت من الأخبار الزائفة وتصريحات السياسيين والتحري فيها.
وتشير نسبة النفي لعدم وجود قسم خاص بالتحري في الوقائع إلى أن هذه المؤسسات الصحفية تعتمد النقل في عملها الصحفي للأحداث والتصريحات أكثر من التحري في الوقائع والمعلومات وتحليلها والتعمق فيها. وهذه العملية الصحفية (النقل) عمومًا لم تعد اليوم مجدية، خاصة مع انتشار منصات التواصل الاجتماعي وظهور ما يُسمَّى بـ"المواطن الصحفي"، لأن عمل الصحفي اليوم لم يعد مقتصرًا على النقل للأحداث وحسب، بل يتجاوز ذلك إلى عملية التحري والتحقق والتثبُّت من المعلومات والصور والفيديوهات.
إن عملية النقل اليوم للأحداث دون تحليلها والتعمق فيها تحرِّيًا وتفسيرًا وتثبُّتًا عبر الكلمة أو وسائط الميديا لم تعد تختص بالصحفي دون سواه، فالنقل أصبح مقدورًا عليه من قبل جميع الأفراد/المواطنين. وقد سهَّلت الهواتف النقالة وارتباطها بشبكة الإنترنت لكافة المستخدمين، سواء كانوا صحفيين أو لم يكونوا يحملون هذه الصفة، نقل الأحداث وجعلت كل فرد من أفراد المجتمع يمتلك هاتين الأداتين "فردًا صحفيًّا" يقوم بما يقوم به الصحفي الحامل لبطاقته الصحفية، ويمتهن ذلك العمل موردًا للرزق. وشكَّلت هذه الإشكالية أزمة في حياة الصحفيين المهنية، وبدأ الصحفي يفقد صفته عمليًّا، خاصة مع انتشار منصات التواصل الاجتماعي. وفي ظل تطور التكنولوجيا أصبح بإمكان أي شخص يمتلك جهاز كمبيوتر، أو هاتفًا ذكيًّا، أن ينشر المعلومات على نطاق واسع على غرار أكبر المؤسسات الصحفية. لكن هذا لا يقلِّل من دور الصحفي الذي بات الآن مهمًّا أكثر من أي وقت مضى، لاسيما مع وفرة تدفق المعلومات؛ ذلك أن زيادة تدفق المعلومات تضعف الحقيقة(35)، ما يجعل التحقيق والتثبُّت من المعلومات ضرورة مهنية ملحَّة.
ولردم هذه الفجوة وإعادة تعزيز دور الصحفي ومهنته، متفردًا بها عمليًّا عن غيره من الأفراد، يجب أن ينتقل بمهنته من مرحلة "الصحافة الناقلة" إلى الصحافة التفسيرية، التي تتطلب قبل ذلك التحري في الوقائع والاستقصاء، وهي الوضعية الجديدة التي ينبغي أن يتمثلها الصحفي لتمييزه عن غيره من المستخدمين والناقلين للأحداث، الذين ليست لديهم القدرة على الغوص في أعماق تفاصيلها والتحري والتثبُّت من معلوماتها. كما تحتاج المؤسسات الإعلامية في اليمن إلى مواكبة تطور مهنة الصحافة في العالم، وانتقالها من مرحلة النقل إلى مرحلة التفسير والتحليل، والاهتمام بالمعلومة وشرحها والتحري والتثبُّت منها، وتقديم مادة صحفية قيِّمة للجمهور. من جانب آخر، يجب الاهتمام بتطوير مهارات الصحفيين وقدراتهم التحليلية، واكتساب آليات التحري في الوقائع والتثبُّت من المعلومات.
2.9. الأخبار الزائفة وتصريحات السياسيين وتأثيرها على مصداقية العمل الصحفي باليمن
أظهرت نتائج الاستبيان أن 117 مبحوثًا بنسبة 97% أقروا بأن الأخبار الزائفة تؤثر في مصداقية العمل الصحفي باليمن. وتؤكد هذه النسبة أن الأخبار الزائفة في اليمن حظيت بانتشار واسع ومنافسة مع الأخبار والمعلومات الدقيقة، ويتوافق ذلك مع المشهد العالمي الذي أثبتته دراسة أعدها باحثون في معهد "ماساتشوستس للتكنولوجيا" (MIT)، خلصوا فيها إلى أن انتشار المحتوى الزائف -بغضِّ النظر إن كان نصًّا أو صورة أو فيديوهًا- أكبر من المحتوى الحقيقي بنسبة تتجاوز 70%(36).
ويشير الأكاديمي لوكاس غريفز (Lucas Graves) إلى أن تقارير التحري في الوقائع حظيت باهتمام كبير مع ظهور ثلاث جهات مختصة في التحري يعمل بها صحفيون محترفون، وهي "فاكت تشيك" (FactCheck.org)، عام 2003، و"بوليتي فاكت" و"فاكت تشيكر" (Fact Checker) في "الواشنطن بوست"، عام 2007. وسرعان ما حققت هذه الجهات ظهورًا وقبولًا عاليًا في عالم الإعلام، وحازت أعمالها جوائز صحفية كبرى، منها جائزة بوليتزر لـ"بوليتي فاكت"، وعقدت تلك الجهات شراكات مع مؤسسات إعلامية معروفة، مثل "إن بي آر" (NPR) و"سي إن إن" (CNN) و"يو إس إي توداي" (USA Today)، ويتم الاستشهاد بها ونقلها بكثرة في وسائل الإعلام المطبوعة والمسموعة(37).
وفيما يخص تأثير تصريحات السياسيين على مصداقية العمل الصحفي في اليمن، أجاب 102 من المبحوثين بنسبة 89% أن تلك التصريحات تؤثر في مصداقية العمل الصحفي، بينما أجاب 9 مبحوثين بنسبة 8% بـ"لا أعرف"، و3% بـ"لا". وتقارب هذه النسبة (89%) إلى حدٍّ كبير نسبة إجابات المبحوثين عن دور الأخبار الزائفة (97%) وتأثيرها على مصداقية العمل الصحفي باليمن.
استنتاجات
توصلت الدراسة من خلال مناقشتها للمشكلة وتحليل البيانات، التي جمعها الباحث عبر صحيفة الاستبيان انطلاقًا من عيِّنة قصدية بلغت 120 مبحوثًا، إلى عدة نتائج، أهمها:
- أدى انتشار الأخبار الزائفة وتصريحات السياسيين في اليمن إلى اهتمام الصحفيين المبحوثين بعملية التحري والتثبُّت من المعلومات قبل نشرها أو بعد نشرها، إلى جانب اهتمام بعض مؤسسات ومعاهد التدريب في المجال الإعلامي بإجراء دورات وورش عمل حول أساسيات التحري في الوقائع.
- الأزمات السياسية والوبائية التي عرفها اليمن ساعدت في انتشار المعلومات والصور والفيديوهات بشكل واسع على منصات التواصل الاجتماعي، مما استلزم التحري فيها والتثبُّت من محتواها، وهو ما أدى بدوره إلى ظهور نماذج أولية لصحافة التحري في الوقائع باليمن، مثل منصة "صدق" و"حقيقة" على فيسبوك.
- أظهرت النتائج أن هناك ضعفًا وقصورًا معرفيًّا لدى معظم الصحفيين المبحوثين في استخدام منصات وأدوات التحري في المعلومات والوقائع، وهو ما يتطلب إدماج صحافة التحري في الوقائع والتثبُّت من المعلومات في المناهج الدراسية لكليات وأقسام الصحافة والإعلام باليمن، وتكثيف جهود المؤسسات والمعاهد التدريبية بتنظيم ورشات ودورات معمقة في طرق وأدوات التحري في الوقائع.
- بيَّنت نتائج الاستبيان أن 68% من المبحوثين لديهم قواعد أو مواثيق عمل مهنية تلزمهم بالتثبُّت في المواد الصحفية، لكن في الوقت نفسه ترتفع نسبة الذين لا توجد لديهم تلك القواعد (32%)، وهو ما يشكِّل تهديدًا لمهنية العمل الصحفي ومصداقيته في المستقبل إذا بقي على هذه الحال. كما أن انكفاء المؤسسة عن إلزام الصحفي بمواثيق عمل مهنية للتثبُّت في المواد الصحفية أو التحري، ينشئ حالة الإهمال المهني لدى الصحفي.
- أظهرت النتائج أن معظم الصحفيين المبحوثين (97%) أكدوا أن الأخبار الزائفة تؤثر على مصداقية العمل الصحفي، وأن الغالبية منهم أيضًا (89%) يرون أن تصريحات السياسيين لها تأثير على مصداقية العمل الصحفي في اليمن، وهو ما يستدعي ضرورة اهتمام الصحفيين والمؤسسات الصحفية في اليمن بالتحري في الوقائع والتثبت من المواد الصحفية.
* تعد الدراسة جزءًا من الرسالة الجامعية التي أعدها الباحث عبد الله سالم باخريصة للحصول على رسالة الماجستير من معهد الصحافة وعلوم الإخبار بجامعة منوبة في تونس (2020-2021) تحت إشراف الدكتور الصادق الحمامي.
(1) الصادق الحمامي، "الصحافة التونسية في عصر ما بعد الحقيقة.. التحري (3/2)"، Ultra تونس، 24 أبريل/نيسان 2019 (تاريخ الدخول: 24 يوليو/تموز 2022)، https://2u.pw/z588h.
(2) الجمهورية اليمنية، "قانون رقم (25) لسنة 1990م بشأن الصحافة والمطبوعات"، رقم 25، (اليمن: 1990)، (تاريخ الدخول: 24 يوليو/تموز 2022)، https://2u.pw/sTO2y.
(3) إيناس بوسعيدي، "آليات التحقق من الأخبار المتدفقة عبر الإعلام الاجتماعي، دراسة حالة: تغطية قناة الجزيرة للمشهد اليمني"، معهد الجزيرة للإعلام، 2018، (تاريخ الدخول: 24 يوليو/تموز 2022)، https://2u.pw/y4nEb.
(4) Andreas Vlachos, Sebastian Riedel, “Fact Checking: Task definition and dataset construction,” ACL Anthology, (2014), “accessed July 22, 2022”. https://bit.ly/3zRn8ci.
(5) الصادق الحمامي، "الصحافة التونسية في عصر ما بعد الحقيقة: الهلع (3/1)"، Ultra تونس، 17 أبريل/نيسان 2019، (تاريخ الدخول: 24 يوليو/تموز 2022)، https://2u.pw/ZYI7h.
(6) Ellis Jones, “How many ways can politicians lie? How a class led to a truth report card for the 2016 election,” theconversation.com, May 18, 2015, “accessed July 24, 2022”. https://2u.pw/N59kl.
(7) Axel Gelfert, “Fake News: A Definition,” Informal Logic 38, no.1, (2018(: 96.
(8) مها بهنسي، "آليات مستخدمي الشبكات الاجتماعية في التحقق من الأخبار الزائفة: دراسة في إطار مدخل التربية الرقمية ونموذج أدوار الجمهور في التحقق"، المجلة المصرية لبحوث الإعلام (جامعة القاهرة، مصر، العدد 68، 2019)، ص 566.
(9) Matthew R. X. Dentith, “What makes ‘fake news’ ‘fake’ news,” Public Reason 8, no. 1-2,) 2016(: 3.
(10) Hunt Allcott, Matthew Gentzkow, “Social Media and Fake News in the 2016 Election,” Journal of Economic Perspectives 31, no. 2, )2017(: 213.
(11) الصادق الحمامي، "أزمة التحري في الصحافة التونسية أو كيف عاد محمد الناصر إلى الحياة؟"، Ultra تونس، 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، (تاريخ الدخول: 24 يوليو/تموز 2022)، https://2u.pw/a3l7uI.
(12) Allcott, Gentzkow, “Social Media and Fake News in the 2016 Election,”: 2014.
(13) بوسعيدي، آليات التحقق من الأخبار المتدفقة عبر الإعلام الاجتماعي" مرجع سابق.
(14) Romy Jaster, David Lanius, “What Is Fake News?,” PhilPapers 2, no. 127, )2018(.
(15) Lucas Graves, “Understanding the Promise and Limits of Automated Fact-Checking,” Reuters Institute, )2018(, “accessed July 22, 2022”. https://2u.pw/pw6Zn.
(16) بهنسي، آليات مستخدمي الشبكات الاجتماعية في التحقق من الأخبار الزائفة، مرجع سابق.
(17) حسينة بوشيخ، "بيئة العمل الصحفي وأثرها في ممارسة أخلاقيات المهنة دراسة حالة"، رؤى إستراتيجية (مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية، الإمارات، العدد 6، 2014)، ص 124.
(18) سعد عبد الله، "البيئة الضاغطة للعمل الصحفي في العراق بعد عام 2003: دراسة على عينة من الصحفيين العراقيين في محافظة صلاح الدين لعام 2011"، (بحث قُدِّم في المؤتمر العلمي السنوي الخامس بعنوان الإعلام والهوية الوطنية، جامعة بغداد، العراق، 15-16 مايو/أيار 2011)، ص 229.
(19) "تقارير حرية الصحافة لعامي 2021 و2022 في اليمن"، منظمة مراسلون بلا حدود، 2021 – 2022، (تاريخ الدخول: 22 يوليو/تموز 2022)، https://2u.pw/hY1U5.
(20) "التقرير السنوي لحرية التعبير في اليمن"، مرصد الحريات الإعلامية، 2020، (تاريخ الدخول: 24 يوليو/تموز 2022)، https://2u.pw/0kLgP.
(21) ممدوح مكاوي، "الأخبار الزائفة بين الإعلام التقليدي والرقمي: دراسة نقدية تحليلية لعينة من البحوث في الفترة من 2016-2020"، المجلة المصرية لبحوث الرأي العام (جامعة القاهرة، مصر، المجلد 19، العدد 2، 2020)، ص 244.
(22) شادي ياسين، "حضور ضئيل للمرأة في وسائل الإعلام اليمنية"، العربي الجديد، 22 يونيو/حزيران 2017، (تاريخ الدخول: 24 يوليو/تموز 2022)، https://bit.ly/3ocmorC.
(23) عصام القدسي، حمدي رسام، "صحفيات اليمن في مهنة المتاعب: بيئة عمل يغلب عليها التحديات وحملات التشهير"، خيوط، 6 فبراير/شباط 2022، (تاريخ الدخول: 24 يوليو/تموز 2022)، https://2u.pw/0XuGQ.
(24) محمد عايش، "آفاق إحداث مؤسسة إعلامية تهتم بقضايا المرأة العربيـة"، (ورقة قُدِّمت في منتدى المرأة والإعلام في ضوء المتغيرات الراهنة نحو إعلام منصف للمرأة، مراكش- المغرب، 18-19 فبراير/شباط 2014)، https://2u.pw/wMfkQ.
(25) سمير حسن، "الإعلام الإلكتروني يربك صحافة اليمن"، الجزيرة نت، 29 سبتمبر/أيلول 2012، (تاريخ الدخول: 24 يوليو/تموز 2022)، https://2u.pw/6SOPH.
(26) لطف الصراري، "اليمن.. عشرات الصحف توقفت والصحافيون تشتتوا بين المعتقلات والهجرة والاصطفاف الحربي"، الفيصل، 30 يونيو/حزيران 2017، (تاريخ الدخول: 24 يوليو/تموز 2022)، https://bit.ly/3br88Zl.
(27) أحمد عوضه، نجم الدين قاسم، "عسكرة الصحافة الأهلية في اليمن: تغريبة الصحفيين تحت ضغط الاستقطاب السياسي"، خيوط، 4 مايو/ أيار 2021، (تاريخ الدخول: 24 يوليو/تموز 2022)، https://2u.pw/4f8xa.
(28) أشرف الريفي، "الإذاعات المجتمعية في اليمن: تجربة مميزة وسط الحرب"، Ijnet، 10 يونيو/حزيران 2019، (تاريخ الدخول: 24 يوليو/تموز 2022)، https://bit.ly/3zW4RKL.
(29) أمين بن مسعود، "في اليوم العالمي لتدقيق الحقائق.. يجب إنقاذ الصحافة الجادة"، مجلة الصحافة (معهد الجزيرة للإعلام، قطر، العدد 21، 2021)، ص 40.
(30) عبد الرزاق الدليمي، "إشكاليات الأخبار المفبركة وتأثيرها في تشكيل الرأي العام"، مركز الجزيرة للدراسات، 27 يوليو/تموز، 2018، (تاريخ الدخول: 24 يوليو/تموز 2022)، https://2u.pw/XY0ct.
(31) وليد الحيوني (محرر)، دليل الصحفي التونسي في التثبت من صدقية أخبار الويب والشبكات الاجتماعية، (تونس، الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري، 2021)، ص 29-32.
(32) سعد الخذير، عبد الحكيم حميده، احترافية القائم بالاتصال لدى جريدتي الجديد والتحرير وفق نظرية حارس البوابة، (رسالة ماجستير، جامعة الشهيد حمة لخضر الوادي، 2020)، ص 25.
(33) عبد المحسن بدوي أحمد، "الشرف الصحفي والقيم الأخلاقية"، مجلة الأمن والحياة (جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، العدد 362، يونيو/حزيران 2012)، ص 47.
(34) بدر الدين بلمولاي، "الأخلاق الإعلامية وكيفية تعزيزها"، مجلة الباحث في العلوم الإنسانية والاجتماعية (جامعة قاصدي مرباح ورقلة، الجزائر، المجلد 13، العدد 2، 2021)، ص 101.
(35) ياسين الزكري، "دليل الصحافة الحساسة للنزاعات: دليل معرفي للصحفيين اليمنيين"، مركز الدراسات والإعلام الاقتصادي (اليمن، 2019)، ص 15.
(36) Katie Langin, “Fake News Spreads Faster than True News on Twitter-Thanks to People, not Bots, Science, March 8, 2018, “accessed July 24, 2022”. https://2u.pw/k0gtx.
(37) Lucas Graves et al., “Why do Journalists fact-check? The Role of Demand- and Supply-Side Factors,” wpmucdn.com, January 14, 2016, “accessed July 24, 2022”. https://bit.ly/3Q0KxNQ.